د. مصْطَفَى غَلمَان (هناك استشراق في أكثر الرواد قلقًا، وأبعد الغرب هو أقصى الشرق) ـ هنري ديفيد ثوروـ عادت الرواية الاستشراقية إلى الظهور بقوة من جديد، بعد حادثة مقتل الشاب المهاجر ذي الأصول الجزائرية “نائل”، وما خلفته من تداعيات خطيرة على المجتمع الفرنسي والأوروبي. الأفكار التي صيغت من قبل وسائل الإعلام الفرنسية بخاصة، والأوروبية عامة، بطريقة تعمم المفاهيم والاتجاهات والتقييمات التي بناها التفكير الاستشراقي، على منظورات وتأويلات، تأسيسا على التشويه الثقافي والتاريخي، أو على شكل “العرقية” الناتجة عن سوء استخدام متعمد أو غير مقصود للغة، على خطى “كل العمليات اللغوية هي تشوهات” لرولان بارت، هي ذاتها تلك التي سرت في ركبان أبحاث ودراسات المستشرقين المقاربين على نحو مغالط وفضفاض لصور النمطية السلبية عن الآخر، وبالغاية الدقيقة، عن العربي والمسلم؟ لاتزال مفاهيم “الرواية الاستشراقية” التي وظفها المفكر ادوارد سعيد في كتابه الأمثولة “الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق”، حاضرة بقوة، باعتبارها منشأ سوسيولوجيا واجتماعيا وتاريخيا تؤثث أوجه تخلصها من الهويات المعقدة في قطعة واحدة بسيطة، غير بعيد عن جدليات القضايا الكبرى المتعلقة بالإسلام والهجرة الإسلامية والجاليات المسلمة في أوروبا، وما تحمله من قطائع ونحوت في التقييمات المعاصرة لتلكم الزواحف الاستشراقية، وارتباطاتها  بسرديات وسائل الإعلام والحركات الشعبوية والرأي العام، وخاصة الاتجاهات اليمينية المتطرفة، وما تستنتجه من مجمل التأطيرات والنقاشات الغارقة في الإسفاف والمهاترة.

ويبدو أن هذه السرديات لازالت تدعم التوجهات السالفة الذكر لعالم الاستشراق وتصنيفاته، والدليل ما أتبتته الأحداث الفرنسية الأخيرة، وانفلات بعض الأحزاب السياسية السائدة والرأي العام والحركات الاجتماعية في مجمل بلدان الغرب، والتئام كل ذلك مع التقاءات التفكير الاستشراقي وتشكيلاته الجديدة.

ولهذا كنت أتوافق مع إدوارد سعيد في اعتبار “الاستشراق قوة أيديولوجية مثل أي قوة أخرى”، بل “إنه مجرد اتجاه مألوف يحاول تبسيط المجموعات الاجتماعية من أجل النفعية السياسية أو العلمية، أو حتى السيطرة”. مع أن ذلك يتفوق نظريا على قاعدة أن “الاستشراق يمثِّل مبالغة في الاختلاف، وفرضية تنطوي على تفوق الغرب، وتطبيق نماذج التحليل النمطية عن العالم الشرقي”.

وهو المنظور الذي ينسجم مع أنساقية الاستشراق “كمصدر للتصوير الثقافي غير الدقيق، أي أصول الأفكار والتصورات الغربية عن الشرق”. بينما الأخطر في البعيدين الهائمين على أعقاب رؤية الاستشراق الأيديولوجية ومنفذها السياسي والثقافي للقوة والتحضر والاستلهام، هو تكريسها لهذا التجوهر الذاتي المغرور، والكامن في التسلط والانتهازية وتشويه الآخر؟ الاستشراق أيضا، يحتمي خلف منظومة ابتداعية غربية جديدة، تذكي نيران التجويف المخدوم لأهم القضايا المعاصرة للإسلاموفوبيا، التي يتم استخدامها إجرائيا وتضليليا للكشف عن بساطة الحجج المعادية للإسلام، والتي تتغاضى عن التعقيد وتكشف قضايا الخطاب اليميني التبسيطي، المجاهر بالكراهية والحقد وتشويه الخصوم دون أن يعني ذلك شيئا بالنسبة لمنظومة القيم المتداعية التي ترمز بالصنم الديمقراطي وتتحوط به وتجعله إلاها أو ضميرا للعالمين. حتى أضحى رهاب الإسلام المعاصر، وجها من أوجه الاستشراق الحداثي لدى غرب يجرف بدائل “كيفية صياغة الإسلام كمفهوم”، في اتجاه تحويل الأنظار من مجرد تأويل ثنائية “شرق غرب” كحضارة متنقلة ومتفاعلة، “غالب ومغلوب” إلى افتعال تصوُّر متهارش للإسلام، من خلال النقاشات المعدمة التي تصوغ المواقف الاجتماعية والتصورات الثقافية والأيديولوجية السياسية، وتجعلها “بؤرة” و”اقتساما للغنيمة” و”تطويرا لآليات الاستعمار”، بما فيها “الثقافية” و”اللغوية” والاجتماعية وغيرها. هل حان الآن وقت التفكير في تفكيك مقولات الاستشراق وتبعاته؟ ما الذي يجعل مركزية التجاوز الاستشراقي المعاصر للنظريات الثقافية المستحدثة، متباعدة ومتواطئة في الصلب العميق لرؤيتنا للتفكير المستقل والعقلاني، المناهض للاستبعاد والاقصاء والعدمية؟. ما الذي يجعل الاستشراق كتوجه فكري وثقافي أممي، منكمشا ومتواريا، ومستبعدا من باراديجمات الممارسات الثقافية الجديدة، بأبعادها الحضارية المشعة واشتباكاتها مع العوامل التكنولوجية والرقمية الحديثة؟ وكيف يمكن الخروج من كل تلك المآزق والحتوف، التي أوغلت في فضح المذاهب الاستعمارية المشغولة بتكريس “الصراع الحضاري” و”الحروب النووية” و”تفشي الفاشيات” ..إلخ؟ .. ربما نحتاج لإعادة قراءة الاستشراق، كفكر إنساني ووجداني مصلح، يرمز للتسامح والوعي بالمعرفة، والتسلح بالحقيقة وتطوير الحياة، ما يؤكد على فكرة بناء الوعي النقدي، وتحويل الذاكرة إلى مشتل لتأصيل الثقافة وتقديمها ضمن حدود ومقومات ثابتة ومتحولة وذات صيرورة متدفقة وجسورة. كاتب مغربي

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

خبير دولي: روسيا استطاعت أن تقنع العالم بأن أمنها القومي هو خط أحمر

أكد خبير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، حسن الدعجة، أنّ “روسيا تسعى إلى السلام لأنّها دائما وأبداً تحاول تدعيم السلام في المنطقة”.
ولفت الدعجة في تصريح لـ”سبونتيك”، إلى أن ّ “روسيا استطاعت أن تقنع العالم وأن تفرض وجهة نظرها بأنّ أمنها القومي هو خط أحمر وهي صاحبة الحق في هذا الإطار”.

وأشار الدعجة إلى أنّ “كل المحاولات والأهداف التي قام بها الغرب باءت بالفشل بسبب السياسة الروسية الحكيمة والاستراتيجية العسكرية المتينة والصمود الروسي الاقتصادي وإيجاد بدائل أخرى للاتحاد الروسي مع دول أوروآسيا والدول الأفريقية الأخرى والصين، وهذا يدفع باتجاه تعزيز العلاقات على حساب علاقاته مع الغرب بعدما وضع الغرب عقوبات ضد روسيا”.

ونوه إلى أنّ “الرئيس دونالد ترامب يريد وقف إطلاق النار في أوكرانيا”، مضيفًا أنّ ” الاتحاد الأوروبي يعتقد أنّه تضرّر بانفصال الولايات المتحدة عن الواقع الأوروبي وبالتالي تقترب المصالح الأوكرانية مع مصالح الأوروبية خصوصا فرنسا وبريطانيا المتحمّستين للدفاع عن أوكرانيا بدون دفع أثمان من هذه الدول”.
وأوضح:” الولايات المتحدة تريد الوصول إلى السلام كذلك روسيا تريد وقف إطلاق النار مع الاعتراف بالواقع التي فرضته العملية العسكرية لحماية المصالح الروسية في المناطق التي استعادتها روسيا ذات الأغلبية العرقية الروسية، لذلك كل هذه التناقضات تدفع بأوكرانيا بمحاولة القيام بعمليات جوية لفرض واقع جديد باعتقادها أنها لا زالت قوية وهذا طبعا ليس صحيحا فهي لا تمتلك أوراق قوة وضغط في المفاضات وزيلينسكي أصبح يسعى إلى السلام للتماهي مع سياسية الولايات المتحدة بعد التوافق على ذلك”.

وقال الدعجة: “ترامب يقرّ ويعترف ويضع النقاط على الحروف أنّه لولا تدخّل الولايات المتحدة في الشأن الداخلي الأوكراني تجاه روسيا لما بدأت العملية العسكرية وبالتالي هو عندما يضع هذه المبادئ العامة أمام الاتحاد الأوروبي سنرى التغيّر السريع”.
وفيما يتعلق بالاتصال المرتقب بين ترامب وبوتين، أكدّ “أنّ هناك توافقا على المبادئ العامة والأسس التي ترسي الاستقرار والأمن بين روسيا وأوكرانيا والمصالح القومية الروسية، وباعتقادي فإنّ التفاهمات التي تمت رسمت الخطوط العريضة لمسيرة السلام”.

وختم أنّ “روسيا تلتزم بالمبادئ والاتفاقيات مع الدول الصديقة ومنها الصين وإيران والدول العربية وكل الإغراءات التي قد تقدّمها الولايات المتحدة هي ليست لصالح روسيا التي تعلم كيف تناور لتحقيق مصالحها دون الإضرار بمصالح الآخرين”.

وكالة سبوتنيك

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • خبير دولي: روسيا استطاعت أن تقنع العالم بأن أمنها القومي هو خط أحمر
  • صنعاء «السيادة» فوق الغرب والشرق معاً..!
  • عبد السلام فاروق يكتب: جون ميرشايمر.. رجل رأى العاصفة قادمة
  • متغيرات السياسات الدولية
  • مسعود بارزاني يؤكد أهمية التقارب بين الأطراف السياسية في كركوك
  • هشام يكن: الشعب المصري في ظهر قيادته السياسية
  • السقوط الحتمي
  • المسيحية الصهيونية.. كيف تحولت إلى أداة سياسية؟
  • أعاصير تجتاح الغرب الأوسط الأمريكي وتُخلف 37 قتيلا وأضرارا جسيمة (شاهد)
  • مقارنة بين وقوف الغرب مع أوكرانيا وموقف العرب من فلسطين