لم تعد المحامية الفلسطينية زينب الغنيمى تحب الليل: «يملؤنى بالخوف ويذكرنى بحكايا أمى عن الغول المرعب الذى يمشى بين الأزقة ليلتهم كل ما هو حى ويتحرك، ولا يشبع». تؤكد على ذلك طيلة يومياتها التى تدونها منذ بداية الحرب على غزة. هو ليل ثقيل تنتظر أن ينجلى بصبح لكى يمنحها مثل الكثيرين أملا فى أن هنالك حياة.
تحولت اليوميات إلى وسيلة مقاومة فعالة تسمح لها بالتعبير عن غضبها ومشاعرها المختلفة. تغيب فقط حين ينقطع الإنترنت. ونتابعها نحن مثلما نتابع عددا من الناشطين فى الداخل، نشاركها إحساسها حين تقول: «ندرك أننا نحبكم عندما نشعر أننا فقدنا التواصل معكم». نتنقل معها بين الأيام وهى تصف ليلة أخرى من الجحيم أو لحظات الهدوء التى تسبق العاصفة أو قصف مستشفى المعمدانى أو عجزها حين لا يجد الناس الدواء وما يحميهم من برودة الطقس أو صوت المذياع الذى يرتفع فى البيت ليُعلمها باقتراب الخطر أو مشهد قنابل الإنارة فى السماء التى تخترق عتمة الغرف، وكأن «قائد الطيارة التى تحمل أطنانا من الصواريخ يحدق بعيونه فينا فردا فردا، ليختار من سيقتل فى تلك اللحظة. وتتضرع الأكف إلى السماء كى لا يأتى الدور علينا. خفقان القلوب بات عاليا، نخشى أن يسمعه قائد الطائرة فيصطادنا بقذيفة، حتى التمتمة بالدعاء من أجل النجاة تحدث بصمت».تحكى عن خناقات أبناء الجيران الذين دب بينهم الخلاف حول من سيذهب لشراء الخبز لأنهم خائفون بعد قذف العديد من المخابز وعن مشكلة أخرى نشأت بسبب عدم توافر المياه. عادات الناس تتغير، صبرهم ينفد وعصبيتهم تزداد، خوفا من المجهول، ما يدفعهم للانجرار نحو صراعات صغيرة. تتساءل: «كيف استطاع الناس التكيف فى الخيام داخل المدارس المخصصة للإيواء؟ (…)
حيث يصبح الاختلاط بين الغرباء ومن الجنسين أمرا طبيعيا فى ظل وجود أكثر من عائلة فى غرفة مدرسية واحدة، بعد أن كان الاختلاط من الممنوعات والمحظورات بسبب طبيعة مجتمعنا المحافظة». العادات تتغير طمعا فى البقاء على قيد الحياة، وقد تنازلت هى أيضا عن الكثير من طقوسها اليومية، وكذلك هو الحال بالنسبة لابنتها فى الغربة التى اعتادت القفز البهلوانى بين توقيتين تفصلهما سبع ساعات طوال، «فلا يكون النوم نوما ولا الصحو صحوا، بل أعيش فى برزخ لا خروج منه إلا بنجاتها هى ومن معها».ظلت زينب الغنيمى حبيسة منزلها فى الأيام الأولى، ولم تنزل إلى الشارع سوى فى الرابع والعشرين من أكتوبر. انتقلت صديقة للعيش معها بسبب الدمار الذى حل بالمدينة، ثم اضطرت لمغادرة بيتها والخروج نحو المجهول فى الثامن من نوفمبر الماضى بسبب التوغل البرى. وكان السؤال: إلى أين؟ فكل من كان من الممكن أن تجد عندهم مأوى سبقوها واتجهوا إلى الجنوب، والجميع واقع فى المأزق نفسه. الترحال والتنقل كُتِبا عليها وعلى أهلها، فقد وُلدت فى مدينة رفح عام 1953 لعائلة لاجئة تعود أصولها إلى مدينة يافا المحتلة. انخرطت فى شبابها المبكر فى نشاطات الحركة الطلابية والتحقت بحركة فتح وتعرضت لتجربة السجن مرتين وعملت فى القطاع الغربى لمدينة بيروت عام 1977. كانت إحدى كوادر مركز دراسات الوطن المحتل، ثم جهاز الإعلام الفلسطينى الموحد، وكتبت فى عدة صحف وعايشت حصار بيروت عام 1982، ثم استقرت فى مخيم اليرموك بسوريا إلى أن عادت إلى فلسطين عام 1995 بعد اتفاقية أوسلو التى اعتبرتها «ممرا إجباريا بعد تشتت الثورة الفلسطينية فى الخارج وتراجع الداعمين لها» بسبب الظروف السياسية.تقارن بين هذه الحرب ودخول قوات الاحتلال إلى قطاع غزة عام 1967: «حينها اضطررنا لمغادرة منزلنا (…)
وأذكر أننا لجأنا وكل أهل حارتنا إلى مسجد الحى، ولكن اليوم لا محل للجوء لأى مسجد أو كنيسة فقد كانت هذه المبانى من أول ما تعرض للتدمير، كما تصعب المقارنة بين تلك الحرب وهذه من حيث عنف العدوان ونوع الأسلحة». مع مضى الأيام وصلت إلى قناعة بأن دولة الاحتلال لن تتوقف عن تنفيذ مخططها النازى وتدمير ما تبقى من القطاع، لكنها تحاول أن تتمسك بالأمل: «الحياة تتجدد بميلاد أطفال جدد»، ويظل السؤال الذى يلاحقها: «المحاصرات والمحاصرون فى مدينة غزة وشمالها هل سيصبحون عرب 23؟».تساؤلات ومخاوف مشروعة تأتينا عادة من خلال يوميات الحروب. رأينا ذلك من قبل خلال الحربين العالميتين، فحين تتعرض الشعوب لخطر الإبادة الجماعية تزدهر الكتابات الشخصية والتدوينات، يحاول الأفراد التأكيد على وجودهم وسرد حكاياتهم مهما كانت بسيطة، وهو ما نشهده حاليا وبقوة فى انتظار انقشاع الغمة. عبرت فرح برقاوى، الابنة والشاعرة، عن حالة الذين يعيشون مثلها حرقة الترقب وانتظار نهاية الأحداث من خلال أبيات قالت فيها: «بعد المجزرة، إن ظل لى شىء بعد المجزرة، سأكتفى بالحب والغضب. سأرعى من أحب حد الموت، ولن أسامح من خذل حتى الموت».
داليا شمس – الشروق نيوز
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
«نُحب الحياة».. مبادرات تتحدى العدوان فى غزة
رغم الإبادة والفقد والتشرد الذى يعيشه الفلسطينيون على مدار عام وشهر، إلا أنهم قرروا أن يبتسموا فى وجه العدوان بمبادرات تحيى الفرحة داخل قلوبهم التى قتلتها مشاهد الجثامين الملقاة على أطراف الشوارع والدم الذى أصبح لونا مألوفا لدى الكبار والصغار.
نحب الحياة
هى مبادرة تتحدى الواقع والعدوان وتحاول زرع البسمة على وجه الأطفال، بتزيين خيام النازحين بالفرحة، وتعليق الأضواء الملونة، وكان انطلاق المبادرة فى شهر رمضان الماضى، فى محاولة للتعويض عن الأيام التى كانوا يمضونها داخل منازلهم المزينة فى الشهر المبارك.
نضوى شمعة
وهى مبادرة تهتم بتعليم الأطفال فى غزة داخل مراكز الإيواء، وشهدت إقبالا كبيرا من الأطفال، بالإضافة لتمكينهم من استعارة الكتب، بهدف تعزيز شغفهم بالقراءة والمطالعة، وتعليمهم المواد الدراسية الأساسية والانخراط فى أنشطة غير منهجية بهدف تخليصهم من ضغوط الحرب وآلامها.
حيوانى الأليف
مبادرات مختلفة ابتكرها الشباب الفلسطينى من أجل الترفيه عن الأطفال داخل مراكز الإيواء، من بينها مبادرة الحيوانات الأليفة، وهى عبارة عن يوم ترفيهى لأطفال غزة، للعب مع عدد من الحيوانات مثل القطط والكلاب والنسانيس الأليفة، للتخفيف من آثار الحرب على الأطفال فى مراكز النزوح.
جاءت المبادرة برعاية عدد من الأطباء البيطريين وشباب غزة، باستخدام الحيوانات التى عانت مع البشر خلال فترة الحرب، خاصة مع الذين نزحوا من مربيهم فى غزة، لتمضية يوم مرح مع الأطفال.
أفشوا السعادة رغم الإبادة
مبادرة أخرى يتم فيها رسم بسمة على وجوه أطفال غزة عن طريق حفلات للفنون الشعبية، للتفريغ النفسى، ورسم صور وعلم فلسطين على وجوه الأطفال وتوزيع ملابس جديدة عليهم.
هم يدمرون ونحن نُعمر لتحيا غزة
وهى مبادرة تعمل على تنظيف الشوارع التى دمرها العدوان الإسرائيلى، وتقوم مجموعات من شباب غزة بتوسيع الشوارع بأدوات بسيطة ونقل الردم وحطام المنازل على جوانب الطرقات، لتسهيل حركة المرور خلال النزوح من مكان لآخر.
سُقيا الماء
تهتم بتوزيع المياه على بيوت وقرى لا يوجد بها ماء خاصة مع اشتداد الحصار على القطاع، لرى ظمأ غير القادرين على الحركة، وشارك فيها عدد كبير من الشباب.