الصمود اليمني الفلسطيني
تاريخ النشر: 28th, January 2024 GMT
حمد الناصري
يتعرّض الشعب اليمني الأصيل لإحدى مَظلوميّات التاريخ الكُبرى، في صورة عُدوان ظالم لا يُمكن أنْ نتحدّث عنه أو نُعبّر عن شَعب عظيم خبَر الحروب وكشف أنساقها وقاوم أكبر طواغيتها بأقلّ عتادِ عنده، تلقّى ضربات قاسية، دُمّرت البنية التحتية، قاوم جيوشا ضَخمة ومُرتزقة ومُتطرفين يَنوبون عن أعتى الدول المُتطورة بمعداتها ودعمها اللوجستي وقوات ضخمة برًا وبحرًا وجوًا.
عدوان أمريكي وتحالف صهيوني قاد الحرب على اليمن الأصيل، دُول كبيرة هَيْمنت على العالم ولم تزل تقود العالم بهمجيّة، وتدعم صراعات قاسية في عالمنا العربي، سوريا والعراق وليبيا وفلسطين وكان آخرهم اليمن الأصيل مَقبرة الغُزاة.
وقد أظهر رجال اليمن أنهم مدرسة الحروب والقتال وأكاديمية للمُقاومة الأمريكية في المنطقة.. قاتلوا بقوة وبسالة وتمرّس قتالي، وخاض رجال اليمن الأصيل حروبًا دامتْ سِنين، بذلوا كُلّ ما يستطيعون في حدود إمكانياتهم الضعيفة، حاربوا في صُمود مُنقطع النظير، وسطّروا ببسالة أكبر هَجْمة على مرّ التاريخ.. يقاومون بصمود عدوانًا أمريكيًا صهيونيًا، وكأنه يَنظر إلى مُستقبلنا العربي، بأننا أهل عِزّة وأُنْفة يستمدّ قوته من أرض الصُمود أرض مَملكة سبأ العظيمة ومَلكتها بلقيس السبئية من أرض التاريخ الإنساني المُشرّف، تاريخ صراع الصُمود والوفاء، تاريخٌ سطّرهُ الرجال بصبرهم وقوتهم وبسالتهم وكشف ثبات الرجال عن هزيمة تحالف بقوته المالية والعسكرية والعَتاد الجوي والبري والبحري، لكن النضال يحتاج إلى رُجولة وإلى شُموخ وعِزّة نفس.. كانَ اليمني الواحد بعشرة رجال عسكريين مَدعُومين بالقوة والمال ومُدججين بالسلاح والعتاد.
رجال اليمن الأصيل ضربوا أروع الأمثلة في القوة والنضال والشجاعة والعزم والصّبر الذي لا مَثيل له إلاّ في رجل يمني شَهم.
واليَمني الأبّي شامخ، عالي الرأس، روحه الحرية وسِلاحه الكرامة ومَبادئه عزة وثبات وصُمود لا يقبل الوصاية مِن أمريكا ولا يرتهن بكرامته لأيّ قوة، ولسان حاله لا وِصَاية على اليمن؛ بل لا وِصَاية على دول عربية لا تزال مُضطهدة من دول الاستكبار العالمي، فكان مُلْهمًا للمُستضعفين والمَظلومين.
أنقذ المُقاومون اليمنَ من ضَعف مُسْتكبر، وبفضل مُقاومتهم، نال اليمن حريته وكرامته التي تُمَكّن اليمني أنْ يرفع رأسه عاليًا ويعيش حُرًا أبيًا شامخًا بعيدًا عن تدخلات أمريكا وتحالفها الذين أفْسَدوا اليمن وعاثوا في أرضه النذالة والحقارة. حقق اليمن بشموخه نصرًا استراتيجيًا، فكسر هَيْبة تحالف تقوده أقوى دولة في العالم.
الخُلاصة.. أقول إنّ أهْلنا اليمنيين أهل صُمود، يُؤمنون بقضيتهم المصيرية، ووحدتهم الوطنية.. رغم الإمكانيات المادية والعسكرية المحدودة، وقد بذلوا كل ما يستطيعون في حدود إمكانياتهم الضعيفة، فكانوا أهلًا لما انْتصروا بعزمهم لأجله، وسَيكتب التاريخ انتصارهم بأحرف ذهبية في تاريخ صامِد دون كلل أو مَلل ولا خوف ولا حزن على ما فُقِد، والله ناصرهم.
إنّ اليمني يشترك مع الفلسطيني القسّامي الصّامد وكلاهما يشعر بالظُلم والعُدوان الأمريكي الصهيوني الجائر.. وكلاهُما يَعتبران الأمريكان والكيان الصهيوني عَدوًا واحدًا.
وبقَدْر العِزّة استطاع أهل غزة أنْ يُقدموا لنا إنتاجًا عظيمًا من المُقاومة الأبيّة الشامخة، أخرجوها في قُدرة هائلة استثنائية أذهلتْ صُورة الجيوش التي لا تُقهر، وكشفتْ عن هشاشة، افتقرتْ إلى أدنى خِبْرة عسكرية.
إنّ تاريخ اليمن وصُموده لنْ يَقبل أنْ يقف مكتوف الأيدي وإخوانهم في غَزة مُحاصرون.. فما يحدث لأهلنا في غزة تجاوز الحد، ولْنقف صفًا واحدًا في وجه الطُغيان الأمريكي الصهيوني، وإنْ صَمتنا فإنّ الدَور آتٍ لا محالة ضِدّنا في كل دولة عربية.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
العمالة البائسة في كتاب «أسوأ المهن في التاريخ»
يلجأ الإنسان إلى المهنة كحاجة طبيعية وضرورية توفر له أسباب البقاء، فالدوافع وراء البحث عن مهنة قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو ذاتية، وهناك أيضا دوافع عقائدية وسياسية تحرك الميول الفردي للإنسان، وتحقق له شرط وجوده الإنساني. إن الشرط المادي قد يكون أهم هذه الدوافع مهما اختلفت درجات المهن في بساطتها وتواضعها أو علو قيمتها ضمن هرم تراتبها الاجتماعي، فسلم الأولويات هو الذي يحدد قبول أو رفض الفرد للمهنة، والإنسان قد يقع تحت ضغط الظرف الزمني والحياتي، الذي يقوده إلى مهن تفرضها وقائع وظروف الحياة. وفي كتاب «أسوأ المهن في التاريخ، سرد لقصة ألفي عام من العمالة البائسة» يسرد لنا «توني روبنسون» في كتابه الصادر عن مشروع كلمة بترجمة د. عبدالله جرادات، يسرد لنا أسوأ المهن والوظائف التي مرت بها البشرية في عصورها المختلفة، فنراه يبدأ من العصور الرومانية القديمة مرورا بالقرون الوسطى ونزولا إلى العصر الفيكتوري، حسب الفصول التي شاء الكاتب أن يقسم بها هذا الكتاب.
وسأحاول أن أعرج هنا بقليل من التفصيل على بعض هذه الحقب الزمنية التي تناولها هذا الكتاب، والذي حاول من خلالها سرد مأساة الإنسان في بحثه المضني، لتوفير أسباب بقائه من خلال المهن التي مرّت بها العصور المختلفة لتاريخ الإنسانية.
أسوأ الوظائف الأولى
في الفصل الأول من هذا الكتاب، ينقل لنا روبنسون صورة واقعية للمجتمع الروماني القديم والرفاهية التي كانت تعيشها هذه المجتمعات، والتي تستوجب وجود وظائف دنيا تقوم بمتطلبات هذه الرفاهية. فإلى جانب أدوار العبيد في تلك المجتمعات البعيدة، كانت ثمة مهام تؤدى من قبل الرجال والنساء الأحرار، فهناك مهمة «جامع القيء» الذي كان يتطلب وجوده في الولائم الرومانية، حيث يخصص مكان يسمى «المقيئة» يتقيأ فيه الضيوف لإفساح المجال للمزيد من الطعام الذي يمر عبر أفواههم، والذين لا يستطيعون مغادرة أمكنتهم توفر لهم أوانٍ أو يتقيؤن بكل بساطة في أرضية الغرفة، ثم يكون هناك من يمسح أو يجمع هذا القيء والذي هو خليط من الطعام والشراب الذي كان يقدم في تلك المجتمعات المخملية.
وخارج هذه القبب الفارهة، فهناك أيضا «عمال مناجم الذهب»، الذين يتطلب منهم الحفر لأعماق كبيرة باستخدام أكثر الأدوات بدائية، ونقل كميات من الصخور من داخل الأنفاق الضيقة والمظلمة والخطرة، والتي كانت عرضة للانهيار في الظلام الدامس، إلى جانب الدخان الذي يتسرب عبر الأنفاق في محاولة إشعال النار لإضاءة هذه الأماكن المعتمة.
أما «الحراثة والفلاحة» في تلك العصور المظلمة، فكان الفلاح، رغم امتلاكه للأرض، ملزمًا بتقديم العديد من الأعمال لسيده. وعند وفاته، كانت أرضه تنتقل إلى مالك العزبة. بالإضافة إلى عمله في الفلاحة، كان الفلاح يقوم بأدوار أخرى مثل جمع الحطب، والطحن، والبناء. أما زوجته فكانت تقوم بمهام متعددة مثل الطحن، والحياكة، والخياطة، والطهي. وكان الأبناء يعملون كراعين للأبقار والخنازير والأغنام، كما كانوا ينقلون الأشياء ويعملون كحمّالين، ويعاونون في كل الأعمال التي يحتاجها سيدهم. عدم القيام بهذه الأدوار كان يعني الجوع في تلك الحياة القاسية، التي كانت تسمح ببيع الأبناء ليصبحوا عبيدًا بسبب عجز الأسر عن تأمين نفقاتهم. هذا الجوع كان يقود إلى الانتحار الجماعي بسبب المجاعات التي كانت تضرب تلك المجتمعات البائسة، حيث كان العديد من الناس الذين يعانون تحت وطأة الجوع يلجأون إلى الانتحار الجماعي بالقفز من جروف عالية، لينهوا حياتهم بالارتطام بالأرض.
أسوأ المهن في العصر الفيكتوري
في الفصل السادس من هذا الكتاب يأخذنا روبنسون إلى أسوأ المهن في العصر الفيكتوري، حيث تميز هذا العصر بالتقدم العلمي والاجتماعي خلال حكم الملكة فيكتوريا، لكنه رغم تقدمه العلمي والمدني لم يخل من صور تمثل حياة البؤس لطبقات مختلفة من هذا المجتمع. وتتكشف هذه الحياة البائسة من خلال هجرات سكان الريف إلى عالم المدن الذي تتحكم فيه الآلات وتعج سماواته بالدخان والذي عجّل بانتشار أوكار تعاطي الأفيون والمخدرات، رغم ما حظي به هذا العصر من نهضة علمية وكتاب كبار كتشارلز ديكنز وتشارلز داروين.
تميزت المنازل في العصر الفيكتوري بوجود المداخن التي تنفث الدخان إلى الخارج، ولحاجة هذه المداخن إلى التنظيف المستمر كان لابد من استحداث مهنة «منظف المداخن»، ولأن فتحات هذه المداخن ضيقة كان لا بد من استخدام الأطفال للقيام بهذا الدور، حيث يتعرض هؤلاء الأطفال المتسلقون للسقوط والكسر ومنهم من يلقى حتفه وذلك بسبب طول هذه المداخن وضيق مساحاتها. يتم اختيار هؤلاء الأطفال من الشوارع وإبقاؤهم جوعى وهزيلين كي لا يعلقوا في إحدى هذه المداخن.
ورغم القوانين التي سنت لمنع استخدام هؤلاء الأطفال، إلا أن خرق هذه القوانين كان شائعا وذلك بسبب تفاهة الغرامات التي كانت تفرضها الدولة آنذاك.
من أغرب المهن في العصر الفيكتوري مهنة «الباحث عن أعقاب السيجار» والتي تتطلب البحث عن أعقاب السيجار الذي لم يفسده اللعاب، وذلك لإعادة تدوير التبغ الموجود داخله. يروي الكتاب عن الأطفال الذين كانوا يجوبون الشوارع والطرق التجارية بحثاً عن أعقاب السيجار وبيعه مقابل شراء دقيق الشوفان الذي يتم غليه مع فتات الخبز لتحضير وجبة تسد جوع هؤلاء الأطفال، بينما يقوم مشتري هذه الأعقاب ببيعها إلى مصنعي التبغ ليقوموا بإعادة تدويرها، لتظهر على شكل سيجار جديد. وهناك مهنة «بائع الشاي المتجول» الذي يمر على البيوت والحارات اللندنية الراقية، إذ يقوم هذا البائع بجمع وشراء بواقي الشاي من أباريق الشاي في أحياء لندن الراقية، ومن ثم تجفيفها وإعادة بيعها لأصحاب المحلات الذين يقومون بدورهم بإعادة استخدامها من خلال خلطها مع أوراق الشاي الجديدة.
لا يكف روبنسون عن إدهاشنا في سرده الممتع والمؤلم للمجتمعات الفقيرة التي تعيش تحت ظلال المجتمعات المخملية في مختلف العصور، فمن العصور الوسطى إلى العصر التيودوري والعصر الستيوارتي والعصر الجورجي، يتنقل بنا بسرد وتوصيف رائع لأشكال المهن التي مرت بها هذه العصور والمجتمعات والحقب الزمنية، والتي تكشف مأساة الإنسان في بحثه المضني عما يضمن له أسباب بقائه واستمراره في الحياة.
وفي الفصل الأخير من هذا الكتاب، يتوقف بنا عند المهن التي غدت ألقابا للعائلات، ويتساءل في مفتتح هذا الفصل: «ما المهن التي غدت ألقاب عائلات؟! هل لديك سلف أو جد قام بإحدى هذه المهن؟ّ».
إن ارتباط العائلات بالمهن التي توارثتها عن أجدادها قديمٌ قِدَمَ اكتشاف الإنسان للصناعة والحِرَف. لذا، نجد العديد من العائلات تحمل أسماء مهنها وصناعاتها، فتُعرف بها كُنى مثل: الحلاق، والسباك، والخباز، والفلاح، والطحّان. ورغم أن كثيرًا من هذه العائلات قد هجرت تلك المهن، فإن الكُنية بقيت بمثابة هُوية تُميزها، وتنتقل عبر أجيالها المتعاقبة.