بقلم: تاج السر عثمان بابو لكن من جهة أخرى لا ننسي الدور الكبير الذي لعبته حكومة مصر في تمويل مشاريع البنية التحتية الأساسية من : سكك حديدية، نقل نهري، طرق وكبارى، ميناء بورتسودان، منشآت صحية وتعليمية، بريد وبرق، الخ، حيث دفعت حكومة مصر أكثر من 6 مليون جنية لتمويل هذه المشاريع، وكان ذلك بضغط من الإدارة البريطانية والتي كانت ترى أهمية السودان لمصر ولمصلحتها في مياه النيل.
المعسكر الذي كان مؤيدا للإدارة البريطانية كان يركز على الجوانب الايجابية : التنمية الاقتصادية، والاستقرار الذي حدث، لكنه لم يمتلك الأفق لفهم الهدف من وراء ذلك من زاوية مصلحة الإدارة البريطانية، ولم يطرح مطالب اضافية تتمثل في : اصلاحات سياسية وإدارية مثل المطالبة بإدارة السودانيين لانفسهم ، وفترة زمنية محددة لاستقلال السودان، بل طالب باستمرار الإدارة البريطانية نسبة لأن السودانيين في تلك الفترة كانوا غير قادرين على إدارة انفسهم، ولم يرنفع صوته بنقد سياسة الضرائب الباهظة على السودانيين (لأنهم كانوا شركاء ولهم نصيب فيها: زعماء القبائل، ورجال الإدارة الأهلية. الخ)، كما لم يرفض زيادة أسعار السكر واحتكاره من الحكومة، ولم يرنفع صوته لنقد سياسة الإدارة البريطانية تجاه المتعلمين السودانيين والظلم الواقع عليهم في الترقيات والخدمة، وغير ذلك. 2 من الجانب الآخر كان هناك معسكر الحركة الوطنية ( حمعية الاتحاد السوداني، اللواء الأبيض ) والذي ربط مصير واستقلال السودان بوحدة وادي النيل والكفاح مع مصر ضد بريطانيا كخطوة نحو استقلال السودان، وأغلب هذا التيار كان من المتعلمين الذين تجاهلتهم الإدارة البريطانية، وعبر عن نفسه سياسيا وتنظيميا في جمعيات سرية وبالمنشورات الذي كان يحرض بها ضد الإدارة البريطانية، وكان هذا المعسكر يركز في نقده على الضرائب الباهظة التي ترهق كاهل السودانيين وضد احتكار الحكومة للسكر، وضد سياسة الحكومة باطلاق يد المبشرين المسيحيين الجنوب الذين يعمقون الكراهية والفرقة بين الجنوب والشمال، وضد انتزاع الأراضي بالقوة من مواطني الجزيرة. الخ، وهذا النقد كان صحيحا ، الا أن شعار وحدة وادي النيل لم يكن جاذبا لقطاعات كبيرة من الجماهيرالتي كانت لا زالت تذكر فظائع المصريين خلال الحكم التركي، والذي كانت تشير اليه الإدارة البريطانية في صراعها ضد المصريين ، وأنها جاءت لتخلصهم من تلك الفظائع ، وتمنع تكرارها، وأن البديل لهم حكم المصريين بكل ما يحمل من ظلم وقهر، هذا اضافة لمصالح الاقطاع والرأسمالية في مصر لضم السودان وعرقلة تطوره الاقتصادي والاجتماعي ، من هذه الزاوية كانت هناك نقطة ضعف في شعار الاتحاد مع مصر. 3 هذا الصراع كما هو معروف شكل البذور الأولي للحركة الوطنية والسياسية السودانية الحديثة ، حيث انقسم الجزء الأكبر منها على نفسه فيما بعد في أحزاب اتحادية تطالب بوحدة وادي النيل ، وأحزاب استقلالية تطالب بالسودان للسودانيين نحت التاج البريطاني( حزب الأمة) بعد انفراط عقد مؤتمر الخريجين في نهاية الحرب العالمية الثانية 1945. هذه الخلفية تساعدنا في فهم علاقة جمعية اللواء الأبيض بمصر، وعلى الرغم من أن تكوين الجمعية كان يقتضى أن تقتصر العضوية على السودانيين فحسب، الا أن بعض المصريين قد قُبلوا كأعضاء سريين ، وكانوا يعقدون اجتماعات مع قيادة الجمعية (
محمد عم بشير ، المرجع السالق، ص 87). ساهم أعضاء كل من جمعية الاتحاد السوداني واللواء الأبيض بمصر في ارسال مقالات للصحافة المصرية، اذ أنهم كانوا يعملون في سبيل نفس الأهداف التي رمى اليها الوطنيون المصريون. حسب محمد عمر بشير أنه ” من الخطأ أن نفترض أن جمعية اللواء الأبيض كانت واجهة سياسية لمصرأو أنها قامت بوحى من المصريين ( محمد عمر بشير المرجع السابق، ص 87). وفي نفس الوجهة يقول ب.م. هولت ” أنه من الخطأ أن نصور السودانيين في تلك الفترة وكأنهم مجرد أدوات للمصالح القومية المصرية”. كذلك يقول تقرير ايوارت ” أن التوجه نحو السياسة المصرية هذا مبنى على ما يخدم المصالح الوطنية ، أما الدعوة لوحدة وادي النيل ، فهى دعوة فقط للتخلص من البريطانيين أولا ثم المصريين بعد ذلك، وأن السخط الذي برز بين الطبقات التي اشتغلت بالسياسة اعمق من أن يٌرى على السطح” ( راجع تقرير ايوارات، في محمد سعيد القدال ، تاريخ السودان الحديث ، القاهرة 1993، ص 312). كانت أغراض الوطنيين المصريين والسودانيين متوافقة ومتماثلة، وكان للعون والتأييد المصرى بما في ذلك العون المالي ُ ظاهر، وبوجه أخص عندما شكلت فيما بعد في عام 1923 لجنة برلمانية لشؤون السودان لما زار حافظ رمضان السودان. كما يرى محمد عمر بشير ” أن اللواء الأبيض كالاتحاد السوداني حركة سودانية اصيلة خالصة عملت لصالح السودانيين بالتعاون مع الوطنيين المصريين ، لكنها لم تكن بوقا للقاهرة على الاطلاق” ( محمد عمر بشير، المرجع السابق، ص 87). ففي نداءات جمعية اللواء الأبيض لجماهير الشعب السوداني أن لم يكن في ندائها للقاهرة لم تأبه كثيرا بالوحدة السياسية لوادى النيل، اذ انصرف اهتمامها الي مظالم السودانيين المحلية في مواجهة البريطانيين.( محمد عمر بشير ، مرجع سابق، ص 87). ويستدل محمد عمر بشير على رأيه بمقال لحسين شريف كُتب لجريدة التايمز، أكد فيه هذه النظرة، ففي رأيه – وهو رجل لا يمكن أن يُتهم بالانحياز للمصريين – أن حركة اللواء الأبيض قامت للأسباب التالية: – عدم الرضا بالنسبة للاخطاء الادارية التي ارتكبتها الحكومة كمشروع الجزيرة مثلا. – الشك في نوايا بريطانيا المستقبلية. – ازدياد الوعى الوطني ومصادرة الحريات عقب الحرب. – التطلعات الوطنية التي وجدت طريقها الي قلوب الكثيرمن السودانيين. – أثر الخلاف بين بريطانيا ومصر على السودان. – حددت مصر نواياها لمستقبل علاقاتها مع السودان بينما لم تحدد بريطانيا نواياها. وقال كذلك أن الحركة في جوهرها سودانية على الرغم من أنها تبدو مصرية في الظاهر( المقال في المصدر الساابق ، محمد عمر بشير ، ص 87). وكان موقف حسين شريف بدأ يتغير من موقف معاد لجمعية اللواء الأبيض ومصر الى موقف معتدل، وقد احتوى مقاله على نقد للإدارة البريطانية اذ قال: وأخذت التطلعات الوطنية للطبقات المتعلمة والمستنيرة في النمو، فلقد كان المتعلمون فيما مضى يطالبون باصلاحات داخلية مثل انشاء جمعيات محافظة، واصلاح سياسة التعليم، والادارة والنظم المالية ، ومشروع الجزيرة.، وازالة القيود على حرية الصحافة والخطابة والاجتماع وغيرها من اوجه الاصلاح، لكن الحكومة منذ البداية لم تأبه اطلاقا بهذه الروح، كما أنها لم تعالجها على نحو صحيح بحيث يرشدها الي طريق الصواب ، ويحول دون تشجيع الوطنيين المتطرفين، بل يحميهم انفسهم من الفوضى والكراهية. 4 وعلى عكس ذلك، فقد تقبلت الحكومة ذلك الروح بلا اهتمام، بل حاربته دون هوادة ،أو عن طريق التجاهل، وقد فهم الناس من ذلك أن الانجليز لم يقصدوا الخير لهذه البلاد وأنهم لن يشجعوا أي عمل لرفاهيتها مهما كان نصيبه من الاعتدال، ومهما كان دافعه من الاخلاص، وأنهم لن يتعاطفوا الا مع الأشخاص الذين يتبعونهم تبعية عمياء، ولن يوافقوا على أي شئ مالم يتوافق مع سياسة معينة لتحقيق اطماعهم الامبريالية والاستغلالية ( محمد عمر شير المرجع السابق، ص 88). بل أكثر من ذلك فقد ذهب الكاتب الي الحد الذي أعلن فيه تأييده للحكم الذاتي. الخ ، وقال : ” إن المسألة السودانية يجب تسويتها على أساس أن السودان للسودانين،وأنه ليس للانجليز ولا للمصريين” . وهكذا نرى بروز تيار جديد داخل معسكر السودان للسودانيين ، يرى أن يكون السودان للسودانيين، وأنه ليس الانجليز ولا للمصريين. نخلص من ذلك ، أنه لا يجوز التبسيط في دمغ حركة اللواء الأبيض بأنها كانت بوقا لمصر، لكن الموضوع معقد كما اشرنا سابقا، فحركة اللواء الأبيض رغم تعاونها مع الوطنيين المصريين ، الا أنه كان لها استقلالها، وكانت حركة سودانية اصيلة، ومن الخطأ وصفها بأنها كانت واجهة سياسية لمصر أو بوقا لها. وسوف نتابع في الحلقات القادمة أثر ثورة 1924 الهوية السودانية ،وعلى تطور الحركة الوطنية حتى نيل الاستقلال في أول يناير 1956.
نواصل الوسومتاج السر عثمان بابو
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية:
جمعیة اللواء الأبیض
الإدارة البریطانیة
وادی النیل
إقرأ أيضاً:
مقاربة بين "ذات الرداء الأبيض" والوضع السوداني الراهن
أحمد عمران
في عالم الأدب الإنجليزي، تُعد رواية "ذات الرداء الأبيض" للكاتب ويليام ويلكي كولينز واحدة من الأعمال المبدعة التي تروي قصة فتاة تُدعى ألين، التي تجد نفسها ضحية لمؤامرة مُعقدة تهدف إلى الاستيلاء على ثروتها. تُخفي هويتها الحقيقية، وتدمَّر حياتها، ويعتقد الجميع أنها فقدت ذاكرتها. ومع توالي التحقيقات، تكشف الحقائق عن أنَّ ألين كانت ضحية تلاعبات سياسية واقتصادية قذرة، حيث يكشف السعي الحثيث للسيطرة على ثروتها عن الأطراف المتآمرة خلف هذه المؤامرة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تُعكس رواية "ذات الرداء الأبيض" في نسختها المعاصرة الوضع السوداني الراهن؟ هل يُظهر تدمير السودان على يد مؤامرات مدبرة، مختبئة تحت "الكدمول" في السياسة السودانية، والذي ارتداه كثيرٌ من المتآمرين في محاولة يائسة لتمويه هوية الأمة السودانية؟
الكدمول هو رداء قاتم مُغطى بالظلام فرضته قوى محلية وإقليمية بغية طمس حقيقة السودان الغنيّة بالتاريخ والثقافة والموارد. لقد تمَّ تدمير هذه الأرض التي تزخر بالكنوز من أجل مصالح شخصية وفئوية ضيقة، وأصبح هذا الكدمول قناعاً يُخفي وراءه أطماعاً أكبر، تماماً كما كانت "ذات الرداء الأبيض" تظهر في الرواية كشخصية ضائعة أو فاقدة الذاكرة، يُحاول أصحاب الكدمول اتلاف الإرث السوداني وسجلاته ومكتباته ومُقتنياته ضمن مؤامرة كبيرة تم التخطيط لها بعناية. هذا الرداء الكئيب يرمز إلى التمويه على الهوية السودانية الأصيلة، ويحولها إلى صورة مشوهة، بعيدة كل البُعد عن قيمها الثقافية والتاريخية. للأسف، أصبح حتى الساسة في السودان يرتدون هذا الكدمول لتنفيذ مؤامرة كبرى، ليُصبح بذلك رمزاً لاحتلال الهوية السودانية وتغييرها إلى ما لا يتناسب مع حقيقتها، بعد أن أضحى السودان ضحية لمؤامرات إقليمية ودولية تهدف إلى نهب ثرواته وتدمير مكتسباته.
كان أبناء السودان يحدوهم الأمل في مُستقبل المشرق، يترنمون بأغنية الخليل "عزة" للتأكيد على حب الوطن والذود عنه "عزة في هواك عزة نحن الجبال وبنخوض صفاك نحن النبال"، وكان هذا الشعار الوطني الذي يرفعه أبناء الوطن "عزة السودان" يمثل الأمل في غدٍ أفضل، حيث كانت الآمال معقودة على نهضة الوطن. أما اليوم، فقد تحول ذلك الشعار إلى ذكرى مُؤلمة لسقوطه في قبضة قوى خارجية، تماماً كما سقطت ألين ضحية لتدخلات مُعقدة شوهت حياتها، وسلبت منها قدرتها على التفاعل مع العالم. إنَّ حالة السودان اليوم، مثل ألين في الرواية، أصبحت تشهد على تآمرات خفية، تحاول طمس هويته وتحويله إلى مجرد صورة مشوهة عما كان عليه.
في مُقاربة الثوب الأبيض والانتقال إلى الكدمول، نجد في الرواية أن "آن كاثريك"، كانت ترتدي ثوب البراءة الذي لا يُعكر صفوه شيء. وفي المقابل، ارتدى السودانيون جلابيتهم البيضاء منذ القدم كرمز للنقاء والصفاء الثقافي والهوية الوطنية المُميزة. لكن، مثلما أُجبرت "آن" على خلع ثوبها الأبيض النقي لتلبس عباءة داكنة، اضطر كثير من السودانيين اليوم إلى استبدال جلابيتهم البيضاء بكدمول قاتم، يخفون خلفه جراحاً مثقلة بالخيانة. هذا التغيير في الثياب لا يعكس فقط التغيير في المظهر، بل يعكس الخيانة والمكائد التي أصبحت جزءاً من واقع الحياة السياسية في السودان.
كما كانت "آن" ضحية لسرّ لم تفهمه بالكامل، يعيش الشعب السوداني اليوم في ظل مؤامرات سياسية خفية مُعقدة، تشوبها الألغاز والأسرار التي لا يراها الجميع. وأما آن، فقد كانت غير مدركة أن السير "بيرسيفال" كان يخبئ أسراراً مظلمة وراء مظهره البريء، كما أنَّ السودانيين اليوم يشعرون بوجود قوى خفية تسحب الخيوط وتدير المشهد السياسي في الظلام، بينما تظل الحقيقة بعيدة عنهم. ولكن كما أن "والتر"، شخصية الرواية الفذّة، كشف الستار عن خيانة "بيرسيفال" وأسراره المظلمة، يظل الأمل قائماً في أن يكشف الشعب السوداني في يوم من الأيام حقيقة ما يُحيط به من مؤامرات خفية، وأن يعود الحق إلى نصابه.
على الرغم من كافة التلاعبات والمؤامرات، كانت "آن" تحتفظ في أعماقها بنقاء روحها، رغم ما جرى من حولها. وبالمثل، لطالما كان الشعب السوداني بريئاً في سعيه نحو الحرية والعدالة، رغم أنَّ القوى الخفية قد قادته إلى هاوية الخيانة. ولكن كما تمسكت "آن" بحقيقتها ورفضت الزيف المحيط بها، يظل الشعب السوداني متمسكاً بأمل استعادة هويته وكرامته في مواجهة الفساد والانحراف. وفي النهاية، ستظل الحقيقة سيدة الموقف، مهما كانت التحديات، وسينتصر الحق، كما انتصرت الحقيقة في الرواية.