ضحايا الصهيونية يتكلمون.. كيف فكك إدوارد سعيد جذور الفكر الصهيوني؟
تاريخ النشر: 28th, January 2024 GMT
"نقطة البداية هي الوعي بما هو المرء فعلا، ومعرفة الذات كنتاج للعملية التاريخية التي رسَّخت فيك آثارا لا نهائية، بدون ترك أي سجل لهذه الآثار، لذلك من المهم أن تعمل على إنتاج سجل خاص بك".
أنطونيو غرامشي، دفاتر السجن
بهذا الاقتباس يُفتتح كتاب "الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها" للكاتب والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، والكتاب في الأصل بحث مطول نُشر في عدد شتاء 1979 من مجلة "النص الاجتماعي" (Social Text) بالعنوان نفسه (1)، وقد نقله إلى العربية فؤاد عبد المطلب، وصدرت الطبعة التي نعتمد عليها في هذا التقرير عن دار شفق للنشر والتوزيع عام 2019.
يمكن اعتبار الاقتباس سابق الذكر بمنزلة لبنة أساسية في النهج الذي يتبعه إدوارد سعيد في كتابه، حيث يلحظ غياب المعرفة التاريخية بالفكر الصهيوني لدى غير الصهاينة، ويحاول من خلال الكتاب طرح رؤية نقدية واعية حول ما مثَّلته الصهيونية بالنسبة للفلسطينيين، من أجل إعادة رؤية التاريخ وإنتاج "سجل"، وفقا للمصطلح الذي استخدمه غرامشي، يُعبِّر عن وجهة نظر الضحية، لا المستفيد، بوصف هذا السجل/الوعي ضرورة أولية للفهم.
"والهوية؟ قلت فقال: دفاعٌ عن الذات…
إنّ الهوية بنتُ الولادة لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها لا
وراثة ماضٍ
أنا المتعدِّد… في
داخلي خارجي المتجدِّدُ
لكنني أنتمي لسؤال الضحية
لو لم أكن
من هناك لدرَبتُ قلبي على أن
يُرَبي هناك غزال الكناية".
محمود درويش
وربما تفسر الأبيات التي كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش في رثاء إدوارد سعيد ما يذكره في كتابه، باعتباره عربيا فلسطينيا مع خلفية فكرية غربية، بحكم تعليمه ونشأته التي حللها في كتاب سيرته الذاتية "خارج المكان"، وهو ما ساعده، كما يشير، على رؤية الظاهرة نفسها عبر وجهتَيْ نظر مختلفتين.
في البدء كانت فلسطين
في كتابه هذا يستخدم إدوارد سعيد أدواته الأكاديمية بصفته مفكرا وناقدا كي يرسم استعراضا لتاريخ الفكر الصهيوني في المجتمعات الأوروبية منذ نهايات القرن الثامن عشر، عبر تحليل عدد كبير من النصوص الأدبية، وكذلك كتابات المفكرين والسياسيين والوثائق والتقارير.
في البداية يشير إدوارد سعيد إلى أهمية التسمية، ويستعرض كيف أصرت العديد من الأدبيات الصهيونية على نفي استعمال تسمية فلسطين قبل الانتداب البريطاني خارج إطار استخدامها بوصفها تسمية إدارية، وكيف استُخدم هذا النفي فيما بعد لتزييف الحقائق. ويتتبع الإشارات إلى فلسطين في أدبيات الجغرافيين والمؤرخين والشعراء العرب منذ القرن التاسع عشر، وكذلك في الأدب الأوروبي منذ العصور الوسطى، فيما يناقض النفي الصهيوني المزيف للحقائق.
ومن خلال فهم الحقائق الديموغرافية والإنسانية لفلسطين، يُبيَّن كيف يمكننا فهم القوة السياسية لوعد بلفور الذي وُضع بواسطة قوة أوروبية حول أرض غير أوروبية، متجاهلا سكانها المحليين، وكيف أُزيل الواقع القائم في فلسطين بالتأسيس لفكرة نفي الوجود عن فلسطين، ونفي الوجود عن السكان المحليين.
ومن أجل فهم هذه العلاقة المعقدة بين الصهيونية والاستعمار الغربي، يتفحص سعيد الصهيونية تاريخيا بوصفها فكرا سياسيا من ناحيتين؛ من حيث انتمائها وصِلَتها بغيرها من الأفكار والسياسات، ومن الناحية الثانية بوصفها نظاما يراكم السلطة والشرعية الأيديولوجية، بعد إزاحة السكان والأفكار والشرعية السابقة، فيقول: "على المرء أن يعترف بأن جميع الليبراليين، وحتى أغلب الراديكاليين، كانوا عاجزين عن التغلب على المناورة الصهيونية لمساواة معاداة الصهيونية بمعاداة السامية". يعي سعيد صعوبة الكتابة عن الصراع الفلسطيني الصهيوني بسبب التلويح الدائم بمعاداة السامية، لكنه يؤكد دور الوعي النقدي في التفرقة بين معاداة السامية وبين معارضة الصهيونية.
ويعود سعيد إلى اللورد بلفور لقراءة ملاحظاته، وتحديدا إلى ملاحظة وضعها عام 1919 يقول فيها: "إن القوى الأربع العظمى ملتزمة نحو الصهيونية، سواء كانت مصيبة أم مخطئة، جيدة أم سيئة"، حتى لو تطلب الأمر "أذية 700 ألف عربي يسكنون الآن تلك الأرض القديمة". وينطلق إدوارد سعيد من هذه الملاحظة في محاولة تفسير شبكة علاقات القوى، التي تأسست في هذا الوقت ما بين الأوروبي الذي يرى نفسه متفوقا، والشرقي الذي يراه أدنى منزلة.
ينطلق سعيد في رحلته من تحليل النصوص الأدبية وغير الأدبية التي تظهر فيها بذور الفكر الصهيوني، ومن بين الأمثلة التي يقدمها رواية الكاتبة جورج إليوت الصادرة في 1876 والتي تنظر إلى الصهيونية بوصفها مشروعا دينيا اجتماعيا متكاملا، وإلى الشرق بوصفه مكانا يحتاج إلى إعادة بناء وفقا للأفكار السياسية المتحضرة، مع تجاهل وجود السكان الأصليين. ويرى أن جورج إليوت هنا مجرد مثال لا تختلف عن غيرها من الأمثلة الأوروبية في القرن التاسع عشر في نظرتها إلى الشرق، وهم يتفقون جميعا على توطين الصهيونية في هذه المنطقة بمساعدة القوى الأوروبية الكبرى، كي تأتي بالتنوير والتقدم إلى ما اتفقوا على أنهم "سكان عرب غير موجودين، في أرض فارغة".
"هناك تشابه لا لبس فيه بين تجارب الفلسطينيين العرب على أيدي الصهيونية وتجارب هؤلاء الأشخاص السود والصفر والسمر مع إمبرياليي القرن التاسع عشر الذين عاملوهم على أنهم وضيعون وبشر ثانويون".
الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها، إدوارد سعيد
يشير سعيد إلى أن الصهيونية قُدِّمت لا بوصفها "حركة تحرر يهودية"، لكن بوصفها حركة يهودية للاستيطان الاستعماري في الشرق، مؤكدا كون الآراء الإمبريالية الغربية أساسية في الصهيونية ونظرتها إلى العالم وإحساسها بالآخر. ويوضح أن الأفكار الإمبريالية تشكلت بوصفها فلسفة سياسية هدفها هو التوسع الإقليمي وشرعنته، عبر إعادة تشكيل المنطقة وتحويل شعبها إلى أغراض يمكن استعمالها، وذلك عبر امتلاك قوة وسمعة العلم.
في خدمة الإمبريالية
لقد تعامل الاستعمار مع السكان الأصليين من مختلف الأعراق الذين سكنوا أراضي الأميركتين وآسيا وأفريقيا بوصفهم عِرقا أدنى من العِرق الأوروبي، يمكن ببساطة تجاهلهم، أو استغلالهم سواء كانوا عمالة أو حتى تجنيدهم في الحروب الطويلة، أو بحد وصف هنري بوانكاريه، فيلسوف العلوم الفرنسي: "استُخدم السكان الأصليون باعتبارهم تلقيما لبندقية الفرنسي الأبيض".
وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، تعززت فكرة أن على الأوروبي أن يحكم غير الأوروبي، وهي النظرة التي انسحبت بالتالي على العلاقة بالأرض، فساد الاعتقاد أن الرجل الأبيض/المتحضر يمكنه أن يزرع الأرض ويعمرها، بينما لا يستحق السكان الأصليون/الهمجيون الأراضي التي يسكنونها، التي يزرعونها بطرق غير فعالة (بحسب المعايير الغربية)، وهي الأفكار نفسها التي شرعنت للفصل العنصري في دولة مثل جنوب أفريقيا على سبيل المثال.
ومن أجل تعزيز هذه الأفكار تمكنت الإرادة الأوروبية الاستعمارية من تشويه العلم، وخلق حجج علمية زائفة في علوم الأحياء وفقه اللغة، وهو ما أشار إليه بـ"تشوه العلم"، وقد تطورت هذه المفاهيم العِرقية وانتقلت من حقل علوم اللغة إلى الأحياء والعلوم الاجتماعية.
ومن المنطلق نفسه، نظرت الصهيونية إلى فلسطين كما رأتها الإمبريالية أرضا فارغة، وارتكزت نظرتها على ما وصفته بـ"الغياب الفعال" للسكان الأصليين. ولفحص النظرة الصهيونية للعرب، تطرق سعيد لاستعراض العديد من الأدبيات الصهيونية والإسرائيلية، بما فيها أدب الأطفال الإسرائيلي، الذي لاحظ أنه يدور في أغلبه حول أطفال يهود شجعان يقتلون عربا خائنين وضيعين يحملون أسماء مهينة، وهي أفكار ليست مقتصرة على مؤلفين أفراد، وإنما تستمد أفكارها من مؤسسات الدولة، وفقا لإدوارد سعيد.
ويلفت إدوارد سعيد النظر إلى تفصيلة مهمة، وهي أن نجاح الصهيونية في شق طريقها يرتبط بكونها ليست مجرد رؤية استعمارية عامة، بل سياسة تستند إلى تفاصيل ومؤسسات منظمة، وبرنامج استيطان، ومجموعة من الأدوات للسيطرة على الزراعة والثقافة والتجارة والصناعة، وهو ما يكشف عنه عبر تحليله عددا من مقاطع كتاب "التجربة والخطأ.. سيرة ذاتية" لحاييم وايزمان.
يشرح سعيد كذلك دور الصندوق الوطني اليهودي، الذي يُعد بمنزلة تأكيد مؤسساتي أن الدولة الصهيونية لن تكون دولة مواطنين، لكنها دولة لشعب كان أغلبه في الشتات، ويفحص كيف تأسست أفكار الإبادة وتدمير القرى والمنازل، وكيف تحولت الصهيونية من معاملة العرب بوصفهم غير موجودين نظريا إلى تأسيس اللا وجود واقعيا وقانونيا، عبر تدمير أكبر عدد ممكن من القرى العربية، ليصبح الفلسطيني لاجئا أو مواطنا من الدرجة الثانية، مستثنى من الاستفادة من الموارد المخصصة للمواطن اليهودي.
يحلل سعيد كذلك القوانين المعقدة التي يصفها بأنها "كافكاوية"، ومَكَّنت دولة الاحتلال من الاستيلاء على آلاف الهكتارات من الأراضي العربية، مثل قانون مصادرة الملكية في وقت الطوارئ 1949، وقانون ملكية الغائب لعام 1950، وقانون استملاك أراضي عام 1953، وقانون حق الملكية 1958.
ولفحص العلاقة بين العرب ودولة الاحتلال بعد تكوُّنها، يحلل سعيد شهادات عدد من العرب الإسرائيليين الذين عانوا من الوحشية الإسرائيلية، من الإبعاد والسجن وتفجير المنازل والرقابة والإخضاع للأوامر العسكرية، ويستعرض الفصل بين العرب واليهود داخل إسرائيل، وتفرقة القوانين بين اليهود وغير اليهود. كما يستعرض عددا من الحالات التي تُبرز الاستهانة بأرواح العرب، من أبرزها حادثة كفر قاسم في أكتوبر/تشرين الأول 1956 التي قتل فيها أحد أفراد جيش الاحتلال الإسرائيلي 49 فردا من المدنيين العزل، وحين حوكم غُرِّم بقرش واحد، أي أقل من سنت أميركي.
ويعود إدوارد سعيد إلى أدوات تحليل النصوص عبر استعراضه وثيقة وضعها متصرف لواء الشمال في وزارة الداخلية الإسرائيلية يسرائيل كيننغ، التي تسرب نصها الكامل في 1976 وتشمل توصيات تحت عنوان: "مشروع مذكرة معاملة عرب إسرائيل"، وتحمل توصيات حول سُبُل إضعاف المواطنين العرب في إسرائيل وإعاقتهم اقتصاديا وتعليميا، عبر استعمال العلم عقابا سياسيا، والتشجيع على الهجرة، ويرى سعيد أن هذه الأفكار تُقدَّم من منطلق هيمنة أبوية على المواطنين العرب بوصفهم أدنى درجة.
ومن أجل تحليل النزوح الجماعي في 1948، يعود سعيد إلى تحليل الأوضاع الفلسطينية ما قبل النكبة، في محاولة لإعادة فهم المجتمع بجوانبه المختلفة في مواجهة الانتداب البريطاني والجهد الاستعماري الصهيوني، وينتهي الكتاب إلى إحصاء مختصر للقضايا التي يرى أنها مسائل تحتاج إلى انتباه واعٍ بوصفها مسائل ثقافية ليست أقل أهمية وعملية من غيرها، أبرزها حقوق الإنسان ومشكلة العنف وإرهاب الدولة الإسرائيلية، والحاجة إلى كشف زيف الادعاء الملفق بأن الصراع الفلسطيني هو في جوهره هجوم على الديمقراطية الغربية، ويتساءل عن دور المفكرين في شرعنة امتلاك الدولة لحق ممارسة العنف ضد المدنيين والاعتراف به دون مساءلة.
ويُعد هذا الكتاب أو "البحث المطول"، على قصره، مدخلا مهما للبدء في قراءة مشروع إدوارد سعيد الأكبر الخاص بالقضية الفلسطينية، ومن أشهر الأعمال التي نشرها في هذا الإطار "قضية فلسطين" و"غزة-أريحا: سلام أمريكي" و"أوسلو: سلام بلا أرض"، وأخيرا كتاب "الاستشراق" الذي يُعد أهم أعمال سعيد وخلاصة مشروعه في هذا النطاق.
———————————————————————————-
المصادر Zionism from the Standpoint of Its Victims – JSTOR الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها – إدوارد سعيدالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: القرن التاسع عشر الصهیونیة من إدوارد سعید وجهة نظر سعید إلى فی کتاب الذی ی فی هذا من أجل
إقرأ أيضاً:
ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «7-13»
ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «7-13»
قراءة في كتاب (عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام)، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس/ ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، 2024 (7-13)
بقلم سمية أمين صديق
إهداء المؤلف لكتابه:
“إلى شعوب السودان والإسلام والإنسانية جمعاء، وهي تتوق إلى التحرير والتغيير، فإني أهديكم هذا الكتاب، مستدعياً مقولة المفكر التونسي الدكتور يوسف الصديق: (محمود محمد طه هو المنقذ)”. المؤلف
نلتقي اليوم في الحلقة السابعة، وهي تتمحور حول الفصل الرابع من كتاب الدكتور عبدالله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام. جاءالفصل بعنوان: نسف السرديات الباطلة بالحق والعلم والفكر والأخلاق: هل رُفعت الصلاة عن محمود محمد طه، كما شيع البعض؟وهل كان يُصلي؟ولأن هذا الفصل مهم، وفي الواقع الكتاب كله مهم، إلا أن هذا الفصل يتناول الصلاة، وهي، كما يقول المؤلف مستدعياً أحاديث الأستاذ محمود، أجل أمور الدين وأخطرها على الاطلاق، كما أنها أهم أعمال الإنسان وأكملها، وأعودها بالخير، والنفع، عليه، وعلى الإنسانية، ولهذا فإن موضوع الفصل، في تقديري، يتطلب الاحتراز والورع، كون الفصل أجاب عن أسئلة قديمة ومتجددة وظلت متكررة، ولا يزال الكثير من الناس يعيدها، ولكل هذا أود التنويه بأن ما سأورده هنا، لا يغني عن قراءة الكتاب. لقد اشتملالكتاب على توسع ورصد دقيق، وتتبع لهذه الأسئلة واجابة عليها، منذ إعلان الأستاذ محمود محمد طه عن الفكرة الجمهورية عام 1951 وحتى تاريخ صدور كتاب عبدالله الفكي البشير عام 2024.
محمود محمد طهتكوَّن الفصل من المحاور الآتية:
إضاءة على كتابات محمود محمد طه وأحاديثه عن الصلاة
الصلاة في الفهم الجديد للإسلام
الصلاة صلاتان: صلاة الصلة وصلاة المعراج
الشريعة الفردية وأخذ الصلاة الفردية من الله بلا واسطة
ما رأيمحمود محمد طه فيما يوجه إليه من اتهام بأنه يرى أن الصلاة رُفعت عنه؟ وهل كان يصلي؟
الشريعة الفردية: شريعة العارف في مستوى معرفته وصلاته تزيد عن صلاة الإنسان العادي
كيف هي صلاة محمود محمد طه؟ وهل هي مثل صلاتنا ذات الحركات المعلومة؟
كأنما الصلاة الشرعية قاعدة وصلاة الصلة قمة
لماذا كان النبي يصليالصلاة ذات الحركات حتى التحاقه بالرفيق الأعلى؟
المؤمن لن ينفك عن التقليد بينما يرتفع المسلم المجوّد من التقليد إلى الأصالة
لماذا لم يؤت أحد من أصحاب النبي صلاة الأصالة؟
أخذ الصلاة بالجد التام
منشأ سردية رفع الصلاة عن محمود محمد طه
تحدث عبد الله عن محتوى الفصل وهيكله، قائلاً: يقدم هذا الفصل إجابة عن بعض الأسئلة، التي واجهها المؤلف وبتكرار في العديد من المنابر العامة. وقد تمحورت الأسئلة حول سردية موروثة في الفضاء السوداني والإسلامي، نسجها البعض بالباطل، وبلا حق حول مفهوم الصلاة وماهيتها عند محمود محمد طه صاحب الفهم الجديد للإسلام. وأضاف عبدالله، قائلاً: يسعى الفصل إلى الإسهام في نسف سرديات الباطل، بالحق والعلم والفكر والأخلاق. وفي الواقع لم تكن الأسئلة التي واجهها المؤلف، جديدة، فهي قديمة، وقد ظلت مكررة ومستمرة ومتوسعة. كان من بين الأسئلة: هل صحيح أن محمود محمد طه يقول بسقوط الصلاة ورفعها عنه؟ وهل تسقط الصلاة؟ وهل يصلي محمود محمد طه مثلنا، كما هي الصلاة المعلومة؟ ولماذا كان يصلي النبي الكريم صلاته حتى التحق بالرفيق الأعلى؟ ولماذا لم يؤت أحد من الصحابة صلاته الفردية؟ وما هي صلاة الأصالة؟ وهل بلغ محمود محمد طه مرحلة من التصوف، لا يصلى الصلاة المعروفة؟ وأضاف السائل، قائلاً: أرجو الإجابة عن ذلك، خاصة وأن موضوع رفع الصلاة عن محمود محمد طه وسقوطها عنه، مما أخذه عليه أعداء الفكرة الجمهورية. كذلك توارثت الأجيال في الفضاء السوداني والإسلامي، ما لخصته باحثه تونسية، وهي طالبة ماجستير، التقيت بها في ديسمبر 2014 بتونس، على هامش ندوة دولية، نظمها مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان، بجامعة الزيتونة، بعنوان: المسلمون بين السياسة الشرعية والبدائل المعاصرة، وقدمت فيها ورقة بعنوان: “تطوير الشريعة الإسلامية: السياسة عند محمود محمد طه” ، جاءتني الباحثة، وقالت لي: أنا بحب محمود محمد طه كثيراً، تعرف لماذا؟ قلت لها: لماذا؟ قالت لي: لأنه لا يصلي وأنا لا أصلي. يتصل حديث هذه الباحثة بتلك الأسئلة، وبما شاع بين الناس، بلا حق، وبلا ورع ولا علم ولا روية، بأن محمود محمد طه لا يصلي، لأنه يقول إن الصلاة رُفعت عنه، فمتى شاع هذا الحديث؟ ومن الذي بدأ إشاعته؟
الاتهام الباطل وسردية كسل العقول وتناسل الجهل
بث التشويه والشائعات والخزعبلات في الفضاء السوداني والإسلامي
“القول بأني أقول إن التكاليف والصلاة تُرفع فهذا محض سوء فهم”
محمود محمد طه، 1968
“ليس في عمل الإنسان ما هو أهم، ولا أكمل، ولا ما هو أعود بالخير، والنفع، عليه، ولا على الإنسانية، من الصلاة.” .محمود محمد طه، 1966
أستهل عبد الله حديثه، قائلاً: بادئ ذي بدء أود التأكيد بإن الاتهام المنسوب إلى محمود محمد طه بأنه يقول برفع الصلاة وسقوطها عنه، هو اتهام باطل لا يتعلق بمحمود محمد طه، لا من قريب ولا من بعيد. إذ لم يرد قط أن قال محمود محمد طه بذلك، سواء في كتاباته أو أحاديثه. لقد درج المعارضون للفهم الجديد للإسلام، ومنهم بعض المثقفين، ومن يسمون برجال الدين، على بث التشويه والشائعات في الفضاء السوداني والإسلامي، عن عمد وعن غير عمد، على جوهر دعوة محمود محمد طه، وهو موضوع الصلاة . لقد ركن الناس لهذا التشويه واستجابوا لتلك الشائعات، ولم يكلفوا أنفسهم، كما هو حال المعارضين، القيام بالواجب الثقافي والأخلاقي، والوفاء بالاستحقاق العلمي، حيث الاطلاع على كتب محمود محمد طه، ومقالاته وبياناته، والحوارات الإعلامية التي أجريت معه، والاستماع لمحاضراته، وهي موثقة، ومنشورة، ومبثوثة في الفضاء . بيد أنهم، سواء المعارضين من ناسجي التهم والشائعات أو السائلين مؤخراً عن موضوع الصلاة، آثروا الاستجابة لكسل العقول وتناسل الجهل، ولو أنهم أنفقوا القليل من الجهد في الاطلاع على كتابات محمود محمد وأحاديثه عن الصلاة، لأدركوا بأن الصلاة عنده، هي أفضل، وأهم، وأعظم عمل الإنسان، وهي أعلي عبادة عملية، وهي قمة العمل الصالح كما ورد آنفاً، وقد فصل ذلك في كتاباته وأحاديثه. ويطرح عبدالله الأسئلة، قائلاً: ولكن السؤال: هل نشر محمود محمد طه كتباً عن الصلاة ضمنها رأيه فيها؟ وهل قدم محاضرات عنها؟ الإجابة نعم، غير أن المعارضين، والكثير من النقاد والسائلين، يظن بعضهم بأن إطلاق الإحكام بلا علم، أو تبني آراء الآخرين دون القيام بواجب التحقق والوقوف على المصادر، لا يدخل في المسؤولية الفردية، كما أن بعضهم الآخر يطمئن لما يقول به من يسمون برجال الدين. وما علم جميع هؤلاء أن الفردية، في الإسلام، هي جوهر الأمر كله، وهي التي عليها مدار التكليف، ومدار التشريف.. وقد وكدها الإسلام توكيداً، إذ لا تنصب موازين الحساب، يوم تنصب، إلا للأفراد، يتساوى في ذلك أي فرد ممن يسمون برجال الدين، والأفراد جميعهم من الرجال والنساء، فالله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ ويقول: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾ ويقول: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا(80)﴾ ويقول: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا (93) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)﴾ ، ويقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ . ولمَّا كانت الفردية هي جوهر الأمر كله في الإسلام، فإن محمود محمد طه قد أكد عليها في كتاباته، قائلاً: “وهذه النقطة نحب لها أن تكون مركزة في الأذهان” .
الشاهد أن محمود محمد طه قد نشر الكتب، وأصدر البيانات، ونظم العديد من المحاضرات والجلسات للحديث عن الصلاة. وتعميماً للفائدة، وتيسراً للقيام بواجب المسؤولية الفردية تجاه آراء محمود محمد طه عن الصلاة، يقدم المحور أدناه، إضاءة ورصداً مع بعض التفصيل الموجز، عن كتابات محمود محمد طه وأحاديثه عن الصلاة. وقد تم التركيز على الكتابات والأحاديث عن الصلاة، الموثقة والمتاحة للاطلاع عليها، أو الاستماع إليها بصوته.
عبد الله الفكي البشيرد م إضاءة على كتابات محمود محمد طه وأحاديثه عن الصلاة“الصلاة فريضة ليس في الدين ما هو أوكد منها.. فإذا كانت الشهادتان في الدين أول الكلام، فان الصلاة فيه أول العمل.. وهي علم، وعمل بمقتضى العلم” .
محمود محمد طه، 1966
يقول عبدالله: تكاد جل كتابات محمود محمد طه وأحاديثه، لا تخلو من الحديث أو الإشارة للصلاة، ومع ذلك فقد خصص بعض منشوراته عن الصلاة وماهيتها ومفهومها، فكتب عنها الكتب والمقالات، ونشر البيانات، كما قدم العديد من المحاضرات والجلسات التربوية/ العرفانية. ففي العام 1966 نشر كتابه: رسالة الصلاة. وتناول الكتاب العديد من الموضوعات، وكلها تتصل بالصلاة، تناول التوحيــد وفضله، والفردية باعتبارها مدار التكليف، والحرية الفردية المطلقة، والصـلاة وسـيلة، والوسيلة دائماً من جنس الغاية. كما تناول العبادة والعبودية، والرضا بالله عبودية، والعبـودية هي الحرية، وبيَّن، قائلاً: “العبودية هي التكليف الأصلي، والعبادة هي التكليف الفرعي، وبعبارة أدق.. العبادة هي الوسيلة، والعبودية هي غاية العبادة” . ثم وقف عند ما هي الصـلاة؟ ومعاني الصلاة، وصلاة التقليد، وصلاة الأصالة، والصـلاة بين المؤمن والمسلم، وكيف نعرج بصلاة التقليد إلى الأصالة؟ وغيرها من الموضوعات. كما أصدر في العام 1972 كتاب: تعلموا كيف تصلون. تناول فيه العديد من المحاور كلها تمحورت حول الصلاة، منها: الصلاة وسيلة، والفكر، ورياضة العقول، ومستويات التقوى والفرقان، والفكر هو السنة، والصلاة والصوم، والصلاة جلسة نفسية، وبين الاعتراف والاستغفار، وصل فإنك الآن لا تصلي، والوضوء، والصــلاة وأوقاتها، وهيئة الصلاة، وحضرتا الصلاة: حضرة الاحرام وحضرة السلام، وغيرها. وكتب في مدخل الباب الأول من كتابه، قائلاً: “وكيفية الصلاة غير معلومة لدى الناس بصورة كافية.. وقيمة الصلاة مجهولة عند الناس جهلاً تاماً.. وإنما أردنا بهذا الكتاب إلى تبيين الكيفية بصورة جلية، وإلى إظهار القيمة من الصلاة إظهاراً كافياً، يعيد إليها بعض ما تستحق من الكرامة، والتفضيل”.
وفصل عبدالله، قائلاً: كذلك قدم محمود محمد طه العديد من المحاضرات عن الصلاة في العاصمة الخرطوم، وفي الكثير من مدن السودان، ونورد هنا نماذج من المحاضرات الموثقة بصوته، والمنشورة والمتاحة للاستماع عبر شبكة الإنترنت في موقع الفكرة الجمهورية على الإنترنت، وقد أشرنا مع كل محاضرة لرابط النشر. من هذه المحاضرات على سبيل المثال، لا الحصر: محاضرة بعنوان: “الصلاة” ، (3 ديسمبر 1968)، ومحاضرة بعنوان: “تعلموا كيف تصلون” ، (11 أبريل 1972)، وكانت هذه المحاضرة ضمن سلسلة من المحاضرات شهدها عقد السبعينات من القرن الماضي، وتم تقديمها في العاصمة الخرطوم، والعديد من مدن السودان. ففي 14 أبريل 1972، شهدت مدنية الأبيض المحاضرة بنفس العنوان: “تعلموا كيف تصلون” ، كما شهدت مدينة أم درمان خلال شهر سبتمبر 1972 عدة ندوات بنفس العنوان . يضاف إلى ذلك أن الكثير من محاضرات محمود محمد طه، تعرضت للصلاة، خاصة أثناء النقاش، حيث وردت الكثير من الأسئلة عن الصلاة، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، في محاضرة كانت بعنوان: “الدستور والحقوق الأساسية” (19 مارس 1969)، جاء أحد الحضور، وقال: أنا أريد أن أعرف هل محمود محمد طه والجمهوريين يصلون مثل صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وأضاف السائل، قائلاً: أريد من محمود محمد طه أن يوضح لي كيف هي صلاته؟ وكيف هي صلاة الرسول؟ وطُرحت نفس الأسئلة في محاضرة أخرى كانت بعنوان: “تطوير شريعة الأحوال الشخصية” ، (9 أبريل 1972). ولم تغب مثل هذه الأسئلة في الحوارات الإعلامية ، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، أجرت مجلة الحياة السودانية، حواراً مع محمود محمد طه ونشرته في نوفمبر 1968، وكان من بين الأسئلة، سؤال يقول: ما رأيك فيما يوجه لك من اتهام بأنك ترى أن الصلاة قد رُفعت عنك؟ وقد أجاب محمود محمد طه عن كل تلك الأسئلة، ويمكن الاطلاع والاستماع للأسئلة والإجابة عنها في المصادر المشار إليها في الهامش أدناه. ومع ذلك سنقدم إجابات موجزة عن هذه الأسئلة في المحاور أدناه.
وأضاف عبد الله، قائلاً: أيضاً نشر الإخوان الجمهوريون الكثير من الكتيبات والبيانات عن الصلاة. ومن تلك المنشورات على سبيل المثال، لا الحصر، الصلاة وسيلة وليست غاية (أغسطس 1975)، والصوم توأم الصلاة (سبتمبر 1975)، وماذا قال الأستاذ محمود محمد طه عن الصلاة؟ (مايو 1976)، والصوم ضياء والصلاة نور (أغسطس 1976). ومن البيانات على سبيل المثال، لا الحصر: “بيان من الطلبة المفصولين من المعهد العلمي” (فبراير 1960)، و “رأي الحزب الجمهوري في: “محمود محمد طه معذور” (نوفمبر 1965)، و “عن اتهام السيد على أحمد سليمان، عضو مجلس الشعب، لنا [أي الإخوان الجمهوريون] بأننا نسيء إلى الإسلام” (أبريل 1977)، و”الصلاة لا تسقط اطلاقاً!!” (يونيو 1977).
الصلاة في الفهم الجديد للإسلاميقول عبدالله: إن الصلاة في الإسلام، وفقاً للفهم الجديد للإسلام، صلاتان، كما هو الأمر في كل الشئون القرآنية، والإسلامية، فالنص في القرآن، نصان: نصٌ ناسخٌ، ونصٌ منسوخٌ، والشرع شرعان: شريعة النبوة، وشريعة الرسالة. وبناءً على التقرير بأن النص نصان، وأن الشرع شرعان، وهو تقرير مفصل ومبرهن على علميته في كتابات محمود محمد طه وأحاديثه، وسنورد هنا توضيحاً موجزاً، فإن أموراً كثيرة تنبني على هذا التقرير. ومن هذه الأمور أن في الإسلام أمتان: أمة المؤمنين وأمة المسلمين. وهنا يرى محمود محمد طه بأنه ومن أجل بعث الإسلام لا بد من التفريق بين “المؤمن” و”المسلم” وبين أمة المؤمنين وأمة المسلمين.. وإن هذا التفريق ضرورة لبعث الصلاة!، وتبرز أهمية التفريق بين المؤمن والمسلم في التفريق بين صلاة وصلاة.. فإن للمؤمن صلاته، وهو فيها مقلّد للنبي الكريم، وللمسلم صلاته، وهو فيها أصيل، متأس بالنبي الكريم في الأصالة ، وسيرد التفصيل عن أمة المؤمنين وأمة المسلمين. كذلك إن الإسلام إسلامان، والرسالة رسالتان: رسالة أولى من الإسلام، ورسالة ثانية من الإسلام، وكما وردت الإشارة آنفاً في هذا الكتاب، إن الرسالتين أتى بهما النبي الكريم محمد بن عبد الله عليه أفصل الصلاة وأتم التسليم، وقد فصل الأولى وأجمل الثانية إجمالاً، ولا يتطلب تفصيل الثانية سوى فهماً جديداً للإسلام. أما القول بأن في القرآن نصان، فإنه يجيء من طبيعة القرآن.. قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(23)﴾ .. ومعنى أنه ﴿مَّثَانِيَ﴾، أنه ذو معنيين، معنيين: معنى في الطرف البعيد، ومعنى في الطرف القريب. وإنما يجيء ذلك من كون القرآن حديثاً من الرب، في عليائه، تنزّل إلى العبد في الأرض.. ويجيء هذا المعنى في نص آخر.. ﴿حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(4)﴾ .. فهناك نص في أم الكتاب، وهذا ما يعتبر نصاً في الطرف البعيد.. وهناك نص في المصحف المخطوط، والمقروء باللغة العربية بين ظهرانينا اليوم، وهو نص يمكن أن يعتبر في الطرف القريب. وجملة الأمر فإن نصوص المعنى البعيد هي نصوص أصول، ونصوص المعنى القريب هي نصوص فروع. وقرآن الأصول قرآن مكي، وقرآن الفروع قرآن مدني . وقد ورد بعض التفصيل عن القرآن المكي والقرآن المدني في هذا الكتاب.
ثم فصل عبد الله في موضوع الشرع شرعان: شرع كان عليه النبي، في خاصة نفسه، وشرع كانت عليه الأمة.. وفصل كذلك فياشتمال الإسلام على أمتينن: أمة المؤمنين، وأمة المسلمين، وفضل أيضاً في أن كلمة الإسلام، لها معنيان: معنى قريب هو الذي عبر عنه القرآن بقوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ .. وهذا ما أسماه محمود محمد طه: الإسلام الأول. وللإسلام معنى بعيد، وهو مركوز عند الله، حيث لا حيث .. وهو بمعناه البعيد قد أشار اليه سبحانه وتعالى حين قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(102)﴾ . وقد جاء القرآن مقسماً بين الإيمان والإسلام، كما جاء إنزاله مقسماً بين مدني ومكي، وكان المكي سابقاً على المدني، وبعبارة أخرى، بدأ بدعوة الناس إلى الإسلام فلما لم يطيقوه، وظهر ظهوراً عملياً قصورهم عن شأوه، نزل عنه إلى ما يطيقون. والظهور العملي حجة قاطعة على الناس. والآيات الدالة على النزول من أوج الإسلام، الى مرتبة الإيمان كثيـرة . نذكر منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(102)﴾ فلما قالوا أينا يستطيع أن يتقي الله حق تقاته؟ نزل قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)﴾ . ويقع الإسلام الأول، كما يرى محمود محمد طه، وهو دين أمة المؤمنين، في ثلاث درجات، وهي درجات الإيمان: الإسلام، والإيمان، والإحسان.. وهذه مرحلة عقيدة.. وأما الإسلام النهائي فيعني الاستسلام، والانقياد الكلي ظاهراً وباطناً.. ويعني الإذعان الكلي، لأمر الله، عن رضا وطواعية.. وهو يقع أيضا في ثلاث درجات، تلي درجات الإسلام الأول.. وهذه الدرجات الثلاث هي درجات الإيقان: علم اليقين، وعلم عين اليقين، وعلم حق اليقين.. ثم تتوج هذه الدرجات الست بالإسلام النهائي. فكأن الصورة هكذا: الإسلام الأول، ثم الإيمان، ثم الإحسان، ثم علم اليقين، ثم علم عين اليقين، ثم علم حق اليقين، ثم الإسلام .. وهذا الإسلام الأخير، وهو النهائي، هو المعني بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ .. وهو المعني بقوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85)﴾..
أتوقف هنا وأحيل القراء إلى استكمال محاور الفصل بالرجوع إلى كتاب الدكتور عبدالله الفكي البشير، موضوع حديثنا، والمحاور المتبقية، هي: الصلاة صلاتان: صلاة الصلة وصلاة المعراج- الشريعة الفردية وأخذ الصلاة الفردية من الله بلا واسطة- ما رأيمحمود محمد طه فيما يوجه إليه من اتهام بأنه يرى أن الصلاة رُفعت عنه؟ وهل كان يصلي؟- الشريعة الفردية: شريعة العارف في مستوى معرفته وصلاته تزيد عن صلاة الإنسان العادي- كيف هي صلاة محمود محمد طه؟ وهل هي مثل صلاتنا ذات الحركات المعلومة؟ – كأنما الصلاة الشرعية قاعدة وصلاة الصلة قمة- لماذا كان النبي يصليالصلاة ذات الحركات حتى التحاقه بالرفيق الأعلى؟- المؤمن لن ينفك عن التقليد بينما يرتفع المسلم المجوّد من التقليد إلى الأصالة- لماذا لم يؤت أحد من أصحاب النبي صلاة الأصالة؟- أخذ الصلاة بالجد التام- منشأ سردية رفع الصلاة عن محمود محمد طه.
نلتقي في الحلقة الثامنة، وهي تتمحور حول أحد فصول الكتاب، وقد جاء الفصل بعنوان: إنطلاقاً من دعوة محمود محمد طه للتغيير ووفقاً لرؤيته كيف ومتى ستهب رياح التغيير؟ ويتناول الفصل المحاور الآتية: متى وكيف تهب رياح التغيير؟- الوصية المشرفة: كثفوا العمل.. يا عمر [القراي] لا تتوقف عن العمل- تكثيف العمل هو السبيل لمقاومة سردية رجال الدين: سردية كسل العقول وتناسل الجهل- هل يعقل أن ينام الجمهوري والجمهورية ملء جفونه/ جفونها، والناس من حوله/ حولها تردد في سردية رجال الدين القائلة: إن محمود محمد طه كافر ومرتد عن الإسلام؟- القيام بالواجب المباشر خروج عن مأزق الموقف السلبي- ما الذي يحتاجه الواجب المباشر- العبادة في الخلوة مدرسة الإعداد النظري، فما هو ميدان التطبيق العملي؟- عن مفهوم رفع واقع الناس للفكرة وإنزال الفكرة لواقع الناس- الجمهوريون دعاة التغيير الجذري- مفهوم التغيير الجذري عند محمود محمد طه- ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين وجماعات الهوس الديني.
ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «6-13»
الوسومالأستاذ محمود محمد طه الإخوان الجمهوريين الإخوان المسلمين الصلاة الفهم الجديد للإسلام الهوس الديني د. عبد الله الفكي البشير سمية أمين صديق عمر القراي