الولايات المتحدة وإريتريا.. من صناعة الدولة المنبوذة إلى سياسة الاحتواء
تاريخ النشر: 27th, January 2024 GMT
في خضم أحداث مضطربة يشهدها القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر، بدأ منحنى جديد في العلاقات الأميركية الإريترية بالظهور مع إصدار واشنطن إستراتيجية قُطرية جديدة تجاه إريتريا.
ترسم الوثيقة الصادرة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ملامح تغيرات في المقاربة الأميركية تجاه بلد لطالما ناصبته العداء، حيث نصّت على أن عملية السلام الإثيوبية وخفض أسمرة حضورها العسكري في جارتها الكبرى، يوفران "فرصة لإعادة تشكيل العلاقات الثنائية مع إريتريا إلى نهاية أكثر إنتاجية".
مضيفة أن سفارة واشنطن في أسمرة ستسعى إلى فتح خطوط اتصال لإقامة قواسم مشتركة تخدم مصالح شعبي البلدين، وللاستماع إلى وجهات النظر الإريترية حول القضايا الإقليمية والدولية.
وفي إشارة إلى التنافس الأميركي مع الصين ورغبة الولايات المتحدة في تعزيز العلاقات مع إريتريا من بوابة التجارة، وضحت الوثيقة أن لبكين استثمارات كبيرة في إريتريا، لكن بالنظر إلى تنوع مجالات الاستثمار في الدولة الواقعة شرقي أفريقيا، فإن واشنطن تتمتع بوضع تنافسي أفضل قياسا بالصين.
ربيع قصيرلطالما اتسمت العلاقات الأميركية الإريترية بالتقلب المستمر، حيث مثلت السنوات بين 1993 و2000 ربيعها الذي ترافق مع إستراتيجية الرئيس الأسبق بيل كلنتون لدعم من وُصفوا "بالقادة الأفارقة الجدد"، في إشارة إلى زعماء إريتريا وإثيوبيا وأوغندا ورواندا.
وفي مقال نشرته نيويورك تايمز ربط الصحفي الأميركي جيمس ماكينلي جونيور تبني بلاده للقادة الأربعة بالرغبة في مواجهة الأصولية الإسلامية التي تهدد مصالح واشنطن، التي كان يمثلها في حينه نظام الإنقاذ في السودان.
ووفق هذه الرؤية شهدت تلك المرحلة تنسيقا أميركيا إريتريا عالي المستوى، تضمن دعم واشنطن جهود أسمرة لإسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير في منتصف تسعينيات القرن الماضي، عقب توجيهها إصبع الاتهام إليه بمساندة معارضين إريتريين إسلاميين، وفقا لما أورده البروفيسور في العلاقات الدولية بجامعة برمنغهام جوناثان فيشر.
عداء وعقوبات
غير أن الحرب الحدودية الإثيوبية الإريترية 1998-2000 وتداعياتها شكلت فاتحة مرحلة جديدة بين البلدين، إذ اتهمت أسمرة واشنطن بالانحياز إلى أديس أبابا، مما أدى إلى تصاعد التوتر بين الطرفين، وصولا إلى اتهام الولايات المتحدة لإريتريا بدعم حركة الشباب المجاهدين في الصومال في 2008.
في العام التالي حشدت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما جهودها لفرض العقوبات على أسمرة في مجلس الأمن الدولي، ما أسفر عن القرار 1907، كما دعمت واشنطن تبني مجلس حقوق الإنسان الأممي بجنيف قرار إنشاء مقرر خاص بإريتريا في 2012، في سياق ما وصفه البروفيسور مايكل ولدي ماريام بـ"صناعة الدولة المنبوذة".
هذا التصاعد العدائي أدى إلى تحول الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى أحد أبرز الناقدين الأفارقة للسياسة الأميركية في القارة، وإلى مبشر بنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، متهما واشنطن بالعمل مع إثيوبيا لاستهداف استقلال بلاده منذ أربعينيات القرن الماضي.
من الاحتواء إلى العداءفي مواجهة هذه الضغوط عملت أسمرة على تقوية علاقاتها بخصوم واشنطن، وعلى رأسهم طهران وبكين وموسكو، حيث قرعت أجراس الخطر في أروقة صناعة القرار الأميركية جراء تطور العلاقات الإريترية الإيرانية، وتمدد طهران داخل بيئة البحر الأحمر من خلال الحوثيين، وترسيخ بكين نفوذها الجيوسياسي في جيبوتي.
ووفقا لتحليل منشور على موقع مركز راند الأميركي، فإن تنافس واشنطن مع القوى الدولية كان أولوية بارزة في إستراتيجية إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب تجاه أفريقيا الصادرة 2018، بعد عام من إنشاء الصين قاعدتها العسكرية في جيبوتي، واقتراب تسليم الأخيرة ميناء دوراليه الإستراتيجي للشركات الصينية.
أدت الإستراتيجية المذكورة إلى تشجيع التقارب الإريتري الإثيوبي، الذي دعم بدوره التحسن المطرد في العلاقات الثنائية بين واشنطن وأسمرة، ما مثّل محاولة لاحتواء الأخيرة من خلال عملية سلام مدعومة من حلفاء واشنطن في المنطقة.
غير أن العامل الإثيوبي برز من جديد محفزا للعلاقات العدائية الإريترية الأميركية، حيث أدانت واشنطن مشاركة أسمرة المحورية في حرب التيغراي (2020-2022)، وطالبتها بسحب قواتها من إثيوبيا، وفرضت عليها عقوبات شملت الحزب الحاكم والمؤسسة العسكرية في نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
أمن البحر الأحمر
ورغم أن الإستراتيجية الجديدة الصادرة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 لم تلغ العقوبات المذكورة، فقد حملت توجهات إيجابية مغايرة، تبدو أكثر وضوحا عند النظر إلى بعض التعديلات التي تمت على نسختها الأصلية الصادرة في مايو/أيار 2022.
وحُذف في النسخة المحدثة ما وُصِف سابقا بأنه هدف الإستراتيجية الأميركية الأساس، والمتمثل في "تنمية الجيل القادم في إريتريا، والاستعداد لمرحلة ما بعد الرئيس الإريتري أسياس أفورقي".
قصر الفترة الزمنية بين موعد صدور النسختين التي لا تتجاوز عاما وبضعة أشهر، يدعو إلى التساؤل عن التغيرات الدافعة نحو هذه التعديلات الكبيرة، ولا سيما أن موقع وزارة الخارجية الأميركية ينص على أن الإستراتيجية القُطرية توضح أولويات واشنطن تجاه الدولة المعنية لمدة 4 سنوات.
في هذا السياق تمثل معالجة الاضطراب الأمني في منطقة جنوب البحر الأحمر أولوية للإدارة الأميركية في المرحلة الحالية، حيث أدى استهداف الحوثيين في اليمن للمصالح الإسرائيلية في منطقة باب المندب، إلى تداعيات هددت سلاسل الشحن والتوريد.
وألقت تلك الاضطرابات بظلالها على الاقتصاد العالمي، الذي ازداد فيه الاعتماد على النقل البحري خلال السنوات الماضية بنسبة تفوق 400%، وفقا لأشرف كشك مدير برنامج الدراسات الإستراتيجية والدولية بمركز "دراسات" بالبحرين.
وتبرز إستراتيجية واشنطن الجديدة تجاه إريتريا كمحاولة لمنع تحول باب المندب إلى منطقة معادية للمصالح الأميركية، حيث تمتلك إريتريا بإطلالتها على الضفة الغربية للممر الحساس أهمية أمنية بالغة الخطورة، في حين راجت سابقا أنباء تتهمها بتمرير أسلحة إيرانية للحوثيين في اليمن، وهو ما نفته أسمرة.
قطع الطريق على طهران
وبالنظر إلى المخاوف من تدهور الأوضاع في المنطقة إلى حرب إقليمية نتيجة استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن الخطوة الأميركية تمثل جهدا استباقيا للحيلولة دون استعادة طهران وأسمرة الدفء في علاقاتهما، التي أصابها الفتور منذ منح الأخيرة الإمارات قاعدة عسكرية لمهاجمة اليمن، ضمن مشاركتها في عاصفة الحزم في 2015.
وتشكل التهديدات الأميركية المستمرة لكل من إريتريا وإيران وتحالف الدولتين مع موسكو وبكين أرضية مشتركة لتنشيط علاقاتهما، في حين تبدو طهران منفتحة على العودة إلى المنطقة، حيث نشرت بلومبيرغ تقريرا عن تقديم إيران دعما للجيش السوداني بطائرات مسيرة.
تراجع سياسة الضغوطمن جانب آخر تبدو إريتريا ضمن حالة السيولة الأمنية التي تعمّ القرن الأفريقي الكبير أشبه ما تكون بجزيرة وحيدة مستقرة، وسط حروب داخلية تهدد كلا من إثيوبيا والسودان بالتفتت والانهيار.
يضاف لذلك تصاعد ملحوظ لنشاط حركة الشباب في الصومال في السنوات الأخيرة، حوّلها من خطر محلي إلى مهدد إقليمي، كما تشهد المنطقة توترا غير مسبوق بين إثيوبيا والصومال، منذرا بانفجار صراع عسكري بين الطرفين.
هذا الواقع يدعو الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في مقاربتها تجاه أسمرة، حيث لم تفلح سياسة العصا الغليظة والعقوبات في الضغط على إريتريا، التي تمتلك العديد من الأوراق المؤثرة في ساحات الإقليم الملتهبة، ما ظهر في أجلى صوره ضمن مشاركتها الحاسمة في حرب التيغراي بإثيوبيا.
محاولة الاحتواء ضمن ترتيبات إقليمية أميركية جديدة بدت واضحة في ترحيب الإستراتيجية المحدّثة بخطوات عدة اتخذتها أسمرة في 2023، كتطوير علاقاتها بكينيا التي تمثّل أحد أهم حلفاء واشنطن في المنطقة، وكذلك قرارها بالعودة إلى منظمة "إيغاد" بعد أن علَّقت عضويتها فيها منذ 2007.
توجّه واشنطن الجديد أبرزته إستراتيجيتها التي وضعت على رأس أهدافها دعم السلام والأمن الإقليميين، بما يتضمنه من تشجيع إريتريا على دعم المبادرات العالمية ذات القواسم المشتركة مع الولايات المتحدة، وتعزيز الدعم الإيجابي للحكومة الإريترية لمبادرات السلام والأمن التي تقودها المنطقة.
إبعاد الشبح الصيني الروسي
في ظل توتر العلاقات الأميركية مع أسمرة على خلفية الموقف من حرب التيغراي، شهدت روابط إريتريا مع كل من موسكو وبكين نقلات واضحة.
ففي فبراير/شباط 2021 صرح السفير الإريتري في موسكو بترحيب بلاده ببناء مركز "لوجيستي" روسي على شواطئها، كما كانت إريتريا الدولة الأفريقية الوحيدة التي صوّتت ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يطالب روسيا بسحب قواتها من أوكرانيا في أبريل/نيسان 2022.
كما وقّعت الخارجية الإريترية في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 على مذكرة تفاهم مع بكين للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق، ما يضمن للصين منفذا إلى البحر الأحمر وقناة السويس.
وفي هذا السياق تمثل خطوة واشنطن الجديدة جهدا أميركيا لكبح تسارع العلاقات الإريترية مع الصين وروسيا، ومحاولة لحصار منافستيها اللتين شهد نفوذهما في أفريقيا تمددا كبيرا من خلال سياسة القروض الصينية، ونشاط مجموعة فاغنر الأمنية، في مناطق مختلفة من القارة.
تجسير الهوةصدور الإستراتيجية الأميركية الجديدة قابله صمت إريتري رسمي مطبق، في حين رحبت حسابات الموالين للنظام الإريتري بها كونها انتصارا للسياسة التي اتبعها.
في المقابل يبدو نجاح هذه الإستراتيجية في إخراج البلدين من مربع العداء مرهونا بقدرتهما على تجسير هُوّة عدم الثقة، وهو ما لا يبدو مهمة سهلة بالنظر إلى الصبغة العدائية، التي وسمت علاقاتهما طوال مدة تزيد على العقدين.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: نوفمبر تشرین الثانی الولایات المتحدة البحر الأحمر
إقرأ أيضاً:
ماهي المكاسب التي تنتظرها واشنطن من مفاوضات إنهاء الحرب في أوكرانيا ؟
تبذل إدارة الرئيس الامريكي دونالد ترامب محاولات حثيثة من أجل تحقيق اختراق يقود إلى مفاوضات تنهي الحرب الروسية الأوكرانية على أمل أن يقود ذلك إلى مكاسب جيوستراتيجية كبيرة للولايات المتحدة التي تستعد لحشد مواردها لمواجهة النفوذ الصيني في آسيا، وسط عراقيل وتحديات تواجه هذه المبادرة التي لم تتخط حتى اليوم حدود الضغوط على كييف والتلويح بقبول موسكو هدنة جزئية مؤقتة مدتها 30 يوميا.
تحليل / أبو بكر عبدالله
حتى اليوم لم تتوفر أي صيغة جاهزة للصفقة المنتظر أن تقودها الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار في الحرب الروسية الأوكرانية، غير أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين تحدثت عن مسار يقترح خطتين هما الخطة (أ) التي تسعى إلى مبادرة البيت الأبيض لمفاوضات مع كل من أوكرانيا وروسيا لوقف إطلاق النار وفق خطة تستوعب شروط ومخاوف ومطالب الطرفين، ثم الخطة (ب) التي ستمثل المرحلة الثانية بجمع طرفي الصراع على طاولة مفاوضات مباشرة بمشاركة وسطاء دوليين سعيا إلى انهاء الحرب بشكل دائم على قاعدة احترام مصالح جميع الأطراف.
وعلى ضبابية هذه الخطة فقد جاءت تصريحات الرئيس ترامب لتزيل الغموض على فحوى المبادرة الأمريكية بعد أن أكد أن الحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا، وانضمامها لحلف شمال الأطلسي “الناتو” أمر مستحيل، ناهيك بإصداره أمرا تنفيذيا بتعليق المساعدات العسكرية والمعلومات الاستخباراتية المقدّمة لكييف، وتأكيده بأنه لن يعيدها إلا بعد قبول أوكرانيا بمشروعه للهدنة.
يمكن القول إن الإدارة الأمريكية لم تتجاوز حتى الآن المرحلة الأولى، حيث تمكنت تحت الضغط من انتزاع موافقة من الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي لهدنة مؤقتة مع روسيا مدتها 30 يوما تقضي بعدم استهداف منشآت الطاقة، فيما أفضت المباحثات الهاتفية التي جمعت الرئيسين بوتين وترامب إلى انتزاع موافقة روسية للهدنة المؤقتة من دون أن تحقق أي اختراق مهم في جدار الأزمة يقود إلى وقف عملي للنار وانهاء الحرب.
وتبدو الرؤية التي تتبناها إدارة ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا، تركز على الحل التفاوضي السريع مع روسيا، في ظل تقديم تنازلات إقليمية أو سياسية من الجانب الأوكراني.
وما هو واضح حتى الآن هو وجود تباين بين ما تريده موسكو وما تريده واشنطن فالأولى تريد مواقفه موسكو على وقف مؤقت لإطلاق النار، في حين تطالب موسكو بوقف دائم للحرب يقوم على إزالة أسبابها.
شروط متبادلة
الشروط المعلنة من جانب روسيا وأوكرانيا لا تزال قائمة حتى اليوم، حيث تتمسك روسيا بشروط صارمة لا تقبل التنازل وفي المقدمة تمسكها بالأراضي الأوكرانية التي ضمتها اليها بموجب استفتاء شعبي، ومعها أراضي شبه جزيرة القرم التي سيطرت عليها عام 2014، ورفضها نشر أي قوات من دول “الناتو” في أوكرانيا وإلغاء ملف انضمام أوكرانيا إلى حلف “الناتو”.
وتذهب الشروط الروسية إلى انسحاب الجيش الأوكراني إلى خارج حدود الأقاليم الأربعة التي تسيطر عليها، والاعتراف بالسيادة الروسية عليها، والتعهد بأن تصبح أوكرانيا خالية من الجيوش الأجنبية وعدم امتلاكها للسلاح النووي.
وطبقا لتصريحات سابقة للرئيس بوتين فإن موسكو قد توافق على اقتراح وقف إطلاق النار إن أدى إلى سلام مستدام وإزالة كل أسباب الصراع، وهي إشارة واضحة إلى تمسك موسكو بانتزاع اعتراف كييف بالسيادة الروسية على الأقاليم الأربعة المسيطر عليها من جانب روسيا وبقاء كييف في وضع محايد وعدم انضمامها إلى حلف “الناتو”.
وبالنسبة لكييف فهي تتمسك بعودة أراضيها، كما تعتبر انضمامها إلى حلف “الناتو” خيارا استراتيجيا غير قابل للتغيير خصوصا وهو منصوص عليه في الدستور الأوكراني، بوصفه الضمانة الأكثر فعالية لأمن أوكرانيا مستقبلا.
ورغم تراجع الاتحاد الأوروبي وقيادة حلف الناتو والولايات المتحدة عن مساعيها لضم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، لا تزال أوكرانيا تتبنى رؤى مغايرة لتلك التي تتبناها واشنطن ودول أوروبية وذلك بدا واضحا من خلال التصريحات التي أطلقها مؤخرا وزير الخارجية الأوكراني والتي بدت متناقضة تماما مع ما أعلنه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته الذي سبق أن أعلن بأن مناقشة انضمام أوكرانيا إلى الحلف لم تعد قائمة.
يضاف إلى دوامة الشروط تلك التي أفصحت عنها الدول الأوروبية التي ساندت أوكرانيا بكل طاقاتها العسكرية والاقتصادية خلال السنوات الماضية، بعد الإعلانات المتضاربة التي تحدث عن قبول دول الاتحاد الرؤية الأمريكية بشروط نشر قوات للناتو في أوكرانيا، بالتزامن مع إعلانات أخرى تحدثت عن مواصلة دول أوروبا دعم أوكرانيا في حربها ماليا وعسكريا ومطالبة روسيا الانسحاب من الأراضي الأوكرانية كشرط لقبول وقف إطلاق النار وانهاء الحرب.
تحديات متوقعة
وفقا لخارطة الشروط التي يطرحها طرفا الصراع والأطراف الداعمة، فإن الكثير من التحديات تواجه إدارة ترامب في تحقيق اختراق بشأن هذا الملف، في ظل المطالب الروسية الصارمة والتي ترجح عدم موافقة موسكو على وقف إطلاق النار دون تنفيذها، وهي مسألة جوهرية بالنسبة لموسكو خصوصا وان الموافقة على انهاء الحرب دون الأخذ بالشروط الروسية قد يقود إلى تصاعد المعارضة الداخلية لنظام بوتين بصورة غير مسبوقة.
ولدى الروس مبرراتهم الوجيهة لذلك، والتي يتصدرها المكاسب التي حققتها موسكو خلال سنوات الحرب، في ضمها شبه جزيرة القرم والمقاطعات الأربع التي أعلنت ضمها إلى أراضيها (دونيتسك، لوغانسك، خيرسون، زابوريزجيا) منذ 2022، وهي مكاسب عسكرية لا يبدو أن موسكو بصدد التنازل عنها بعد أن حولت المقاطعات الأوكرانية إلى جمهوريات تتمتع بالحكم الذاتي تحت مظلة الاتحاد الروسي.
وهناك معطى آخر بالغ الأهمية بالنسبة لموسكو، وهو ضمانات تحييد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى الحلف الأطلسي، وهذا الأمر ينظر اليه في روسيا على أنه هدف استراتيجي باعتباره يهدد الدولة الروسية كما يهدد المستقبل السياسي للرئيس بوتين، الذي طالما قدم هذه القضية بكونها صراعاً وجودياً لروسيا ضد “الناتو”.
ومن جانب آخر، فإن موسكو تبدو حريصة على ربط أي مفاوضات لإنهاء الحرب أو الهدنة برفع العقوبات الأمريكية والغربية، وهو شرط ترفضه واشنطن حتى الآن على الأقل كما ترفضه الدول الحليفة وتطالب لقائه انسحاب روسي كامل من الأراضي الأوكرانية.
وفقا لذلك فإن الراجح هو عدم موافقة موسكو على وقف لإطلاق نار دون شروط لأن ذلك سيعني عمليا، اعترافا بفشل أهداف عمليتها الخاصة التي كبدت روسيا خسائر هائلة، ناهيك عن ان قيامها بذلك سيشكل انتكاسة لمشروعها الاستراتيجي في ان تكون فاعلاً إقليمياً في عالم تريده أن يكون متعدد الأقطاب.
سيناريوهات بديلة
يمكن للرئيس ترامب ممارسة الضغوط على كييف من اجل القبول بأي صيغة من شأنها وقف النار وانهاء الحرب، غير أنه سيواجه صعوبات كبيرة في محاولاته الضغط على موسكو التي يطمح ترامب إلى بناء علاقات جديدة معها، ربما للتفرغ لملفات تبدو بالنسبة لترامب أكثر أهمية من أوكرانيا أو حلف الناتو.
والسبب في ذلك أن أوكرانيا تواجه معضلة معقدة، فهي وإن خضعت للضغوط الأمريكية وقبلت التنازل عن أراضيها لموسكو، فإنها ستواجه رفضا شعبيا داخليا مع وجود نسبة كبيرة من الأوكران الرافضين لفكرة التنازل عن الأراضي الأوكرانية لروسيا، ناهيك عن الموانع الدستورية، حيث يحرم دستور أوكرانيا التنازل عن أي أراض أوكرانية تحت أي ظروف.
وفقا لذلك فإن الخيارات أمام كييف تبدو ضيقة للغاية، إذ أن طول أمد الحرب مع روسيا من دون الدعم الأمريكي سيقود إلى استنزاف الموارد الأوكرانية بسرعة كبيرة، بما يؤدي في النهاية إلى قبولها بأي حل مطروح من دون شروط.
وتدرك كييف أن عدم قبولها الرؤية الأمريكية الآن، سيفقدها ميزات يمكن أن تحصل عليها من واشنطن على شاكلة الحصول على ضمانات أمنية أمريكية وترتيبات دفاعية كما سيفقدها تعويضات وبرامج إعمار كان يمكن ان تقودها واشنطن في حال موافقة كييف على خطة ترامب.
وخلافا للوضع في أوكرانيا فإن الإدارة الأمريكية تبدو مستعدة لتقديم تنازلات لروسيا بدلا من ممارسة الضغوط عليها، والمرجح أن يعرض الرئيس ترامب على موسكو تخفيف العقوبات على قطاعات روسية حيوية (مثل الطاقة) واستئناف التعاون في مجالات مثل الغاز والنفط، مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار، حتى لو لم تستعيد كييف كل أراضيها.
وفي حال فشلت المبادرة الأمريكية الحالية، وذهبت العلاقات مع روسيا إلى المزيد من التوتر فإن أكثر ما يمكن أن تفعله إدارة ترامب هو مواصلة الدعم العسكري المقدم لكييف وهو أمر قد تواجهه روسيا التي خبرت الحرب مع الغرب الجماعي خلال السنوات الماضية، لكنه سيلقي بتبعات ثقيلة على دول القارة الأوروبية التي سيذهب ترامب بلا شك إلى تحميلها تكاليف استمرار الحرب في أوكرانيا باعتبارها المستفيد الرئيسي من حماية أمن أوكرانيا.
مكاسب أمريكية
غداة المباحثات الهاتفية التي جرت بين الرئيسين ترامب وبوتين مؤخرا كان ملاحظا في بيان الإدارة الأمريكية تشديدها على ما سمته “المزايا الهائلة” لإقامة علاقة ثنائية أفضل بين الولايات المتحدة وروسيا تُفضي إلى اتفاقات اقتصادية ضخمة محتملة.
هذا الأمر فتح باب التساؤلات حول المصالح التي تتوقع أمريكا جنيها من تبني إدارة ترامب مبادرة وقف النار وانهاء الحرب في أوكرانيا، خصوصا وأن أي مبادرة من هذا النوع ستكون حتما جزءا من استراتيجية أوسع تضع المصالح الأمريكية في المقدمة وتجسد شعار ترامب “أمريكا أولا”.
ولم يعد خافيا ما تطمح اليه إدارة ترامب بإنهاء الصراع في أوكرانيا وبالمقام الأول تقليل الموارد المالية التي تتكبدها الخزينة الأمريكية لتمويل الجيش الأوكراني، ووقف استنزاف المخزونات العسكرية الأمريكية، وهي أمور ترى إدارة ترامب أنها ستساهم في توفير تمويلات مالية ضخمة يمكن استخدامها في خطط واشنطن الجديدة لتعزيز وجودها في المحيط الهادئ ومواجهة التوسع الصيني.
ومنذ وقت مبكر ترى الولايات المتحدة الصين التهديد الأكبر لحلفائها في آسيا مثل تايوان واليابان وكوريا الجنوبية وهي لذلك تسعى إلى تقليص الموارد التي توجهها لحماية أوروبا، وتوجيهها نحو آسيا، بما يتيح لها مواجهة التهديدات الصينية، فضلا عن طموحاتها بإقامة تحالفات جديدة من اجل احتواء النفوذ الصيني في آسيا.
صار من الواضح أن لدى واشنطن اليوم أهدافا استراتيجية كبيرة تسعى إدارة ترامب إلى تحقيقها من خلال هذه المبادرة وفي المقدمة تفكيك التحالفات الاستراتيجية بين روسيا والصين وإيران، أو على الأقل تقليل تماسكها، وكذلك مواجهة التهديد الذي تشكله منظمة بريكس” للاقتصاد الأمريكي بعد الإفصاح عن عملة بديلة للدولار الأمريكي بين دول مجموعة “بريكس”.
ولا تخفي واشنطن مخاوفها من المخاطر الجسيمة التي يشكلها التحالف الروسي الصيني خصوصا وهو قام على مبدأ رئيسي وهو مواجهة الهيمنة الأمريكية عبر التعاون العسكري والاقتصادي والتكنولوجي.
والحال كذلك مع الشراكة الروسية الإيرانية التي تضمنت التعاون العسكري والدعم السياسي في الملفات الإقليمية وتبادل الموارد من الأسلحة الدفاعية والهجومية.
حيال ذلك تأمل إدارة ترامب أن يقود وقف الحرب في أوكرانيا إلى المساهمة في تنفيذ سياساته الرامية إلى تفكيك التحالفات الاستراتيجية مع الصين، وتحميل الأوروبيين مسؤولية حماية أمنهم بما يسمح للولايات المتحدة بتحويل مواردها نحو آسيا.
مكاسب جيوستراتيجية
تبدي إدارة ترامب اليوم حماسة منقطعة النظير حيال التقارب مع موسكو من اجل تحقيق مكاسب جيوستراتيجية كبيرة عجزت الإدارة السابقة عن تحقيقها وفي المقدمة إنهاء التحالف الروسي الصيني والإيراني الروسي.
أداتها لتحقيق ذلك هي إنهاء العزلة الدولية المفروضة على موسكو وتخفيف العقوبات الدولية عليها، حيث أن عودة روسيا إلى النظام الدولي سيقود إلى تباعد بينها وإيران، في حين أن إعادة روسيا إلى المنظومة الاقتصادية الغربية، بالسماح لها بتصدير النفط والغاز الروسي إلى أوروبا سيقود إلى تقليل اعتماد موسكو على الصين كشريك اقتصادي وحيد وقد يضعف تحالفها مع الصين.
ولأبعد من ذلك فإن إدارة ترامب تسعى إلى حصول تحسن بالاقتصاد الروسي يعيد موسكو إلى المنافسة في سوق السلاح إلى دول الشرق الأوسط، عوض التعاون مع إيران في سباق تسلح ترى واشنطن أنه قد يقوض المصالح الأمريكية في المنطقة.
وبالمقابل فإن واشنطن تسعى إلى إحياء التنافس الخفي بين روسيا والصين على النفوذ في آسيا الوسطى والقطب الشمالي ولذلك تسارع إدارة ترامب لإنجاح مفاوضات وقف النار وانهاء الحرب في أوكرانيا لتكون بوابة لعلاقات جديدة مع روسيا، تفتح الطريق لاستئناف الحوار الاستراتيجي مع روسيا، ولا سيما في مفاوضات الحد من الأسلحة النووية ودفع روسيا لتبني مواقف أكثر تعاونا مع الغرب بما يتيح لأمريكا والغرب منع إيران من امتلاك الأسلحة النووية.