دعاني صديقي بروف بول دينق شول إلى حضور حفل تدشين ديون (الرحيل) للشاعر الدكتور فارويل جيمس، الذي أقامته جمعية كيندول الثقافية بالتعاون مع مركز سينياس الثقافي، ومحضني نسخة من الديوان قبل يومين من الحدث.
لم أُدهش، وأنا أقلب الديوان، تتملكني دهشة الإبداع والغبطة والمتعة، فالجنوب كان صاحب الفلتات الفذة التي لا تتكرر ، في معارك الوطنية والإبداع، وانعطافات التاريخ في السودان الكبير ، فابنه البطل علي عبد اللطيف، أول من صك مصطلح السودانوية، حينما قال (إلى شعب سوداني كريم) في مواجهة سليمان كشة الذي سطر مقدمة ديوان قصائد المولد بعبارة (إلى شعب عربي كريم)، وكانت دعوة علي عبد اللطيف هذه دعوة واعية شكلت المرتكز لجمعية اللواء الأبيض وقد صاغ أحد أعضائها وهوحمزة الملك طمبل مفاهيمها الأدبية من بعد في كتابه (الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه)، ثم كل ما تنسل من مدارس فكرية أو أدبية سودانية حتى الآن كان مرجعها "سودانية" علي عبد اللطيف هذه، ولعل تربص هذه الجدلية بنا دون تسوية ومحاولة دحضها هي سبب معاناتنا حتى الآن، ومنه مفجر ثورة اللواء الأبيض كبرى علامات الوطنية والبطولة في تاريخنا البطل عبد الفضيل الماظ، ومنه عبد المنعم عبد الحي الذي صاغ الوجدان السوداني بقصائده الروائع، ولو لم يقل سوى قصيدته الرائعة (أنا أمدرمان تأمل في نجوعي) لكان حسبه، وله (فارق لا تلم) وله (دار البعد والغربة) و(من أنت يا حلم الصبا)،ومنه العقيد (م) الجاك بخيت دينق أرنق رافع علم الاستقلال.

هذه مثالات تشير إلى خصوبة تلك الأرض فكرًا وعزًا وبطولة.
يقع الديوان في (95) صفحة من الحجم الصغير، لون غلافه أزرق غامق، وهو لون يدل على الثقة والكرامة والذكاء والسلطة، إذن اُختير هذا اللون بعناية، فتلك صفات ما تفتأ تبارح الجنوبي، والشاعر ينبض بالثقة عبر كلماته وقصائده، والكتابة على الغلاف باللون الأبيض، وهو لون يدل على السلام والنقاء والضياء، تتوسط الديوان حمامة السلام تقبض على غصن زيتون، تعلو العنوان الذي يتوسط الغلاف كفان كأنهما تستعدان لتلقف شيء، أو تدعوان، فالصورة مربكة، وفي هذا الإربك فضيلة حشد أكثر من معنى، إن قصد المصمم إلى ذلك قصدًا، أم قصدته الصدفة. والديوان طبع طبعة فاخرة على ورق أبيض مصقول، حوى ثلاثين قصيدةً منها ما كتب بالفصيح ومنها ما كتب بالعامية، وعندي أن قصائد العامية أفعم من الفصحى وأكثر طلاقة.
افتتح ديوانه بقصيدة (هذه بلادي) وهي بمثابة تحية إلى وطنه يقول في إحدى أبياتها:
وطن كالأماتونج رفعةً وشموخاً
أورد تشبيهاته في هذا البيت من بيئته (الأماتونج) وهذا وعيٌ ، فلا يستجلب تشهبهاته واستعاراته من خارج بيئته، وبهذا يحقق قوميته، وفي القصيدة دعوة للسلام والوئام.
من القصائد التي توقفت عندها قصيدة الرحيل، التي حمل الديوان اسمها، وهي من أكثر القصائد صدقًا تحسه في كلماتها وتراكيبها، وهي مقسمة إلى مقاطع، كل مقطع استقل بإيقاعه حسب مقتضى المعنى، ونجد الموسيقى الداخلية مكثفة في قوله:
سمع الخبر،أخذ القدر، أغلى البشر، أين المفر
بكت الدول، بكت المقل، رحل البطل
وهذا التدفق الإيقاعي، يحاكي الحالة النفسية التي عاشها الشاعر وهو يتلقى خبر الرحيل المر.
وقد بدأ هذا المقطع بهذا البيت بداية بطيئة الإيقاع، أشبه بالمناجاة
الزمان اغتالنا شر اغتيال
برحيلك الداوي يا أعز الرجال
فتتلألأ صورته البيانية في قوله:"الزمان اغتالنا شر اغتيال"فاستعارته لها بعد جمالي عميق، فهو يصور كل الزمان قد تحشد ليغتالهم في هذا الرحيل، هذا يجسد ضخامة الفاجعة عنده
وفي بيته الثاني إن كان قد قال (يا عز الرجال) في محل (يا أعز الرجال) لكان أجود.
ثم بدأ التدفق يسرع ويسرع
رحلت عنا يا حكيم
حتمًا إلى دار النعيم
...
ثم يعود الإيقاع إلى الهدوء كأنما يتنهد
عشرون عامًا في الفيافي قد مضت
عشرون عاماً في النضال لم تمت
عشرون يوماً في القصور قد رحلت
وهنا الاستعارة تعطيك صورة معبرة ولها دلالات تعكس حال الرحيل، فقد لملمت الأعوام العشرون حاجاتها ورحلت بكل أمل كان يعتلق بها، وبرحيلها لم يتبق غير خيار فك الارتباط.
ثم يبدأ تدفقه في مقطعه التالي
رجل السلام
أكملت وعدك بالتمام
حققت أحلام السلام
يا من ملكت الحب في قلب الجميع
فتزيد تفعيلات البيت كلما مضى، فإيقاعاته تعزز معانيه، وهو هنا يعزي نفسه، فقد رحل القائد، لكن بعد أن أوفى مطلوباته ، ثم يقول في ذات المقطع:
يا من سقطت ناصعُا كأوراق الربيع
فاستخدام كلمة (ناصعًا) هنا استخدام مدهش، واستخدام عبارة (أوراق الربيع) لا يقل عن استخدام كلمة (ناصع) دهشة، قد أراد أن يقول إن الرجل مات في ريعانه، فتوسل للمعنى بتلك الكلمة وتلك العبارة، وهذا هو الشعر. ثم يقول في ذات المقطع:
هذا الرحيل المر جاء مدويًا
ليؤكد القول الفصيح
إن البسيطة لم تعد تسع الجميع
هذه الأبيات جاءت في غاية الجمال اللفظي، وتحمل رأيًا حاسمًا بالانفصال.
والديوان ملئٌ بالقصائد ذات المواضيع المختلفة، فقد غنى للمعلم، غنى للجمال غنى سوريا أن يخرجها الله من محنتها، غنى زوجته، غنى وطنه، غنى لفجر استقلال وطنه
كتب بالفصحى والدارجة، وشعره الدارجي أوفى نغمًا وأكمل موسيقةً، وأجمل معنىً.
وفي شعره الفصيح يُعلي المعنى حتى على الجمال الإيقاعي ، وهذا مذهب قديم استخدمه أصحابه بتوسع حتى على مستوى اللفظة ووعورتها، وكان المتنبي ربما أتى بجمع قياسًا لم يُسمع لدى العرب
كان الشاعر متسامحًا حتى على من ظلمه، يقول:
ونسامح جوة قلوبنا
عن كل إنسان لو ظالم
جاء هذا البيت في قصيدة عامية يحتفل فيها باستقلال الجنوب سماها "التاسع من السابع" وسارت على نمطٍ هتافي وتصلح أن تصبح جلالة وهذا النمط الناس فيه عيال على الشاعر السوداني الكبير محجوب شريف.
قصيدة (كيفي إنت) قصيدة عامية عاطفية، من جميل ما كتب، لكن قصيدته (أنا زول بحبك وبعشقك) تضاهي قصائد أعظم شعراء السودان العاطفية، تضج بالموسيقى وتصلح للغناء.
يقول في قصيدته "لون الكحل في العين"
لون الكحل في العين
زي قبلة الضالين
أنا فيك بخاف الناس
تسحر عيون حلوين
إن لم يقل سوى هذين البيتين لكفاه، فلم أقف في قراءاتي المديدة للشعر على هذا المعنى المدهش
ومن معانيه المبتكرة قوله في قصيدة "لا عرفت الريد لا متدين"
أنا لا بشكيك ولا ببكيك
ياهو ريدك كل يوم بتلون
وخسارة كل آمالنا الفيك
لا عرفت الريد لا متدين
وفي قصيدته "إن شاء الله تكون آخر طلقة"
يقول مصورًا كثرة الموت الذي ضرب الناس
الموت ذات نفسو هو ملانا
وهو تعبير قوي ومبتكر على كثرة الموت
هذه قراءة متعجلة لهذا الديوان الرائع، وقد أوفى غيري قراءاتهم فيه، عسى أن نلتقيكم في مساحات أوسع في ضخم الحراك الثقافي الجنوبي

gasim1969@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: یقول فی

إقرأ أيضاً:

وقفات في ريمة تبارك ضربات القوات المسلحة لعمق الكيان الصهيوني وتؤكد دعم فلسطين

يمانيون../
نظمت مديرية الجبين في محافظة ريمة، اليوم السبت، عددًا من الوقفات التضامنية مع الشعب الفلسطيني، مؤكدين مباركتهم لعمليات القوات المسلحة اليمنية التي استهدفت عمق الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وأدان المشاركون في الوقفات العدوان الصهيوني على المنشآت المدنية في الحديدة وصنعاء، واستمرار الجرائم الوحشية والإبادة الجماعية بحق المدنيين في غزة، التي تتم بدعم أمريكي في ظل خذلان عربي مؤلم.

كما أشاد المشاركون بالعمليات العسكرية النوعية التي نفذتها القوة الصاروخية اليمنية ضد الكيان الصهيوني، مؤكدين ضرورة تنفيذ المزيد من الضربات حتى يتوقف العدوان الهمجي على اليمن وفلسطين.

وأكد بيان صادر عن الوقفات أن العدوان الإسرائيلي على اليمن لن يؤثر على مستوى التصعيد الذي يواصله الشعب اليمني في دعم القضية الفلسطينية.

وأكد المشاركون على الثبات والاستعداد الكامل للتصدي لأي تصعيد من العدو، داعين كافة أبناء الشعب اليمني إلى التوحد في مواجهة العدوان الأمريكي البريطاني الصهيوني، ومواصلة التظاهر في ساحات الحرية تعبيرًا عن موقفهم الموحد ضد الاحتلال الصهيوني.

مقالات مشابهة

  • ضربة قوية تهز الهلال.. 6 نجوم على أعتاب الرحيل
  • دعاء قبل الأكل.. ماذا كان يقول الرسول قبل تناول الطعام؟
  • وقفات في ريمة تبارك ضربات القوات المسلحة لعمق الكيان الصهيوني وتؤكد دعم فلسطين
  • رمطان لعمامرة يقول إن زيارته للسودان تهدف إلى الوصول لحل سلمي للحرب
  • أنباء محافظة ريمة ينظمون وقفات تضامنية مع الشعب الفلسطيني
  • وقفات تضامنية بعدد من المدن المغربية تطالب بوقف التطبيع
  • ليبرون جيمس يحطم رقم عبدالجبار القياسي
  • سعودي وجزائرية يتأهلان في الحلقة الثالثة من “أمير الشعراء”
  • بولز يُسقِط سلتيكس في معقله ورقم قياسي جديد لليبرون جيمس
  • مبابي يكشف «السبب الأهم» في الرحيل عن سان جيرمان!