النازحون المصابون بـ«الفشل الكلوي» يواجهون الموت البطيء
تاريخ النشر: 27th, January 2024 GMT
نزحت الحاجّة أُم عرفة المريضة بالفشل الكلوي للمرة الرابعة من مدينة بيت لاهيا التي تقع أقصى شمال غزة، كانت قِبلتها الأولى من بيتها إلى مستشفى الإندونيسي الذي يقع شمال غزة خوفًا من تردّي وضعها الصحي؛ فهي تحتاج إلى غسل الكلى ثلاث مرات بالأسبوع على الأقل، ثلاثة أعوام مرّت على وصولها إلى هذه الحال، قالت: بصعوبة تمكنت من الحصول على غسل الكلى لمرة واحدة بسبب كثرة أعداد المرضى والجرحى داخل المستشفى منذ أن وصلت، ولم أستطع أخذ وقتي الكافي بسبب نقص الوقود، ولم يكن هناك مكان أو سرير فارغ داخل قسم الكلى، ومعظم المصابين كانوا ملقون في ممرات الأقسام.
أما النزوح الثاني فقد كان اضطراريا مع بداية الدخول البري لجيش الاحتلال شمال قطاع غزة، توجّهت عبر كرسي متحرك نحو مستشفى الشفاء، وكانت الطريق مزدحمة بالنازحين والشمس حارقة مع نهاية شهر أكتوبر، استغرقنا أكثر من ساعتين حتى وصلنا للمستشفى، بالكاد استطعت الحصول على مرتين من غسل الكلى خلال شهر واحد، كان وضعي الصحي يزداد سوءا يوما بعد يوم بسبب نقص الأودية، تورُّم في الوجه والقدمين بشكل مستمر، صعوبة في التنفس، ارتفاع في ضغط الدم يرافقه ارتفاع في معدل الإنسولين في الدم، عزوف عن الأكل غير المتوفر أصلًا في معظم الأحيان، القصف مستمر في كل مكان، وصلتنا أخبار عن اقتحام مستشفيات شمال غزة (المستشفى الإندونيسي، مستشفى كمال عدوان ومستشفى العودة) والتهديد باقتحام مستشفى الشفاء ما جعل ابنتي تتخذ قرارا بالنزوح إلى جنوب قطاع غزة عبر الممر الآمن بشارع صلاح الدين، كان هناك شرط للدخول وهو عدم اصطحاب أي مقتنيات شخصية من ملابس وأغطية وأدوات أخرى، غادرنا مستشفى الشفاء باتجاه منطقة دير البلح وسط قطاع غزة وجلسنا بالقرب من مستشفى شهداء الأقصى، كانت رحلة شاقة مليئة بالمخاطر، جثث ملقاة في شارع صلاح الدين معظمها وصل إلى درجة التحلل، اعتقالات طالت العديد من النساء والأطفال والشباب والشيوخ خلال المرور.
وصلت للمستشفى، كنت بحالة صحية غاية في الصعوبة، تم حجز موعد للغسل الكلوي بعد عدة أيام، كان قسم الكلى مكتظا بالمرضى بشكل أكبر من المعتاد، مرّت الأيام والأسابيع على هذه الحال فكنت أستطيع إجراء الغسل مرات وأفشل مرات أخرى بسبب تعطل الأجهزة أو عدم توفر الوقود الكافي، تمنّيت الموت مرات عديدة للتخلص من هذه المعاناة، لكن القدر كان يفرض عليّ النزوح الرابع لجنوب قطاع غزة بعد أن أعلن الاحتلال الإسرائيلي عن ضرورة إخلاء منطقة وسط قطاع غزة، تم إطلاق النار بشكل عشوائي من خلال طائرة الكواد كابتر على النازحين قسرًا في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح قبل أسبوعين، توجهنا إلى جنوب قطاع غزة بالقرب من مستشفى أبو يوسف النجار وما زلنا هنا حتى هذه اللحظة، دخلت المستشفى بسبب إصابتي بجلطة قبل أسبوع من الآن، تم إجراء غسل الكلى لمدة ثلاث ساعات متواصلة لأول مرة منذ بداية الحرب على غزة، لا أعلم ماذا سيحل بي خلال الأيام القادمة في ظل الأعداد الهائلة للمرضى بعد نزوح المدنيين من مدينة خان يونس إلى منطقة رفح.
لم يختلف حال الشابّة إنعام العطار عن حال الحاجّة أم عرفة؛ فهي ذات التسعة عشر عامًا تعاني من الفشل الكلوي منذ كانت طفلة صغيرة، ولم تفلح المحاولات المتكررة لزراعة كلى لديها بسبب ندرة فصيلة دمها وعدم وجود متبرع يتطابق مع أنسجتها من الأهل، تنقّلت ما بين الضفة الغربية وجمهورية مصر العربية أكثر من مرة دون جدوى والآن هي موجودة داخل مكان النزوح في مدينة رفح تتلقى العلاج وتخضع للغسل الكلوي ثلاث مرات أسبوعيا، معظم الصحفيين والأطباء يعرفونها فهي ناشطة عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة خصوصًا بعد أن اجتازت الثانوية العامة بتفوق ودخلت جامعة غزة لدراسة التصميم الجرافيكي قبل بداية الحرب على غزة في السابع من أكتوبر الماضي، تأمل إنعام أن تنتهي الحرب وتتمكن من إجراء عملية زراعة الكلى لتتمكن من العيش كباقي صديقاتها، أنهت كلماتها والدموع تسيل على وجهها الشاحب بسبب تردي وضعها الصحي.
مؤسسات حقوقية ومنظمات وهيئات أممية وعلى رأسها وزارة الصحة الفلسطينية رصدت وفاة أربع حالات فشل كلوي نتيجة للأوضاع المأساوية والصعبة التي يعاني منها المرضى داخل مستشفى أبو يوسف النجار بسبب الأعداد الكبيرة للذين يغسلون قبل أيام.
تقول مؤسسة الضمير وهي مؤسسة حقوقية في غزة ان «مستشفى أبو يوسف النجار غير مؤهل للاستطباب بسبب قلة عدد الأسرّة وضيق المكان وعدم نظافته وقلة أجهزة غسل الكلى وعدد الأطباء المتابعين لحالات المرضى، حيث يعاني 1175 مريضا من الفشل الكلوي في قطاع غزة».
في الوقت الذي يتلقى مستشفى أبو يوسف النجار في رفح أكثر من 600 مريض فشل كلوي من النازحين موزعين على 18 جهاز غسيل كلى، ويشار إلى أن المريض يحتاج إلى 4 ساعات يوميا في الحال الطبيعي قبل العدوان الإسرائيلي على غزة، أما الآن فلا يستطيع المريض سوى الحصول على ساعتين كل مرة، في السابق كان المريض يغسل ما يقارب 12 ساعة أسبوعيا موزعة على ثلاثة أيام، أما في ظل الوقت الحالي فهناك معاناة الانتظار الطويل وفقا لإفادة أحد مرضى الفشل الكلوي بأن «هناك قلة المواصلات بسبب الازدحام في الشوارع إضافة إلى صعوبة الحصول على كرسي متحرك، لذلك ممكن أن تصل المستشفى الساعة 2:00 ظهرا ثم ننتظر دورنا للجلوس على جهاز الغسيل لغاية الساعة 2:00 فجرا، بالإضافة إلى عدم ملاءمة المكان من حيث نظافته وصغر حجمه والاكتظاظ الشديد وقلة عدد الأطباء المتابعين لمرضى الفشل الكلوي». وفي ظل عدوان الاحتلال الهمجي، والقصف المتكرر، والمجازر، وجرائم الإبادة الجماعية، والتفريغ المكاني، أصبحت معظم مستشفيات قطاع غزة خارج الخدمة، وعاجزة عن استقبال المرضى. هذه المعاناة تأتي في إطار العدوان الإسرائيلي الذي يستهدف السكان العزل في قطاع غزة في كافة مناحي حياتهم المعيشية والإنسانية والصحية.
لا أعلم لماذا بعد مرور أكثر من 110 أيام تواصل أعداد الشهداء والجرحى ارتفاعها بفعل العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة المتواصلة على سكان قطاع غزة المستمرة وسط عجز دولي فاضح عن وقفها وحماية المدنيين، حيث بلغ عدد الشهداء 26257، في حين بلغ عدد المفقودين الذين تم التبليغ عنهم في قطاع غزة أكثر من 8.000 مفقود، حال العدوان الإسرائيلي دون القدرة على انتشال جثثهم، كما نزح قسرا مئات الآلاف داخل القطاع بعيدا عن أماكن سكناهم، في ظل تدهور متسارع للأوضاع الإنسانية، جراء استمرار العدوان وتوسيع عمليات التوغل البري، والعقوبات الجماعية ومحدودية المساعدات، والمجتمع الدولي ومنظماته الصحية والأطراف السامية الموقعة على اتفاقية جنيف الرابعة ما زالوا صامتين، دون تحمّل مسؤولياتهم القانونية والأخلاقية والتحرك العاجل والفاعل واتخاذ خطوات جادة لمنع حدوث كارثة إنسانية وصحية محققة، والضغط على سلطات الاحتلال الإسرائيلي لاحترام التزاماتها الناشئة عن القانون الدولي الإنساني، وضمان تدفق الإمدادات والرسائل الدوائية والإغاثية والوقود للسكان للحد من التدهور المتسارع للأوضاع الإنسانية والصحية والحياتية لسكان قطاع غزة.
د. حكمت المصري كاتبة فلسطينية من غزة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مستشفى أبو یوسف النجار العدوان الإسرائیلی الفشل الکلوی الحصول على غسل الکلى قطاع غزة أکثر من
إقرأ أيضاً:
الناس تموت دون رصاص.. صحة غزة تناشد العالم إدخال طواقم طبية مجهزة للقطاع
طالب مدير عام وزارة الصحة في قطاع غزة الدكتور منير البرش بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي وإجباره على السماح بإدخال الطواقم والطبية لإنقاذ سكان الشمال، مؤكدا موت عشرات الآلاف بسبب تدمير المستشفيات.
وقال البرش، في مقابلة مع الجزيرة، إن الاحتلال ما زال يماطل بشدة في تنفيذ الجوانب الإنسانية التي تضمنها اتفاق وقف إطلاق النار، خصوصا إدخال الأدوية والأجهزة الطبية ومولدات الكهرباء.
ويرفض الاحتلال -حسب البرش- نقل معدات ومستشفيات ميدانية من جنوب القطاع إلى شماله الذي يعيش توقفا شبه كامل للخدمات الصحية.
دعوة لإدخال طواقم طبيةكما طالب البرش بإدخال الوفود الطبية للمشاركة في إجراء العمليات النوعية التي أجروا الكثير منها خلال الحرب، ولتعليم الكوادر المحلية القيام بهذه الجراحات.
وقال إن إدخال هذه الوفود أهم من إخراج الجرحى بكثير شريطة أن يسمح لها باصطحاب كامل تجهيزاتها التي يتطلبها إجراء العمليات اللازمة، لأنها غير متوفرة بالقطاع.
وأكد البرش ضرورة إجبار الاحتلال على فتح ممر آمن لإخراج الجرحى الذين لم يخرج منهم إلا عدد قليل جدا حتى الآن. وأضاف أن "هناك قائمة بأسماء 400 طفل دون سن السادسة تم تسليمها، لكن الاحتلال يعيد العشرات منهم لأسباب أمنية".
إعلانوشدد على ضرورة "تفويج أكثر من 12 ألفا و500 مريض يحتاجون خروجا عاجلا بشهادة منظمة الصحة العالمية"، مشيرا إلى أن 100 طفل ماتوا خلال الفترة الماضية بسبب تعنت الاحتلال في إخراجهم، رغم أنهم حصلوا على حق العبور بعد تطبيق وقف إطلاق النار.
وينص الاتفاق على خروج 300 جريح يوميا لكن من يخرجون لا يتجاوزون 38 شخصا، غالبيتهم من الأطفال وليس من الجرحى، كما قال البرش.
كارثة أكبر من الحرب
ويعيش الشمال كارثة تفوق ما كان عليه الوضع خلال الحرب، وذلك بسبب غياب الخدمات الطبية بشكل كامل، خصوصا لمن يعانون الفشل الكلوي وأمراض القلب وغيرها من الأمور التي تتطلب رعاية دقيقة، حسب البرش.
ولم يعد المستشفى الإندونيسي قادرا على العمل بسبب عدم وجود وحدة أكسجين أو مولد كهرباء، وهي أمور يقول البرش إنها أساسية لتشغيل المستشفيات، وينص الاتفاق على إدخالها بشكل عاجل وهو ما لم يحدث.
ونص الاتفاق أيضا على إدخال الوقود وألواح الطاقة الشمسية ومستشفيات ميدانية، بعضها موجود فعليا في الجنوب، لكن الاحتلال لا يسمح بنقله للشمال، وفق ما أكده مدير عام وزارة الصحة.
وكان يفترض أن يتم نقل مستشفى ميداني قطري من 600 سرير وآخر تابع لمنظمة أطباء بلا حدود الفرنسية، غير أن البرش أكد منع الاحتلال نقل هذه المستشفيات للشمال حتى الآن.
ويعاني الشمال -حسب المتحدث- من أزمة في التعامل مع مرضى الغسيل الكلوي، حيث يتسع مستشفى الشفاء لسبعين حالة فقط، في حين أن 200 حالة جديدة وصلت بعد السماح للنازحين للعودة.
مستشفى كمال عدوان بشمال قطاع غزة (أرشيفية-الجزيرة)وأدى تدمير المستشفيات في القطاع لوفاة أضعاف من ماتوا برصاص الاحتلال، وفق تعبير البرش الذي أكد أن غياب الخدمات الصحية كان سببا في موت عدد كبير جدا من المرضي الذين كانوا بحاجة لخدمات عاجلة ودقيقة.
وحاليا يعاني الناس بسبب المنخفض الجوي الذي يضرب القطاع، حيث لجأ الناس للمستشفيات، في حين لا يوجد أي مستشفى أطفال في الشمال، ولا يوجد أي مكان لإجراء عمليات الغسيل الكلوي.
إعلانوخاطب القائمون على قطاع الصحة المنظمات الأممية والدولية، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية بكل ما هو مطلوب لتشغيل المستشفيات وإنقاذ حياة الناس، لكن الاحتلال يعطل وصول هذه الطلبات، وفق ما أكده البرش.
وقال مدير عام الصحة في القطاع "لقد تكشفت لنا حقائق وصعوبات ومشاهد تفوق ما كنا نعيشه خلال الحرب نفسها، فمن مات بسبب نقص الخدمة الصحية أكثر بكثير ممن استشهدوا برصاص الاحتلال".
وأضاف "على سبيل المثال، وجدنا أن 40% من مرضى الغسيل الكلوي وحدهم ماتوا بسبب عدم تقديم الخدمة لهم خلال الحرب"، مؤكدا أن "عشرات آلاف السكان ماتوا بسبب تدمير المستشفيات وإخراجها من الخدمة".
وتم إطلاع ممثل الأمين العام للأمم المتحدة للمناطق المحتلة وممثل مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوتشا) على الأوضاع في مستشفى الشفاء اليوم الخميس، سعيا لحل هذه المشكلة التي يقول البرش إنها ترجع في جزء منها إلى البيروقراطية التي تخضع لها المنظمات الأممية والدولية والتي تعطل القيام بالأمور العاجلة انتظارا لموافقة الاحتلال.