بسم الله الرحمن الرحيم
سرف المداد
اليوم أود أن أتناول موضوعا، يعتقد الكثير منا، أنه سخيف فارغ،لا طائل تحته، ولا غناء فيه، فحديثي عن الهوس، الذي أهيئُ عقلي المكدود الآن للكتابة عنه، على غير تأهب ولا استظهار، هو من المسلمات التي تراها بعض شرائح المجتمع وترتضيها، هذه الفئات التي تؤثر ذلك الشيخ أو" الفقير" كما نطلق عليه في مجتمعنا السوداني، لزهده في متاع الدنيا الزائل، وافتقاره لأبسط مقوماتها، ذلك الشيخ الذي يحاول شيئا لا سبيل له في اعتقادنا، فيتمكن من نيله وتحقيقه، فالعلوم التي أتقنها واستقصاها، إضافة للبركة التي تسري في شتى خلاياه ونواحيه، هي التي كفلت له أن يرتحل في أقطار الأرض، ويطوف بشتى بقاعها وهو مقيم، فالشيخ الذي أيسر ما يتحدث فيه الناس، أنه قد شوهد قائما يصلي في في ركن قصي من أركان مسجده، ذلك المسجد الذي يثبت فيه ويستقر، سائر يومه، هو المكان الذي تنهمر عليه الوفود في غير جهد وكد، حتى تنال الرضا والقبول والاستحسان، فالشيخ الملازم لحلس مسجده، ولا يغادره إلا لانجاز فصول من قصصه، التي تحقق له الحيرة والدهش والاعجاب، قصص بركته وصلاحه، التي من أجلها يحظى بالاعجاب كله، والثناء كله، والتقدير كله، يجلس هذا الشيخ في تواضع جم وهيبة لا تخطئها العين، وتبدو على محياه النضر مظاهر الخشية والوقار، وتحيط به جموع الأحباب والمريدين، الذين يرمقهم بطرفه الوسنان من طول التهجد وقيام الليل، فيقرأ التعابير التي تعج بها قسمات وأخاديد وجوههم بينه وبين نفسه، ثم يتحدث بها إلى خاصته بصوت مرتفع، فيسمعه أصحاب هذه القسمات، فيزداد هذا الوله، ويضطرم ذاك الشعور، وتعلو بعدها نبرات الاكبار على ألسنة المحبين، والناس في هذه الأجواء المترعة بالتأثر، واللهفة لالتماس المنافع، واكتساب المعرفة، واجتلاب الحلول، لقضاياهم التي تؤرقهم، وتنقص عليهم حياتهم، فالكل يسعى ويجتهد من أن يقترب من الشيخ، حتى يعطيه صورة صادقة عن كنه المرض الذي يعاني منه، والعلة التي يجهلها، إذن دعونا نترك الناس في تدافعهم المحموم هذا، وازدحامهم حول شيخهم، ولا نلتفت لأقارب الشيخ وخاصته، وهم يسعون لاطفاء جذوة حماس الناس التي لا يعرف الخمود إليها سبيلا، دعونا نذود كل هذا بالفتور والإهمال، لنراقب هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، حتى يخبرنا بقصة رديئة إلى أقصى حدود الرداءة، شنيعة إلى أنأى آماد الشناعة، قصة لا تنفع إلا لهذا العبث الخصب، والتهكم العاتي، هي قصة ابتدعها صاحبها في يسر، وحبك خيوطها في سهولة، ولم تحتاج أن يبذل فيها ما نبذله نحن في مقالاتنا من مصوغات وتبارير، فقصة الرجل، نحن نعلم من أمرها أكثر مما نجهل، هذا الشخص الذي لم يجهد نفسه ليأتي بشواهد أو قرائن تؤكد مزاعمه، فأقصى مجهود فعله، هو أنه أطلق لسانه بغير حساب، وتحدث بهذا الهراء في حدة ونشاط، وأقبل بعدها على يد شيخه يقبلها ويعانقها ويضمها إليه في الحاح وشدة، والشيخ الذي لم يسحب يده منه، يؤنبه ويلومه، ويلح عليه في التوبيخ والتقريع، لأنه قصد أن يخفي هذه المكرمة، فأذاعها هو في اسراف وجموح، لقد كلف هذا الرجل الناس الذين يقيفون في مكان بعيد عن الشيخ، فوق ما يطيقون، فلا سبيل لهم أن ينتهوا إلى مكان حبرهم الجليل، أو حتى يجتازوا مسافة تكفل لهم نظرة ترضي الحس، وتغذي الشعور، لقد ادعى هذا الرجل الذي يعرف طبائع الناس وأمزجتهم، أن شيخهم المحبوب الماثل أمام بصرهم، قد تركه في تلك القرية النائية التي أوصلها إليه بسيارته الفارهة، التي تطوي فدافد الأرض طيا، ليعتني بمريض قد أشفى على الهلاك، هذه القرية بينها وبين مقر اقامته فراسخ وأميال، وأنه قد تركه وحضر ليقضي أمور لا يحسن فيها الإهمال، فقد جلب لزغبه وعياله، ما يقيم أودهم، ويعصمهم من عاديات الغرث والجوع، فتفاجأ بمن يخبره أن الشيخ حاضرا ومتواجدا في مسجده، فصمم أن يراه، ويصل إليه، رغم ما قد يكتنف طريقه من عقبات، ليحكي هذه المعجزة الفريدة للناس، كل الناس، حتى تغدو هذه المعجزة، من أسمى كرامات الشيخ، وأكثرها وضوحا، وأعلاها مرتبة.
وأنت إذا توطدت صلتك بهذه الشرائح الغارقة في هوى المشايخ الذين لا يبطرهم الفوز، أو يمضهم الاخفاق، تسمع طرائفا من الأعاجيب، وقصصا لا تستطيع أن تهضمها إلا بعد عناء طويل، فتلك المعجزات والكرامات، التي يسرف عقلك في انكارها، وازدرائها، والاستخفاف بها، والشفقة على من ينافحون عنها في حرص، ويدافعون عنها في غلو، كما يدافع المرء عن حياته في صدق وإخلاص، فبينما أنت تتجهم لها، ولا تستعذب التعامل مع طائفتها، إلا وأنت محرج، أو مدفوع إلى الحرج، تخضع لها هذه الطائفة وتذعن، وتدافع عنها بحجج ساطعة وبرهان مستقيم.
ومن الأخطاء الجسيمة التي نزجي فيها النصح للقارئ، حتى لا يتورط في الوقوع فيها، خاصة إذا حضر إلى أماكن توهجها وبريقها، والسودان يحب هذا التوهج، ويطمئن إليه، عليه ألا يسدي النصح لهذه الطائفة، أو يشكك في تلك الروايات التي يجترونها على مسامعه، في ألفاظ نضرة، وعبارات حرة كريمة، تظهر دواعي الرضى، وكمال القناعة، وفي الحق هذه السلسلة من الروايات العريضة، هي التي تمنح هذا الهوس المستشري في مجتمعاتنا الوجود، فالهوس الذي نختلف حوله ونختصم، ونجتهد لاجتثاث دوحته اجتهادا عنيفا، هو الهوس البين الصارف عن اطالة الحديث فيه، كما يقول الدكتور طه حسين، هو هذا الهوس القديم الذي عاش إلى هذا العهد، عهد الرقي والحضارة، وما زالت جموع عريضة تظهر له الحب وترغب فيه، وأنا ككاتب مجبرا بأن أتحسس مواقع الرضى ومواقع السخط، وأستطيع أن أزعم بأن معظم الناس قد أذعنت لسمات هذا الترف الفكري، ورضيت به، فالحضارة التي أرغمتنا أن نسمع، ونرى، ونفكر، نجحت في أن تجعلنا نتجاوز هذا الهوس العظيم الخطر،ونبرأ منه، ونسعى لتنفيذ خطط وبرامج، تنقذ من بقي من ضحاياه، فتجديد الخطاب الديني ينظر في مثل هذه القضايا، فيقر الصحيح منها، ويشجب الباقي، ولا تقف مهمة التجديد عند هذا الحد، بل ينظم العلاقة بين التصوف الصحيح الخالي من أوضار الانحراف، وبين التصوف الذي يفسد عقائد الناس، ويطمس عقولهم، ويقربها من الابتذال، إن الهوس الذي نعنينه، والذي يتعين علينا نبذه ومحاربته بعد أن بلغت الانسانية هذا الشأو، هو الهوس الذي يمكن دحضه بشيء من التفكير يسير، هو الهوس الذي نستطيع أن ننصرف عنه، حينما يزعم أحدهم في صفاقة، أنه يمكن أن ينقلنا من حالة إلى أخرى، إذا أحضرنا له ديكا يتيم الأب، أو قرأ علينا بعض الطلاسم والتهويمات، أو ألزمنا بأن نحضر إليه في عتمة كل أربعاء، حتى يدلق على أجسامنا الغضة أو الغليظة، ماء ممزوجا بدم السحالي والثعابين، حينها فقط كما يروج نستطيع أن نتخلص من هذه الأرواح الشريرة التي تعكر علينا صفو حياتنا، وتدفع عنا ما أبتلينا به من شقاء.
نصيحتي لأي شخص قد ضاقت به الحياة، أن ينفق وقته في مرضاة الله، وأن يتمسك بلب الدين، ويتقاضى عن القشور، وأن يترك عنه هذه العزلة وهذا التشاؤم، ويثق في ربه، الذي يستمع إليه حين يناجيه، ويتحدث إليه عبر كتابه، عندها فقط تعود إليه الغبطة التي غاب عنه شعاعها لتراكم الآثام والخطايا.
د. الطيب النقر
nagar_88@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً: