قالت صحيفة "الغارديان" البريطانية إن قرار محكمة العدل الدولية حول العدوان الإسرائيلي على غزة "يدعم النظام القائم على القواعد والأحكام، ويضع الغرب على المحك".

وأوضحت الصحيفة في تحليل لها على خلفية القرار الذي ألزم الاحتلال الإسرائيلي باتخاذ إجراءات لمنع الإبادة الجماعية في غزة، أن القرار بمثابة "الدمار الشامل لإسرائيل"، كما أنه "محرج لحلفائها وفي مقدمتهم بريطانيا والولايات المتحدة".



وتاليا الترجمة الكاملة للتحليل:
من خلال سعيها للحصول من محكمة العدل الدولية على حكم مؤقت يلزم إسرائيل بعدم القيام بأعمال تفضي إلى إبادة جماعية في غزة، لم تضع جنوب أفريقيا فقط معاملة إسرائيل للفلسطينيين في قفص الاتهام، ولكن أيضاً كل منظومة القواعد والأحكام التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك سلطة محكمة العدل الدولي ذاتها. لم يسبق من قبل أن رفعت إلى المحكمة قضية تحظى بمثل هذا الاهتمام العالمي في أوج صراع دموي كهذا، ونادراً ما توقفت أمور كثيرة على نتيجة كهذه.

حسب كلام المحامية الإيرلندية بلين ني غراليغ، التي قدمت جزءاً من مرافعة جنوب أفريقيا أمام المحكمة، فإن "خطر الموت والضرر والدمار الوشيك الذي يواجهه الفلسطينيون في غزة اليوم، والذي يجازفون بمواجهته في كل يوم من أيام نظر المحكمة في القضية، يبرر من جميع الزوايا – بل ويفرض – ما يشير إلى إصدار حكم بإجراءات مؤقتة. قد يقول البعض إن سمعة القانون الدولي نفسه – من حيث قدرته واستعداده لأن يلزم ويحمي جميع الشعوب بنفس القدر – باتت على المحك".

إن المثير في الأمر هو أن المحكمة لم تتخل عما تعتبره مسؤولياتها. صحيح أنها لم تأمر بوقف تام لإطلاق النار، ولكنها منحت أحكاماً مؤقتة، بما في ذلك وضع حد لقتل الفلسطينيين في غزة، الأمر الذي ذهب إلى أبعد مما كان يتوقعه كثير من خبراء القانون الدولي.

أتى القرار مدمراً لإسرائيل ومحرجاً للسياسيين من مثل وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بليندن، الذي قال إن القضية لا تستحق الاهتمام، ووزير الخارجية البريطاني دافيد كاميرون، الذي حث جنوب أفريقيا على ألا ترمي غيرها بكلمات مثل الإبادة الجماعية.

لقد خلصت أعلى محكمة في العالم، ذروة الأمم المتحدة، إلى أن ثمة خطراً حقيقياً يتهدد حق الفلسطينيين في الحماية من الإبادة الجماعية بسبب ما تقوم به إسرائيل من أفعال. والمفارقة هنا أن ذلك أمر لا يحتاج إلى دليل، وأن مفاهيم مثل مفهوم "جرائم ضد الإنسانية" ومفهوم "الإبادة الجماعية" صاغها في الأساس أستاذ القانون اليهودي رافائيل ليمكين.

بالنسبة لإسرائيل، الدولة التي ولدت في عام 1948 من رحم فظائع المحرقة وقرون من الاضطهاد، قد تكون هذه فرصة للتأمل والمراجعة، وذلك أن هويتها الوطنية بأسرها مرتبطة بشكل وثيق بالمحرقة، تماماً كما أن هوية جنوب أفريقيا لا تنفصم عن تجربة نظام الفصل العنصري (الأبارتيد).

سيكون هناك الكثيرون داخل إسرائيل ممن سيرفضون الحكم باعتباره مؤشراً آخر على معاداة السامية المتأصلة في طبيعة الأمم المتحدة، المنظمة التي لم تزل تبغضها منذ عقود.

ومع ذلك تدرك إسرائيل الضرر الدبلوماسي الذي يمكن أن تتكبده. ففي برقية سرية موجهة من وزارة الخارجية الإسرائيلية، حصلت عليها أكسيوس قبل شهر، ورد النص على أن القضية "يمكن أن تكون لها تداعيات محتملة لا تقتصر على الدائرة القانونية في العالم، بل سوف تكون لها مضاعفات عملية على العلاقات الثنائية والمتعددة وعلى شؤون الاقتصاد والأمن".

كما يمثل ذلك اختباراً لحلفاء إسرائيل، وبشكل خاص الولايات المتحدة وبريطانيا. فرغم أن قرارات المحكمة ملزمة إلا أنه لا توجد آلية لإنفاذ قراراتها سوى ما يمارسه الأقران من ضغط، ولا يوجد قرين أهم من الولايات المتحدة.

كانت هناك مناسبات أعربت فيها الولايات المتحدة عن استصغارها لمحكمة العدل الدولية، ومن ذلك تلك المرة التي تعود إلى عام 1984، حينما وصفت مندوبة الولايات المتحدة السابقة لدى الأمم المتحدة جين كيركباتريك المحكمة بأنها "كيان شبه قانوني، شبه قضائي، وشبه سياسي، أحياناً تقبل به الدول وأحياناً لا تقبل".

ولكن في مرات عديدة أخرى في الماضي القريب، حثت الولايات المتحدة وبريطانيا بلداناً مثل روسيا وميانمار على التطبيق الكامل لما وصفته بقرارات محكمة العدل الدولية الملزمة.

ومؤخراً أنفقت الولايات المتحدة الملايين حتى حالفها النجاح في الضغط لضمان أن تحظى مرشحتها الأخيرة، ذات المؤهلات العالية، البروفسيورة ساره كليفلاند، على مقعد في محكمة العدل العليا. وقد قال جو بايدن وهو يعلن تأييده لترشيحها إن المحكمة "تبقى واحدة من أهم مؤسسات البشرية التي تعمل على نشر السلام وتعزيزه حول العالم." ولذلك إذا ما اختارت واشنطن تجاهل قرارات المحكمة، فلسوف يكون صعباً عليها القيام بذلك الدور الهام المناط بها.

هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ملزمة بأن تتوافق مع ما توصلت إليه المحكمة من قرارات، ولكن يمكن أن يقال إن من واجبها، بوصفها أحد الموقعين على المعاهدة، أن تؤيدها. وذلك يتطلب منها حث حليفتها إسرائيل على البحث عن سبيل للانصياع للأحكام الصادرة عن المحكمة. وهذا بلا شك يضاعف من الحافز لدى واشنطن للتفاوض على وقف لإطلاق النار.


فيما لو حصل، كما يبدو محتملاً، وقام بلد مثل الجزائر بالسعي لفرض تنفيذ أمر محكمة العدل العليا عبر استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، فسوف تواجه الولايات المتحدة معضلة. من الممكن أن تستخدم حق الفيتو لحماية إسرائيل والإشارة إلى أن بلداناً أخرى، وبالذات روسيا، لم تنصع للحكم الأخير الذي صدر عن محكمة العدل العليا بشأن أوكرانيا. ولكنها لو فعلت ذلك، فإنها سوف تسلم موسكو، سيدة الحروب اللسانية، هدية ثمينة.

في رسالة مثيرة هذا الأسبوع، حضت مديرة مركز شتام هاوس للدراسات والأبحاث، برونوين مادوكس، الغرب على رؤية كم بات عرضة لأن تلصق به تهمة النفاق، ومدى أهمية ذلك.

وقالت إن تهمة اللجوء إلى معايير مزدوجة "تصاغ على النحو التالي: الغرب يهتم بالديمقراطية، ولكن ليس عندما يرغب في تنصيب زعماء على هواه في البلدان الأخرى. ويحترم السيادة باستثناء الأماكن التي لا يحلو له ذلك فيها مثل العراق. ويدافع عن حق تقرير المصير في تايوان، ولكن ليس في كتالونيا. ويدعم حقوق الإنسان، ولكن ليس في البلدان التي يحتاج إلى نفطها. ويدافع عن حقوق الإنسان، باستثناء عندما يكون ذلك صعباً جداً، كما هو الحال في أفغانستان.

ومضت تقول: "إذا لم يتم الإجابة على هذه الاتهامات، فإنها سوف تمنح البلدان التي تسعى إلى تقويض الغرب سلاحاً، حتى لو كانت هي نفسها غارقة في النفاق." وفي هذا السياق، فإن تجاهل قرار محكمة العدل الدولية من شأنه أن يعقد المشكلة.

دفاعاً عن إسرائيل، يتضمن الحكم الصادر عن المحكمة جوانب فيها ظلم لها، ناهيك عن أن حماس، نظراً لأنها ليست دولة، لا تخضع للولاية القضائية للمحكمة، والتي تقتصر مهمتها على النظر في النزاعات بين الدول. أي أن حماس نجت بجلدها.

كما يمكن القول إن جنوب أفريقيا استخدمت آلية الباب الخلفي – معاهدة الإبادة الجماعية ومستوى منخفض من الاحتمالية المطلوبة في المرحلة الانتقالية – لتدخل إلى قاعة المحكمة وتترافع بادعاءات يمكن في أفضل الأحوال أن توصف بأنها انتهاكات للقانون الإنساني الدولي.

كما يمكن لإسرائيل أن تحتج محقة بأن فرضية القضية – وجود نية مبيتة لدى إسرائيل لارتكاب إبادة جماعية – لم تخضع للاختبار، وقد لا يحدث ذلك لسنين قادمة.

إلا أن المحكمة لم تمنح جنوب أفريقيا مرادها بالأمر بوقف إطلاق النار كما فعلت في حالة روسيا مع أوكرانيا في عام 2022. بدلاً من ذلك، أمرت المحكمة الجيش الإسرائيلي بعدم ارتكاب أي أفعال
تحظرها المعاهدة، بما في ذلك قتل الفلسطينيين، والتسبب لهم بأضرار جسدية وعقلية، وتجويعهم.

اعتبر الدكتور هنري لوفات، المحاضر في القانون في جامعة غلاسغو، غياب الأمر بوقف إطلاق النار مسألة بالغة الأهمية. "لقد تجنبت إسرائيل صدور الأمر لها بوقف إطلاق النار. في المحصلة، يمكن اعتبار أن الأمر المؤقت يقع ضمن ما توقع الوفد الإسرائيلي صدوره في أسوأ الأحوال. إن الأمر لإسرائيل بأن تتخذ كل الإجراءات ضمن استطاعتها لمنع ارتكاب جميع الأفعال التي تدخل في إطار المادة الثانية، هو بمثابة إعادة تأكيد على الوضع القانوني القائم. وبنفس الشكل، لابد أنه كان متوقعاً من المحكمة أن تطالب بتسهيل دخول المساعدات، الأمر الذي يعتبر دون الآلية الدولية للمطالبة بالتعاون، والتي سعت لضمانها جنوب أفريقيا".

لا ريب في أن إسرائيل سوف تجد طرقاً لتفسير الأوامر الصادرة بحقها حتى يتسنى لها القول بأنها أصلاً تلتزم بها. وفي نفس الوقت لن يعجبها أمر المحكمة بتقييد حرية السياسيين في التعبير، وذلك حين قالت إنه ينبغي على إسرائيل منع التحريض.

بالنسبة للنصف الجنوبي من المعمورة، وبالذات بالنسبة لجنوب أفريقيا، يمثل ذلك انتصاراً كبيراً، ولحظة سوف يتذكرها الجميع لعقود قادمة. فقد تم فتح أمام محكمة مفتوحة ملف معاناة الشعب الفلسطيني في غزة، وتم تصديق المرافعة التي قدمت حول تلك المعاناة. لطالما انتقدت البلدان الأفريقية الكيانات المتجاوزة للقطرية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، بأنها لا تحاكم سوى الأفارقة، على الأقل إلى حد كبير، بينما تغض الطرف عن الجرائم البشعة التي ترتكب في أماكن أخرى من العالم. ولا ريب أن ذلك سيعيد بعض الثقة إلى قيمة هذه الكيانات.

لو أن المحكمة ببساطة أشاحت بوجهها عن أي من المبادئ القانونية التي يُزعم التمسك بها، لتعمق الشك في جدوى اللجوء إلى القانون الدولي كملاذ ممكن لحسم الخلافات، ولتعزز موقف من يرون في المقاومة العنيفة سبيلاً لتحقيق أهدافهم.

للاطلاع إلى النص الأصلي (هنا)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية محكمة العدل غزة الاحتلال الفلسطينيون الولايات المتحدة فلسطين الولايات المتحدة غزة الاحتلال محكمة العدل المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة محکمة العدل الدولیة محکمة العدل الدولی الإبادة الجماعیة الولایات المتحدة جنوب أفریقیا فی غزة

إقرأ أيضاً:

هذا هو البابا الفقير الذي تكرهه إسرائيل

في السادسة من فجر يوم 21 أبريل/نيسان 2025، صدر البيان من دار الصحافة الفاتيكانية ليعلن وفاة خورخيه ماريو بيرغوليو، الذي يعرفه العالم باسم البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان. دقّت أجراس كاتدرائية القديس بطرس، لكن صداها تردد في كل العالم، خاصة في الأرجنتين التي عاش وقاد الكنيسة الكاثوليكية فيها حتى غادرها إلى أوروبا مع توليه بابويته عام 2013.

ومع انتشار نبأ وفاة البابا عن عمر ناهز 88 عاما، احتشد الأرجنتينيون في العاصمة بوينس آيرس لوداع الرجل الذي خدم كنيستهم يوما ما. وفي كاتدرائية المدينة التي كان يرعاها سابقا كرئيس للأساقفة، قال رئيس أساقفة بوينس آيرس، خلال قدّاس التأبين: "لقد توفي والد الجميع، والد البشرية كلها، الذي أصر دائما على أن الكنيسة يجب أن تكون مكانا للجميع.. لقد رحل بابا الفقراء". بهذا اللقب "بابا الفقراء" اشتهر فرنسيس بين البسطاء والمهمشين حول العالم​، فقد اكتسب موقعا استثنائيا كزعيم كنسي ذي رحلة فيها تحولات عميقة وملهمة، لكنه في الوقت ذاته خلّف وراءه إرثا مثقلا بالجدل داخل الكنيسة الكاثوليكية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ماذا تعرف عن عصابة "تران دي أراغوا" التي يهاجمها ترامب بشراسة؟list 2 of 2هل تفعلها إيران وتفكك النووي والصواريخ وشبكة الحلفاء لتفادي الحرب؟end of list

نشأ فرنسيس في أسرة مهاجرة متواضعة من أصول إيطالية عام 1936. عمل والده محاسبا، وكانت جدته روزا ذات تأثير كبير عليه بحكم تديّنها وانخراطها في حركة العمل الكاثوليكي​. عُرف الفتى فرنسيس بخجله وورعه، لكنه أحب أيضا الحياة الصاخبة في شوارع العاصمة. تعلّم لهجة أهلها الشعبية، بل بعض كلمات السباب التي لم يتردد لاحقا -وهو الحبر الأعظم- في استخدامها بطرافة أثناء نقاشاته مع مخالفيه.

إعلان

انضم فرنسيس إلى الرهبنة اليسوعية المعروفة بانضباطها الصارم وأحب نهج الرهبنة التي تُعرف باسم "الجزويت" لأنه يجمع بين التأمل الصوفي والعمل الاجتماعي. لاحقا، سيم فرنسيس كاهنا عام 1969، ولمع نجمه سريعا بين اليسوعيين حتى صار رئيسا للرهبنة اليسوعية في الأرجنتين مطلع السبعينيات.

بابا الفاتيكان مع أحد الحراس (رويترز) الاختبار الأول

بيد أن الشاب فرنسيس واجه امتحانا قاسيا مع دخول بلاده إحدى أحلك فصول تاريخها. ففي عام 1976، وقع انقلاب عسكري يميني بقيادة الجنرال خورخيه فيديلا، معلنا ما عُرف بالحرب القذرة في الأرجنتين. وشرع النظام الجديد في حملة قمع دموية طالت الآلاف من المعارضين، بينهم العديد من الكهنة الكاثوليك المنخرطين في حركة لاهوت التحرير ذات التوجه الاشتراكي.

ووجد فرنسيس نفسه آنذاك في مفترق طرق خطير: هل يتصدى للديكتاتورية دفاعا عن كهنة اختاروا الانحياز للفقراء، مخاطرا بصدام مع السلطة قد يكلفه منصبه أو أكثر؟ أم يلتزم الصمت والحذر، مسايرا موقف الفاتيكان الرسمي المناهض للاهوت التحرير الذي يتهمه بتبني أفكار ماركسية؟​

ككل مراحل حياة فرنسيس، كان يحاول دوما أن يكون في الوسط. اختار فرنسيس حينها منهجا تمثل في محاولة المساعدة الفردية دون الاشتباك السياسي. فقال الرجل وقال شهود إنه حاول مد يد العون سرا لبعض المطارَدين، وقام بتهريب أو إخفاء عدد منهم في مباني اليسوعيين. لكنه في المقابل، وبحكم موقعه الديني الرسمي، حافظ على قنوات حوار عميقة مع السلطة العسكرية.

وأثار موقفه هذا استياء كثيرين من الكهنة التقدميين الذين لُقّبوا آنذاك بالرهبان الحمر، ورأوا فيه تواطؤا مع الطغاة​. وبالفعل وُجّهت إليه انتقادات شديدة لعدم اتخاذه موقفا أكثر حزما ضد الحكم العسكري والاكتفاء بمسايرة نهج الكنيسة الحذر​ أو حتى المؤيد للديكتاتورية. ووصلت التهم إلى حد نشر صحيفة أرجنتينية وثائق تزعم تورط فرنسيس في اعتقال وتعذيب اثنين من الكهنة اليسوعيين المعارضين عام 1976​. ورغم نفيه القاطع لأي تواطؤ​، لم يشفع له ذلك، فعُزل من رئاسة اليسوعيين في الأرجنتين عام 1979 قبل انتهاء ولايته.

إعلان

وبعد زوال الديكتاتورية، سعى فرنسيس إلى تصفية الأحقاد المريرة لتلك الحقبة. ففي عام 2000، عندما أصبح رئيسا لأساقفة بوينس آيرس، التقى بعض رفاقه القدامى من الكهنة اليساريين وتصالح معهم حول ذلك الماضي المربك​. وفي حوار لاحق اعترف بأن أسلوب إدارته حينها شابه العديد من الأخطاء "فقد كنت في الـ36، وكنت مندفعا وسلطويا، لكني لم أكن يمينيا، غير أن أسلوبي المتسلط تسبب في أزمات عديدة".

وهذا الندم الضمني ترافق مع تحول ملموس في نهجه الفكري، إذ بدأ فرنسيس يدرك إمكانية التصالح مع الأفكار التي كان يعارضها في شبابه. ومع مرور السنوات، تزايد ميله إلى قضايا العدالة الاجتماعية وانحيازه للفقراء، مبتعدا عن ظلال الحقبة الفاشية. وعندما اختاره الكرادلة بابا للفاتيكان في 13 مارس/آذار 2013، كان واضحا أنه بات رجلا مختلفا عن ذلك اليسوعي المحافظ أيام الحرب القذرة.

وورث فرنسيس كرسيا رسوليا مثقلا: كنيسة تتعرض للهجوم بسبب فضائح الاعتداء الجنسي على الأطفال، وممزقة بصراعات داخلية بين الإصلاحيين والمحافظين. إلا أن ليلة انتخابه لم تكد تمضي حتى لاحقته أشباح الماضي: ففي بوينس آيرس، ظهر على جدار كاتدرائية العاصمة رسمٌ جداري كبير كُتب عليه بالخط العريض: "البابا صديق فيديلا- ديكتاتور الأرجنتين". لقد ذكّرته بلاده فورا بأن وراءه تاريخا جدليا في أفضل الأحوال.

دعوة للسلام من غير إغضاب المعتدين

منذ لحظة اعتلائه سدة البابوية، رسم فرنسيس لنفسه صورة البابا القريب من معاناة الشعوب، الساعي إلى السلام في عالم تمزقه الحروب. ففي مايو/أيار 2014، قام البابا بزيارة إلى الأراضي المقدسة. وفي مدينة بيت لحم بالضفة الغربية، خرج عن البروتوكول بشكل مفاجئ حين ترجّل من سيارته أمام جدار الفصل العنصري الذي شيّدته إسرائيل، مقتربا من الخرسانة الباردة التي تفصل بين بيت لحم والقدس، ووضع يده عليها بخشوع. هناك تلا صلاة صامتة دامعة لعدة دقائق.

إعلان

وصف فرنسيس جدار الفصل العنصري بأنه "جدار الألم". لم يلق البابا باللوم على المحتل الإسرائيلي بشكل مباشر، وإن كان قد تحدّى بهذا المشهد السلطات في تل أبيب، والتي حاولت تخطيط الزيارة بحيث لا يقترب من الجدار.

دعم البابا حل الدولتين، مؤكدا مرارا أنه لا بديل عن تسوية النزاع عبر إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. وفي لقاءاته المتكررة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، دعا فرنسيس إلى وقف الاستيطان، ووصف الحصار الإسرائيلي على غزة بأنه "مشين". وفي عام 2015 اعترف دبلوماسيا بدولة فلسطين.

ومع اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قام البابا بدور أغضب الإسرائيليين إلى حد بعيد. فمنذ وقت مبكر، بدأ في إجراء اتصالات مكثفة للاطلاع على الأوضاع الميدانية​ بشكل يومي. وتوسعت محاولاته للتهدئة فهاتف الرئيس الأميركي جو بايدن طالبا التدخل، ثم تواصل مرارا مع رؤساء الكنيسة الكاثوليكية في فلسطين، مثل الكاردينال بيتسابالا بطريرك القدس​، وكان يتواصل بشكل يومي مع رعية الكنيسة في غزة.

ولم ترق مواقف البابا هذه للجانب الإسرائيلي. ففي إحدى خطبه الأخيرة قبل وفاته، وصف فرنسيس ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية" ينبغي أن تخضع للتحقيق والمساءلة. لذلك، ما إن أُعلن عن رحيله حتى ارتبك الإسرائيليون ووقعت حادثة دبلوماسية غريبة: فقد حذفت وزارة الخارجية الإسرائيلية بيان النعي الرسمي الذي نشرته في وفاته، ووجّهت سفراءها بإزالة أي تعازٍ له من حساباتهم. ونقل إعلاميون إسرائيليون أن السبب المباشر هو موقف البابا من حرب غزة، رغم علم الإسرائيليين لحساسية ذلك لملايين الكاثوليك في العالم.

وعُرف عن البابا فرنسيس أيضا أنه عارض بشدة التدخل العسكري الغربي في سوريا عام 2013، ونظّم أيام صلاة من أجل السلام في سوريا. وفي العراق، كان فرنسيس أول زعيم للكنيسة الكاثوليكية يزور البلاد عام 2021 بعد سنوات الاحتلال والحرب. هناك أيضا التقى آية الله العظمى علي السيستاني في النجف في لقاء فريد من نوعه.

إعلان حوار الأديان برعاية بابوية

بخلاف سلفه بنديكت الـ16 الذي عُرف بمواقفه الجدلية تجاه الإسلام -إلى حد إلقائه محاضرة اعتُبرت مسيئة للنبي محمد عام 2006​- اتخذ فرنسيس نهجا مغايرا تماما، واضعا نصب عينيه رأب الصدع.

فقد بادر فورا إلى استئناف الحوار مع الأزهر الشريف في مصر، والذي كان قد جُمّد إثر تصريحات بنديكت. وفي مارس/آذار 2013، في الشهر نفسه الذي تولى فيه منصبه، بعث برسالة ودية إلى شيخ الأزهر أحمد الطيب. وبحلول عام 2016، شهد الفاتيكان احتفاء كبيرا باستقبال الإمام الأكبر في روما. ثم ردّ البابا الزيارة في 2017 متوجها إلى القاهرة لحضور مؤتمر للتسامح نظمه الأزهر.

وفي عام 2019، زار فرنسيس الإمارات لحضور مؤتمر "الأخوة الإنسانية" في أبو ظبي. هناك، وإلى جانب شيخ الأزهر، وقّع البابا "وثيقة الأخوّة الإنسانية". وشددت الوثيقة على قيم السلام والحوار والمواطنة، ورفضت بوضوح التطرف والعنف باسم الدين.

وكانت الوثيقة حدثا، إذ لم يسبق لرأس الكنيسة الكاثوليكية أن صاغ إعلانا مشتركا بهذا المستوى مع قامة إسلامية عليا. لذلك لم يكن مستغربا أن يشيد شيخ الأزهر أحمد الطيب بفرنسيس عند وفاته بدوره في تعزيز الحوار الإسلامي المسيحي، واصفا إيّاه بالأخ والصديق.

على الجانب الآخر، اهتم فرنسيس باللاجئين والمهاجرين هربا من الحروب والبؤس الذي غالبا ما تسببت فيه القوى الكبرى. فبدأ منذ عام 2013، زيارة مراكز إيواء اللاجئين في جزيرة لامبيدوزا بإيطاليا، وانتقد لامبالاة أوروبا وحذر من تحول البحر المتوسط إلى مقبرة كبرى.

واحتفى العالم بالرجل حين اصطحب معه على متن طائرته عند عودته من زيارة إلى اليونان عام 2016 ثلاث عائلات سورية مسلمة لاجئة ليعيد توطينها في روما​. أيضا، هاجم فرنسيس دعاة التفوق الأبيض وحمل على عاتقه مهمة مناهضة العنصرية. ففي أعقاب مقتل المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد 2020 على يد الشرطة، ندّد بـ"خطيئة العنصرية" ودعا للراحل وطالب بتحقيق العدل والمساواة.

(الجزيرة) البابا يحب المساكين

لم يكن لقب "بابا الفقراء" الذي أطلق على فرنسيس مجرد تسمية إعلامية، بل كان ترجمة لنهجه. فالبابا القادم من أحياء بوينس آيرس المتواضعة حمل هموم الفقراء بالفعل إلى أروقة الفاتيكان الفخمة، وسعى لتجريد الكنيسة من مظاهر البذخ والسلطة.

إعلان

فضّل فرنسيس الإقامة في بيت ضيافة متواضع داخل الفاتيكان على السكن في القصر الرسولي الفخم، في سابقة لم يعهدها الفاتيكان من قبل. وفي عظته الأولى بعد انتخابه، صرّح تصريحه الشهير: "أريد كنيسة فقيرة.. للفقراء".

ولم يكن هذا مجرد شعار فارغ، فالرجل الذي كان يطهو طعامه بنفسه حين كان كاردينالا، واعتاد التنقل بوسائل عامة في بوينس آيرس، حرص بعد تتويجه بابا على أن تستمر ملامح التواضع تلك، فأصبح يُشاهَد وهو يغسل أقدام السجناء والمهاجرين، وطارت صورته في الآفاق حين انحنى مقبّلا قدم لاجئ مسلم في أحد مخيمات اللاجئين عام 2016.

فكريا، خاض فرنسيس معركة شرسة ضد ما سماه "ثقافة الإقصاء" في الاقتصاد العالمي منتقدا استئثار أقلية ضئيلة بالثروة والموارد. وفي رسالة أصدرها عام 2013 هاجم بشدة عقيدة السوق المنفلتة، قائلا إن "هذه الاقتصاديات تقتل" حين تجعل الفقراء على الهامش وتعبد المال. لقد اعتبر البابا أن النظام الاقتصادي الحالي القائم على الجشع وإقصاء الضعفاء هو خطيئة بنيوية ينبغي التكفير عنها بإصلاحات جذرية.

وفي عهده، استضاف الفاتيكان مؤتمرا دوليا بعنوان "اقتصاد فرنسيس" لجمع رواد الأعمال الشباب وعلماء الاقتصاد لابتكار نماذج اقتصادية عادلة. كما أيّد بقوة الحملات العالمية لتخفيف ديون الدول الفقيرة، وانتقد المؤسسات المالية الدولية حين تفرض إجراءات تقشف قاسية تزيد معاناة الشعوب. وفي إحدى المناسبات وبّخ المجتمع الدولي متسائلا: "كيف لا يكون موت إنسان جائع خبرا، بينما يهتز العالم لهبوط البورصة بضع نقاط؟".

المفارقة أن البابا استعار العديد من هذه الأفكار من تراث لاهوت التحرير الذي كانت الكنيسة قد خاصمته زمنا، وكان البابا أحد أهم الأصوات الرافضة له باعتباره "أيديولوجيا" يرفضها كما يرفض كل الأيديولوجيات. وصار البابا بعد توليه منصبه يندد بالرأسمالية المتوحشة مؤكدا أنها ليست اقتصادا إنسانيا، كما رفض بشدة النزعة اليمينية الشعبوية التي تعادي المهاجرين والفقراء، ورأى فيها خيانة للقيم المسيحية الحقة.

إعلان الجدل بدأ قبل بابويته وسيستمر بعد وفاته

على الرغم من شعبية فرنسيس عالميا، فإن سياسته الإصلاحية أثارت انقساما حادا في الكنيسة الكاثوليكية بين جناح تقدمي مؤيد له وجناح محافظ يراه هادما للأصول التي بُنيت عليها الكنيسة.

فمنذ بدايات حبريته، رحّب بعض الكاثوليك بنبرة فرنسيس تجاه قضايا شائكة. فعلى سبيل المثال، فاجأ البابا منتقدي الكنيسة وأتباعها على حد سواء خلال مقابلة صحفية في يوليو/تموز 2013 حين سُئل عن نظرته إلى المثليين جنسيا، فأجاب بكلمات السيد المسيح: "من أنا حتى أدينهم؟" قوبلت عبارته بإعجاب كبير في الأوساط الليبرالية وحتى خارج الكنيسة، لكنها في المقابل أثارت قلق المحافظين الذين اعتبروها تساهلا غير مقبول مع خطيئة مهلكة.

وسرعان ما تراكمت الانتقادات من داخل الفاتيكان ضد نهج فرنسيس. فقد رأى التيار التقليدي فيه تهديدا لتراث كنسي عمره قرون. وفي عام 2014، عندما دعا فرنسيس إلى عقد مجمع في الفاتيكان لبحث قضايا الأسرة، بما في ذلك مسألة الطلاق والزواج الثاني، ارتفعت أصوات كرادلة نافذين محذرة من أي تغيير يمس تعاليم الكاثوليكية وأسرار الكنيسة. وبعد إصدار البابا لوثيقة فسّرت بفتح بعض الباب أمام طقس المناولة للمطلقين والمتزوجين مدنيا، قام 4 كرادلة محافظين بتوجيه ما عُرف بـ"رسالة الشكوك" يحذرونه من “الانحراف” عن العقيدة. ورغم أن البابا تجاهل الرد على تلك الرسالة علنا، لكن كشف إرسالها عن عمق المعارضة داخل المؤسسة البابوية.

وقد أثار فرنسيس امتعاض رموز التيارات القومية الشعبوية الغربية بدعوته أوروبا لاستقبال اللاجئين ورفضه خطاب كراهية الأجانب الذي أحيانا ما يتبنى سرديات دينية. حتى إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب دخل في سجال كلامي معه في ولايته الأولى عام 2016، بعدما صرّح فرنسيس أن من يفكر فقط في بناء الجدران لا الجسور "ليس مسيحيا خالصا" في إشارة إلى مشروع الجدار الذي أراد ترامب بناءه على الحدود الأميركية مع المكسيك.

إعلان

ولم تأت الانتقادات من اليمين الديني فقط، بل كذلك من التيار الليبرالي، ولكن لأسباب مغايرة. فنشطاء تحرير المرأة داخل الكنيسة أخذوا على فرنسيس استمرار حرمان النساء من سرّ الكهنوت، إذ جدد التأكيد على منع سيامة المرأة قسا، متمسكا بالتقليد الكاثوليكي بهذا الشأن. وقد صرّحت منظمات كاثوليكية نسائية أن البابا "رجل تقدمي في كل شيء إلا حين يتعلق الأمر بالمرأة".

أيضا، تعرض فرنسيس لانتقادات بسبب بطء التحرك ضد المتورطين في قضايا اعتداءات جنسية داخل الكنيسة. فقد رأى منتقدوه أن تحركاته ضد التحرش الجنسي داخل الكنيسة كانت محدودة وغير فعالة. واستشهدوا بحوادث تأخر فيها البابا في معاقبة مسؤولين اتهموا بالاعتداء أو بالتستر على المعتدين، كما حدث في تشيلي 2018 حين دافع بداية عن أسقف متهم قبل أن يعدل عن موقفه تحت ضغط الغضب الشعبي ويقبل استقالته.

ورغم ذلك، استطاع فرنسيس الحفاظ على وحدة الكنيسة الكاثوليكية في حدها الأدنى.

وبعد 12 سنة تقريبا على كرسي القديس بطرس، رحل البابا فرنسيس تاركا وراءه كنيسة مختلفة عما كانت عليه يوم استلمها. لقد خلّف إرثا من التوتر داخل المؤسسة الكنسية​ لكنه أيضا خلّف إرثا من الحيوية والصدق. لقد غيّر فرنسيس صورة البابا في أعين العالم: من أمير متوج في الفاتيكان إلى شخص متواضع يجول بين الناس، يلعب معهم كرة القدم، ويرقص معهم التانغو.

ومع ذلك، فإن مستقبل الإرث الذي خلّفه يظل غامضا. فالتحديات التي واجهها فرنسيس -من إصلاح الكنيسة، والاشتباك مع انعدام المساواة والتطرف والعنصرية، إلى معالجة فضائح الكنيسة الماضية وتحقيق المصالحة الداخلية بين أطرافها- ستبقى حاضرة في المستقبل القريب للفاتيكان.

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية البيلاروسي: الغرب يسخر أدوات السياسة والاقتصاد الدولية لخدمة مصالحه
  • المحكمة الجنائية الدولية تحاصر قادة إسرائيل | رفض تعليق مذكرات الاعتقال ينذر بمحاسبة تاريخية
  • رد صادم من المحكمة الجنائية الدولية على طلب إسرائيل
  • سابقة: محكمة النقض تقضي بحق الإبن غير الشرعي في التعويض من الشخص الذي تسبب في حمل أمه
  • المحكمة العليا في إسرائيل توافق على طلب نتنياهو تأجيل تقديم إفادته على شهادة رئيس الشاباك
  • نحو عالم ما بعد الغرب: الترامبية وإعادة توزيع مناطق النفوذ في العالم
  • الغارديان: قيس سعيد يقوض إنجازات الديمقراطية التونسية بمساعدة من الغرب
  • هذا هو البابا الفقير الذي تكرهه إسرائيل
  • المحكمة العليا في إسرائيل أبقت بعضا من إفادة رئيس الشاباك طي الكتمان
  • ماذا يعني حصول إسرائيل على تأجيل قضية الإبادة الجماعية 6 أشهر؟