تتراكم تجارب المخرجين وتتباين الأساليب والاتجاهات التي تميزهم حتى صار هذا التميّز استثنائياً ولا يتناسب مع الكم الكبير من الإنتاج السينمائي الذي يغلب عليه الطابع التجاري.

وفي موازاة ذلك ثمة قواسم مشتركة لا تزال تقدّم سينما المخرجين على أنها مرتبطة بثلة من المخرجين من أنحاء العالم الذين تركوا بصمتهم الخاصة وعرّفوا بأساليبهم والأفلام التي قدموها، تلك التي بقيت عالقة في الذهن.

ومن بين تجارب سينما المخرجين تبرز تجربة المخرج الفرنسي لوك بيسون الذي نحن بصدد التوقف عند فيلمه الأخير هذا بعد توقف دام لعدة سنوات قضاها بيسون في ملاحقات قضائية ومحاكم بسبب اتهامه بالتحرش الجنسي وحادثة اغتصاب ولكنه خرج منها كلها بريئا ولن تثبت أية تهمة من التهم التي لاحقته وكأنه في هذا الفيلم عاد ليقول: ها أنذا أواصل الرحلة.

تمتد تجربة بيسون إلى أكثر من أربعة عقود حيث أخرج فيلمه الأول «ما قبل الأخير» في عام 1981 لتتوالى أفلامه التي زادت على 20 فيلما عُرف فيها مخرجا فضلا عن عدد كبير من الأفلام التي كانت من إنتاجه أو كتب لها السيناريو ويكفي أنه هو كاتب سيناريو السلسلة ذائعة الصيت تاكسي التي وصلت إلى خمسة أفلام وكان آخر فيلم من هذه السلسلة يعود إلى عام 2018.

وبيسون معروف بأفلامه التي تمزج الدراما بالعنف والصراعات الاجتماعية والحدة ونزعات الانتقام فأبطاله يواجهون أقدارهم ولكنهم يطاولون إلى النهاية ويتقاتلون مع خصومهم بلا هوادة وهو خلال ذلك تفاعل بقوة مع تجارب السينما الأمريكية وأسلوبها في الحركة والمطاردات والجريمة والإسراف في الخيال وبذلك فارق أسلوب السينما الفرنسية المعروفة بالحوارات المطولة والأحداث المتشعبة ذات الإيقاع المنساب والهادئ غالبا وهو ما ظهر جليا في فيلم لوسي – 2014 الذي جمع فيه الممثلين الكبيرين سكارليت جوهانسون ومورجان فريمان وقبل ذلك فيلم العامل الخامس – 1997 الذي قدم فيه الممثل المخضرم بروس ويليس وكذلك فيلم الرسول – 1999 الذي قدم فيه جون مالكوفيتش وفاي دوناواي ثم فيلم العائلة – 2013 الذي قدم فيه الممثلين روبرت دي نيرو وتوم لي جونز وغيرها من الأفلام.

والحاصل آن لوك بيسون يتوج خبرته في الأسلوبية الهوليودية ليمزجها بروح فرنسية من خلال هذا الفيلم الذي تم تصويره بين الولايات المتحدة وفرنسا.

هنا سوف نبدأ مع قصة جريمة لا نعلم عنها شيئا بطلتها سيدة متنكرة تلاحقها الشرطة وهي في الحقيقة دوجلاس، الشخصية الإشكالية- يقوم بالدور الممثل البارع كاليب لاندري جونز الذي بعد أن يتم القبض عليه وهو الهارب بشاحنة مع قطيع كبير من الكلاب، تحتار الشرطة في تصنيفه أذكر هو أم أنثى ولهذا تلجأ إلى الطبيبة النفسية الدكتورة ايفيلين- تقوم بالدور الممثلة جوجو جيبس ومن هنا يبدأ الحل الإخراجي بالانكشاف وذلك من خلال جلسات الحوار- التحقيق التي تجريها ايفلين مع دوجلاس، الذي يكشف هنا عن شخصيته الحقيقية.

تبنى فلسفة الفيلم والحل الإخراجي الذي اعتمده بيسون وهو نفسه كاتب السيناريو على جدلية الذات الإنسانية العدوانية في مقابل الطبيعة المسالمة للحيوان وذلك من خلال رحلة الحياة القاسية التي عاشها دوجلاس وهي قصة حقيقية خلاصتها الانتقام الشرس لوالد دوجلاس منه وهو صبي إلى درجة إطلاق النار عليه والتسبب في شلل أطرافه السفلى بعدما أمضى زمنا وهو مسجون في قفص الكلاب بحسب قرار الأب العدواني.

من هنا يتأسس النسيج الفيلمي والبناء السردي على تلك العلاقة الإشكالية المعقدة بين دوجلاس والكلاب وها هو يعيش في بناية مهجورة في وسط قطيع من الكلاب من مختلف الأصناف التي يعدّها أبناءه، يتحدّث إليهم ويدرّبهم ويرعاهم ومن ثم يستخدمهم لغرض أن يؤدوا من أجله المهام التي يريدها، ومن ذلك مثلا انتصاره لعائلة لاتينية كانت تتعرض لابتزاز إحدى العصابات فيرسل دوجلاس كلابه لينتقم لتلك العائلة ويوقف العصابة عند حدها لكن الأمر لن ينتهي عند هذا الحد إذ سوف تلاحقه العصابة ويتكمن من القضاء عليها بمساعدة كلابه.

ربما تكون هذه الأحداث هي الأرضية التي بنيت عليها أحداث الفيلم لكن شخصية دوجلاس هي أعمق من ذلك بكثير فهو الذي لم يدخل مدرسة قط فيما تكون المجلات التي عثر عليها والتي تعود لوالدته هي معلمته وهو في سجنه، لكن بعضها مجلات نسائية والحاصل أنه ثقّف نفسه بوساطة تلك المجلات ولتتجلى شخصية وتشرق بعدما يلتقي سلمى- الممثلة جريس بالما وهي أستاذته في دار الأحداث وهي التي سوف تقلب طريقة تفكيره رأسا على عقب فهي التي سوف تفتح له مغاليق المسرح الشكسبيري وما ينطوي عليه من ثقافة وفلسفة عميقة فضلا عن الخوض في عالمه المسرحي المؤثر وبهذا صار يمتلك الجرأة في تمثيل المسرحيات مدفوعا بحب شديد لأستاذته سلمى ما لبث أن تحطم ووجه ضربة له في صميم مشاعره بعدما تترك سلمى المكان إلى عمل آخر ثم ليكتشف أنها متزوجة وسعيدة في حياتها.

وللتعمق في هذه الشخصية الاستثنائية وتحقيق المزيد من مساحات الدهشة فها هو دوجلاس المشلول الذي يتنقل على كرسي متحرك يبحث عن عمل ينتهي به أن يبهر الأسماع والعقول وهو يغني بتمكن فريد للمغنية الشهيرة إديث بياف أجمل أغنياتها وليكشف عن براعة وحس إنساني فريد، وها هي شخصيته تتجلى في اعترافاته أمام ايفلين وليعلن لها أن سبب اعترافه لها والكشف عن شخصيته أنهما يتشاركان في شيء اسمه الألم فهي الأخرى مضطهدة من طليقها المدمن الذي خلف وراءه طفلا ولد لهما.

يقدم لوك بيسون هنا شخصية استثنائية تجمع بين الضحية التي هي بلا ذنب لكي تعيش ذلك الشقاء والحرمان من الأم والعائلة بسبب وحشية الأب والأخ الشقيق المصابين بعقد نفسية انتقامية ولهذا تتجسم بشاعة وغدر البشر من خلال أقرب الناس إليه ليستبدلهم بالكلاب التي تطيعه وترأف به.

كلاب دوجلاس ما تلبث أن تتحول إلى مشكلة بلا حل وذلك بالتزامن مع رغبة البلدية في التخلص من ذلك التجمع غير المرغوب به للكلاب، لكن في المقابل نجده وهو يستخدمها للسرقة من المنازل وعلى أساس إشاعة العدالة الاجتماعية بالسطو على منازل الأثرياء وسرقة مقتنياتهم الثمينة وتوزيعها على الفقراء.

ربما يبدو هذا المنطق المثالي والطريقة التي تم استخدام الكلاب بها وكأن بينها وبين إدراك البشر شعره، كافية لرسم صورة من المبالغات الطريفة ولكن وفي الوقت ذاته جعلت الجمهور متعاطفا مع شخصية مشلولة لكنها مكافحة ببسالة وشراسة وصولا إلى أهدافها ببراعة ملفتة للنظر.

يناقش عدد من النقاد هذا الفيلم ومنهم الناقدة جيسيكا كيانج في مجلة فيرايتي التي تقول عنه: إنه فيلم تشويق مبني على قصة حقيقية مرعبة، حيث تفهم الكلاب كل شيء تقريبا، لذلك لا يمكن للمرء إلا أن يتخيل ما سيفعله دوجلاس وكلابه بعد ذلك، وليس عندك سوى أن ترحب قائلا: «رحبا بكم في عصر الجنون»م.

وكان المخرج بيسون قد استند في سيناريو فيلمه إلى مقال قرأه عن عائلة فرنسية حبست طفلها في قفص للكلاب وهو في الخامسة من عمره، وبينما قضى المخرج عاما كاملا مع الممثل لاندري جونز في الاستعداد والتحضير لتقديم شخصيته الاستثنائية في الفيلم.

يتمتع لوك بيسون، وهو أكثر المخرجين الفرنسيين حضورا في هوليود، بخيال بصري رفيع، بما يدفعه أن يقدم أداءً مؤثرًا في دراما أكشن ذات صبغة كوميدية ممزوجة برحلة عاطفية متعبة.

والحاصل، نقول ما كان قد قاله الناقد السينمائي دامون وايس: إن من الأفضل ألا تزعج عقلك بأسئلة صعبة فقط استمتع بالكلاب، فهي رائعة حقًا - وخاصة تلك الكلاب الكوموندرز المجربة الضخمة.

....

إخراج / لوك بيسون

تمثيل/ كاليب لاندري جونز، وجوجو جيبس، وكريستوفر دينهام، وجريس بالما.

إنتاج / فيرجن بيسون – زوجة المخرج.

مدير التصوير/ كولين وندريسمان

التقييم/ آي ام دي بي 7 من 10، روتيين توماتو 70 من 100، مستخدمي جوجل 90%.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

أمين البحوث الإسلامية: التشخيص النفسي والعقلي للملحدين أساس التصدي للأفكار الهدَّامة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

شارك الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية د. محمد الجندي، صباح اليوم، في فعاليات الدورة التثقيفية الأولى التي أقامتها كلية العلوم الإسلامية للوافدين تحت عنوان: “مواجهة الشُّبُهات الإلحادية”؛ وذلك بحضور د. سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، ود. نهلة الصعيدي، عميد كلية العلوم الإسلامية للوافدين، ود. يسري جعفر، وعدد من أساتذة جامعة الأزهر والمتخصصين في الفكر.

وأكَّد الأمين العام خلال كلمته، أهميَّة هذه الدورة التثقيفية؛ لما تشكِّله من عقلٍ كليٍّ جامعٍ؛ وذلك لأنها تعالج مشكلة ومعضلة تشيع في كلِّ المنصَّات الواقعية والافتراضية، وهى مشكلة الإلحاد والشبهات الإلحادية وكيف يمكننا معالجتها والتصدي لها، موضِّحًا أنه لا بُدَّ أن نكون موضوعيين، فالملحد قبل أن أرد عليه أو أفسِّر نظريته التي تهين العقيدة بشكل عام، وتريد النَّيل من الإله، ومن وجود الله تعالى- نحتجُّ عليهم من خلال تشريح العقل وتفسير الإلحاد؛ أي: لا بُدَّ من التشخيص أولًا، وكما قال “ستانلي”: “إنَّ الملحدين خلوا في نظرياتهم من الموضوعيَّة والاحتمال، فالملحد قبل أن يصدر نتيجته لم يعتبر بالاحتمال والموضوعية، فلقد صدر وأنكر من البداية وجود إله، فالمِفتاح الأول لفل هذه الشبهات: التشخيص النفسي والعقلي للملحدين”.

وأوضح الجندي أنه لا بُدَّ من وجود أدوات، ومن هذه الأدوات الحُجَج العقلية؛ أي: لا بُدَّ أن يكون لديك برهان يوصل للعلم وللتحقيق، ومنها أيضًا: القياس، والغالب في القياس أنه يكون صحيحًا؛ لأنه يعتمد على مقدمات ونتائج؛ أي: لا بُدَّ من أدوات الحُجَج العقلية، مشيرًا إلى استخدام أنواع الدلالة في تفنيد الشبهات؛ كدلالة المطابقة، فهي يمكن تنفيذها في الرد على الملحد؛ كإثبات الكون كله لإثبات وجود الله، بدلالة الكون كله على دلاله وجود الله سبحانه وتعالى، كما يمكن استخدام دلالة التضمن، وكذلك الاعتبار بالتجرِبة في إثبات النظرية الكلية، وكذلك دلالة الالتزام يمكن تطبيقها وإسقاطها في الرد على الملحدين؛ كدلالة المقدمات إلى النتائج، فكل العلوم الطبيعية مسخَّرة لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى.

مقالات مشابهة

  • الفيلم الفلسطيني خطوات.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحايا الحروب
  • هل أصبحت "غرف الغضب" في كينيا الحل الأمثل لتخفيف التوتر النفسي؟
  • عندما تصدق الكلاب ويكذب الانسان
  • هل يتفوق ChatGPT على المعالج النفسي في تقديم النصائح؟.. إجابة صادمة
  • غدًا.. قوة الفن العلاجية في الدعم النفسي لذوي الهمم
  • قرار من النيابة بشأن شخص يخطف الكلاب بالقاهرة
  • وزارة الرياضة تُنهي فعاليات برنامج إعداد المُعِدّ النفسي الرياضي للدفعة الثالثة
  • أمين البحوث الإسلامية: التشخيص النفسي والعقلي للملحدين أساس التصدي للأفكار الهدَّامة
  • وسم السيسي يعتلي منصات التواصل الاجتماعي .. وهذه حقيقة المظاهرات التي تطالب برحيله
  • هل يمكن إعفاء الحاصل على الدعم النقدي دون وجه حق من رد المبالغ التي صرفها؟.. الضمان الاجتماعي يوضح