كانت لحظات مفعمة بالمشاعر في مطار الدوحة، يوم الأربعاء السابع عشر من يناير 2024، عندما نزل وائل الدحدوح، مراسل قناة الجزيرة في غزة، من الطائرة القادمة من العريش المصرية على متن رحلة إجلاء عسكرية قطرية، حيث استقبله مسؤولون ومديرون في شبكة الجزيرة، الذين التقوا بزميلهم المصاب، خلال القصف الإسرائيلي الذي استهدفه وزميله سامر أبو دقة، الذي استشهد بسبب الإصابة.
في كلّ الأحوال؛ وُفِّقت مجلة «كناك» البلجيكية، باختيارها وائل الدحدوح، الشخصية الصحفية لعام 2023؛ فالرجلُ أصبح محور الأخبار، بعد أن كان ناقلا لها، إثر استهداف الكيان الصهيوني، يوم الأربعاء الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، لعائلته المكونة من زوجته وابنه وابنته وحفيده، ثم استهداف ابنه البكر حمزة، في قصف من مسيّرة إسرائيلية جنوب قطاع غزة، يوم الأحد السابع من يناير 2024، وواصل الكيان إجرامه ضد الدحدوح بعد ذلك بيومين، باغتياله لاثنين من أبناء عمه خلال قصف طال مركبتهما؛ فيما نجا هو شخصيًا من محاولة اغتيال من قبل القوات الإسرائيلية التي استهدفته.
إذا كانت الحرب على غزة قد أبرزت بعض الأسماء في وسائل الإعلام الرسمية والمواقع الاجتماعية، بسبب نضالهم المباشر ضد العدوان الإسرائيلي مثل أبي عبيدة المتحدث باسم كتائب القسام، أو بسبب مواقفهم المؤيدة للفلسطينيين، مثل سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عُمان، واللواء فايز الدويري في قناة الجزيرة، فإنّ وائل الدحدوح صار أيقونة بإطلالاته الكثيرة في قناة الجزيرة، منذ اندلاع الحرب على غزة، بما قدمه من تقارير يومية لا تنقطع، عن قصف الجيش الإسرائيلي لمحافظات القطاع المختلفة، مما جعله -وقناة الجزيرة طبعًا- العين التي يشاهد بها العالمُ كلَّ ما يجري في غزة، والأذن التي يسمع بها؛ فلم يكن أمام الكيان الصهيوني إلا أن يلجأ إلى محاولة إسكاته الأبدي، بعد أن قضى على عائلته، فكانت محاولة اغتياله بعد تغطيته القصف الإسرائيلي على مدرسة «فرحانة» في خان يونس جنوب قطاع غزة، مما أدى إلى استشهاد زميله سامر أبو دقة مصور قناة الجزيرة.
في شهادته التي عرضتها قناة الجزيرة أوضح الدحدوح أنّ استهدافه هو والشهيد سامر كان أثناء مرافقتهم سيارة إسعاف كان لديها تنسيق لإجلاء عائلة فلسطينية محاصرة في بيتها بعد استهدافه من قبل طائرات الاحتلال، وقد رافقوا سيارة الإسعاف، وصوروا حالة الدمار الكبيرة التي خلفها القصف الإسرائيلي، وتمكنوا من الوصول إلى مناطق لم تصلها أي عدسة كاميرا من قبل، وبعد الانتهاء من التصوير رجع وائل وفريقه من المهمة الصحفية سيرًا على الأقدام، لأنه ليس بمقدور السيارات الوصول إلى تلك الأماكن، بسبب الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي، لكن ما حدث أنّ قوات إسرائيلية قذفتهم بقذائف فأصيب في كتفه وذراعه، فيما استشهد سامر بعد ذلك بست ساعات، لعدم وجود من يسعفه وينقذه، لأنّ قوات الاحتلال أطلقت النار على سيارات الإسعاف التي حاولت إنقاذه.
موقف إنساني مؤلم مرّ على وائل الدحدوح في ذلك الأربعاء الحزين، فانقلبت حياته على عقبيها، وتغيّر كلّ شيء بالنسبة له، عندما علم وهو على الهواء مباشرة باستشهاد عائلته، ليتوقف صوتُه أثناء تعليقه على ما يجري، قبل أن يتولى المذيعون في الاستوديو بالدوحة المهمة، لكنه عاد للظهور على الشاشة بعد دقائق قليلة، وقد غلب عليه الألم عند دخوله المستشفى، حيث جثث ذويه، وهو يتساءل: «هل ينتقمون منا في الأطفال؟». كان سؤاله وليد اللحظة، لكن وائل هو أدرى الناس بأنّ الكيان ينتقم منه في أهله وفي أطفاله حتى تحين لحظته، بعد أن أنجاه الله من الأولى، فمثل وائل يؤرق الكيان الإسرائيلي، لأنه نقل للعالم جرائمه ووحشيته، ومعاناة أهل غزة عبر قناة الجزيرة، التي أبلت بلاء حسنًا في تقديم الصورة الحقيقية لما يجري هناك. لكن الرجل - رغم الفواجع التي ألمّت به - لم يوقف تغطيته للأخبار، وواصل نقل يوميات العدوان على غزة، والجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في القطاع إلى العالم، في موقف شجاع، تربّى عليه أهل غزة، مثلما شاهدنا رباطة جأش والدة الشيخ صالح العاروري، وهي تتلقى نبأ استشهاد ابنها، الذي لم تره أكثر من عشرين عامًا، فقد وقف الدحدوح أمام الكاميرا بعد دفن ابنه حمزة قائلًا: «إننا ماضون رغم الحزن والفقد، باقون على العهد في هذه الطريق التي اخترناها طواعية، وسقيناها بالدماء»، ووصف دموعه بأنها «ليست دموع الخوف والجزع، هي دموع الإنسانية التي تفرقنا عن أعدائنا، نحن مشبعون بالإنسانية وهم مشبعون بالقتل والحقد، ولذلك نحن نبكي ونسكب الدموع. دموع الإنسانية ودموع الكرم والشهامة وليست دموع الجزع والخوف والاستكانة».
لا شك أنّ أصعب اللحظات هي أن يصبح الصحفي الذي ينقل الأحداث للعالم هو الخبر بدلًا من أن يبحث هو عن الخبر، والأصعب من ذلك أن يجمع بين الاثنين، بأن يكون خبرًا وفي الوقت نفسه أن يبحث عن الأخبار للآخرين، وهذا ما فعله الأيقونة وائل الدحدوح؛ فرغم مأساته الشخصية إلا أنه استمر في نقل ما يجري في غزة، منذ السابع من أكتوبر الماضي، دون انقطاع، وظلّ يتنقل من موقع إلى آخر، ويعيش بين المباني المدمرة، والصورُ خلفه تحكي بوضوح عن الوحشية الإسرائيلية، التي يتعرض لها أهل غزة، وما يؤسف له أنّ تلك الصور لم تجد «نخوة المعتصم».
تحوّل وائل الدحدوح إلى أيقونة تحظى بتعاطف وحب كبيرين عربيًا وعالميًا؛ وهي في الواقع حال الفلسطينيين الذين يوّدعون أحباءهم بالمئات يوميًا، فكلّ بيت فيه قصة، وكلّ شخص لديه مأساة، قد لا تختلف عن مأساة وائل الدحدوح إلا في التفاصيل فقط، ولم يكن مستغربًا أن يتصدر التعاطف مع وائل منصة «أكس» في أكثر من بلد عربي، وممّا غردته الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي عبر حسابها: «منذ الأزل يبحث الشعب الفلسطيني عن رموز يلتف حولها، عن قدوة لا تباع ولا تُشترى يسير خلفها، عن حنجرة صادقة تدافع عنه، لأنّها تقاسمه قدره من ساحات الحرب، لا من قاعات المؤتمرات، لم يختر الدحدوح أن يكون تلك الأيقونة. هو الصحافي الأعزل رفعته الفواجع إلى قامة أمّة، وفقدًا بعد آخر غدا رمز الصبر لشعب بأكمله. الرجل الجبّار لفرط ضعفه الإنساني، اعتاد أن يتحدّى العدو بإخفاء دمعه. حتمًا سيبكي هذا المساء في عزلته، أمّا الكاميرات فقد اعتاد أن يصوّر بها مآسي غيره».
الغريب أن يسكب البعض دموع التماسيح على عائلة الدحدوح؛ فوزير الخارجية الأمريكي - الذي تشارك بلاده مشاركة فعلية في إبادة الفلسطينيين وفي تدمير غزة - ردّ على سؤال أثناء حديثه في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري، عن قتل الصحفيين في غزة، فأجاب: «أنا آسف جدًا جدًا على الخسارة التي لا يمكن تخيلها، التي عانى منها زميلكم الدحدوح. أنا أبٌ أيضًا، لا أستطيع أن أتخيل المعاناة التي عاشها ليس مرة واحدة؛ بل مرتين». قال ذلك تهربًا من سؤال الصحفي الذي سأله: «هل تدين قتل إسرائيل للصحفيين وآخرهم حمزة الدحدوح، نجل وائل الدحدوح ومصطفى ثريا؟»، فاكتفى بتذكيرنا أنه أبٌ ولم يدن ما تفعله إسرائيل بكلمة واحدة، أي أنه لا يريد إزعاج إسرائيل بمجرد الكلام، فكيف سيزعجها بإجراء يوقف كلّ عدوانها المستمر على البشر والحجر!
إذا كان الكيان الصهيوني يهدف من وراء اغتيال الصحفيين إلى إخفاء حقيقة جرائمه، بعد أن قتل مائة وخمسة عشر صحفيًّا منذ بدء عدوانه على غزة (حتى لحظة كتابة المقال) فهو واهم في ذلك؛ لأنّ الشعب الفلسطيني شعب ولاد؛ ومثل ما أنجب قيادات جديدة أكثر صلابة من القيادات الأولى، وأنجب مجاهدين يؤمنون بالشهادة، فإنّ وجود من يحل محل الصحفيين الراحلين، ومن يقدّم الحقائق للعالم، هو أمر سهل، ومواقع التواصل الاجتماعي تقوم بدور كبير الآن في نقل الوقائع، فاق دورُها الكثير من القنوات الفضائية، وبالتأكيد فإنّ وائل الدحدوح يعلم -حتى بعد سفره للعلاج في الدوحة- أنه مشروع شهادة.
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القصف الإسرائیلی قناة الجزیرة وائل الدحدوح ما یجری على غزة فی غزة بعد أن
إقرأ أيضاً:
اللواء وائل ربيع: 90 % من الاقتصاد السوري تحت سيطرة القوات الأمريكية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أكد اللواء وائل ربيع، مستشار مركز الدراسات الاستراتيجية بأكاديمية ناصر العسكرية، أن المشهد العسكري داخل سوريا يكشف عن حالة من التداخل والتعقيد غير المسبوق، مع تواجد قوى إقليمية ودولية تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب استقرار البلاد.
وقال اللواء ربيع خلال ندوة "مستقبل سوريا إلى أين؟" التي نظمتها لجنة الشؤون العربية والخارجية بنقابة الصحفيين برئاسة الكاتب الصحفي حسين الزناتي، إن قراءة الخريطة العسكرية لسوريا تظهر تباين السيطرة على الأرض: "شرق نهر الفرات تحت سيطرة الأكراد، مع وجود ست قواعد أمريكية في المنطقة، وهو ما يعكس دعمًا واضحًا لهم من الولايات المتحدة، مؤكداً أن 90% من الاقتصاد السوري، بما في ذلك الموارد الحيوية، يخضع لسيطرة القوات الأمريكية".
وأضاف أن الغرب من نهر الفرات يشهد تواجدًا لتنظيم داعش، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني، بينما تُظهر التحركات العسكرية الأمريكية حشدًا متزايدًا للقوات، يُدار بشكل كبير لدعم الأكراد. وأشار إلى أن معظم القوات الأمريكية في المنطقة تتضمن عناصر من اليهود الأمريكيين، ما يثير تساؤلات حول الأهداف البعيدة للسيطرة على هذه المناطق.
وأوضح اللواء ربيع أن الشمال السوري، المتاخم للحدود الجنوبية لتركيا، يُعرف بمسمى "الجيش الوطني السوري"، وهو مدعوم ماديًا ولوجستيًا من الولايات المتحدة، مما يشير إلى دور تركي أمريكي مشترك في المنطقة.
وتابع: "إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات ليست مجرد فكرة، بل ترتبط بالتحركات الدولية في المنطقة، حيث تسعى الأطراف الكبرى إلى إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية بما يخدم مصالحها".
واختتم اللواء ربيع تصريحاته بالتأكيد على أن الوضع العسكري الحالي في سوريا يتطلب قراءة دقيقة وتحليلًا متعمقًا لتبعات هذه التدخلات على مستقبل المنطقة، محذرًا من أن استمرار هذه الديناميكيات قد يؤدي إلى مزيد من التفكك والانهيار إذا لم تُتخذ خطوات جادة لاستعادة السيادة السورية ووحدة أراضيها.
الندوة تأتي ضمن سلسلة فعاليات تنظمها لجنة الشؤون العربية والخارجية بنقابة الصحفيين، بهدف تسليط الضوء على القضايا الإقليمية الحساسة وطرح رؤى مستقبلية لحل الأزمات العربية.