«الرهبنة».. هدية مصر للعالم المسيحى
تاريخ النشر: 28th, January 2024 GMT
القديس الأنبا أنطونيوس.. أب الرهبان ومؤسس الحياة الديرية
صاحب الأثر الباقى فى الكنيسة القبطية
دير «أب الرهبان» بالبحر الأحمر.. أقدم معالم السياحة الدينية فى العالم
محطات مهمة فى حياة مؤسس الفكر الرهبانى
لصحراء مصر خصوصية روحية فى وجدان العالم المسيحى، فعندما ضاقت الأفق أمام العذراء أخذت طفلها الرضيع وفرّت بصحبة خطيبها القديس يوسف النجار إليها لتحتمى فى أحضانها الآمنة، فمنذ فجر التاريخ وهبت مصر ترابها لاستقبال الشعوب ونيلها لارتواء جوف المتعطشين للسلام، كما بعثت نورًا روحنيًا للعلم، تجسد فى قديسين مصريين لا تزال الكنيسة القبطية تعيد تذكير أجيالها المتعاقبة بما قدموه من أجل البشرية.
النهضة الروحية لأب الرهبان
وخلال هذه الأيام، تعيش الكنيسة القبطية فترة إيمانية تعرف بـ«النهضة الروحية» للقديس الأنبا أنطونيوس والتى تستمر حتى 30 يناير الجارى فى عدد كبير من الإيبارشيات لإحياء ذكرى هذه الشخصية الجليلة المؤثرة التى كتبت حروف الرهبنة الأولى مرت بمراحل متنوعة وارتبطت بنفس وعقيدة مسيحية فى مذاهب وطوائف مسيحية حول العالم وليس فى مصر فقط.
وتتضمن فترة النهضة الروحية إقامة القداسات الإلهية والعظات واللقاءات الروحية المسائية بمشاركة الآباء الأساقفة والكهنة وأحبار الكنيسة، وتحرص على تمجيد وإحياء تذكار هذا القديس الذى منح الكثير للعالم وأفاض علمه وخدمته فى الحياة الرهبانية والتراث المصرى.
وتُعد مصر صاحبة الريادة فى عدة تعاليم لا تزال الكنائس بمختلف طوائفها تتبعها وكان منبعها أرض الكنانة، ومن أبرزها «الرهبنة» التى ارتبطت فى أذهان العالم المسيحى بصحراء وادى النطرون والتى عرفت قديمًا بـ«برية شيهيت» ولقبها البعض بـ«أم الرهبنة» نسبةً لما قدمته من فكر رهبانى لم يكن يخطر بالأذهان قبل ظهور القديس الأنبا أنطونيوس الكبير المُلقب بـ«أب الرهبان»، الذى يعتبره المؤرخون صاحب الفضل فى نشر هذا الفكر وأول راهب ورد بشكل تفصيلى فى التاريخ رغم وجود أعلام سبقته فى هذا المعنى الروحى من تعبد وزهد العالم من أجل الصلاة ومناجاة الله فى الخلاء.
تاريخ مسيحى عريق على أرض مصر
كما يذكر التاريخ المسيحى العديد من الأسماء الذين نذروا أرواحهم إلى الله وتركوا ثرواتهم وأسرهم من أجل التفرغ للعبادات وسط صحراء قاسية، ولكن لمع اسم القديس أنطونيوس لما تخللته سيرته من تفاصيل ودور مؤثر فى هذا السياق، فهو أحد الشخصيات المؤثرة التى عاشت بالقرن الثالث الميلادى ووضع أصول الرهبنة التى لا تزال تسير على دربها الشعوب المسيحية رغم تعددها وتنوع ثقافاتها ومرور تغيرات على المجتمعات، ولكن الجوهر لا يزال يُنسب إلى أب الرهبان.
وعلى مر التاريخ أهدت مصر الكثير من تعاليم والثقافات فى المجالات عديدة للعالم، وفتحت أبوابها لشعوب الأرض واحتضن ترابها كل من لجأ إليها وكانت واجهة الأمان للعائلة المقدسة التى فرّت هاربة من بطش هيرودس الملك وظلمه، إلى أرض الكنانة، ولا عجب من ذكر اسمها فى مواضع كثيرة، فهى مرجع لعدد كبير من التعاليم المسيحية.
دير الأنبا أنطونيوس الكبير
ومن داخل مغارة صغيرة تعرف بـ«القلاية» بجبل القلالى قرب البحر الأحمر، عاش القديس أنطونيوس، وترك تعاليم توارثتها الأجيال فى البرية الشرقية، وبدأت حركة الرهبنة تسير من صحراء وادى النطرون فى القرون التالية وأصبح اسمه متعلق بهذا الفكر ويتردد على ألسنة الكثير حول العالم كلّ بثقافته فهناك من ينطقه «سان أنطونى، أو مار أنطونيو» ويعرف بـ«أب الرهبان أو أب الأسر الرهبانية»، ويؤول إليه الفضل فى تأسيس الرهبنة ووجود أديرة حول العالم.
يقع دير الأنبا أنطونيوس على سفح جبل الجلالة القبلى بصحراء البحر الأحمر يتوسط الطريق المؤدى إليه ممر من الجبال، ويضم عدد من الأيقونات والكنائس والسور الأثرى وعدد من القلالى التى يعيش بها الرهبان، عين الماء التى تعود تاريخًا إلى عام 1700، كما يحتضن كغيره من الأديرة «الحصن الأثرى» الذى شيد فى عهد الإمبراطور جوستنيان عام 537م، ويبلغ ارتفاعه 15 مترًا وكان قديمًا بناء الحصن داخل الدير بمثابة درع الحماية للرهبان من الهجمات وعادة يكون مكوناً من 3 طوابق ومرتفعاً يصل إليه الصاعد من خلال قنطرة خشبية.
وبحسب ما ذكرت الكتب المسيحية تبلغ مساحة الدير 18 فدانًا ثم ألحقت به ما يقرب من 350 أخرى ليصبح واحدًا من أقدم الأديرة بالعالم وأعرقها على الإطلاق، ولعل لهذا الدير خصوصية روحية ما منحه أسبابا جعلته يستقطب الزائرين ليتكبدوا مشقة الصعود بين مرتفعات جبلية وطرق ممهدة الملايين طوال العالم لمشاهدة ما يحوى من كنائس أيقونات وذخائر قبطية شهدت على مرور أباطرة القديسين فى التاريخ القبطى الأرثوذكسى.
محتويات دير أب الرهبنة
ويوجد بالدير العريق كنيسة الأنبا أنطونيوس، وحرص كل من مروا بهذا الدير كتابة أسمائهم على الجدار المؤدى للكنيسة، وتضم وتتبارك بأجساد القديسين، عبر سلالم بنيت فى مدق الجبل الشاهق تبلغ عدد 1420 سلمة وتصل لقرابة 45 دقيقة حتى يتمكن الصاعد الوصول حيث توجد مغارته المرتفعة عن الأرض بعض الشىء، يتوافد الكثير من محبى القديس فى مثل هذه الفترة سنويًا، ومع لحظات الدخول لهذا المكان الذى أصبح كنيسة لا يتعدى طولها 6 أمتار تتهافت فى نفس الزائر مشاعر روحانية تثير القلب وتندمج مع رائحة البخور وصوت الآباء الرهبان وهم يؤدون طقوس الصلوات.
وشهد الدير على مر العصور تجليس وترسيم كوكبة من بابوات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ولعل لهذا السبب من أضفى إلى ما يمتلكه من تراث عريق ومنهم قداسة البابا غبريال السادس البطريرك الـ91، البابا يوأنس الخامس عشر البطريرك الـ99، البابا مرقس السادس عشر البطريرك الـ101، والبابا يوأنس السادس عشر البطريرك رقم 103، والبابا يوأنس السابع عشر البطريرك الـ107، والبابا بطرس الجأولى البطريرك الـ109، والبابا كيرلس الرابع المعروف كنسيًا بـ«أبى صلاح» البطريرك الـ110، والبابا يوساب الثانى البطريرك الـ115، ويرعى الدير الآن نيافة الأنبا بسطس أسقف عام.
مسيرة عامرة
عاش القديس أنطونيوس فى القرن الرابع الميلادى ووُلد عام 251م بقرية قمن العروس مركز الواسطى شمال محافظة بنى سويف، وكان من أسرة ثرية وترك متاع العالم من أجل الحياة الإيمانية، اشتعل فؤاده بحب الرهبنة ثم توجه إلى الكنيسة ذات ليلة عام 269م وسمع الإنجيل يتردد التهب قلبه وأرشده لترك الدنيا والتفرغ للعبادة والزهد.
سكن الشاب أنطونيوس بجوار النيل حسبما ورد فى كتاب حفظ التراث المسيحى «السنكسار»، وظل يتعبد ويصلى ويمارس النُسك بشدة، ويروى التاريخ المسيحى أنه ذهب إلى البرية عام 285 ميلادية، واستقر حيث مغارة تعلو جبل القلزم شمال غربى البحر الأحمر.
وخلال عام 305م، كسر أب الرهبان خلوته ليرسخ معانى الرهبنة فى نفوس تلاميذه، وأصبح مؤسس نظام الرهبنة «الوحدة»، ويصف الكثير سيرته أنها كانت شعبية من نبع نفسه لا يتطلب منها التدخل بالنظام الكنسى.
مكانة القديس بالكنيسة المصرية
وتعتبر الكنيسة القديس بمثابة كنز روحى وفى كثير من اللقاءات والمحافل الدولية يحرص قداسة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، أن يتفاخر بصنع مصر فى الرهبنة وخروجها من أرضها بفضل القديس «أب الرهبان»، الذى يؤكد أهمية ودور هذا البلد فى ثراء التراث القبطى والتعاليم المسيحية.
تناولت الكتب التراثية دور مصر فى منح المسيحيين حول العالم ثلاث منارات عظيمة يتبعها الكثير حول العالم، فهى أول من أسست إكليريكية «أكاديمية» دينية أسسها القديس مارمرقس لتعليم علم اللاهوت وأساسيات الإيمان المسيحى فقد كانت صرخة إيمانية لمواجهة التشدد الدينى حينها، وأيضًا قدمت أرواح مصرية بريئة لحماية الكنائس، فيروى التاريخ الذى يعرف بـ«أدب الشهداء الاستشهادى» أحد فروع الأدب القبطى أن الكنيسة القبطية هى أكبر الكنائس التى قدمت شهداء فى مواجهة أباطرة الرومان عبر العصور، جاءت هذه إلى جانب الفكر الرهبانى والحياة الديرية وإنشاء الأديرة وتأسيس أول مجمع لكل متعبد زاهد فى الحياة يرجو الإيمان.
تكريس أول كنيسة للقديس
خصصت الكنيسة المصرية يوم 10 أغسطس سنويًا، للاحتفال بذكرى تكرس أول كنيسة تحمل شفاعة هذا القديس التى تعتبره مؤسس الفكر الرهبانى وداعى البشر إلى الزهد والبحث عن الله فى خلوة النفس وممارسة العبادات، وتتخذ كلمة «تكريس» حسب المفاهيم المسيحية عدة أبعاد وتعنى لغويًا التخصيص أو أن يهب الإنسان نفسه لقضية أو خدمة معينة، وتطلق عادة على المبانى أو الأشخاص فيُكرس الإنسان حسب الخدمة الكنسية ومن هذه الخدمات «مساعد الفقراء، رعاية المرضى وغيرها من تقديم المساعدات».
ويوجد لهذه الكلمة تعريف كنسى آخر وهو «خدمة كنسية»، ويأخذ التكريس الدينى عادة طقس الرسامة وتعنى تخويل الكنيسة بشكل رسمى شخصًا ليؤدى خدمته، وجاءَ فى سفر أعمالِ الرسل فى مزمور (أع 3 – 2:13) «قالَ لهم الروحُ القدس: أَفـرِدوا شـاولَ وبرنابا لأمرٍ ندَبْتُهما إليه؛ فوضعوا عليهما أيديَهم بعدما صاموا وصَّلوا، ثم صرفوهما».
وتخصصت أول كنيسة لطلب شفاعة «أب الرهبان» التى تحمل تعاليمه وكل مساهماته فى تكوين أجيال مخلصة الإيمان وصادقة المحبة
سيرة الأنبا أنطونيوس فى الكتب
تعددت مظاهر المحبة والتعلق بتعاليم القديس أنطونيوس على مر العصور فهناك من درس تعاليمه وهناك من تلقى مبادئ ودروس الرهبنة الصحيحة حتى يسير على نهجه، وآخرون قاموا بدراسة سيرته وكتابة مؤلفات حول محطات أب الرهبان حتى تُخلد قصته إلى أبد الأبدين.
ومن أشهر الأعمال الأدبية التى تنعم بها الكنيسة المصرية وتعد بمثابة ثروة ثقافية تحتفظ بثروة روحية، هو كتاب «المثال الصالح.. سيرة القديس أنطونيوس» من تأليف البابا أثناسيوس الرسولى، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية رقم 20، وتعريب جبرائيل بك روفائيل الطوخى، تناول فيه عدة جوانب منها الأسباب التى جعلت الكنيسة تعتبر مؤسس نظام رهبنة «الوحدة»، وأوجه التباين عن أى نظام رهبانى آخر كـ«الشركة»، والفرق أن الوحدة هو نظام يعتمد على الإنسان منفردًا بعيدا عن ملاذ الحياة ومتفرغا للصلاة مع الله فقط، بينما نظام الشركة الذى أسسه الأنبا باخوميوس فى الصعيد يتجمع فيه مجموعة من الرهبان يتشاركون فى العبادة والطقوس.
مواقف وشخصيات فى حياته
ومن أبرز ما يميز سيرة الأنبا أنطونيوس، أنه ذو هدف ذاتى وغير كهنوتى وكان يطمح للتقرب إلى الله، لا يسعى لأى منصب كنسى رغم شهرته ووصول صيته إلى حاكم عصره «الإمبراطور قسطنطين» الذى كان يسعى للوصول إليه كثيرا إلا أن القديس أنطونيوس كان يفضل المكوث للعبادة دون ظهور علنى، لكنه كان يفتح بابه للراغبين فى التعلم، وكانت حياته تتنقل من الصلاة والعبادة والتعليم، ونتج عن هذه البيئة الكثير من القديسين الذى جابوا فى الأرض يزرعون بذور الرهبنة خلفًا لأب الرهبان ومن أشهرهم القديس مكاريوس الكبير الذى خرج بفكر مستنير أيضًا واشتهر ببرية الأسقط، وأصبحت الرهبنة ذات ثلاثة أنماط: الوحدة، والشركة، وأيضًا الجماعات».
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: القديس الأنبا أنطونيوس العالم القدیس أنطونیوس الکنیسة القبطیة الأنبا أنطونیوس حول العالم من أجل
إقرأ أيضاً:
في لبنان وغزة وسوريا.. الفرحة بعيد الميلاد تضيع وسط أوجاع العدوان الإسرائيلي
فى قطاع غزة، تختلط أصوات الطائرات والمدافع مع صرخات الأمهات وأبنائهن مع كل فقيد يفارقهن.
«كامل عياد»، مسيحى فلسطينى من غزة، فتح نافذة على معاناة شعب يعيش تحت وطأة الاحتلال، ليرى العالم ما تحمّله الشعب الفلسطينى من آلام وضياع، فى ظل احتفال الآخرين بعيد الميلاد.
«كل عام كان عيد الميلاد يحمل معانى مختلفة بالنسبة لنا، هو ليس فقط احتفالاً دينياً، بل لحظة تأمل وشعور بالانتماء إلى أرض وُلد فيها السيد المسيح»، بهذه الكلمات تحدث «عياد» بحزن، وهو يسترجع ذكرياته عن الاحتفال بعيد الميلاد فى القطاع.
وأضاف: «قبل الحرب، كنا نحاول أن نحتفل رغم الظروف، نُقيّم مسرحيات تحكى قصة ميلاد المسيح، نُغنّى الترانيم، ونتشارك الأمل مع المسلمين فى غزة وكأننا عائلة واحدة أما اليوم، فالفرح بات غريباً عنا».
فى السابع من أكتوبر 2023، تفاجأ «كامل» وعائلته بالحرب ليتّجهوا إلى كنيسة القديس برفيريوس، التى تُعتبر ثالث أقدم كنيسة فى فلسطين، ظنناً أن الكنائس ستكون أماكن آمنة بعيداً عن القصف، وكانت ملاذاً لآلاف المدنيين الذين لجأوا إليها، بعيداً عن القصف المدمّر الذى اجتاح قطاع غزة، ولكن الأمن الذى كانوا يأملون فيه سرعان ما تبخر تحت قسوة القصف والاستهداف لكل ما هو فلسطينى.
«كامل» الذى يحمل الجنسية المصرية من والدته، اضطر مع أسرته إلى الخروج من غزة، بحثاً عن الأمان، ليجد نفسه فى مواجهة مع جيش الاحتلال خلال رحلة الخروج إلى مصر، فقد كان الطريق محفوفاً بالمخاطر، وعن ذلك قال: «تحركنا عبر الشارع الآمن الذى أعلن الجيش الإسرائيلى أنه آمن من إطلاق النار، ولكن اضطررنا للمشى أنا وأطفالى وزوجتى وسط إطلاق نار رغم الوعود الكاذبة من الاحتلال، رافعين أيدينا فى الهواء نُمسك بهوياتنا، لكننا لم نكن نعرف إذا كنا سنصل إلى بر الأمان أم لا ونجحنا فى الوصول إلى مصر، وبدأت عائلتى حياة جديدة فى منطقة مدينة نصر».
ورغم وجود «كامل» فى مصر مع زوجته وبناته، إلا أن قلبه لا يزال فى غزة، حيث توجد والدته وأشقاؤه الذين لم يتمكنوا من مغادرة القطاع، ولا يزالون يعانون فى غزة، متسائلاً حول كيفية الاحتفال بعيد الميلاد وهو بعيد عن بلده، وعائلته تعيش فى خوف دائم، لكن تظل رسالة الشعب الفلسطينى فى ظل كل ما يحدث لهم هى رغبتهم فى الحياة، ذلك الحق الذى تحول إلى أمنية.
«باسم»: الأمور أفضل لكن القلق مستمرحالة من الترقّب والحذر يعيشها مسيحيو سوريا خلال احتفالات عيد الميلاد التى تتزامن مع الأحداث الأخيرة، ينتظرون بشغف ما ستؤول إليه تحركات الحكومة المؤقتة خلال الأيام المقبلة، وكيف يمكن أن يسير الحوار المرتقب بينهم، ولذلك تشهد احتفالات الميلاد هذا العام فى بلد الياسمين تحركات خجولة.
ورغم الظروف التى مرت بها سوريا بداية من شهر ديسمبر، إلا أن احتفالات الميلاد لم تندثر، ولكنها ندرت، فلم تملأ الشوارع أصوات آلات العزف وترانيم الميلاد كما كان سابقاً، باستثناء احتفالات باهتة فى باب شرقى وباب توما فى المدينة القديمة، ويتصل بهما حى القصاع، ومن ثم حى جناين الورد وحى القصور، وهى الأحياء الأكثر كثافة للمسيحيين فى دمشق.
وصف «باسم» -اسم مستعار لمواطن سورى رفض الكشف عن هويته- الوضع الأمنى فى سوريا بأنه فى تحسّن مستمر، وأن المعاملة من قِبل الجهات الرسمية تتسم بالاحترام للمسيحيين، رغم وجود بعض الأخطاء الفردية التى يتم التعامل معها بحزم وسرعة: «الأمور بشكل عام أفضل، لكن القلق لا يزال يساور البعض».
القلق المسيحى سيظل يُغلف احتفالات الميلاد، رغم تحسّن الأوضاع، فالكثير من المسيحيين يأملون فى قيام دولة علمانية تكفل المساواة بين جميع السوريين فى الحقوق والواجبات، وهذا الأمل لن يتحقق -كما يرى البعض- إلا بعد اعتماد دستور جديد للبلاد يكفل لهم الحقوق الكاملة: «نحن لا نريد مجرد دولة مدنية، بل دولة قانون، حيث يكون الجميع سواسية»، وفقاً لـ«باسم».
أما بالنسبة لاحتفالات عيد الميلاد، فإنها لم تتغير بشكل كبير فى ظل الظروف الحالية، إذ يمكن للمسيحيين الآن تنظيم احتفالاتهم دون الحاجة إلى التنسيق مع أى جهة، ورغم الأوضاع الصعبة لا يزال الاحتفال بالعيد يعتبر رمزاً للتضامن والأمل.
«أوغيت»: الاحتفالات تمسح الحزن عن «بيروت».. والمغتربون يعودونفى قلب لبنان، الذى لا يزال يعانى من تبعات الحرب، ظل الأمل ينبض فى النفوس، خلعت المدن رداء الحزن والقلق، وأخلت ساحاتها لأضواء الميلاد.. شجرة ومغارة وموسيقى رسمت ملامح عيد لا يهجر بلد الأرز وإن كان مشوباً بكثير من الحذر بسبب الأوضاع المتوترة فى جنوب البلاد وفى دول الجوار.
فى الوقت الذى يعيش فيه المسيحيون فرحة استقبال الطفل «يسوع»، تجد فى لبنان فرحة استثنائية بعيد الميلاد هذا العام، إذ هلّ الفرح بعد فترة من الحرب والدمار فتقول أوغيت سلامة، سيدة لبنانية، فى وصفها للعيد هذا العام: «عيد الميلاد مميز للبنانيين كما هو لجميع المسيحيين فى العالم، فهو ميلاد الرجاء وبداية أعظم قصة حب للبشرية التى بدأت ببشارة مريم العذراء ثم ميلاد يسوع، ولكن هذا العام، ومع كل المعاناة التى مر بها لبنان، أصبح للعيد معنى آخر، فهو يحمل معه أملاً فى السلام ورجاءً جديداً مع شعور عميق بأن الحياة قد عادت، وأن اللبنانيين يمكنهم العودة للاحتفال، بعيداً عن نار الحرب والدمار الذى عاشوه، وخاصة منذ سبتمبر الماضى وحتى إعلان وقف إطلاق النار فى نوفمبر».
وفى كنائس لبنان على الجبل، تجتمع العائلات، وتختلف الوجوه، لكنْ هناك شىء مشترك بينهم ألا وهو الأمل، وتنعكس أضواء زينة الميلاد على الوجوه المرهقة من الحرب، وتملأ الكنيسة أصوات الترانيم التى تتردد فى أرجائها، تقول «أوغيت»: «حتى إن أجواء البهجة والزينة ترافق كل الأديان والطوائف فى لبنان»، لكن ما يميز هذا العام أكثر من أى وقت مضى هو فرحة الأطفال: «أنشطة الأطفال تتعدد بين المسرح وتوزيع الهدايا مع بابا نويل، لكن فرحتهم هذا العام مضاعفة، كما الكبار، لأنهم عادوا للاحتفال فى المناطق التى شهدت العمليات العسكرية، خصوصاً فى بيروت والجنوب والبقاع، فبعد الحروب جاء هذا العيد ليحيى الأمل للأطفال والكبار على حد سواء، ويزرع فى قلوبهم فرحة جديدة».
ليس فقط اللبنانيون داخل لبنان من يفرحون بميلاد المسيح، فحتى أولئك الذين غادروا إلى الخارج بسبب ظروف الحرب، عادوا ليحتفلوا بعيد الميلاد مع عائلاتهم فقد عاد اللبنانيون فى الخارج، سواء للعمل أو الدراسة، إذ حجزوا تذاكر سفرهم فور إعلان وقف إطلاق النار، ليكونوا مع أهلهم فى هذا العيد، وتختتم «أوغيت»: «اللبنانى لا يفقد الأمل، وكلما اشتدت عليه التحديات، زادت عزيمته، لتمسكه بالحياة وبالحرية مهما كانت الظروف والأثمان».