أمريكا وسياستها التجارية - الحلفاء يطالبون بموقف واضح من إدارة بايدن
تاريخ النشر: 27th, January 2024 GMT
ترجمة: قاسم مكي -
السياسة التجارية هي المجال الحاسم الذي يواجه فيه جو بايدن تحدي التوفيق بين مصالح العمال الأمريكيين من جهة وحلفاء الولايات المتحدة من جهة أخرى. وهؤلاء يشكلون «جماعتي المصلحة» المفضَّلتين لديه.
لننظر فيما صرحت به مؤخرا لايل برينارد كبيرة المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي حول عرض شركة الصلب اليابانية العملاقة «نيبون ستيل» لشراء شركة الصلب الأمريكية «يو إس ستيل.
ففي حين يرحب بايدن بمقدَم الصناعيين من حول العالم لبناء مستقبلهم في أمريكا بالوظائف الأمريكية والعمالة الأمريكية تحدثت برينارد عن بايدن قائلة «هو يعتقد أيضا أن شراء هذه الشركة الأيقونة (الرمز) التي تملكها أمريكا بواسطة كيان أجنبي (حتى إذا كان هذا الكيان من بلد حليف) يبدو بحاجة إلى إخضاعه لتدقيق جاد حول تأثيره المحتمل على الأمن القومي وموثوقية سلسلة التوريد».
ترجمة أو معنى قولها هذا كالتالي: نعم. لقد أبلغنا الحلفاء كاليابان بأننا نريد أن نقرِّبهم فيما نحن نحاول فك الارتباط مع الصين في مجالات استراتيجية كصناعة الصلب والرقائق الإلكترونية والسيارات الكهربائية وغير ذلك. لكننا لانزال نشعر بالقلق من أنهم (أي الحلفاء) سيتعاملون مع الصين ويفضلون انتاجهم المحلي الخاص في وقت الضيق أو ينقلون وظائف صناعة الصلب إلى ولايات متدنية الرواتب وتطبق قوانين «الحق في العمل» بحيث يصعب فيها تكوين النقابات العمالية. وهذا يجعل الرئيس يبدو خيارا سيئا (للناخبين) حين يكون دونالد ترامب على وشك بدء حملته الانتخابية استنادا إلى سياسة «أمريكا أولا» التجارية المتشددة.
هذه مخاوف مشروعة. ففي مقابلة على قناة فوكس نيوز شجب الصفقة روبرت لايتهايزر الممثل التجاري السابق للولايات المتحدة في عهد إدارة ترامب والذي من المحتمل أن يتولى هذا المنصب مرة أخرى إذا أعيد انتخابه.
لقد سبق أن نجح لايتهايزر في الضغط على اليابان للحد من صادرات الصلب والسيارات والسلع الأخرى حين كان نائبا لوزير التجارة في إدارة ريجان. وهو الآن يعبر عن فكرة يتفق حولها عديدون في اليسار والمنظمات العمالية. فهنالك تباين متجذر بين سياسة حرية التجارة الحرة «سياسة دعه يعمل» والتي تفترض فرصا متساوية وتنافسا نزيها بدون دعم حكومي أو مصالح أمن وطني وبين اقتصادات تديرها الدول وتفترض عكس ذلك.
اقتصاد اليابان على خلاف الصين لا تديره الدولة. لكنه من بعض النواحي يشكل تحديا أكثر تعقيدا للمسؤولين عن الإجراءات التنظيمية في لجنة الاستثمار الأجنبي بالولايات المتحدة والذين سيدرسون صفقة نيبون.
اليابان حليف. لكن شركة نيبون مثلها مثل شركات عديدة في البلدان الحليفة للولايات المتحدة لديها عمليات لفروعها في الصين. وهذ يثير تساؤلا حول المدى الذي ينبغي أن يتقيد به الحلفاء بالسياسة الداخلية لواشنطن تجاه الصين لممارسة الأعمال بالولايات المتحدة في القطاعات الإستراتيجية.
ما هو أكثر من ذلك في حين تتبني اليابان ظاهريا اقتصاد حرية السوق إلا أن نظام «كيريتسو» الياباني الذي يتسم بتداخل ملكية أسهم الشركات وعلاقات الأعمال وينحو الى تفضيل الشركات المحلية يشكل تحديا. (حسب هارفارد بيزنس ريفيو كلمة كيريتسو مصطلح ياباني يشير الى شبكة من الشركات التي تعمل في مجالات متمايزة ومكملة لبعضها البعض كشركات الصناعة والتوريد والتوزيع والمؤسسات المالية. وتتميز الشبكة بملكية الأسهم المتبادلة حيث تمتلك العديد من الشركات أسهما في الشركات الأخرى- المترجم.)
الإدارة الأمريكية الحالية ملتزمة بموجب أحكام المادة 232 من قانون التوسع التجاري بزيادة انتاج الصلب المحلي في الأجل الطويل. هل يمكن حقا ضمان قيام شركة متعددة الجنسية في آسيا بذلك؟
فإذا كانت هنالك على سبيل المثال كارثة طبيعية أو حرب عطلت سلاسل التوريد العالمية ماهي الجهة التي ستكون لها الأفضلية في الحصول على انتاج شركة نيبون من الصلب داخل الولايات المتحدة؟ هل هي اليابان أم أمريكا؟
هذه الأسئلة يمكن بالطبع التعامل معها بحنكة عبر اتفاقيات قانونية في حال تم السماح باندماج الشركتين نيبون ستيل اليابانية ويو إس ستيل الأمريكية. لكن هنالك قضية أعمق على المحك. فماهي بالضبط السياسة التجارية لإدارة بايدن؟ وكيف تختلف عما يمكن أن تكون عليه سياسة ترامب التجارية إذا أعيد انتخابه في نوفمبر القادم؟
يريد حلفاء أمريكا أن يعرفوا ذلك. ويمكن التماس العذر لهم إذا شعروا أنهم يتلقُّون رسائل متناقضة حول ذلك. فمن المفترض أن يشمل نقل الصناعة الأمريكية إلى الأصدقاء بلدانا صديقة كاليابان مثلا. لكن عندما يتعلق الأمر بالصناعات الإستراتيجية البالغة الأهمية مثل الصلب ربما تلك ليست هي الحال. أو ربما يمكن أن تكون تلك هي الحال إذا تعهدت الشركة المعنية بتشغيل العمال المنظمين نقابيا وعدم العمل في الصين.
من يعلم! وتلك هي المسألة هنا. فالعالم يحتاج بشدة الى المزيد من الوضوح من جانب الولايات المتحدة حول التجارة.
لماذا لم يأت هذا التوضيح حتى الآن؟ أحد أسباب ذلك الاختلافات في الطريقة التي يتصور بها المسؤولون عالمَ فك الارتباط (بين اقتصاد الولايات المتحدة والصين).
يتلهف البعض في قطاعي التجارة والأمن إلى عقد صفقات تجارية جديدة مع الحلفاء لمواجهة نفوذ الصين الاقتصادي خصوصا في آسيا. وآخرون مثل الممثلة التجارية للولايات المتحدة كاثرين تاي يدافعون عن نموذج تجارة ما بعد كولونيالي «تجارة مرحلة ما بعد الاستعمار» يرتكز على مقاربة مشتركة بين الدول تجاه العمل والبيئة. تقرُّ هذه الإستراتيجية بأن نظام السوق الحالي ببساطة لا يمنح العمل والبيئة الأولوية والمؤسسات من شاكلة منظمة التجارة الدولية ليس الغرض من إنشائها أن تفعل ذلك.
أنا أتفق مع ذلك على الرغم من أن بعض الحلفاء كالاتحاد الأوروبي لا يوافقون عليه. كما يمكنني أيضا المحاجَّة بأن البيت الأبيض لن يكون قادرا على اقناع باقي العالم بهذه المقاربة ما لم يوضح بجلاء أكثر وبالتفصيل الكيفية التي تختلف بها سياسات بايدن التجارية عن سياسات ترامب ولماذا هي أفضل من السياسات الأخرى.
هنالك حجة قوية يمكن الدفع بها. مثلا القول بأن نظام دعم الطاقة النظيفة في الولايات المتحدة يمكن أن يخدم بشكل أفضل بلدان جنوب العالم مقارنة بآلية الإتحاد الأوروبي لتعديل ضريبة الكربون الحدودية خصوصا إذا عُرِض نقلُ التكنولوجيا من الولايات المتحدة في مقابل ضمان أمن سلاسل التوريد والموارد.
ويبدو أن بعض البلدان الصاعدة اقتنعت بمقاربة إدارة بايدن حول نمو الاقتصاد من أسفل الى أعلى ومن الوسط الى الخارج لدعم العاملين من خلال السياسة الاقتصادية. (تشير عبارة من أسفل الى أعلى في هذه المقاربة الى السياسات التي تخص بالأولوية مساعدة من يقبعون في أسفل السلم الاقتصادي كأصحاب الأجور الضعيفة من الأفراد والعائلات فيما تركز عبارة من الوسط الى الخارج أو الأطراف على تقوية الطبقة الوسطى - المترجم.)
دافع نائب الوزير الماليزي للاستثمار والتجارة عن وجهة النظر هذه في مدونة على منصة «لينكد ان» قبل شهور قليلة جاء فيها أن مقاربة كاثرين تاي تنطوي على إمكانية إنهاء «السباق نحو القاع» خلال الأربعين عاما الماضية. (تقصد الكاتبة الفترة التي تنافست فيها البلدان والشركات في خفض معايير العمل والضوابط البيئية وقواعد الحماية الاجتماعية لجذب الاستثمار.)
لدى ما بعد الليبراليين الجدد « أنصار ما بعد الليبرالية الجديدة» في الإدارة الأمريكية حجة جيدة. لكنهم لم يطرحوها بشكل جيد حتى الآن.
يجب السماح لهم بأن يفعلوا ذلك. لا يمكن لأي أحد أن يهزم مقاربة ترامب «أمريكا أولا.» وبايدن بحاجة إلى توضيح مقاربته الخاصة به ولماذا هي أفضل.
رنا فوروهار كاتبة عمود الاقتصاد العالمي ومحرر مشارك في فاينانشال تايمز
عن الفاينانشال تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة ما بعد
إقرأ أيضاً:
هل تفكك إيران الثلاثية المقدسة.. النووي والصواريخ وشبكة الحلفاء؟
بعد أسابيع من التهديد الأميركي وممانعة من جانب إيران، وفي ظل مشهد إقليمي شديد التوتر والاضطراب، انطلقت في 12 من أبريل/نيسان الجاري الجولة الأولى من المباحثات بين واشنطن وطهران التي تجري بوساطة عمانية للوصول إلى اتفاق جديد حول البرنامج النووي الإيراني.
وفي وقت لاحق؛ أجريت الجولة الثانية يوم السبت 19 أبريل/نيسان في العاصمة الإيطالية روما، لم تسفر الجولتان عن شيء معلن، لكن الطرفين وصفا كلًّا من الجولتين بأنها "بنّاءة".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الزورق في مواجهة البارجة.. الحرب البحرية المحتملة بين أميركا وإيرانlist 2 of 2الصين تعلمت الدرس من اليابان.. كيف تهزم البحرية الأميركية؟end of listتجري المفاوضات في ظل استمرار التهديد الأميركي بأن طهران ستواجه عملا عسكريا يستهدف منشآتها النووية إذا فشلت المفاوضات في الوصول إلى اتفاق خلال 60 يوما من بدايتها، في حين أنه قبل عقد من الزمن؛ استغرقت المفاوضات بين القوى الكبرى وطهران 18 شهرا كاملة للوصول إلى الاتفاق النووي الذي وُقع في مدينة لوزان السويسرية في 2 أبريل/نيسان 2015، والذي انسحب منه ترامب لاحقا في 8 مايو/أيار 2018، مما أدى إلى انهياره.
ثمة دوافع لدى الطرفين لإنجاح المباحثات، في ظل رغبة طهران في تفادي تبعات التصعيد المحتمل في المنطقة وتفويت الفرصة على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي يمارس ضغوطا شديدة على ترامب لإقناعه بأن العمل العسكري هو السبيل الوحيد لتحييد الخطر النووي الإيراني.
إعلانلكن السقف المرتفع -المعلن حتى الآن- من قبل الرئيس الأميركي الذي يشمل تخلي طهران عن برنامجها النووي بشكل كامل، فضلا عن تقليص قدراتها الصاروخية وتحجيم حضورها الإقليمي، قد يجعل طهران أمام موقف لا تستطيع فيه التخلي عمّا يمثل لها ضرورات أمنية وجودية، مما يعقد فرص الوصول إلى اتفاق ويفتح الباب للتصعيد مجددا.
بدأت إيران في إحياء برنامجها النووي منذ قرابة ثلاثة عقود، لم تنتج فيها القنبلة النووية ولم تتخلّ عن البرنامج، ومنذ ذلك الحين ظلّ هذا البرنامج يمثل مادة رئيسية لصراعها مع الغرب من جهة ولرحلتها الذاتية لاستعادة المكانة التاريخية من جهة أخرى. فماذا يمثل البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ وما هي احتمالات التخلي عنه أمام الضغوط الأميركية؟ وهل يمكن أن تنجح جولات المباحثات الجارية؟
قصة البرنامج النووي والضرورات الجيوسياسيةخلال سنوات الحرب الباردة؛ اعتبرت الولايات المتحدة إيران البهلوية جزءًا من إستراتيجيتها لاحتواء الاتحاد السوفياتي في آسيا. كانت إيران التي يحكمها الشاه وتركيا التي يحكمها الكماليون تمثلان بالنسبة للولايات المتحدة حزاما أمنيا جيواستراتيجيا يفصل بين الاتحاد السوفياتي ومنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.
استطاع الشاه الاستفادة من برنامج الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور "الذرة من أجل السلام"، الذي عبر عنه للمرة الأولى في خطابه عام 1953. اقترح أيزنهاور على الدول النامية -في سياق الحرب مع الاتحاد السوفياتي- فرصة لحيازة القدرات النووية، ولكن في إطار الاستخدامات المدنية في قطاعات الزراعة والطب وتوليد الكهرباء وغيرها، ولمتابعة هذه المبادرة تأسست "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" وحددت العاصمة النمساوية فيينا مقرا لها.
في هذا السياق؛ وقّعت إيران اتفاقية تعاون نووي مع الولايات المتحدة عام 1957. وفي عام 1959، أنشأ الشاه مركز أبحاث نووية في جامعة طهران، وبعد تسع سنوات، بدأ تشغيل المفاعل النووي الإيراني -الذي وفّرته الولايات المتحدة- بقدرة 5 ميغاواتات.
إعلانحصل الشاه على الخبرة التقنية وشرع في تخصيب اليورانيوم لخدمة البرنامج النووي. وحتى الإطاحة به عام 1979، كانت إيران قد تعاونت مع الولايات المتحدة وفرنسا والهند والأرجنتين وجنوب أفريقيا وألمانيا، بحسب جيوبوليتيكال فيوتشرز، للمساعدة في بناء مفاعل بوشهر النووي. أنفق الشاه 6 مليارات دولار لبناء منشآت نووية، وخطط لإنفاق 30 مليار دولار أخرى لبناء 20 مفاعلًا نوويًّا.
بلغ إجمالي الميزانية السنوية لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، التي أسسها عام 1974، 1.3 مليار دولار، محتلةً المرتبة الثانية بعد شركة النفط الوطنية الإيرانية. ورغم توقيع إيران على اتفاقية حظر الانتشار النووي عام 1968، لم يكن ثمة شك في أن الهدف النهائي للشاه هو تطوير وامتلاك أسلحة نووية.
لاحقا؛ بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية؛ أفتى آية الله الخميني بأن تصنيع الأسلحة النووية مخالف للشريعة الإسلامية تأسيسا على أن مبدأ "الدمار الشامل" يتناقض مع أخلاقيات الجهاد والقتال في المنظور الإسلامي، ومن ثم أصدر توجيها بتفكيك البرنامج النووي للبلاد، مما أدى إلى هجرة علماء الذرة الإيرانيين إلى دول أجنبية.
وبعد عام واحد وبضعة أشهر من الثورة؛ أشعل العراق شرارة الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثمانية أعوام كاملة (1980- 1988)، ويبدو أن قادة إيران الجدد قد شعروا بالندم على تفكيك البرنامج النووي الذي جرى بالتزامن مع عمليات تفكيك وإعادة هيكلة واسعة لقوات الجيش في أعقاب محاولة الانقلاب على حكومة الحسن بني صدر في يوليو/تموز 1980، وكلاهما أضعف القدرات العسكرية والردعية للبلاد في مواجهة العراق على نحو بالغ، وربما لو كان البرنامج النووي قائما لما أقدم العراق أصلا على مهاجمة إيران.
بعد انتهاء الحرب، وفي ظل حصار دولي يمنع طهران من تحديث قدراتها العسكرية التقليدية على النحو الأمثل وخاصة قدرات سلاح الجو؛ خلص قادة إيران إلى ضرورة إعادة بناء البرنامج النووي جنبا إلى جنب مع برنامج آخر لتطوير الصواريخ الباليستية بغية تعويض نقص الطائرات المقاتلة المتطورة.
إعلانوفي عام 1989، وقّعت إيران مع الاتحاد السوفياتي أول اتفاقية نووية بينهما. وفي عام 1993، بعد أن رفضت ألمانيا استئناف بناء مفاعل بوشهر النووي، أعلن بوريس يلتسين أن روسيا ستكمله.
إحياء البرنامج النووي تزامن مع توسع إيران الإقليمي لتحقيق ما يسمى "الردع الأمامي" عبر شبكة من الحلفاء والوكلاء على امتداد مجالها الحيوي، مما مثل تهديدا مباشرا لإسرائيل التي تصر منذ ذلك الحين على أنها لن تسمح لإيران بالتحول إلى قوة نووية.
وعلى مدار السنوات القليلة التي سبقت طوفان الأقصى، اغتال عملاء، مرتبطون على ما يبدو بجهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد، أربعة علماء إيرانيين وأصابوا آخر. وفي أبريل/نيسان 2021، دمّر انفجار غامض، نفذه الموساد أيضا على الأرجح، ورشةً لأجهزة الطرد المركزي تُنتج اليورانيوم المُخصّب في منشأة نطنز النووية، على بُعد 200 ميل جنوب طهران.
لماذا نجح الاتفاق في 2015؟ وما الذي تغير الآن؟في 2015؛ وافقت إيران في اتفاقية "خطة العمل الشاملة المشتركة" (JCOPA) التي وقعتها مع عدد من القوى الدولية (الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وألمانيا) على كبح تقدم البرنامج لمدة 15 عاما -على الأقل- بتعليق عمل أكثر من ثلثي أجهزة الطرد المركزي وتخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم إلى أقل من 3.67%، وعدم بناء أي منشأة جديدة بغرض تخصيب اليورانيوم خلال 15 عاما. وذلك؛ مقابل رفع العقوبات الغربية عن طهران.
في تلك السنوات حدث أمران جعلا الحل الدبلوماسي ليس ممكنا للطرفين فحسب، بل مفضلا، بحسب جاكوب شابيرو، مدير مركز العمليات الأسبق في ستراتفور. أولًا، برز تنظيم الدولة عدوا مُشتركا للولايات المتحدة وإيران، واحتاجت الولايات المتحدة إلى مساعدة طهران وحلفائها في العراق لخوض الحرب ضد التنظيم.
إعلانوثانيًا، بدأ نظام العقوبات الذي تقوده الولايات المتحدة يؤثر بشدة في الأوضاع الداخلية في إيران، إذ كانت الأوضاع الاقتصادية تتدهور، وكانت إدارة حسن روحاني على استعداد لمقايضة أجهزة الطرد المركزي واليورانيوم بفتح البلاد أمام الاستثمار الأجنبي، ووصول النفط الإيراني إلى أسواق العالم دون قيود، وتحسين جودة الحياة في إيران.
بيد أن ترامب يقول إن الاتفاق كان "كارثيا"، ويوافقه آخرون في الولايات المتحدة، لأنه سمح لإيران بالاستفادة من رفع العقوبات وتحسين أوضاعها الاقتصادية وفي نفس الوقت الاحتفاظ بالقدرات النووية الأساسية وبالتقنيات اللازمة لإعادة تطوير البرنامج متى أرادت، فضلا عن امتلاك إيران العديد من الكهوف والأنفاق التي يُمكن إخفاء الأنشطة النووية فيها، في حين تُركز عمليات التفتيش على منشآت معروفة نظرًا إلى قلة المفتشين واتساع مساحة البلاد.
كما لم يتناول الاتفاق برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، الذي يتضمن صواريخ متعددة المدى والحمولة، ويقول معارضو الاتفاق إن بعضها مُصمّم لحمل رؤوس نووية متى وُجدت. والأهم من ذلك كله؛ أن الاتفاق لم يتضمن خططا لتحجيم نفوذ إيران الإقليمي الذي يتمثل في شبكة من الوكلاء تطوق المشرق العربي وتعرض حلفاء واشنطن للخطر.
والحقيقة أن أوباما لم يكن بأقل حرصا من ترامب على تفكيك مجمل قوة إيران، حيث لا يوجد داخل الولايات المتحدة خلاف يذكر على أن إيران تمثل تهديدا يجب تفكيكه وتحييده. لكن أوباما كان يدرك أن تلك الملفات لا يمكن حلها جملة واحدة، وأن طهران ليست بصدد الاستعداد لمناقشة نفوذها الإقليمي الذي تراكم عبر عقود تحت أيّ ضغوط. كانت الإستراتيجية البديلة هي استخدام الحوافز الاقتصادية لدفع إيران إلى مزيد من الاتفاقات الجزئية سعيا لمزيد من مزايا الانفتاح على الاقتصاد العالمي.
إعلانفي 2018 وأثناء وجود ترامب في السلطة؛ كان خطر تنظيم الدولة قد جرى تحييده نسبيا، مما سهل له الانسحاب من الاتفاق بشكل أحادي، وبدلًا من استخدام حافز تعزيز العلاقات الاقتصادية، فرض عقوبات صارمة على إيران دفعتها إلى النكوص عن التزاماتها تدريجيا، ومن ثم انهار الاتفاق.
واليوم يعود ترامب إلى البيت الأبيض وقد بدا له أن هناك فرصة تاريخية لتحييد التهديد الإيراني مرة واحدة إلى الأبد، بعدما تضررت قدرات إيران الإستراتيجية في السنتين الأخيرتين، وذلك من خلال إجبارها على تفكيك مصادر قوتها الثلاثية: البرنامج النووي، والقدرات الصاروخية، وشبكة الحلفاء من غير الدول.
في المقابل؛ ثمة أصوات في إيران أصبحت تقول إن طريقا واحدا تبقى أمام إيران لتحتفظ بقوتها الإقليمية وهي إنتاج القنبلة النووية، بل أوردت صحيفة التلغراف البريطانية في فبراير/شباط الماضي أن قادة عسكريين إيرانيين طلبوا من المرشد الأعلى، علي خامنئي، إعادة النظر في الفتوى التي سبق أن اعتمدها بتحريم أسلحة الدمار الشامل.
وطبقا لمركز الدراسات الإستراتيجية والأمنية الأميركي ستراتفور؛ كثفت إيران نشاطها النووي بشكل كبير خلال العام الماضي، وسرعت إنتاجها من اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى 60٪، وهو ما يقترب جدًّا من معيار 90٪ الذي يُعد هو المطلوب لإنتاج القنبلة.
وفي فبراير/شباط الماضي، أفادت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن مخزونات إيران من اليورانيوم العالي التخصيب ارتفعت بأكثر من 50٪ إلى 274.8 كيلوغراما في الأشهر الثلاثة الأولى بعد انتخاب ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
علاوة على ذلك، خلصت المخابرات الأميركية مؤخرًا إلى أن إيران كانت تجري أبحاثًا تقنية حول كيفية صنع قنبلة نووية بدائية بسرعة إذا قررت قيادتها تطوير أسلحة نووية، وفقا لتقرير قدمه مدير الاستخبارات الوطنية إلى الكونغرس في يوليو/تموز 2024.
إعلانيعني ذلك أنه في حين يرى البعض أن ما تلقته إيران من ضربات استهدفت قوتها الإقليمية مؤخرا سوف يدفعها إلى المرونة في المفاوضات تفاديا لغضب واشنطن، فإنه في سيناريو آخر قد يدفعها إلى إسراع الخطى في طريق حيازة السلاح النووي لترميم ميزان الردع المتضرر، في ظل حالة العداء البنيوي مع الغرب التي يدرك معها قادة طهران أن طريق التسوية الشاملة مع الولايات المتحدة والغرب سيبقى مسدودا إلى الأبد.
كيف ستسير المفاوضات إذن؟بعد وصوله إلى البيت الأبيض؛ أعاد ترامب تفعيل سياسية "الضغوط القصوى" على طهران واضعًا هدفا رئيسيا يتمثل في إيصال صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر، ويناقش مسؤولو إدارته خططا لتفتيش ناقلات النفط المشتبه في أنها تحمل نفطًا إيرانيًّا خاضعًا للعقوبات في نقاط اختناق عالمية رئيسية، مثل مضيق ملقا، حسبما ذكرت وكالة رويترز في 6 مارس/آذار.
وفي إطار ذلك؛ ألغت الولايات المتحدة إعفاء العراق من العقوبات على طهران في 8 مارس/آذار، الذي كان يسمح له باستيراد الكهرباء الإيرانية.
ورغم الآثار المباشرة لهذه الحملة على الاقتصاد الإيراني، مثل هبوط العملة المحلية إلى أدنى مستوياتها تاريخيا وارتفاع التضخم، فإنه على المدى المتوسط، تستطيع إيران التعايش مع هذه التهديدات واحتواءها داخليا، مما يجعلها تبدو ليست في عجلة من أمرها أثناء التفاوض.
بيد أنه على المدى البعيد لا تستطيع طهران تحمل العزلة الاقتصادية عن العالم، إذ لم يُصمَّم الاقتصاد الإيراني ليكون منعزلا كما في حالة كوريا الشمالية. تحتاج إيران إلى إيصال النفط لأسواق العالم بوصفه مصدرا رئيسيا من مصادر الدخل، كما اعتادت بنوكها العمل بنظام سويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك) الذي أخرجتها منه واشنطن بعد العقوبات، كما أن اقتصادها يعتمد أنماطا من السوق الحرة التي يحتاج فيها المستثمرون إلى التواصل مع الأسواق العالمية.
إعلانوبما أن البرنامج النووي قد أسسته إيران أصلا ليكون أداة للردع، فإنها ستكون مستعدة لمقايضة عملية تقييده مرة أخرى بمكتسبات تشمل الحفاظ على مصالحها وضروراتها الإستراتيجية مثل تعزيز الوضع الاقتصادي ووقف الانهيار الجاري، والأهم هو قطع الطريق على العمل العسكري الذي تهدد به الولايات المتحدة وتتحفز له إسرائيل. في هذه الحالة سيكون البرنامج أداة ردع يعمل بشكل فعال وكفء.
لكن ستكون هناك معضلة في المفاوضات إذا استمر ترامب في رفع سقف مطالبه بتحجيم القدرات الصاروخية أو توقف طهران عن دعم حلفائها في الإقليم، وليس مجرد التفاهم حول حدود هؤلاء الحلفاء فحسب. سيكون من المستبعد تماما أن يتخلى الحرس الثوري الإيراني عن أي من الملفين، حتى وإن كانت تيارات أخرى في الدولة أكثر مرونة ستكون مستعدة لذلك.
ولأن إدارة ترامب تبدو غير متفقة بشكل نهائي على ما تريده من طهران، فإن ذلك يفتح الباب لاحتمال الوصول إلى اتفاق جزئي، إذا جرت عقلنة المطالب والتصورات من الطرفين، ومن الولايات المتحدة أولا.
يُذكر أنه في 15 أبريل/نيسان، دعا المبعوث الخاص للرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إيران إلى إنهاء برنامجها للتخصيب النووي. وقبل ذلك بيوم، وبعد اجتماعه مع وزير الخارجية الإيراني في عُمان، صرّح ويتكوف لقناة فوكس نيوز بأن الإدارة تسعى فقط إلى فرض قيود على قدرات إيران على التخصيب، وليس إلى التفكيك الكامل.
وتقول صحيفة نيويورك تايمز إن هذا التحول جاء بعد اجتماع في البيت الأبيض ضمّ ويتكوف، ونائب الرئيس جيه دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، ومستشار الأمن القومي مايك والتز، ومدير وكالة المخابرات المركزية جون راتكليف.
ووفقًا للصحيفة، يرى كل من فانس وهيغسيث وويتكوف أن التوصل إلى اتفاق يتطلب الاكتفاء بوضع قيود على برنامج طهران النووي، بينما يرى روبيو ووالتز أن "التفكيك الكامل" للبرنامج على نمط ما فعله العقيد الليبي معمر القذافي عام 2003 هو الضمانة الوحيدة لإنهاء خطر إيران النووية.
إعلانفي المقابل؛ لا تزال لدى إيران أوراق قوة تحتفظ بها، فبرغم ما يمكن أن يقال عن أضرار تعرضت لها قوة إيران وحلفائها مؤخرا فإنه لا يزال لديهم الكثير جدا مما يمكن أن يؤذي الولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهة صفرية. كما تعرف إيران أيضا أن ترامب -في الحقيقة- لا يريد سيناريو الحرب ولا يريد تحمل تكلفة صراع لن ينتهي في ظل حاجته إلى التفرغ لمعركته الإستراتيجية الطويلة الأمد مع الصين.
والخلاصة أنه إذا استمرت الولايات المتحدة في تصعيد مطالبها إلى السقف الذي يصطدم بضرورات إيران الإستراتيجية التي يستلهم منها النظام الحاكم شرعية وجوده، فإن احتمال الاتفاق يبدو منعدمًا، ويبقى احتمال العمل العسكري قائما. وإذا ابتعدت مطالب واشنطن عن فكرة التخلي عن البرنامج الصاروخي بصفة خاصة وعن شبكة الحلفاء الرئيسيين فإن احتمال الوصول إلى اتفاق جزئي سيكون مرتفعًا، في ظل حاجة الطرفين إلى ذلك.