يؤرخ للثورة المصرية بيوم 25 يناير وهو اليوم الذي تم تحديده للتظاهر في أماكن عديدة احتجاجا على ممارسات الشرطة في يوم عيدها السنوي، وهي المظاهرات التي كسرت حاجز الخوف بالفعل، لكن يوم 28 كانون الثاني/ يناير 2011 (في مثل هذا اليوم قبل 13 عاما) كان هو يوم الطوفان الأكبر، حيث خرجت الحشود الضخمة للمصريين في العديد من المحافظات والمدن، وهو اليوم الذي كُسرت فيه "عنجهية" الشرطة المصرية التي كانت مطلقة اليد في قمع المصريين بكل الوسائل البشعة التي يعف المداد عن ذكرها، وهو ما عاد للظهور مجددا بعد انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013.
عاشت مصر عامين ونصف العام في مناخ سياسي مختلف، لقد أطاحت الثورة برأس النظام (مبارك) وكبار مساعديه، ودشنت عهدا جديدا من الحرية والكرامة والعدالة التي افتقدها المصريون على مدى ستين عاما سابقة من الحكم العسكري، ذاق المصريون طعم الحرية، فتظاهروا، واعتصموا، وعبروا عن آرائهم بكل قوة في وسائل الإعلام، وانتقدوا بشدة المجلس العسكري، وكبار الجنرالات الذين لم يكن أحد يجرؤ على ذكرهم بسوء، (أو حتى بخير من قبل بدون الحصول على موافقة رسمية من المخابرات الحربية).
تزاحم المصريون في طوابير حقيقية أمام لجان الاقتراع في 5 استحقاقات انتخابية (2 انتخابات برلمانية- 2 استفتاء دستور- انتخابات رئاسة)، جرت جميعها بكل شفافية وفي ظل رقابة قضائية وحقوقية وإعلامية، جرت انتخابات الرئاسة لأول مرة بين 13 مرشحا؛ نصفهم على الأقل من العيار الثقيل (الدكتور محمد مرسي والفريق أحمد شفيق، وحمدين صباحي، وعبد المنعم أبو الفتوح، ود سليم العوا، وخالد علي)، وانتخب المصريون رئيسا مدنيا لأول مرة (وآخر مرة حتى الآن) في تاريخ الجمهورية، وجرت انتخابات رؤساء الجامعات وعمداء الكليات، وانتخابات الاتحاد الطلابية.. الخ بكل حرية.
انتقد المصريون بكل قوة رئيس الدولة المدني المنتخب (محمد مرسي) ومساعديه وحزبه وجماعته، ووصل الأمر ببعضهم إلى ملاحقته في المساجد، والجنائز، بل بلغت الوقاحة ببعضهم لوضع الحشائش (البرسيم) أمام بيته البسيط، ونشروا الأكاذيب حول أسرته. وكانت بعض البرامج التلفزيونية مسخّرة بشكل كامل للسخرية من الرئيس مرسي رحمه الله، ومع ذلك لم يتعرض هؤلاء المنتقدين لسوء، وحين تقدمت إدارة الشئون القانونية بالرئاسة ببلاغات ضد بعضهم أمر الرئيس مرسي بسحب تلك البلاغات، بل إن الرئيس أدخل تعديلا تشريعيا (حين كان يمتلك هذه الصلاحية في ظل غياب البرلمان) لمنع حبس رئيس تحرير إحدى الصحف، خصص صحيفته من أولها حتى آخرها لسب وقذف الرئيس وأسرته، وبالفعل لم يتم حبس هذا الصحفي رغم أن القانون القائم في ذلك الوقت كان يقضي بحبسه بتهمة إهانة رئيس الدولة. وحين اعتقلت السلطات السودانية صحفية مصرية بزعم دخولها إلى بعض مناطق النزاع بطريقة غير مشروعة تدخل الرئيس مرسي لإطلاق سراحها، واستضافها في جناحه الرئاسي في الفندق، ثم اصطحبها معه على طائرته الرئاسية خلال عودته إلى القاهرة، وقد كنت شخصيا في استقبالها في القاهرة رفقة نقيب الصحفيين في ذلك الوقت ممدوح الولي.
عاش المصريون شكلا آخر من المعاملة الكريمة داخل أقسام الشرطة وفي مقار النيابة العمومية بعد أن كانت تلك الأماكن مقار لانتهاك كرامتهم (وقد عادت الآن سيرتها الأولى)، ومارس العمال حقهم في الاعتصام والإضراب دون عوائق، وعاشت الجامعات عصرا ذهبيا.
لبت الثورة مطلبين عزيزين من مطالب الشعب التي رُفعت في ميدان التحرير وغيره وهما الحرية والكرامة، وبقى المطلب الأهم وهو "العيش"، المتعلق بتحسين الوضع الاقتصادي للمواطنين. لم تكن الأوضاع الاقتصادية والمالية للدولة تسمح بتحقيق الهدف بشكل عاجل، أو كامل، ومع ذلك حدثت استجابة جزئية بتثبيت آلاف العمالة المؤقتة، وبتحريك الحد الأدنى للأجور، وبإلغاء الغرامات والديون عن صغار المزارعين، لكن الأهم من كل ذلك أن الدولار كان يعادل ستة جنيهات، وأن ديون مصر الخارجية كانت 43 مليار دولار فقط وليست 170 مليار دولار، وأن أي مشاريع كانت تتم وفق دراسات جدوى مع مراعاة الأولويات للوطن والمواطن، وبلغ معدل البطالة 2.1 في المئة بينما تجاوز بنهاية العام المنصرم 7 في المئة وفقا للأرقام الرسمية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
بعد 13 عاما على تلك الثورة المغدورة تبدل الحال في مصر، فارتفعت الأسعار إلى مستويات جنونية وفقدت العملة المحلية قيمتها (بحيث أصبح الدولار يساوي 60 أو 70 جنيها بعد أن كان يساوي ستة جنيهات فقط)، وتضاعفت الديون 4 مرات، من 43 مليار إلى 170 مليار دولار (هناك تقديرات أكثر من ذلك)، وأغلقت عشرات المصانع والشركات، وتصاعدت البطالة، وصار الناس يكلمون أنفسهم في الشوارع (دلالة على تردي الحالة المادية والمعنوية)، وخاطر المصريون بأنفسهم في قوارب الموت هروبا إلى دول أوروبا وغيرها، ووقف النظام عاجزا عن تدبير الحد الأدنى لحياة الناس، وعاجزا عن وقف انهيار الجنيه، وعاجزا عن دفع أقساط الديون المستحقة، ولم يجد أمامه سوى بيع الأصول الاستراتيجية التي كان الاقتراب منها محرما من قبل، سواء بيعا مباشرا أو عبر التوريق، كما هو الحال مع الموانئ والبنوك وحتى أصول مملوكة لقناة السويس.
ليس هناك تفسير مادي مقنع لما هو حاصل في مصر الآن، رغم الحجج التي يسوقها النظام لتبرير الأزمة ومنها كورونا أو حرب أوكرانيا، فكورونا لم تصب مصر فقط بل أصابت دولا أخرى بمعدلات أكبر ومع ذلك لم تتأثر اقتصاداتها كما تأثر الاقتصاد المصري، وحرب أوكرانيا لم تؤثر على اقتصاد الدولتين المتحاربتين (روسيا وأوكرانيا) كما أثرت على مصر وفقا لمزاعم النظام.. وحرب غزة حديثة عهد ولم تكمل شهرها الرابع، إذن ما السبب الحقيقي فيما جرى؟
في القرآن الكريم "ضَرَبَ اللّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ"، ورغم أننا لا نقصد بالتأكيد إسقاط معنى الآية بالكامل على مصر التي شرفها الله بالذكر في قرآنه مرات عديدة، إلا أن السنن الكونية لا تحابي أحدا. فحين كفرت أي جحدت تلك القرية (في أغلب التفسيرات مكة) بأنعم الله (جمع نعمة) حل بها ذاك العقاب الإلهي، وهي سنة كونية تنطبق على من يكرر الفعل نفسه، وفي مصر رزق الله المصريين بأنعم كثيرة بعد الثورة، منها نعمة الحرية، ونعمة الكرامة، ونعمة العدالة، فكان الجحود والنكران لتلك النعم عبر انقلاب عسكري وجد من يدعمه ويرقص له، ويبرر له مجازره، ومخازيه، ومفاسده، فكان الحصاد المر الذي نراه.. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
twitter.com/kotbelaraby
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المصرية 25 يناير الثورة مصر الثورة الديمقراطية 25 يناير أزمات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
في ذكرى وفاة العندليب.. محطات الرحلة من معاناة الطفولة إلى قمة الهرم الفني
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تحل اليوم الموافق ٣٠ مارس، ذكرى وفاة المطرب والفنان الراحل عبدالحليم حافظ، وهو الاسم الأبرز بين نجوم الفن المصري والعربي، قدم رحله فنيه حافله بالأعمال ورصيد كبير من بين الغناء والسينما.
النشأةكانت حياة الفنان عبدالحليم حافظ تسير بخطى سينمائية، وكانت مليئة بالاحداث الدرامية، وخاصةً وهو صغير فى بداياته في مراحل الطفوله، بدأت الأحداث بعد أن توفت والدته وهو فى عمر أيام، ثم يليها وفاة والده بفترة بسيطة، ليعيش طفولته يتيماً وسط إخواته، وتبدأ. مراحل كتابة المحنه في حياة العندليب منذ طفولته، ولم تكتف بل رافقته المحن طوال رحلته فى الحياه.
البداية مع الفن
كان عشق الغناء، هو الحلم الذي يراود الطفل الصغير، حتى جاءت مرحلة الدراسة، وكان فى فريق الانشاد بالمراحل التعليمية، وظل شغفه بالغناء يزداد حتى دخل معهد الموسيقى العربية، لتبدأ الرحلة الفنية لأحد أهم نجوم الغناء العربي.
الإذاعة "بداية الطريق"
كانت الإذاعة هي بوابة العبور الأولى للفنان عبدالحليم حافظ فى رحلته لعالم الغناء، وكانت هى بمثابة أول الأبواب التي يطرقها ليمر من خلالها لمسامع الجمهور، حتى أثبت نفسه يوم بعد الآخر، ومن نجاحات العندليب الغنائية، اتجه إلى عالم التمثيل والسينما، بحثاً من المنتجين عن إستغلال شعبية وجماهيرية استثنائية وفريدة، لمطرب حقق ارقام ونجاحات هائلة.
السينما
قدم الفنان عبدالحليم حافظ العديد من التجارب السينمائية، والتى لاقت قبولاً كبيراً مع الجمهور والنقاد، وكان للعندليب وجه آخر فى تقديم أدوار صعبة وتحمل العديد من المشاهد الدرامية، وقدمها بإبداع كبير ونجاح فنى مذهل، وكانت من أبرز المشاهد فى فيلم "الخطايا" مع الفنان عماد حمدى، حينما تم صفع حليم على وجهه، وقدم العندليب رد فعل ببراعة فنية شديده، ومشهد آخر فى عتاب الفنانة شادية من فيلم "معبودة الجماهير"، والعديد من المشاهد الفنية التى أثبتت موهبة كبيرة للراحل عبدالحليم حافظ على مستوى التمثيل.
أبرز أعماله الفنية بين الأغاني والأفلام
قدم الفنان عبدالحليم حافظ مشوار غنائي حافل، وأبرز تلك الأغاني "بلاش عتاب، سواح، جبار، قارئة الفنجان، بتلومونى ليه، أسمر يا أسمراني، حلو وكداب، أهواك، أنا لك علطول، مشغول"، وعلى مستوى السينما قدم العديد من الأفلام السينمائية أبرزها فيلم "معبودة الجماهير، شارع الحب، أيامنا الحلوة، الوسادة الخالية، الخطايا، أبى فوق الشجره".
المرض والوفاه
رحل الفنان عبدالحليم حافظ بعد صراع طويل مع المرض، حيث عانى من مرض البلهارسيا، والذى أصابه منذ الصغر أثناء الطفولة، ليترك لنا إرثاً فنياً هاماً وتاريخ حافل لنجم استثنائي فى مصر والعالم العربي.