القيادة العسكرية الإسرائيلية والفنكوش
تاريخ النشر: 27th, January 2024 GMT
تعلمنا من العقيدة العسكرية الغربية التي تتبناها إسرائيل، ان تحديد أهداف الحروب، لا يتم وفقا لأهواء القادة، بل تخضع لضوابط دقيقة ينبغي مراعاتها والالتزام بها. ومنها ما هو معروف بـ ""SMART، ما يعني في مجمله "ذكي"، إلا انه يُعد اختصار لخمسة معايير ضرورية لتحديد هذه الأهداف، وهي:
Specific، Measurable، Achievable، Realistic، Timed
بمعنى أنها يجب أن تكون (محددة، قابلة للقياس، قابلة للتنفيذ، واقعية، موقوتة)، وفي ضوء ذلك دعونا نقيم مدى دقة الأهداف التي أعلنها عسكر إسرائيل في حربهم على غزة بعد صدمة طوفان الأقصى.
أولا.. محددة Specific: ما يعني أن اهداف الحروب يجب أن تكون محددة غير قابلة للالتباس. هنا نجد أن إسرائيل أعلنت الحرب على غزة، إلا أن مجلس حربها لم يحدد أهداف واضحة لها منذ بدء هذه الحرب. ففي البداية كان الهدف هو القضاء على حماس ثم تراجع ليكون تفكيك قدراتها ثم تبدل ليكون القضاء على قادتها، بينما يقولون في وقت آخر ان الهدف هو تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، ثم تبدل ذلك ليكون إلى دول اخرى، ومؤخرا يتحفنا أحدهم بفكرة تهجيرهم إلى جزيرة صناعية. وفي وسط هذا الزخم يقول بعضهم أن الهدف هو تحرير المختطفين، بينما يقول بعض آخر للضغط على حماس. وهكذا هو الحال من ترديد اهداف متباينة غير محددة ومتعددة، بل ومتضاربة.
ثانيا.. قابلة للقياس Measurable: يقول المثل الشعبي: "قبل ما تفصل، قيس"، وهذا ما يجب مراعاته عند تحديد الأهداف الحربية، أي يجب تحديد معايير أو مظاهر معروفة لقياس مدي نجاح تحقيق الأهداف. وهذا ما لم ولا تفعله القيادة الإسرائيلية. فمثلا ما هي المظاهر التي إذا تحققت تكون إسرائيل قد نجحت في القضاء على حماس، أو ما هي نسبة الخسائر المطلوبة لذلك. ومن جانب أخر نجدهم يعلنون عن انتهاء مرحلة قتالية وبدء مرحلة جديدة، ولا أحد يعلم ما هي المرحلة السابقة أو اللاحقة أو ما هي مظاهرها التي قد تحققت. فهم يعلنون الانتهاء من شمال غزة والسيطرة عليها، وفي اليوم التالي نجد المقاومة تفجر دباباتهم وجرافاتهم هناك، فكيف إذن يتم الإعلان عن مرحلة تالية بينما السابقة لم تتحقق. وعموما كيف سيتم تحديد معايير قياس لأهداف مبهمة وغير محددة.
ثالثا.. قابلة للتنفيذ Achievable: هنا نشير إلى العلم العسكري، فالعقيدة العسكرية الغربية التي تتبناها إسرائيل، تحدد أسس ومبادئ للـ "FIBA" أي "Fighting In Built-Up Areas" (القتال في المناطق المبنية). فكيف يتم تحقيق النصر بينما هناك مخالفات جسيمة في هذه الأسس والمبادئ. وأهمها النصيحة بتفادي القتال في هذه المناطق نظرا لتعقيداتها وخطورة حرب العصابات بها. وإذا كان لابد من الهجوم عليها فإن ذلك يتم بعناصر المشاة الراجلة أو القوات الخاصة، وليس بالدبابات او المدرعات التي تعتبر أهداف ثمينة وسهلة لمجموعات قنص الدبابات. والمبدأ الثاني هو ان لا يتم تمهيد النيران أو المعاونة بها سواء بالمدفعية أو الصواريخ أو القوات الجوية (وهذا ما تتفانى إسرائيل في ممارسته)، وذلك لأن ذلك سيؤدي إلى مشاكل وأضرار كثيرة، منها (إخفاء معالم المدينة التي سبق التخطيط على أساسها، انهيار المباني سيشكل موانع تعرقل محاور التحرك، كما أن ركامها سيؤدي إلى نشوء طرق أقترب مستورة لعناصر المقاومة لتنفيذ عملياتها، إضافة إلى احتمالات الخسائر نتيجة النيران الصديقة).
وكان يفترض الاستفادة من التاريخ العسكري الذي يؤكد أن القتال في المدن غالبا يكون لصالح المدافع. الم يستفيد قادة إسرائيل من تجربة "شارون" عندما هاجم السويس في 24 أكتوبر 73، فمني بخسائر فادحة تقدر بنحو 80 قتيل و120 مصاب وتدمير نحو 40 دبابة، الم يستفيدوا من هذا الدرس المرير.
واما عن تحرير الأسرى بعمليات عسكرية، فهل هذا هدف يمكن تنفيذه. فإذا كانت إسرائيل قد فشلت سابقا في تحرير الجندي "جلعاد شاليط" الذي أسرته حماس 2006م ولم تنجح كل محاولات تحريره، وظل في الأسر أكثر من 5 سنوات ولم يتم الإفراج عنه إلا بالتفاوض عام 2011م. كما أنها فشلت في تحرير أسراهم في الحرب الراهنة على غزة وكانت النتيجة قتل بعضهم، منهم الأسير ساعر باروخ الذي قتل أثناء محاولة تحريره، بل وقتل بعض منهم يوم 8 ديسمبر 2023م. فإذا كانوا قد فشلوا في ذلك، فكيف سيتمكن جيشهم مهما كانت قدراته أو من يعاونوه من أجهزة مخابرات من تحرير اكثر من 130 أسير (موجودين في مناطق متفرقة ويحتمل انتقالهم إلى مكان أخر، كما أن سلاح حراسهم أقرب إليهم من أي شيء)، وبفرض أنهم تمكنوا من تحرير أحدهم، فهل ستكون حماس مجرد متفرج.
وعن الاقتراح العبقري بشأن تهجير الفلسطينيين إلى جزيرة صناعية أمام شاطئ عزة، فليس لي تعليق، حتى أفهم تفاصيل هذه الفكرة، وكيف سيتم صناعة جزيرة تسع 2، 3 مليون غزاوي في عمق المتوسط. هل هذا معقول؟ وهل هذه الأهداف قابلة للتنفيذ.. ؟
رابعا.. واقعية Realistic: الواقعية معيار مهم لتحديد أهداف الحرب. والحلم يختلف عن التخطيط، في الحلم يمكن تمني ما يمكن أو لا يمكن حدوثه ولا يتطلب تحديد أهداف لتحقيقه، أما التخطيط فيلزمه أهداف واقعية قابلة للتنفيذ. لكن إسرائيل تجاوزت الأحلام فانحرفت عن الواقع. حيث أعلنت إنها تستهدف القضاء على "حماس" ولم تحدد ما هو المقصود وكيف؟ قد تتمكن إسرائيل من القضاء على بعض قيادات حماس، أو تفكيك بعض قدراتها، وهذا أمر وارد.ولكن مستحيل أن تتمكن من القضاء عليها تماما. فحماس ليس مجرد بشر يحملون سلاح، لكنها فكرة وعقيدة راسخة، والعقيدة أبدا لا تموت، حتى وإن تبقى من حماس فرد واحد فقط. وهذا ما يؤكده التاريخ عبر العصور.
ففي التاريخ القديم، تمكنت المقاومة بقيادة أحمس من طرد الهكسوس بعد مدة طويلة من الاحتلال. وفي التاريخ الحديث تمكنت الجزائر من الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي رغم ارتقاء مليون شهيد، وتمكن عمر المختار من مقاومة الاحتلال الإيطالي في ليبيا. وفي فرنسا قاد تشارل ديجول المقاومة ضد الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية. أما عن الولايات المتحدة فقد انسحبت من فيتنام بين ليلة وضحاها بعد سقوط نحو (58) إلف قتيل من جنودها. وانسحبت من أفغانستان بطريقة فاضحة عام 2021 بعد احتلال دام (20) عام، تاركة أسلحتها ومعداتها. وحاليا تنشط المقاومة العراقية ضدها ويتفاهم معها السلطات العراقية على الانسحاب من البلاد.
وهذا ما يؤكده أيضا تاريخ المقاومة الفلسطينية، الذي لم يبدأ بعد قيام دولة إسرائيل 1948م (كما يعتقد البعض)، بل منذ بدء إعلان فكرة قيامها في وعد "بلفور" 1917م وبدء الاحتلال البريطاني 1918م. ولعل من أبرزها "الإضراب العربي العام في فلسطين الانتدابية 1936م، للتعبير عن رفض الشعب الفلسطيني للاحتلال، والذي تحول إلى ثورة فلسطينية كبرى حتى 1939م، وكان من أبطالها الشيخ "عز الدين القسام" الذي قاوم الاحتلال الفرنسي في سوريا، ثم الاحتلال البريطاني في فلسطين حيث استشهد على يد الشرطة البريطانية، وهو ما يفسر لماذا اعتبرته حماس أيقونة لكفاحها المسلح، وأطلقت أسمه على كتائبها. وهو ما يذكرنا دائما أن مقاومة الاحتلال عقيدة غير قابله للزوال.
وبعد نكبة 48، بدأت المقاومة الفلسطينية تأخذ اشكالا متعددة، وأصبحت جزء اصيل من الهوية الفلسطينية. وكانت مصر أول من أنشأ مجموعات فدائيين في غزة وسيناء عام 1954م تحت قيادة العميد مصطفى حافظ، قائد المخابرات العسكرية بغزة، وقد نفذوا أعمال فدائية عديدة في عمق إسرائيل. كما قامت مصر بدعم المقاومة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات قبل وبعد الإعلان عن منظمة فتح في ا يناير 1965م.
بعد كل ذلك، الم يتعظ مجلس الحرب الإسرائيلي. الم يفهم أن القضاء على عقيدة لمقاومة احتلال هو حلم ودرب من دروب المستحيل. الم يلفت نظرهم أنهم السبب الرئيسي وراء تأسيس حركة حماس، فهي وليدة ممارسات جيشهم التي أفرزت الانتفاضة الأولى 1987م. ألم يدركوا أنه حتى إذا تم القضاء على البشر سيبقى الحجر. وأنه أذا انتهت حماس فإنه ستولد حماس اخري طالما الاحتلال ما زل قائما.
خامسا.. موقوتة Timed: يقول أينشتاين: "الزمن مفهوم نستخدمه لوصف تسلسل الأحداث والظواهر"، ورغم أنه من أبوين يهوديين، إلا أن الصهاينة لم يستوعبوا عمق ما يقوله بشأن حتمية ربط الأحداث بالوقت والعكس. هو أمر ضروري عند تحديد أهداف الحرب. حيث ترتبط أعمال تنظيم وإدارة الحرب ومراحلها بعامل الوقت، الذي يؤثر أيضا على أمور حيوية أخرى مثل (اقتصاد الدولة، ردود الأفعال الاقليمية والدولية، موقف المؤسسات الدولية، الانعكاسات على الراي العام المحلي والعالمي.. )، بل وعلى القوات المنفذة ومدى قدراتها لخوض أعمال القتال.
فمنذ بدء الحرب، تطل علينا قياداتهم ليعلنوا توقيتات متباينة بشأن انتهاء العمليات. فقد أعلن نتنياهو ووزير دفاعه في البداية أن: "الحرب ستكون صعبة وطويلة" ولم يحددا ما المقصود بـ (طويلة)، ثم سمعنا منهما ومن باقي أعضاء مجلسهم توقيتات أخرى متضاربة، وكثيرا ما كانوا يختلفوا بشأن توقيت انتهاء هذه الحرب أو مراحلها أو أي شيء يخصها، ما بين (عدة أسابيع، أو عدة شهور) دون تحديد عددها. بل ان بعضهم قال إنها قد تمتد إلى نهاية 2024م، وآخرون يقولوا 25م. بل أنهم أحيانا يعترفون أنه لا يمكن تحيد توقيتات هذه الحرب.. فهل هذا معقول.. ؟
وعموما، إذا كانت هذه هي أهداف إسرائيلية، فلماذا يعادون من حولهم، لماذا استفزاز حزب الله شمالا، والهجوم على أهالي الضفة الغربية، وإطلاق القذائف والصواريخ هنا وهناك.
القارئ العزيز.. مما سبق، هل فهمت شيئا من أهداف إسرائيل في حربها على غزة. وإن لم يكن، فأرجو قبول عذري فقد حاولت نقل ما كان في استطاعتي فهمه. وهذا يعني شيئا وحدا هو: "إما نحن لا نفهم، أو انهم يحاربون بدون فهم، او إن هناك أهداف أخرى ومنها إبادة الشعب الفلسطيني أو ربما هناك أهداف شخصية"، وهذا بشهادة أحد رموزهم "إيهود باراك". وهنا أشير إلى تصريح وزير الدفاع ورئيس الوزراء الأسبق "إيهود باراك" لجريدة "هآرتس" في 19/ 1/ 2024م عندما قال: "لا يستطيع الجيش الإسرائيلي تحسين احتمالات الفوز عندما لا يكون هناك هدف سياسي محدد.. .وفي غياب هدف واقعي سينتهي بنا الأمر غارقين في مستنقع غزة".
أما عن رأيي الشخصي، فأنا أرى أن القيادة العسكرية الإسرائيلية، هي قيادة "فنكوش". وهو مصطلح شعبي يوحي بالارتجالية والعشوائية، إلا أنني أيضا أعتبره اختصار لخمسة كلمات أود البوح بها، وهي: أنها قيادة (فاشلة، ناقمة، كاشفة، وضيعة، شنيعة).
فاشلة: لأنها لا تستطيع تحديد اهداف حربية محددة، قابلة للقياس والتنفيذ، واقعية، موقوتة.
ناقمة: لأنها تضمر بداخلها كل غل وكراهية ورغبة جامحة للانتقام.
كاشفة: لأنها تكشف نواياهم الحقيقية لإبادة الشعب الفلسطيني وتهجيرهم وتصفية قضيتهم.
وضيعة: لأنها تستهدف المدنيين الأبرياء وترتكب الجرائم ضد الأطفال والنساء وكبار السن.
شنيعة: لأنها تستخدم أقوى الذخائر والمتفجرات والأسلحة المحرمة وكل وسائل الإبادة الكاملة.
وهو ما يعني باختصار: "أن إسرائيل ليست فقط دولة محتلة، ولكنها أيضا دولة مختلة".
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: إسرائيل الأسبوع القيادة العسكرية الإسرائيلية قابلة للتنفیذ تحدید أهداف القضاء على على غزة وهذا ما
إقرأ أيضاً:
منطقة وادي سيدنا العسكرية تقوم بإجراء تفجير مخلفات الحرب وعلى المواطنين عدم الانزعاج والابتعاد عن المنطقة
أعلن قائد منطقة وادي سيدنا العسكر فريق ركن عبد الخير عبد الله ناصر بأن المركز القومي لمكافحة الألغام والمتفجرات سيقوم بإجراء تفجير مخلفات الحرب بالمنطقة العسكرية شرق مكب النفايات بجبل أبو وليدات وذلك في الفترة من يوم الإثنين ١٠ فبراير الجاري إلى التاسع عشر منه.وعلى المواطنين عدم الانزعاج والابتعاد عن المنطقة حفاظاً على أرواحهم وممتلكاتهم.سونا إنضم لقناة النيلين على واتساب