هل تهتز مكانة إسرائيل الإستراتيجية بسبب غزة؟
تاريخ النشر: 28th, January 2024 GMT
حظي الكيان الصهيونيّ بدعم أميركي غير مسبوق بعد هزيمته النكراء في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، واستمرّ هذا الدعم حتى الآن من خلال التأكيد على رفض وقف إطلاق النار والحق المزعوم للكيان في الدفاع عن نفسه!
غير أنّ فشل الكيان المتعاظم في تحقيق أهدافه التي أعلن عنها من حربه على غزة، وهي القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى، مع استمرار الاستهداف المكثف للمدنيين ورفض الاحتلال قبول التصور الأميركي لليوم التالي للحرب، وضعَ مصالح واشنطن وعلاقاتها الدولية وإستراتيجيتها في المنطقة، على المحك، واستدعى الأثمان التي قد تدفعها واشنطن؛ بسبب انحيازها ودعمها الصارخ للكيان الصهيوني، خصوصًا إذا تسبب لها ذلك بأضرار على مصالحها الإستراتيجية، الأمر الذي قد يحفز خطوات ضغط أميركية على الموقف الإسرائيلي بما يؤثر على المدى القريب على نمط العلاقة التحالفيّة بين الطرفين، أو حتى المكانة الإستراتيجيّة للكيان في المنطقة.
شكّل الكيان الصهيونيّ حصنًا متقدمًا للولايات المتحدة وللغرب في منطقتنا، وحظي بدعم ورعاية أميركية على وجه الخصوص للقيام بدور ضبط مسار المنطقة في الفلك الأميركي، كما عملت واشنطن على دمجه بالمنطقة العربية عن طريق اتفاقات السلام والتطبيع مع الدول العربية، وذلك بهدف إنهاء القضية الفلسطينية وتكريس الحل الإسرائيلي لها، والذي يقوم على أساس ضمّ الأراضي الفلسطينية، والتوسع بالاستيطان، وتهويد القدس، والحيلولة دون تشكيل كينونة فلسطينيّة.
وحينما قررت الولايات المتحدة التركيزَ على الصين وروسيا، والخروج من المنطقة، وجدت أن خير مَن يرعى مصالحها في المنطقة هو الكيان الصهيوني. ولذلك فقد عملت على إدماجه بالمنطقة ليس فقط باتفاقيات التطبيع التي أطلق عليها اتفاقيات أبراهام، وإنما أيضًا بإنشاء آلية لتحالف أمني مع دول المنطقة، بدءًا باجتماع العقبة الذي شاركت فيه دول التطبيع، وكان يهدف لتثبيت اعتماد هذه الدول على الحماية الإسرائيلية من التهديدات الخارجية، وعلى الأخص من إيران، بما يعني تكريس الاحتلال كدولة مركزية قائدة في المنطقة، وهو الأمر الذي يضمن حماية على المصالح الأميركية في المنطقة من أي تهديد، ويشكل حصنًا من إمكانات الاختراق الروسي والصيني لها.
سعت واشنطن بجولة بلينكن إلى انتشال الكيان من ورطته، ومحاولة استدراك التدهور في شعبية بايدن لصالح ترامب في الانتخابات الأميركية نهاية العام، فضلًا عن التململ داخل الإدارة بسبب الدعم اللامحدود الذي قدمه بايدن للكيان، إضافة لبداية تفكك التحالف الغربي الداعم للكيان
وقد شكل "طوفان الأقصى" تهديدًا وجوديًا للكيان وألحق ضررًا كبيرًا باستقراره، لأنه خلخل عناصر ارتكازه العسكرية والأمنية وهي، اعتبار جيشه، الجيش الذي لا يقهر، كما كسر نظرية الردع الأمنية التي تباهت بها حكوماته.
وتضررت مكانة الكيان الإستراتيجية في المنطقة بعد أن أصبح غير قادر على حماية نفسه، فضلًا عن أن يحمي غيره، الأمر الذي شكل تهديدًا حقيقيًا لمصالح الولايات المتحدة.
ولذلك هُرعت الولايات المتحدة والغرب ليس لنجدته فقط، وإنما لحماية المصالح الأميركية والغربية أيضًا، لأن انكسار هذا الكيان وضياع هيبته هو خطر على هذه المصالح، فكان تأكيد واشنطن دائمًا على رفض وقف إطلاق النار حتى يتمكن الاحتلال من استعادة مكانته المهتزة.
كما شاركت إدارة بايدن في إدارة الحرب على غزة، ووافقت على أهداف خُطة الاحتلال العسكرية بالقضاء على حماس واستعادة الأسرى، ودعمته بكل الوسائل العسكرية، ووفرت له الغطاء السياسي في مجلس الأمن، رغم أنه كان واضحًا منذ البداية أنه لا يمكن هزيمة فكرة متجذرة وتنظيم شعبي له امتداداته في كل أنحاء العالم.
غير أن الأمور لم تجرِ كما اشتهت سفينة إسرائيل والولايات المتحدة، فقد واجه جيش الاحتلال مقاومة شرسة وعنيفة عرقلت تقدمه، وباعدت بينه وبين تحقيق أهدافه السياسية.
وأكد تقرير سري للاستخبارات الأميركية- صدر مؤخرًا، وكشفت عنه صحيفة وول ستريت جورنال- أنّ حركة حماس لا تزال تمتلك ذخائر تكفي لضرب إسرائيل لمدة أشهر قادمة، وأنّ هدف تدمير الحركة لم يتحقق، رغم الحملة الجوية والبرية الإسرائيلية المكثفة في قطاع غزة".
وزعم التقرير أيضًا أنّ جيش الاحتلال تمكن من القضاء على 20% إلى 30% من مقاومي حركة حماس، معتبرًا أن هذه الحصيلة (رغم أنها قد يكون مبالغًا فيها وتستند إلى مزاعم جيش الاحتلال) "لا ترقى حتى الآن إلى هدف إسرائيل المتمثل بتدمير الحركة"، وتظهر " قدرة حماس على الصمود بعد أشهر من الحرب التي دمرت مساحات واسعة من القطاع".
ورغم أن الإدارة الأميركية تتحاشى الحديث عن مواقفها غير المتوافقة مع الكيان حتى لا يظهر أنها تخذله وقت الحرب، كما تتحاشى الحديث عن تقييماتها لمجرى الحرب، فإن مسؤوليها يتحدثون للصحف الأميركية في حالة عدم التصريح بالاسم.
ومن هذه التقييمات، ما أوردته صحيفة نيويورك تايمز بأن الإدارة الأميركية باتت مقتنعة بأن إسرائيل في مأزق إستراتيجي، وأن الكيان هو أبعد ما يكون عن إلحاق الهزيمة بحماس، مشيرة إلى أن الجزء الذي سيطرت عليه قوات الاحتلال في قطاع غزة هو أقل مما تصورته خطط المعركة، والتي تضمنت السيطرة على غزة وخان يونس ورفح بحلول أواخر ديسمبر/كانون الأول.
تصاعد حدة الخلافاتومن خلفية هذه النتائج، كان لا بد للإدارة الأميركية من التدخل لمنع المأزق الإستراتيجي للاحتلال من التحول لهزيمة ثانية شبيهة بهزيمة 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ولذلك جاءت جولة وزير الخارجية بلينكن التي بدأها بدول المنطقة قبل أن يزور الكيان، ثم تبعها مكالمة هاتفية مطولة لبايدن مع نتنياهو، أظهرت حدة الخلافات بين الطرفين.
وسعت واشنطن بتحركها هذا إلى انتشال الكيان من ورطته، ومحاولة استدراك التدهور في شعبية بايدن لصالح ترامب في الانتخابات الأميركية نهاية العام، فضلًا عن التململ داخل الإدارة بسبب الدعم اللامحدود الذي قدمه بايدن للكيان، إضافة لبداية تفكك التحالف الغربي الداعم للكيان، ومطالبة عدد من دوله بوقف إطلاق النار على عكس رغبة واشنطن!
وواجه التحرك الأميركي عقبة كأْداء بسبب موقف نتنياهو المتشبث بالسلطة إلى ما لا نهاية، وحكومته التي يهيمن عليها المتطرفان سموتريتش وبن غفير اللذان يهددان باستمرار بإسقاط الحكومة إن قرر نتنياهو وقف الحرب أو القبول بحكم السلطة الفلسطينية للقطاع، أو القبول بالدولة الفلسطينية الشكلية والمنزوعة السلاح التي يطالب بها بايدن.
يشار إلى أن هذا هو التصور الأميركي لما بعد الحرب، والذي يقول بايدن إنه نجح بإقناع بعض الدول العربية به، ويقوم على القبول العربي بمشروع الدولة المفرغة من مضمونها، مقابل إعطاء السلطة الفلسطينية دورًا ما في مستقبل قطاع غزة.
ويشكل هذا التصور حجر الرحى في الإستراتيجية الأميركية لإنهاء الحرب، بما يحفظ مصالح واشنطن في المنطقة، ويعيد تمركز الكيان فيها، ويمنع تعرضه لهزيمة منكرة ستنعكس حتمًا على المصالح الأميركية سلبًا.
ويشار هنا إلى أن هذا التحرك يستند إلى فرضية إضعاف أو إنهاء حماس، وهو سيناريو لا يبدو أنه يملك فرصة للنجاح في ضوء المعطيات الحالية!
غير أن ارتهان نتنياهو للمتطرفين في حكومته، وعدم رغبته بإنهاء الحرب خوفًا على نفسه من السقوط والتعرض للمحاكمة بسبب تهم الفساد إضافة لفشله المدوي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، جعله كل ذلك يتلكأ في الدخول في المرحلة الثالثة التي طلبتها إدارة بايدن بتخفيف استهداف المدنيين والتركيز على مقاتلي المقاومة، ويرفض الدولة المستقلة، ويصر على رفض أي دور للسلطة (بعد تأهيلها أميركيًا) في غزة على اعتبار أن ذلك سيعزز الطموحات الفلسطينية بالدولة المستقلة، حتى ولو كانت هذه لا تتجاوز وضع الحكم الذاتي الذي تعيشه سلطة أوسلو!!
وبعد مكالمة هاتفية بين نتنياهو وبايدن خرج الأخير ليقول إن إقامة الدولة الفلسطينية بوجود نتنياهو ليست مستحيلة، وإنه معجب بفكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، ليخرج بعد ذلك نتنياهو ووزراؤه برفض هذه الفكرة، الأمر الذي شكل لطمة للرئيس الأميركي، وأعاد إلى الأذهان مطالبته السابقة لنتنياهو بتشكيل حكومة يستثني منها سموتريتش وبن غفير.
وكانت شبكة "سي إن إن" نقلت عن مسؤول بإدارة بايدن قوله: "في مرحلة ما، سيتعين على نتنياهو الاختيار بين الحكم بطريقة ترضي بن غفير وسموتريتش، وبين الحكم بطريقة ترضي الرئيس بايدن والولايات المتحدة".
وكتب الصحفي ألون بنكاس في هآرتس معلقًا على مطالبة بايدن لنتنياهو بتغيير حكومته، قائلًا: "إن ما قصده بايدن في تصريحاته المتعلقة بنتنياهو لا يتلخص فيما قاله بالضبط، وهو بحد ذاته خطِر، لكن الأخطر يكمن فيما لم يقُله".
وأوضح أن "تصريحات بايدن مهمة، بحد ذاتها، لأنها علنية. لقد قال بايدن كلامًا مشابهًا في أحداث داخلية، أو سياسية، في الأسابيع الأخيرة. بايدن ليس فقط لا يوافق على أي كلمة يقولها نتنياهو، بل هو أيضًا لا يصدق أي كلمة يقولها. هو مقتنع بأن نتنياهو يسعى لمواجهةٍ، ومن المهم له أن يبدو مثل رامبو الذي يقف في مواجهة ضغوط أميركية، وبايدن مقتنع بأن نتنياهو يخوض حملة سياسية، ويحاول إعادة كتابة التاريخ".
تعارض المصالح ومكانة الاحتلالومع رفض نتنياهو المستمر لاقتراح إقامة دولة فلسطينية، والتخوف من طموحاته الشخصية التي يجر فيها الإدارة الأميركية لحرب إقليمية، فقد باتت إدارة بايدن تتطلع إلى ما هو أبعد من نتنياهو لمحاولة تحقيق الأهداف الأميركية في المنطقة، وذلك بحسب ما قاله ثلاثة أميركيين كبار لشبكة "إن بي سي إن" الذين أكدوا أن "نتنياهو لن يبقى هناك إلى الأبد".
صحيح أن بايدن رفض حتى الآن اقتراحات في مجلس الشيوخ الأميركي لفرض شروط على المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل، ولكن هذا الموقف قد يتغيّر مستقبلًا لممارسة ضغوط على نتنياهو لإسقاطه من خلال تحركات داخلية إما في نفس حزب الليكود أو من خلال المعارضة.
إن وقوف نتنياهو بوجه الإدارة الأميركية، وتحضير هذه الإدارة للتعامل معه بوسائل ضغط غير مسبوقة مثل وضع قيود على المساعدات العسكرية له، أو حتى إعادة النظر بالفيتو الذي تقدمه لمنع إدانة الكيان في مجلس الأمن، بسبب موقفه الذي يشكل ضررًا على المصالح الأميركية في المنطقة، يشير إلى أن ذلك قد يكون له تأثير بعيد على السياسة الأميركية تجاه الكيان الذي جرّها إلى المنطقة على غير رغبتها بسبب ضعفه وعجزه، ومن ثم وقوفه ضد رؤيتها السياسية في المنطقة.
لا شك أن مصلحة الولايات المتحدة الإستراتيجية هي في كيان صهيوني قوي ومتماسك مقابل دول عربية ضعيفة ومفككة ومرتهنة للولايات المتحدة، ولكن هذا الكيان تعرض لعملية تهشيم بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وها هو يعمل ضد مصالحها الإستراتيجية. وحتى لو تغيرت هذه الحكومة، فإن إطار التشدد سيستمر في الهيمنة على المجتمع الصهيوني، بما في ذلك حالة الرفض الشاملة لحل الدولة المستقلة الذي تعمل عليه واشنطن.
كما ستستمر عملية التهشيم للكيان عندما يضطر للرضوخ لصفقة تبادل أسرى وينسحب من قطاع غزة دون أن يتمكن من إخضاع المقاومة، بما يضعف مكانته الإستراتيجية أكثر وأكثر.
وربما يشكل ذلك فرصة للأنظمة العربية للانعتاق من ربقة التبعية الكاملة للولايات المتحدة، والنظر بشكل أوسع لمصالحها مع دول كبرى، مثل: روسيا والصين، بشكل يدفع الإدارة الأميركية لإعادة النظر بموقفها المنحاز كليًا للكيان، ودفعه لتقديم تنازلات ليحافظ على مكانته في المنطقة.
وربما من هذه النقطة، والتي قد تتطلب تغييرات سياسية في هذه الدول، ستبدأ المكانة الإستراتيجية للكيان في التضعضع شيئًا فشيئًا، وربما ليس من المستبعد إذا ضعفت مكانة الكيان أن تلجأ الولايات المتحدة لموازنة مصالحها في المنطقة، وصياغة موقف متزن من قضايا المنطقة.
قد لا تصل الأمور إلى تحول الكيان لعبء إستراتيجي على الولايات المتحدة، وذلك بسبب نفوذ اللوبي اليهودي، والنظرة الغربية التي تتخوف من نهوض المنطقة، ولكن واشنطن بكل تأكيد ستنظر إلى مصالحها الإستراتيجية بالدرجة الأولى.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الإدارة الأمیرکیة المصالح الأمیرکیة الولایات المتحدة الأمیرکیة فی إدارة بایدن تشرین الأول فی المنطقة الأمر الذی قطاع غزة إلى أن
إقرأ أيضاً:
تعرّف على الرئيس الذي ساهم بقطع علاقات 20 دولة أفريقية مع إسرائيل
شكلت مواقف موريتانيا في تاريخها الحديث تجاه القضية الفلسطينية محورا أساسيا في سياستها الخارجية، وخاصة خلال فترة حكم الرئيس المختار ولد داداه، أول رئيس للبلاد والذي قادها منذ استقلالها سنة 1960 وحتى الإطاحة به في انقلاب عسكري عام 1978.
كانت مواقف داداه محورية في توجيه علاقات البلاد الدولية، مسلطا الضوء على دعمه الثابت للشعب الفلسطيني ونضاله من أجل التحرر.
وقبل أن نستعرض ما قام بها أول رئيس لموريتانيا من جهود كبيرة للوقوف في وجه التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا، سنمر على مواقف الرجل عموما من القضية الفلسطينية وكيف كانت محددا رئيسا لبوصلة علاقات موريتانيا الخارجية في عهده، وكيف ساهم داداه في تقديم القضية للعالم، إضافة إلى ذكر نماذج من الدعم الذي قدمته موريتانيا للفلسطينيين خلال فترة حكمه.
حضور القضيةيقول أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة نواكشوط الدكتور محمد المختار سيدي محمد الهادي في حديثه للجزيرة نت إن القضية الفلسطينية كانت حاضرة بقوة في تفكير النخبة الموريتانية حتى قبل حصول البلاد على استقلالها سنة 1960، فقد عارض ممثل مستعمرة موريتانيا أحمد ولد ببانه قرار التقسيم وصوت ضده في البرلمان الفرنسي صيف عام 1948.
إعلانغير أن مواقف الرئيس المؤسس المختار ولد داداه الداعمة للقضية الفلسطينية كانت أكثر تأثيرا وأبلغ تعبيرا، فموريتانيا حينها كانت دولة ناشئة تتقاذفها أمواج الاستقطاب الإقليمي وإكراهات الاعتراف الدولي، مما يضفي بعدا قيميا ودلالة خاصة على مواقفها من قضايا الاستقلال والتحرر، ولا سيما القضية الفلسطينية.
ولعل هذا، بحسب محمد المختار، ما حدا برئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير للعب على هذا الوتر الحساس، حيث سعت عبر عدد من الوسطاء إلى التواصل مع الرئيس الموريتاني، لكن ولد داده رفض ذلك.
ويشير وزير الإعلام الموريتاني السابق محمد محمود ولد ودادي في حديث للجزيرة نت إلى أنه في الخمسينيات ومع بداية انتشار الوعي السياسي في موريتانيا، كان هناك تطلع إلى معرفة أوضاع العالم العربي وبدأ الناس يتداولون ما يصلهم من أخبار عن شعب فلسطين وتشريده.
ومباشرة بعد الاستقلال أعلن الرئيس المختار ولد داداه أن موريتانيا تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، منددا بتقسيم فلسطين ورافضا أي اعتراف بإسرائيل.
وهكذا يرى الوزير ودادي أن القضية الفلسطينية هي قضية موريتانيا الوحيدة التي يدافع عنها كل الموريتانيين من دون استثناء، ولم يكن غيرُها مطروحا إلا حماية استقلال موريتانيا نفسها.
ويقول الرئيس الراحل المختار ولد داداه في مذكراته التي صدرت عام 2006 تحت عنوان "موريتانيا على درب التحديات": "خلال حرب 1967 قطعنا علاقاتنا مع أميركا وطردنا الأميركيين من بلادنا بمن فيهم أعضاء هيئة السلام التي كانت تقدم مساعدات فنية لبلادنا، وذلك احتجاجا على دعم الولايات المتحدة بكل الوسائل للعدوان الإسرائيلي على الشعوب العربية الشقيقة، وكنا حينها لم ننضم للجامعة العربية".
ويضيف الرئيس "لقد دامت قطيعتنا مع أميركا عامين ونصف العام وانتهت في ديسمبر/كانون الأول 1969 إثر وساطة دول صديقة وبعد تشاور مع الجزائر ومصر.. ليستقبلني بعدها بود الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في العام 1971 وكنت حينها رئيسا لمنظمة الوحدة الأفريقية".
إعلانوفي ذات السياق، يقول ولد داداه: "في خضم حرب 1973 أرسل إلي نيكسون رسالة يلتمس فيها مساندتي لجهوده في حل الصراع في الشرق الأوسط، وجاء في الرسالة:" "إنني لا أزال أتذكر لقاءنا في سبتمبر (أيلول) 1971 وما جرى بيننا من تبادل صريح للآراء، وكل ثقة بأنكم ستساندون جهودي الرامية إلى إيجاد تسوية نهائية للنزاع تصون حقوق كل شعوب الشرق الأوسط".
وعلى ذكر حرب 73، يورد ولد داداه أن الرئيس المصري أنور السادات كان على اتصال مستمر معه بخصوص ملف الشرق الأوسط كما كان سلفه عبد الناصر، وكانا يهنئانه دائما على الدور الذي يقوم به على المستوى الأفريقي لصالح القضية الفلسطينية.
ويشير إلى أن السادات كشف له في سرية تامة في مايو/أيار 1973 عن نيته مهاجمة إسرائيل أي قبل شهور من الهجوم، وأكد له ذلك مرة أخرى خلال لقائهما في مؤتمر دول عدم الانحياز المنعقد بالجزائر في سبتمبر/أيلول الموالي.
"وبالطبع لم أبح بهذا السر قبل الآن"، يقول ولد داداه إن السادات أرسل إليه بعد ذلك مساعده الجنرال حسني مبارك وعرض عليه إرسال قوات من الجيش المصري لمساعدة موريتانيا في حربها ضد جبهة البوليساريو، لكن الرئيس الموريتاني رفض، واعتبر أن على مصر أن تكرس كل قدراتها العسكرية للحرب مع إسرائيل.
يوضح الباحث المختص في الشؤون الأفريقية إسماعيل الشيخ سيديا للجزيرة نت أن ما مكن المختار داداه من الدفاع عن القضية الفلسطينية أنه كان محاميا بارعا وأفريقيا تحرريا؛ وله صداقة قوية وعلاقات شخصية مع الزعماء الأفارقة الأوائل.
كما استطاع التحاور مع العواصم الغربية والشرقية الكبرى، وتمكن خلال رئاسته لمنظمة الوحدة الأفريقية (المنظمة الأم للاتحاد الأفريقي الحالي) من جمع مجلس الأمن الدولي لأول مرة في مقر المنظمة بأديس أبابا.
إعلانوكان الرئيس المختار ولد داداه من القادة الفاعلين في منظمة دول عدم الانحياز، وفي هذا الصدد يورد في مذكراته أنه "بفضل الجمهورية الإسلامية الموريتانية أسمعت المقاومة الفلسطينية صوتها لأول مرة في قمة لدول عدم الانحياز عام 1970 في لوزاكا حيث انتخبت نائبا للرئيس وأتاحت لي رئاستي للجلسة الختامية أن أعطي الكلمة لممثل فلسطين رغم المعارضة الشديدة من عدد من أعضاء المنظمة".
يذكر الوزير ودادي أنه في عام 1969 وصل موريتانيا أول مبعوث رسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية هو سعيد العباسي (أبو فهد) ففتح مكتبا للمنظمة في نواكشوط، بعد أن أمّنت له الحكومة مكتبا ومنزلا وسيارة، ومبلغا ماليا سنويا، ثم أصبح المكتب سفارة دولة فلسطين في نواكشوط.
وانطلق من إذاعة موريتانيا صوت الثورة الفلسطينية بالعربية والفرنسية، ليُسمع في أجزاء واسعة من القارة، حيث شكل هذا المكتب -حسب ودادي- مركز انطلاق النشاط الفلسطيني إلى أفريقيا جنوب الصحراء، وكان أبا لجميع المكاتب التي أنشئت بعد ذلك في عواصم القارة.
ويؤكد الشيخ سيديا أن الرئيس ولد داداه قام بعدة حملات شعبية كبرى للتبرع لصالح الفلسطينيين؛ وألغى عنهم تأشيرة دخول موريتانيا وسهل لهم الولوج للجنسية الموريتانية مع نيلهم حقوق المواطنين الموريتانيين بمجرد الوصول.
وبدوره، يؤكد الكاتب الصحفي رياض أحمد الهادي للجزيرة نت أن موريتانيا قدمت في عهد ولد داداه الدعم السياسي والاقتصادي للفلسطينيين، كما قام بتنظيم ورعاية مؤتمرات وندوات في موريتانيا ودول أفريقية لتسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني وتعزيز التضامن الأفريقي مع القضية الفلسطينية.
يتحدث الرئيس الموريتاني عن الدور الذي لعبه في انحسار التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا، إذ يقول في مذكراته: "لعبت الجمهورية الإسلامية الموريتانية عام 1973 دورا في المسار الذي أدى إلى قطع غالبية الدول الأفريقية لعلاقاتها مع إسرائيل".
إعلانويكمل ولد داداه: "لقد عملت بلا كلل طيلة 20 سنة لشرح القضية الفلسطينية لنظرائي الأفارقة وخصوصا الناطقين بالفرنسية وهي مهمة لم تكن سهلة مطلقا نظرا لقوة الدعاية الإسرائيلية، بيد أنهم جميعا قد تفهموا مع طول الوقت القضية الفلسطينية وقبلوا معطياتها المتمثلة في الظلم السافر المثير للسخط الذي يعاني منه الفلسطينيون الرازحون تحت نير احتلال لا يرحم".
ويعتبر الدكتور محمد المختار أن الرئيس ولد داده حشد التأييد للقضية الفلسطينية في القارة الأفريقية من خلال الدفاع المستميت عنها في كل المحافل والمؤتمرات الأفريقية.
ويوضح أن جهود الرئيس تلك كانت الدافع الرئيسي وراء قطع 20 دولة أفريقية علاقاتها مع إسرائيل، وهي: غينيا، تشاد، مالي، النيجر، الكونغو برازافيل، بوروندي، زائير، توغو، نيجيريا، الكاميرون، ساحل العاج، السنغال، أنغولا، موزمبيق، إثيوبيا، بنين، كينيا، رواندا، بوتسوانا، الرأس الأخضر. ولم يبقَ لإسرائيل يومها تمثيل دبلوماسي في أفريقيا إلا في 5 دول هي: جنوب أفريقيا التي يحكمها نظام التمييز العنصري، ودول صغيرة هي ليسوتو، مالاوي، سوازيلاند، وموريشيوس".
يرى الوزير ودادي أن تأسيسَ منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963، التي كان الرئيس المختار أحد مؤسسيها، سهّل مهمته في حشد الدعم للقضية الفلسطينية، حيث صارت القمم والمؤتمرات الأفريقية منابر رسمية تُطرح فيها جميع القضايا، ومناسباتٍ يحضرها الصحفيون والمثقفون وصناع الرأي.
فطُرحت علنا القضية الفلسطينية بأبعادها السياسية وجذورها التاريخية وطبيعةِ إسرائيل العدوانية، مما ساهم في إنارة الرأي العام الأفريقي تجاه القضية.
وتؤكد حادثة يرويها ولد داداه في مذكراته إيمانه الكبير بمنظمة الوحدة الأفريقية، وأنه ربما كان أيضا أفريقيا أكثر من الأفريقيين، فقد رفض عام 1970 حضور حفل عشاء كبير نظمه الرئيس الأميركي نيكسون على شرف رؤساء الدول، ومُنح خلاله الرئيس الموريتاني مقعدا إلى جانب رئيس الولايات المتحدة. لكنه رفض الحضور احتجاجا على رفض نيكسون مقابلة الرئيس الدوري يومها لمنظمة الوحدة الأفريقية، رئيس زامبيا كينيث كاوندا.
إعلانويورد الرئيس المختار أنه كان الوحيد أيضا في هذا الموقف رغم الجهود التي بُذلت لثنيه، سواء من الوفد الموريتاني أو الوفود الأفريقية أو ممثلية الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، ويضيف: "قال لي بعضهم إن الجلوس إلى جانب الرئيس الأميركي قد ينال صاحبه وزنه من الدولارات، غير أني أعتبر أن الشرف والكرامة لا يُقدران بثمن".
يعتبر الوزير ودادي أن إسرائيل قدمت نفسها للدول الأفريقية في الستينيات، على أنها دولة صغيرة محاصرة من 100 مليون عربي، مما يجعلها جديرة بالعطف والتأييد، وفي الوقت نفسه دولة نموذجية للشجاعة والتنمية ينبغي لأفريقيا الاقتداء بها، خاصة في تقنياتها الزراعية واستخراج المعادن الثمينة، مع قدرتها على توفير الأمن للزعماء الأفارقة وامتلاكها أجهزة التجسس والتنصت المتطورة لحمايتهم.
لكن سنوات من الوجود الإسرائيلي المكثف -يضيف ودادي- أثبتت أن الخبراء الزراعيين الإسرائيليين في أفريقيا لم يفيدوا الزراع الأفارقة في شيء، بل تدهور الإنتاج في المناطق التي دخلوها، وتكشفت فضيحة سرقتهم للكثير من سلالات البذور الزراعية الأفريقية الشهيرة.
وحصل الأمر نفسه في مجال الثروة المعدنية، حيث تبين أنهم سرقوا الألماس وحولوه للصناعات الإسرائيلية التي أصبحت من أكثر مثيلاتها ازدهارا في العالم. أما الحراسات الشخصية فقد كانت غطاءً لإقامة شبكات تجسس، ولم تغنِ شيئا عن الانقلابات العسكرية، بل ساعدت في بعضها كما وقع في الكونغو وإثيوبيا وليبيريا".