د. مصْطَفَى غَلمَان: اَلْاِسْتِشْرَاقُ كَقُوَّةٍ اَيْدْيُولُوجِيةٍ فِي بِنْيَةٍ الْوَعْيِ الْأُورُوبِيِّ
تاريخ النشر: 18th, July 2023 GMT
د. مصْطَفَى غَلمَان (هناك استشراق في أكثر الرواد قلقًا، وأبعد الغرب هو أقصى الشرق) ـ هنري ديفيد ثوروـ عادت الرواية الاستشراقية إلى الظهور بقوة من جديد، بعد حادثة مقتل الشاب المهاجر ذي الأصول الجزائرية “نائل”، وما خلفته من تداعيات خطيرة على المجتمع الفرنسي والأوروبي. الأفكار التي صيغت من قبل وسائل الإعلام الفرنسية بخاصة، والأوروبية عامة، بطريقة تعمم المفاهيم والاتجاهات والتقييمات التي بناها التفكير الاستشراقي، على منظورات وتأويلات، تأسيسا على التشويه الثقافي والتاريخي، أو على شكل “العرقية” الناتجة عن سوء استخدام متعمد أو غير مقصود للغة، على خطى “كل العمليات اللغوية هي تشوهات” لرولان بارت، هي ذاتها تلك التي سرت في ركبان أبحاث ودراسات المستشرقين المقاربين على نحو مغالط وفضفاض لصور النمطية السلبية عن الآخر، وبالغاية الدقيقة، عن العربي والمسلم؟ لاتزال مفاهيم “الرواية الاستشراقية” التي وظفها المفكر ادوارد سعيد في كتابه الأمثولة “الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق”، حاضرة بقوة، باعتبارها منشأ سوسيولوجيا واجتماعيا وتاريخيا تؤثث أوجه تخلصها من الهويات المعقدة في قطعة واحدة بسيطة، غير بعيد عن جدليات القضايا الكبرى المتعلقة بالإسلام والهجرة الإسلامية والجاليات المسلمة في أوروبا، وما تحمله من قطائع ونحوت في التقييمات المعاصرة لتلكم الزواحف الاستشراقية، وارتباطاتها بسرديات وسائل الإعلام والحركات الشعبوية والرأي العام، وخاصة الاتجاهات اليمينية المتطرفة، وما تستنتجه من مجمل التأطيرات والنقاشات الغارقة في الإسفاف والمهاترة.
ويبدو أن هذه السرديات لازالت تدعم التوجهات السالفة الذكر لعالم الاستشراق وتصنيفاته، والدليل ما أتبتته الأحداث الفرنسية الأخيرة، وانفلات بعض الأحزاب السياسية السائدة والرأي العام والحركات الاجتماعية في مجمل بلدان الغرب، والتئام كل ذلك مع التقاءات التفكير الاستشراقي وتشكيلاته الجديدة.
ولهذا كنت أتوافق مع إدوارد سعيد في اعتبار “الاستشراق قوة أيديولوجية مثل أي قوة أخرى”، بل “إنه مجرد اتجاه مألوف يحاول تبسيط المجموعات الاجتماعية من أجل النفعية السياسية أو العلمية، أو حتى السيطرة”. مع أن ذلك يتفوق نظريا على قاعدة أن “الاستشراق يمثِّل مبالغة في الاختلاف، وفرضية تنطوي على تفوق الغرب، وتطبيق نماذج التحليل النمطية عن العالم الشرقي”.
وهو المنظور الذي ينسجم مع أنساقية الاستشراق “كمصدر للتصوير الثقافي غير الدقيق، أي أصول الأفكار والتصورات الغربية عن الشرق”. بينما الأخطر في البعيدين الهائمين على أعقاب رؤية الاستشراق الأيديولوجية ومنفذها السياسي والثقافي للقوة والتحضر والاستلهام، هو تكريسها لهذا التجوهر الذاتي المغرور، والكامن في التسلط والانتهازية وتشويه الآخر؟ الاستشراق أيضا، يحتمي خلف منظومة ابتداعية غربية جديدة، تذكي نيران التجويف المخدوم لأهم القضايا المعاصرة للإسلاموفوبيا، التي يتم استخدامها إجرائيا وتضليليا للكشف عن بساطة الحجج المعادية للإسلام، والتي تتغاضى عن التعقيد وتكشف قضايا الخطاب اليميني التبسيطي، المجاهر بالكراهية والحقد وتشويه الخصوم دون أن يعني ذلك شيئا بالنسبة لمنظومة القيم المتداعية التي ترمز بالصنم الديمقراطي وتتحوط به وتجعله إلاها أو ضميرا للعالمين. حتى أضحى رهاب الإسلام المعاصر، وجها من أوجه الاستشراق الحداثي لدى غرب يجرف بدائل “كيفية صياغة الإسلام كمفهوم”، في اتجاه تحويل الأنظار من مجرد تأويل ثنائية “شرق غرب” كحضارة متنقلة ومتفاعلة، “غالب ومغلوب” إلى افتعال تصوُّر متهارش للإسلام، من خلال النقاشات المعدمة التي تصوغ المواقف الاجتماعية والتصورات الثقافية والأيديولوجية السياسية، وتجعلها “بؤرة” و”اقتساما للغنيمة” و”تطويرا لآليات الاستعمار”، بما فيها “الثقافية” و”اللغوية” والاجتماعية وغيرها. هل حان الآن وقت التفكير في تفكيك مقولات الاستشراق وتبعاته؟ ما الذي يجعل مركزية التجاوز الاستشراقي المعاصر للنظريات الثقافية المستحدثة، متباعدة ومتواطئة في الصلب العميق لرؤيتنا للتفكير المستقل والعقلاني، المناهض للاستبعاد والاقصاء والعدمية؟. ما الذي يجعل الاستشراق كتوجه فكري وثقافي أممي، منكمشا ومتواريا، ومستبعدا من باراديجمات الممارسات الثقافية الجديدة، بأبعادها الحضارية المشعة واشتباكاتها مع العوامل التكنولوجية والرقمية الحديثة؟ وكيف يمكن الخروج من كل تلك المآزق والحتوف، التي أوغلت في فضح المذاهب الاستعمارية المشغولة بتكريس “الصراع الحضاري” و”الحروب النووية” و”تفشي الفاشيات” ..إلخ؟ .. ربما نحتاج لإعادة قراءة الاستشراق، كفكر إنساني ووجداني مصلح، يرمز للتسامح والوعي بالمعرفة، والتسلح بالحقيقة وتطوير الحياة، ما يؤكد على فكرة بناء الوعي النقدي، وتحويل الذاكرة إلى مشتل لتأصيل الثقافة وتقديمها ضمن حدود ومقومات ثابتة ومتحولة وذات صيرورة متدفقة وجسورة. كاتب مغربيالمصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
حرب إسرائيل على المعالم الأثرية محاولة لإبادة هوية غزة الثقافية وتاريخها
واقتفى "المرصد" -في حلقته بتاريخ (2024/4/14)- أثر ما ارتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المعالم الأثرية في قطاع غزة، في عملية تخريب ممنهج طالت عشرات المواقع والمباني التاريخية والدينية التي تحوّلت إلى ركام.
وتعد هذه العملية واحدة من أوسع عمليات التخريب لإرث ثقافي فلسطيني وإنساني ضخم، ومحاولة مكشوفة لإبادة الهوية الثقافية العريقة لمدينة غزة، إذ طال الدمار المساجد والكنائس والمتاحف والمراكز الثقافية والمكتبات العامة.
يقول مدير دائرة المواقع والتنقيب في وزارة السياحة والآثار الدكتور حمود الدهدار إن غزة واحدة من أهم وأقدم مدن العالم، وتعود إلى العصر الكنعاني.
ووفق حديث الدهدار لـ"المرصد"، فإن غزة تضم أكثر من 70% من المعالم الأثرية على مستوى قطاع غزة، كاشفا عن تضرر 316 موقعا تاريخيا وتراثيا جراء الحرب الإسرائيلية.
ودمر الاحتلال بشكل كامل 11 مسجدا تاريخيا من أصل 14، إضافة إلى تدمير متحف قصر الباشا الذي يضم قطعا أثرية تعود للشعب الفلسطيني وإلى ما قبل العهد العثماني، حسب الدهدار.
وكشف مدير دائرة المواقع والتنقيب في وزارة السياحة والآثار عن عمليات بحث جارية عن أي قطع أثرية وتاريخية خاصة بالمتحف، الذي كان يضم أكثر من 70 ألف قطعة أثرية.
إعلانبدورها، قالت مديرة متحف قصر الباشا ناريمان خلة إن القصر يعود إلى نهاية الدولة المملوكية وبداية الدولة العثمانية، وكان يستخدم لحكم غزة.
وأوضحت خلة لـ"المرصد" أنه تم افتتاح متحف القصر في عام 2010، وكان يضم العديد من القطع الأثرية التي تعود إلى العصور اليونانية والبيزنطية والرومانية وغيرها، مشيرة إلى أن الاحتلال دمر المكان وجرفه خلال توغله في حي الدرج شرقي غزة أواخر 2023.
من جانبه، أكد الكاتب والروائي يسري الغول أن الاحتلال الإسرائيلي عمد إلى تدمير المكون الثقافي لتزييف الوعي التاريخي للمواطن الفلسطيني ووجوده على هذه الأرض المحتلة.
الموت تحت الأقداموتناول "المرصد" في قصته الثانية جرائم الحروب التي لا تنتهي بالتقادم، إذ يمر هذا العام نصف قرن على نهاية حرب فيتنام، غير أن نتائج تلك الحرب لا تزال مستمرة حتى اليوم.
ولا تزال تحصد الألغام حياة كثيرين، والمواد الكيميائية التي أُمطرت بها الحقول تشوّه الأجساد وتفتك بالأرض. وفي وقت يتهدد فيه الموت تحت الأقدام ملايين المدنيين، تتعثر جهود نزع الألغام بسبب نقص التمويل، وتخلي المنظمات الدولية عن تلك المهمة.
وفي إحيائها اليوم الدولي للتوعية بمخاطر الألغام، نبهت الأمم المتحدة إلى أن 100 مليون شخص حول العالم مهددون بخطر مخلفات الحروب والذخائر غير المنفجرة.
وتمتد خريطة الألغام عبر مناطق واسعة من العالم، إذ يستمر في دول البلقان مسح الحقول والغابات بعد مرور 30 عاما على نهاية الحرب.
وبينما تشكل ملايين القنابل العنقودية التي زرعتها إسرائيل في لبنان قاتلا صامتا يتربص بالمدنيين، تتسبب الألغام في أفغانستان في موت كثيرين وإعاقة أعداد لا تحصى، خصوصا من الأطفال.
14/4/2025