الاخ طارق
قد يقول احدهم" ده وقتو؟" وقد يجأر آ خر" الناس في شنو والحسانيه في شنو" فلنقل "ناس للحرب وناس للانتاج واخرين للاعلام...وهكذا تتوزع المهانة في الدولة الحديثة".
إسماعيل آدم محمد زين
" خلاص بعد ده ديل ناسي و ما بصاحب غيرهم" هكذا تكلمت بتول بت حاج المبارك أو ماما بتول كما يناديها أهل الحلة، فهي معلمة الروضة وناشطة في العمل الطوعي، قامت علي إنشاء الردمية للشارع الذي يربط القرية مع شارع الاسفلت، كما تقوم علي شأن الجمعية التي تخدم في المناسبات المختلفة.
قبل حوالي عقدين من الزمن، تواصلت معنا أ. محاسن زين العابدين ،عليها الرحمة لمساعدتها في الانتقال إلي العاصمة ،وهو أمر عسير ، خاصة للمعلمين.إتصلتُ بمسؤول كبير في التربية و التعليم و لكنه للأسف لم يفعل شيئاً و الأنكي عندما حاولتُ الاتصال به علي هاتفه، تم تحويلي إلي السكرتاريا! فيا لهم من مسؤلين غير مسؤلين! لا أدري شعور هؤلاء بعد أن فارقوا السلطة! أو التسلط! و قد تكرر هذا الأمر مع مسؤول آخر! كما أكده لي مسؤول كبير لا ينتمي إلي التنظيم و حكي عن ألوان الأقلام، فهو إن أراد أن ينجز لك طلباً، سيمهره بلون معين ، إتفقوا عليه! فأنظر ،هداك الله!
جاء محمد أسامه يحمل ثرامس الشاي ،كما جاءت إخواته يحملن الكيك اللذيذ،جاءت طيبة، كما جاء أولاد الفكي، محمد جاء يحمل كرتونة بسكويت! جاءت الطرشاء بت خديجة وقد أطلقت زغرودة عذبة لأول مرة أسمع زغرودة سعيدة ! كان حفلاً رائعاً و جميلاً، تجسد فيه الوفاء و الاخاء و العطاء من الطرش، لذلك صدقت بتول بت حاج المبارك.
بدأت معرفتي للطرش ،حين شعرتُ بالحاجة إلي مدرسة، فتكلمت مع أسامة بابكر، حول مبادرة لإنشاء مدرسة للصم بالقرية تعلمهم لغة الاشارة و بعض الحرف و المهارات، مثل النجارة وسرعان ما قاطعني أسامة ،قائلاً " نجارة شنو؟ ديل أذكي منك و مني، دايرين نعلمهم الكمبيوتر" و من المدهش بأنه لم يُجري تدريب علي النجارة و مع ذلك فقد تعلم محمد أسامة النجارة و يمتلك الآن ورشة يعمل فيها عدد من الصم و أضحت ملتقي للصم و البكم في الأمسيات، فهي تطل علي شارع الأسفلت.ملتقي للأنس و للتشاور و النفير.
ومما زاد دهشتي فقد كانت أول مهارة يدرسونها، هي تشغيل الكمبيوتر! فقد تحصلتُ علي 10 حواسيب من الهيئة القومية للاتصالات بتوسط من بروفسير محمد علي حمد، عميد كلية الهندسة بجامعة الخرطوم. كان للهيئة القومية للاتصالات مشروعاً قومياً للمعلوماتية، تم فيه توزيع أجهزة الحواسيب للمدارس و الجامعات و النقابات.
كان لوصول الكمبيوترات أثراً كبيراً في الاسراع بانشاء المدرسة، إذ حفزت الصم للتجمع و العمل في تجهيز لافتة للمدرسة و إعداد المنزل الذي تبرع به د. خليفة يوسف لبدء الدراسة، فله خالص الشكر و الثناء.أيضاً قاموا بتكوين جمعية و إعدوا قائمة بأسماء الصم و البكم في قري المنطقة و قد زاد العدد عن المائة، بما فيهم كبار السن و الأطفال، بمعدل أصم بكل قرية ! هذه نسبة قليلة لعدد القري الذي يزيد عن المائة قرية! وقد لا تكون الاحصائية شاملة، إذ نجد أعداد الصم في بعض القري كبيراً.لسبب واحد وهو زواج الأقارب، لذلك يوصي بعدم التزاوج بين الأقارب، إذا ما وجدت بعض الأمراض الوراثية، مثل الصمم.
تبدو كثرة أعداد ألصم بالمنطقة كظاهرة و هو في تقديري قد لا يكون صحيحاً، ففي المدن لا نراهم في الشوارع كثيراً، لقلة حركتهم، أما في المناطق الريفية فهم و غيرهم من ذوي الهمم يندمجون في المجتمع و يمارسون حياتهم بشكل جيد. لذلك نحتاج إلي إحصاءات دقيقة لنحدد ما إذا كانت أعداد الصم ترتقي إلي ظاهرة وفقاً لمؤشرات الاحصاء.
اليوم قرأت خبراً مفرحاً حول توصل علماء الصين إلي علاج جيني للصمم، الأمل في وصوله إلي السودان.
تمكنا بدعم من بعض الجيران و الاخوة من تجهيز مبلغ لاحضار عدداً من الصم للكشف الطبي في مستشفي إبن سيناء و ذلك للاعداد لعمل سماعات. وقد كانت رحلة لا تنسي، إذ حضر بعضهم لأول مرة للخرطوم ومن هنا جاء الود والوفاء من قبل هذ المجموعة الطيبة، لمستها عند زياراتي للقرية و ترحيبهم بي و دعوتهم لشرب الشاي أو القهوة. و الآن تجسد الحب و الوفاء في حفل وداعهم و البلاد تشهد كرباً و فواجع، لم تصل الحرب إلي المنطقة حتي مغادرتي بعد فترة.ظللت أؤكد لمن ألتقي بأن الدعم السريع أو الجنجويد سيصلوا إلي المنطقة ، بل إلي إي مكان في السودان، فهم أحفاد أنصار المهدي! وقد وصلوا قبل أكثر من 100 عام إلي كل مكان و ذهبوا حتي إلي ما بعد حدود إثيوبيا و حدود مصر.
فشلنا في إحضار بقية الصم لاجراء الكشف الطبي و هو ضروري لشراء السماعات، كما عجزنا عن إحضار الجهاز المتنقل من مستشفي إبن سيناء إلي المنطقة لعمل الكشف علي السمع. أمر يؤكد ضعف ثقافة العمل الطوعي في البلاد، مما يتجلي في عدم إقدام الأفراد علي العمل مع ضعف التمويل، إذ لا يقدم الناس علي التبرع كما في الغرب الكافر!
فيا لها من مفارقة! كان للأهل دور مهم في إنشاء المدرسة، مثل أسامة بابكر و محجوب الفكي و آخرين كثر، ساهموا بالمال و الرأي.كذلك جمعية الشارقة الخيرية ،عبر الشيخ جابر- فلهم عاطر الثناء و الشكر. فقد كان للمدرسة قصص نجاح يمكن أن تروي، مثل تفوق أم كلثوم عثمان في الشهادة الثانوية الفنية،إذ تحصلت علي المرتبة الأولي ! وهي شهادة يجلس إليها الجميع الصم و غير الصم وهم الأكثر عدداً! مما مكنها من دخول جامعة السودان للعلوم و التكنولوجيا و تخرجها في الفنون الجميلة.أذكر أن أم كلثوم جاءتني محتجة علي عدم تكريمها، قبل عشرة أعوام عند تدشين مهرجان التميز و الابداع الاول بدلقا،بالرغم من أنها تحصلت علي 81%!و قد وعدتها بالتكريم لاحقاً إن شاء الله- وقد حدث، فقد كرمناها عند تفوقها في الشهادة الثانوية الفنية بقرية الشخ البصير في المهرجان الثالث.فيا لهمة الصم و نبوغهم! وعزيمتهم.
قبل الحرب ، ربما بعامين أطلقتُ مبادرة لتعليم لغة الاشارة للخريجين في اللغات و الاعلام و غير ذلك من التخصصات، بما يسهل من عملية إدماج الصم في المجتمع و لخدمة الخريجين بتعزيز فرصهم باكتساب مهارة إضافية تُيسر لهم فرص العمل في قنوات التلفزيون العالمية كمترجمين و ربما مقدمي برامج، إضافة للعمل في مدارس الصم و في الجامعات مع تحسن أوضاع الصم و البكم في البلاد ،إن شاء الله.لم تجد المبادرة إستجابةً و لكن مع الحرب و النزوح وجدت فرصة لتحريك المبادرة و أثرتها مع بعض الاخوة، منهم من سخر! وأتهمني بالحلم "إنت بتحلم" و منهم من زجرني قائلا " هذا وقت الاستنفار" وعلي كل حال واصلت السعي و إتصلت مع لجنة المقاومة و دون نتيجة مع دعوتي للتسجيل و قد حان وقت الدراسة و لا شئ في الأفق! حتي أخبرني العوض محمد العوض بان أتصل علي أبوعبيدة أيوب و عبد الهادي محمد أحمد، إذ يُشهد لهم بعلو الهمة في العمل العام و فعلاً تواصلتُ معهما و كانا فوق توقعي! همةً و عزيمة مع إستقامة و عمل دون كلل و يعتمد عليهما في إنجاز المهام و تحدي الصعاب.
تحصلت علي موافقة مديرة المدرسة و شابة من النازحين، لديها إلمام بلغة الاشارة و معلمة من قرية قنب، وافقت علي العمل.عند إنشاء مدرسة الصم كانت توجد معلمة واحدة و قد تطوعت حتي قيام المدرسة و تم إستيعابها.الآن يوجد عدد من الملمات بلغة الاشارة و قد تحصلت إحداهن علي درجة الدكتوراة و قد حاولت الاستعانة بها، إلا أنها غادرت البلاد للخارج!ساهمت أ.حنان بشير بجهد في العمل و التنسيق.
تسببت هذه الحرب في كارثة أخري، لا يحس بها الناس حالياً و هي هجرة ما تبقي من كوادر مدربة- أطباء، مهندسين و معلمين و غيرهم.ولكم أن تحصوا من هاجر من وسطكم.
قمتُ بزيارة المدرسة وقد فوجئت بعدم وجود حمامات ! حاولتُ مع آخرين صيانة الحمامات و قد تعذر الأمر، وقد وجدنا الحل في إستخدام دورة المدرسة الثانوية، بفتح باب يؤدي إليها، فهي مجاورة.سيخدم الدارسين و النازحين المتواجدين بالمدرسة.فقد وجدتُ أسرة مقيمة بالمدرسة و لم يشكلوا عبئاً أو إزعاجاً بالرغم من وجود عدد من الأطفال.وقد وجدنا من رب الأسرة أبوعبيدة تعاوناً كبيراً في نظافة الشارع و المدرسة، إضافة لتقديمه نموذجاً لامكانية الانتاج الزراعي في البيوت و الحيشان، فقد شرع منذ وصوله في زراعة الخضروات مثل الملوخية و البامية و كان يبيعها تحت شجرة قريباً من المدرسة و شارع الأسفلت.الذي ربط القري و أضحت جنباته سوقاً طولياً، بدءاً من قنب إلي دلقا و الحليلة و بقية القري.وهو قد يكون بديلاً للسوق الكبير الذي يدعو لانشائه عمنا المهندس محمد سعيد يوسف، سيوفر السوق فرصاً للعمل و ربما زيادةً في الانتاج و تخفيضاً للأسعار.
عقب نظافة المدرسة، تم تنظيم الافطار بالاتفاق مع بعض الأسر الميسورة الحال بتجهيزه.كما تبرع السيد\عمر قسم السيد بالصيوان و الكراسي لليوم الافتتاحي للدورة. وقد شرف الحفل د. عبد الازق الطيب و ود الكريستاوي من قبل المنظمة همة.وكان لمديرة التدريب دوراً مهماً في العمل و تمكنت من إستقطاب دعم مقدر من ضابط وحدة المجيريبا، السيد\أيمن و ذلك باعداد الشهادات.مما وفر علينا جهداً ومالاً كثيراً.
لقد فاق الاقبال علي الدورة كل التوقعات، خاصة و أصوات المدافع و قعقعة السلاح ليست ببعيدة. تم قفل التسجيل بعد إكتمال العدد المستهدف وهو 20 دارساً.وعند بدء الدراسة وصل العدد الي 33، مما إضطرنا للتسجيل لدورة ثانية.
جاءت الأستاذة سناء من قرية الولي حيث تقوم بالتدريس في مرحلة الأساس و تحدثت عن مشكلة عدم وجود مدرسة ثانوية للصم وإنقطاع طالبتين عن الدراسة بعد إكمالهن لمرحلة الأساس.لذلك تناقشنا في إمكانية إنشاء مرحلة ثانوية عليا مع صعوبة تحرك الصم في المدن.و مخاطر الطريق.لذلك ثمة حاجة ملحة لانشاء المرحلة الثانوية.بمدرسة دلقا. ثمة أسباب مختلفة لاقبال الأفراد علي تعلم لغة الاشارة.
لم أتمكن من حضور نهاية الدورة الأولي وإحتفال التخرج.فقد ىإستلمت التأشيرة للسفر إلي خارج البلاد و كما أشرت في بداية المقال،طلبت قائمة باسماء الصم للسعي إلي مدهم بأجهزة موبايل ذكي، خاصة لمن لا يتوفر لديه جهاز في الوقت الحالي.مع خدمة الانترنيت، بما يمكنهم من التواصل مع بعضهم و مع أصدقاء الصم و هي مجموعة الدارسين،فقد حولنا إسمها لتصبح أصدقاء الصم و أضفنا إليها عددا من المهتمين بالعمل العام. مع الأمل في مزيد من العضوية.وإنشاء صفحة علي الفيس بوك.
بعد سفري و إعادة النظر و كتابة هذه الرسالة، توصلت إلي رؤي إضافية، آمل أن تجد إستجابة ممن يتوصل إليها،بنشرها و توصيلها لجهات قد تساعد هذه الفيئة الهميمة.
1- مدهم بسماعات بعد إجراء الكشف الطبي.
2- تزويدهم بأجهزة الموبايل الذكي.
3- خدمة الانترنيت، ربما عبر شركات الاتصالات: زين،سوداني و إم تي إن. أو من خلال المبادرة العالمية للانترنيت المجاني التي يقوم عليها مارك زوكيربيرجر و ألان ماسك.و المعروفة باسكاي لينك.sky link
4- صيانة مدرسة الصم و البكم بقرية دلقا و زيادة الفصول مع تحسين البيئة.
5- إنشاء المرحلة الثانوية.
6- دعم صندوق التكافل للصم لمساعدتهم في الأعمال الصغيرة.
فهيا و معاً للاسناد و الدعم و النشر في كافة الوسائط لخدمة هذه الفيئة، ليس في دلقا و لكن في كل أنحاء البلاد، مع بقية ذوي الهمم، من المقعدين و فاقدي البصر.
في الختام الشكر للاخوة الذين ساهموا و ساعدوا في قيام هذه الدورة، منظمة تنمية و تطوير منطقة الحلاوين (همة)، د. عبد الرازق الطيب، ود الكريستاوي و أز،العوض محمد العوض، عارف أحمد، د. صلاح الماحي، عمر قسم السيد وأ. أفراح حسن عليو كل الأهل بقرية دلقا.
دورة لغة الإشارة للخريجين
حفل الوداع
azaim1717@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: لغة الاشارة فی العمل من الصم
إقرأ أيضاً:
التيجاني عبد القادر: كان انصلح تعليما لو كان فينا مجنون قرية أوغيدي
لا أعرف مثل الدكتور التيجاني عبد القادر من عزز فكرتي عن أن المدرسة، نتاج بخت الرضا، مصممة لقطع الآصرة بين الطالب وثقافة المحيط. فقام ذلك المعهد فينا على فرضية تبشيرية استعمارية معروفة وهي أن استعمارهم غيرهم هو استنقاذ لهم من ثقافتهم المتوحشة، أو الفقيرة على أقل تقدير. وصمم الإنجليز منهجهم للتعليم في بخت الرضا على جعل المدرسة هي الفانوس في بلد للظلام الدامس يعاني من أنيميا في الثقافة حادة. وسميت هذه المدرسة الخارجة من رحم هذه الفلسفة "المرأة الحسناء في منبت السوء" في كتابي "بخت الرضا: التعليم والاستعمار". فاشتكى التيجاني في مقال أخير عن أيامه بمدرسة أم روابة الوسطي في النصف الأول من الستينات من أنه خرج جاهلاً بأم روابة في حين احتشدت المعارف في رأسه عن بلاد تركب الأفيال. (وقال إن الدراسة كانت إلى يومهم بمصاريف ترفع بتفاوت عن فقراء الناس خلافاً لذائعة مجانية التعليم في السودان منذ آدم وحواء التي تعشعش في أذهان صفوتنا). والحكاية التي استفادها من الكاتب النيجيري شنو آشيبي، مؤلف رواية "الأشياء تتداعى"، غاية في البلاغة بمقتضى الحال. فإلى مقال التيجاني:
والحديث عن ام روابة ومدرستها الوسطى-في الستينات- يطول، ولكن وأنا أعود بالذاكرة الى الوراء-بعد سنوات طويلة في التدريس والبحث- أخذت تتداعى إلى ذهني ملحوظات صغيرة أضعها هنا لمن يهمه الأمر. أولاً: كانت المدرسة بمثابة واحة مفصولة جغرافياً واجتماعياً عن القرى التي أتينا منها وعن المدينة التي أتينا إليها. ثانياً: كانت المدرسة كخزانة كبيرة للمعلومات-في وقت لم يوجد فيه تلفزيون أو كومبيوتر أو هواتف جوالة- فكان الاهتمام منصباً على ضخ الكلمات والأسماء والمعلومات. أما المعلومات على علاتها فلم تكن مرتبطة بسياق محلى-سواء السياق الجغرافي أو الثقافي-الاجتماعي. فرغم أنه كانت تقدم لنا مادة كثيفة عن خرائط العالم ومواقع المدن والانهار، إلا أنه لم يُقدم لنا درس واحد عن مدينة أم روابة التي كنا نسكن فيها، فلم نتعرف على موقعها الجغرافي، وعلاقتها بالصحراء في الشمال والجبال في الشرق، ولم نتعرف على مصادر مياهها العذبة التي كنا نستمتع بها، ولم سُميت بهذا الاسم. كما لم تُتح لنا فرصة لنتعرف على من كان يسكنها من الناس، وماذا فيها من صناعات وزراعات وتجارات. ورغم أن مدينة ام روابة كانت من أكبر أسواق المحاصيل الزراعية- السمسم والصمغ العربي والفول السوداني والكركدي- ألا أن تلك المحاصيل على أهميتها لم تجد مساحة في مقرراتنا الدراسية التي كانت مشغولة بمواطن زراعة القمح والقطن في الولايات المتحدة، وبنهر الميسيسبي والبحيرات الخمس وصناعة الحديد في ديترويت وريو دى جانيرو عاصمة البرازيل!
وفى المحصلة النهائية كانت معلوماتنا عن العالم تزداد، ولكن "الفجوة" بيننا وبين مجتمعنا المحلى-ناساً وأشياء وعلاقات- كانت تزداد أيضاً. ازداد احساسنا بالعالم الخارجي الكبير، ولكن "حسنا الاجتماعي" لم يكن ينمو كثيراً، ولم تصبح "المسئولية الاجتماعية" جزءاً من تكويننا الثقافي. كان ينبغي أن يقال لنا-على سبيل المثال- أنه لا يوجد شيء في الحياة يُعطى "مجاناً"، وأن ما نتمتع به "مجاناً" من وجبات وخدمات وكراسات وكتب كان له "ثمن" دفعه مزارعو السمسم والفول البسطاء، فينبغي أن نتعرف عليهم، وأن نشكرهم، وأن نشعرهم بأن هذه "الفاتورة" دين مؤجل في رقابنا سنرده في يوم من الأيام.
لم يكن المقرر الدراسي يركز على مفاهيم التطوع والعمل الجماعي والمشاركة والتعلم عن طريق الممارسة والتعلم من المجتمع. لم أر طيلة السنوات الأربع التي قضينا في تلك المدرسة تلميذاً يشارك في إطفاء حريق أو تشييع جنازة (وكنا نرى في كل أسبوع منزلاً من القش يحترق، وشخصاً من الناس يُشيع إلى المقابر). هذا النوع من التعليم-على جودته العلمية- يعزز بصورة غير مباشرة نزعة فردية مع رؤية نفعية للحياة وتعال على المجتمعات المحلية، وينعكس ذلك في صور من الاستهانة بالممتلكات العامة والحرص على الحقوق "المجانية"، مع اغفال الواجب الوطني، إلى غير ذلك من السلوكيات التي بلغت ذروتها في العروض الاجرامية التي نرى نماذج منها فيما تقدمه الآن قوات الدعم السريع وهي تجتاح المدن فتدمر آبار المياه والصيدليات ومراكز غسيل الكلى وتنهب الطواحين وتدمر محولات الكهرباء وتقطع الأسلاك الناقلة للتيار الكهربائي-مما يشير الى أن حصوننا مهددة من الداخل، وأن أسرنا ومعابدنا ومدارسنا ليست على ما يرام.
ملحوظة أخيرة:
يشير الروائي النيجيري الشهير-شينوا آجيبىي- في مذكراته أنه حينما كان تلميذاً صغيراً في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي كان يتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة بقرية أوغيدى. أراد مدرس الجغرافيا ذات مرة أن يغير الروتين، فطلب من التلاميذ أن يجلسوا خارج الفصل تحت شجرة من أشجار المانجو، وأخذ يشرح لهم درساً يتعلق بجغرافية بريطانيا العظمى. فما كان من مجنون القرية (the village mad-man) وقد كان يقف قريباً من شجرة المانجو يستمع إلى الدرس، ما كان منه إلا أن تقدم نحو المدرس وخطف منه الطبشورة ثم مسح ما كان من بيانات على السبورة وأخذ يلقى على التلاميذ درسا مطولا عن قرية أوغيدى التي أتوها من القرى المجاورة. يقول الأستاذ شينوا في تعليقه على تلك الحادثة أنه صار-حينما يعود بالذاكرة الى الوراء- يدرك أن من كان يدعى بمجنون القرية قد توفر له "وضوح في الرؤية" جعله أول من يدرك شذوذ الحالة التعليمية في نيجريا، أراد ذلك "المجنون" أن يقول "للعقلاء" إن التلاميذ لا يحتاجون فقط إلى التعليم الذى يضعه المستعمر، وإنما يحتاجون أيضا لمعرفة تاريخ وحضارة مجتمعاتهم المحلية. (أما في حالتنا نحن فلم يسعفنا الحظ فيدخل علينا أحد "المجانين"!) ولا قوة إلا بالله.
ibrahima@missouri.edu