سودانايل:
2024-09-09@02:07:55 GMT

الهوس في مجتمعاتنا

تاريخ النشر: 28th, January 2024 GMT

بسم الله الرحمن الرحيم

سرف المداد

اليوم أود أن أتناول موضوعا، يعتقد الكثير منا، أنه سخيف فارغ،لا طائل تحته، ولا غناء فيه، فحديثي عن الهوس، الذي أهيئُ عقلي المكدود الآن للكتابة عنه، على غير تأهب ولا استظهار، هو من المسلمات التي تراها بعض شرائح المجتمع وترتضيها، هذه الفئات التي تؤثر ذلك الشيخ أو" الفقير" كما نطلق عليه في مجتمعنا السوداني، لزهده في متاع الدنيا الزائل، وافتقاره لأبسط مقوماتها، ذلك الشيخ الذي يحاول شيئا لا سبيل له في اعتقادنا، فيتمكن من نيله وتحقيقه، فالعلوم التي أتقنها واستقصاها، إضافة للبركة التي تسري في شتى خلاياه ونواحيه، هي التي كفلت له أن يرتحل في أقطار الأرض، ويطوف بشتى بقاعها وهو مقيم، فالشيخ الذي أيسر ما يتحدث فيه الناس، أنه قد شوهد قائما يصلي في في ركن قصي من أركان مسجده، ذلك المسجد الذي يثبت فيه ويستقر، سائر يومه، هو المكان الذي تنهمر عليه الوفود في غير جهد وكد، حتى تنال الرضا والقبول والاستحسان، فالشيخ الملازم لحلس مسجده، ولا يغادره إلا لانجاز فصول من قصصه، التي تحقق له الحيرة والدهش والاعجاب، قصص بركته وصلاحه، التي من أجلها يحظى بالاعجاب كله، والثناء كله، والتقدير كله، يجلس هذا الشيخ في تواضع جم وهيبة لا تخطئها العين، وتبدو على محياه النضر مظاهر الخشية والوقار، وتحيط به جموع الأحباب والمريدين، الذين يرمقهم بطرفه الوسنان من طول التهجد وقيام الليل، فيقرأ التعابير التي تعج بها قسمات وأخاديد وجوههم بينه وبين نفسه، ثم يتحدث بها إلى خاصته بصوت مرتفع، فيسمعه أصحاب هذه القسمات، فيزداد هذا الوله، ويضطرم ذاك الشعور، وتعلو بعدها نبرات الاكبار على ألسنة المحبين، والناس في هذه الأجواء المترعة بالتأثر، واللهفة لالتماس المنافع، واكتساب المعرفة، واجتلاب الحلول، لقضاياهم التي تؤرقهم، وتنقص عليهم حياتهم، فالكل يسعى ويجتهد من أن يقترب من الشيخ، حتى يعطيه صورة صادقة عن كنه المرض الذي يعاني منه، والعلة التي يجهلها، إذن دعونا نترك الناس في تدافعهم المحموم هذا، وازدحامهم حول شيخهم، ولا نلتفت لأقارب الشيخ وخاصته، وهم يسعون لاطفاء جذوة حماس الناس التي لا يعرف الخمود إليها سبيلا، دعونا نذود كل هذا بالفتور والإهمال، لنراقب هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، حتى يخبرنا بقصة رديئة إلى أقصى حدود الرداءة، شنيعة إلى أنأى آماد الشناعة، قصة لا تنفع إلا لهذا العبث الخصب، والتهكم العاتي، هي قصة ابتدعها صاحبها في يسر، وحبك خيوطها في سهولة، ولم تحتاج أن يبذل فيها ما نبذله نحن في مقالاتنا من مصوغات وتبارير، فقصة الرجل، نحن نعلم من أمرها أكثر مما نجهل، هذا الشخص الذي لم يجهد نفسه ليأتي بشواهد أو قرائن تؤكد مزاعمه، فأقصى مجهود فعله، هو أنه أطلق لسانه بغير حساب، وتحدث بهذا الهراء في حدة ونشاط، وأقبل بعدها على يد شيخه يقبلها ويعانقها ويضمها إليه في الحاح وشدة، والشيخ الذي لم يسحب يده منه، يؤنبه ويلومه، ويلح عليه في التوبيخ والتقريع، لأنه قصد أن يخفي هذه المكرمة، فأذاعها هو في اسراف وجموح، لقد كلف هذا الرجل الناس الذين يقيفون في مكان بعيد عن الشيخ، فوق ما يطيقون، فلا سبيل لهم أن ينتهوا إلى مكان حبرهم الجليل، أو حتى يجتازوا مسافة تكفل لهم نظرة ترضي الحس، وتغذي الشعور، لقد ادعى هذا الرجل الذي يعرف طبائع الناس وأمزجتهم، أن شيخهم المحبوب الماثل أمام بصرهم، قد تركه في تلك القرية النائية التي أوصلها إليه بسيارته الفارهة، التي تطوي فدافد الأرض طيا، ليعتني بمريض قد أشفى على الهلاك، هذه القرية بينها وبين مقر اقامته فراسخ وأميال، وأنه قد تركه وحضر ليقضي أمور لا يحسن فيها الإهمال، فقد جلب لزغبه وعياله، ما يقيم أودهم، ويعصمهم من عاديات الغرث والجوع، فتفاجأ بمن يخبره أن الشيخ حاضرا ومتواجدا في مسجده، فصمم أن يراه، ويصل إليه، رغم ما قد يكتنف طريقه من عقبات، ليحكي هذه المعجزة الفريدة للناس، كل الناس، حتى تغدو هذه المعجزة، من أسمى كرامات الشيخ، وأكثرها وضوحا، وأعلاها مرتبة.


وأنت إذا توطدت صلتك بهذه الشرائح الغارقة في هوى المشايخ الذين لا يبطرهم الفوز، أو يمضهم الاخفاق، تسمع طرائفا من الأعاجيب، وقصصا لا تستطيع أن تهضمها إلا بعد عناء طويل، فتلك المعجزات والكرامات، التي يسرف عقلك في انكارها، وازدرائها، والاستخفاف بها، والشفقة على من ينافحون عنها في حرص، ويدافعون عنها في غلو، كما يدافع المرء عن حياته في صدق وإخلاص، فبينما أنت تتجهم لها، ولا تستعذب التعامل مع طائفتها، إلا وأنت محرج، أو مدفوع إلى الحرج، تخضع لها هذه الطائفة وتذعن، وتدافع عنها بحجج ساطعة وبرهان مستقيم.
ومن الأخطاء الجسيمة التي نزجي فيها النصح للقارئ، حتى لا يتورط في الوقوع فيها، خاصة إذا حضر إلى أماكن توهجها وبريقها، والسودان يحب هذا التوهج، ويطمئن إليه، عليه ألا يسدي النصح لهذه الطائفة، أو يشكك في تلك الروايات التي يجترونها على مسامعه، في ألفاظ نضرة، وعبارات حرة كريمة، تظهر دواعي الرضى، وكمال القناعة، وفي الحق هذه السلسلة من الروايات العريضة، هي التي تمنح هذا الهوس المستشري في مجتمعاتنا الوجود، فالهوس الذي نختلف حوله ونختصم، ونجتهد لاجتثاث دوحته اجتهادا عنيفا، هو الهوس البين الصارف عن اطالة الحديث فيه، كما يقول الدكتور طه حسين، هو هذا الهوس القديم الذي عاش إلى هذا العهد، عهد الرقي والحضارة، وما زالت جموع عريضة تظهر له الحب وترغب فيه، وأنا ككاتب مجبرا بأن أتحسس مواقع الرضى ومواقع السخط، وأستطيع أن أزعم بأن معظم الناس قد أذعنت لسمات هذا الترف الفكري، ورضيت به، فالحضارة التي أرغمتنا أن نسمع، ونرى، ونفكر، نجحت في أن تجعلنا نتجاوز هذا الهوس العظيم الخطر،ونبرأ منه، ونسعى لتنفيذ خطط وبرامج، تنقذ من بقي من ضحاياه، فتجديد الخطاب الديني ينظر في مثل هذه القضايا، فيقر الصحيح منها، ويشجب الباقي، ولا تقف مهمة التجديد عند هذا الحد، بل ينظم العلاقة بين التصوف الصحيح الخالي من أوضار الانحراف، وبين التصوف الذي يفسد عقائد الناس، ويطمس عقولهم، ويقربها من الابتذال، إن الهوس الذي نعنينه، والذي يتعين علينا نبذه ومحاربته بعد أن بلغت الانسانية هذا الشأو، هو الهوس الذي يمكن دحضه بشيء من التفكير يسير، هو الهوس الذي نستطيع أن ننصرف عنه، حينما يزعم أحدهم في صفاقة، أنه يمكن أن ينقلنا من حالة إلى أخرى، إذا أحضرنا له ديكا يتيم الأب، أو قرأ علينا بعض الطلاسم والتهويمات، أو ألزمنا بأن نحضر إليه في عتمة كل أربعاء، حتى يدلق على أجسامنا الغضة أو الغليظة، ماء ممزوجا بدم السحالي والثعابين، حينها فقط كما يروج نستطيع أن نتخلص من هذه الأرواح الشريرة التي تعكر علينا صفو حياتنا، وتدفع عنا ما أبتلينا به من شقاء.
نصيحتي لأي شخص قد ضاقت به الحياة، أن ينفق وقته في مرضاة الله، وأن يتمسك بلب الدين، ويتقاضى عن القشور، وأن يترك عنه هذه العزلة وهذا التشاؤم، ويثق في ربه، الذي يستمع إليه حين يناجيه، ويتحدث إليه عبر كتابه، عندها فقط تعود إليه الغبطة التي غاب عنه شعاعها لتراكم الآثام والخطايا.
د. الطيب النقر

nagar_88@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

النفاق كما عرفته!

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي

 

النفاق يُمثل بضاعة رائجة لا تنتهي صلاحيتها في مختلف الأزمان، وقد ارتبطت بالإنسان عبر مراحل حياته، وعلى الرغم من النفي المُتكرر من البعض لعدم ارتباطهم بالنفاق، إلّا أن الغايات تُبرر الوسيلة المتمثلة في النفاق الذي يودي بصاحبه إلى الدرك الأسفل من النار.

هناك شعرة رفيعة تفصل بين النفاق والمجاملة؛ فالإنسان مُجبر في كثير من الأحيان أن يمارس المجاملة على نطاق واسع، وذلك لإرضاء الآخرين الذين يعيش معهم، وذلك بهدف كسب ودهم وكذلك الحصول على بعض المكاسب المادية والمعنوية؛ بل ربما لتجنب الصدام بالغير والاختلاف مع من نشاركهم في هذه الحياة. وقد نحتاج إليهم لمساعدتنا للوصول إلى غايتنا في الحياة؛ كالوظيفة أو المال أو حتى نتجنب الأذى من البعض. وهناك من يعتقد أن لغة المجاملة تفتح الأبواب المغلقة والخزائن السرية؛ بل وحتى القلوب المُتحجِّرَة، فعند سماع المفردات الجميلة المُعبِّرة من المدح والثناء والوصف الجميل الذي يرفع الشخص المقصود أو الموسوم بالمدح إلى عنان السماء، وتجعله الكلمات المعبرة، فإنِّه يشعر بنشوة الانتصار والنجاح الذي ما بعده فشل؛ وفي واقع الأمر الثقافة العربية الدارجة تُسيطر على مفرداتها المجاملات التي تعود عليها الناس في مختلف أنشطتهم ومجالسهم اليومية.

أما خطاب الصراحة فهو الغائب الأبرز في المضامين التي نشاهدها ونعيشها في أوقات كثيرة في مختلف الساحات وميادين الحياة. ومن المؤسف حقًا أنك تخسر كل من حولك من الأصدقاء والمسؤولين؛ بل حتى أفراد أسرتك المقربين عندما تكون صريحًا بما فيه الكفاية، وتضع الأمور في نصابها؛ فالحقيقة صعبة ومُرَّة على كثير من النَّاس، ويجنح هؤلاء الجمع إلى صَمِّ الآذان عندما يحضر النقد البنّاء ويصل إلى أسماعهم، وتأخذ الصراحة مسارها الحقيقي وتكون هذه الصراحة لغة الحوار الوحيدة، وتتوارى عن المشهد كلمات المجاملة التي تستخدم لتطليف الأجواء وجبر الخواطر، وتزيين الباطل وتضليل الناس.

لا شك أن مراقبة الآخرين والانشغال بعيوبهم، ومحاولة إبرازها والتركيز عليها، يُعد من الأمور المذمومة وغير المستحبة اجتماعيًا، فأولى بالإنسان مِنّا أن يتفقد عيوبه ويتعرف عليها عن قرب بشكل واضح ويُحاول، بقدر الإمكان تصحيحها نحو الأفضل كل ما أمكن ذلك وسنحت الفرصة.

يجب هنا أن نُفرِّق بين الاحترام المُتبادل في ثقافتنا المُتمثل في بعض المجاملات الضرورية مثل تبادل الزيارات وتقديم الهدايا بين الأطراف والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى استدامة العلاقات الإنسانية بين الأقارب والأصدقاء والجيران، والتعبير عن المشاعر الطيبة تجاه من نُحب، وبين النفاق المذموم الذي يُصنَّف ضمن شهادة الزور ومُساندة البعض من عِلية القوم والشهادة لهم بحُسن الخلق والعدل، على الرغم مما قد يبدر منهم من أفعال سيئة ربما تتجاوز الأعراف المُتفق عليها؛ بل وطالت حقوق الآخرين من الناس الغلابة. كما إن ما يجمع الناس ويُحبِّبهم للبعض هو الكلام اللطيف أو على قول البعض "الكلام المعسول"، والتركيز على المحاسن وغض الطرف عن السلبيات والعيوب، وإن كانت واضحة المعالم، على أمل أن يتعلم الأصدقاء الذين نتعامل معهم من تلك السلبيات والعمل على إزالتها من الوجود.

وإذا أصبح بالفعل كل واحد منا مُنشغلًا بعيوبه عن الآخرين، سنجد أن البشر في عالمنا قد تحول واقعهم ومستقبلهم إلى أفضل حال، وارتقوا إلى المجد أو ما يعرف مجازًا برحاب "المدينة الفاضلة" التي تتحقق فيها الأحلام الجميلة ونعيش جنبًا إلى جنب في وئام وسلام أبدي.

كم هي صعبة الحياة عند ما ندخل معتركها دون ضوابط أو دراية بما نُريد نحققه، وتكون التلقائية والفطرة التي تربينا عليها في طفولتنا هما اللتين نحملهما على وجوهنا البرئية ونواينا الطيبة في غابة تتنافس فيها الناس لتحقيق المكاسب والغنائم، بدون مراعاة للحرمات والحدود في زمن كثرت فيه الفتن والنفاق والبحث عن المصالح على حساب الأخلاق الكريمة التي كانت زاد الأولين من أجددنا وآبائنا ومعيارهم في هذه الدنيا الفانية. الحقيقة المؤلمة التي نراها اليوم بكل وضوح أمام أعيننا هي ميل عامة الناس للمصالح على حساب المبادئ، والتوجه بلا حرج لأصحاب الأموال والمناصب وتزكيتهم بلا حرج، وإن كان ذلك على حساب القيم وتعاليم ديننا الحنيف وحسن الخلق.. فهل بالفعل وصلنا إلى المستوى الذي يمكن أن نوصف فيه قطاعات من المجتمع الذي نعيش فيه بأنهم ماديون وأنانيون، وقبل ذلك كله مُنافقون بما تحمله هذه الكلمات من معنى؟

في واقع الأمر أن البشر يتجذر فيهم حب اكتناز المال وتقلد المناصب ومصاحبة أصحاب النفوذ والسلطة، هذا بالنسبة للنُخب والمُثقَّفين الذين يكونون على مقربة من صُنَّاع القرار والحكام، وهذا ليس محصورًا في هذا الزمن؛ بل عبر التاريخ، ولعلنا نتذكر المنافقين والمتسلقين من الأعيان والشعراء والطامعين بالمناصب على مر العصور المختلفة، كيف كان هؤلاء القوم يكيلون المدح وينافقون من يغدق عليهم بالمال ويُقرِّبهم ويُحسن استقبالهم في القصور ودواوين الخلفاء والحكام.

في الختام.. الكل يتحدث عن المثالية المفقودة، فيستحضر هؤلاء الأخلاق الكريمة عند حاجتهم لذلك لتحقيق غاية أو هدف معين وسرعان ما تختفي تلك المبادئ عندما يتحقق لهم ما يريدونه، وبعد ذلك يظهر النَّاس على حقيقتهم وشخصيتهم المُعبِّرة عن واقعهم والتي ينفر منها من يُعاشرهم، بسبب النفاق الاجتماعي.. إنِّها طبيعة إنسانية سيئة تُعبِّر عن جوانب مُظلمة في حياتنا، لكنها راسخة في كثير من النفوس والأفئدة ولا تتغير إلّا بحدوث زلزال عظيم يقتلع الجذور الخبيثة التي سكنت العقول وتوغلت في اللاشعور من أدمغتنا، وإن كان هذا التسونامي غير وارد الحدوث في حياة الكثير من الناس!

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • نصيحة
  • الزنان
  • الاحتلال يكشف هوية منفذ عملية معبر الكرامة.. تعرف إليه (صورة)
  • عالم الشاشات: ثقبٌ أسود يسحب أطفالكم إليه فانتبهوا!
  • الاستخبارات الأمريكية تكشف ما وصلت إليه الصفقة الجديدة لوقف الحرب في غزة
  • "وقولوا للناس حُسنًا"
  • النفاق كما عرفته!
  • نخر الأنف بالأصبع تسبب هذا المرض الذي يعاني منه الكثيرون.. دراسة جديدة تكشف آخر ما توصل إليه العلماء
  • من هو رسول الله ﷺ الذي جهله الناس؟!
  • الهواري: المجتمعات التي تمتلئ بالأمل قادرة على تحقيق حاجاتها بالسعي والعمل