د. عبد الحميد فجر سلوم لم أتفاجأ بتصريح الرئيس أردوغان يوم الإثنين 17 تموز/ يوليو 2023 ، قُبيلَ مغادرتهِ مطار استنبول في زيارةٍ للسعودية وقطر والإمارات، حينما قال: (إنسحاب الجيش التركي من شمالي سورية غير ممكن، إذ أن قواتنا هناك تكافح الإرهاب والتنظيمات الإرهابية) .. طبعا لا يخفى على أحد من هي التنظيمات الإرهابية التي يقصدها أردوغان، فهي ليست تلك التي صنّفتها الأمم المتحدة والمُجتمع الدولي تنظيمات إرهابية، فهذه تتلقى الدّعم والحماية من أردوغان في شمال غرب سورية (محافظة إدلب) .
بالنسبة لأردوغان الإرهاب كله محصور بقوات سورية الديمقراطية (قسَد) التي تُشكِّلُ “ وحدات حماية الشعب الكردي” (واي بّي جي) ” العمود الفقري بها، وهذه تتبع لٍحزب الإتحاد الديمقراطي الكردي (بّي واي دي) التي يعتبرها أردوغان الفرع السوري من تنظيم (بّي كي كي) التركي، الذي يقبع زعيمهُ “عبد الله أوجلان” في السجن منذ شباط 1999.. وهذه بطبيعة الحال، أي (قسَد) ليست سوى جيشا أمريكيا في شمال شرق سورية، فيهِا من شتّى المكونات العِرقية أو القومية في تلك المناطق، وتُشكِّلُ حالة انفصالية عن الجِسم السوري بدعمٍ وتمويلٍ وتسليحٍ أمريكي، ولخدمة أجندات أمريكية.. ** ليست المرّة الأولى التي يؤكِّد فيها أردوغان رفضهُ للانسحاب من سورية.. فقد سبق وصرّح بذلك مرات عديدة، بل وفي أحدِ تصريحاتهِ في 9 تشرين ثاني/ نوفمبر 2019 قال: لن ننسحب من سورية قبل انسحاب الدول الأخرى.. ويقصد بالدول الأخرى الولايات المتحدة، وإيران، وروسيا.. يعني ما حدا أحسن من حدا.. هكذا يعتقد أردوغان.. تُركيا، وكما أوضحتُ في مقالات عديدة بالماضي، تُكرِّرُ تجربة اسكندرون في سورية.. وتُكرِّر تجربة شمال قبرص في شمال سورية.. ففي اسكندرون السليب من سورية منذ عام 1939 ، طبّقت تركيا فيه سياسة التتريك بالكامل.. واليوم تركيا تحتل من سورية في الشمال 8830 كم2 وتُطبِّق فيها سياسة التتريك بالكامل.. واتّخذت قرارات تمنعُ على أيِّ مُدرِّسٍ التدريس في الجامعات والكليات والمعاهد والمدارس في مناطق الاحتلال التركي، ما لم يكُن مُتقِنا للغة التركية، كي يكون كلُّ شيءٍ تُركيا: التدريس، المناهج، المدارس، الجامعات، أسماء المُدُن والقُرى والشوارع والساحات، الثقافة، التاريخ، العُملة .. الخ.. ورفعِ العلَم التركي، ونشرِ بطاقات الهوية التركية بين السكان، ودفعِ الرواتب بالليرة التركية، وربطِ كل شيء بتركيا، حتى غدَت هذه المناطق تُعامَل كما أي منطقة أو ولاية بداخل تركيا. إنهُ أخطر عملية طمس للثقافة والهوية والتاريخ، وكأننا في أراضٍ داخل تركيا، ولسنا في أراضٍ سورية، بل التقارير تفيد أن جيلا من الأطفال الجُدُد السوريون لا يعرفون التحدُّث باللغة العربية… وهي ذات السياسة التي اتّبعها أسلافهُ في لواء اسكندرون السليب.. ومن يتّبع هكذا سياسات فإنه يُخطِّطُ بعيدا، ولا يضعُ في حسبانهِ أصلا الانسحاب من سورية.. إنها ذات السياسة التي اتّبعتها إسرائيل في الجولان السوري المُحتل.. عِلما أن أردوغان يحتل من الأراضي السورية ثمان أضعاف ما تحتلّهُ إسرائيل. بل حكومات أردوغان تدّعي أن هناك العديد من المناطق والقُرى السورية في محافظتي حلب وإدلب تعود ملكيتها لعائلة السُلطان عبد الحميد الثاني، وهذا يعني أنها أراضٍ تركية، وفُرصَتها الذهبية اليوم بالسيطرة عليها، وضمِّها مع الزمن لتركيا، سواء بشكلٍ رسمي أو بِحُكم الأمر الواقع.. ولذلك لجأت إلى تحويل منزل في منطقة عفرين إلى متحف بحجّة أن مصطفى كمال أتاتورك استخدمهُ كقاعدة خلال الحرب العالمية الأولى.. ** ومن هنا لا أُبالغ إن قلتُ، أنه قد يأتي يوما وإن أدركَتْ تركيا أنهُ يجب أن تنسحب من سورية، فقد تلجأ إلى عملية استفتاء في المناطق التي تحتلها في الشمال، وتلك التي تحت رعايتها وإشرافها، في شمال غرب، وتخرجُ بنتيجة أن أهالي وُمجتمعات تلك المناطق تريد البقاء تحت العلَم التركي.. لاسيما أن العثمانيين الجُدُ يعتبرون بالأساس أن تلك المناطق هي تركية، وفيها مكوِّن تركماني واسع.. وللأسف كثيرون ممن ينتمون للمكوِّن التركماني في سورية، استجابوا للعصبية القومية التي أثارها أردوغان في رؤوسهم منذ عام 2012 ، حينما قامَ في كانون ثاني من ذاك العام بتأسيس المجلس التركماني لتركمان سورية، في اسطنبول، وفي آذار 2013 اصبح اسمهُ (المجلس التركماني السوري) .. وفي تشرين أول 2019 نظَّم ” المجلس التركماني السوري” برعايةٍ تركيةٍ مباشرةٍ، مؤتمراً للتركمان في بلدة ” الراعي” الحدودية شمال حلبْ، بعد أن تغيّر اسمها العربي لِتِصبِح ” جوبان باي” .. وأطلقتْ تركيا على المؤتمر اسم ” مؤتمر الأمّة” .. وتمّ خلالهُ الاتفاق على اعتماد “عَلَمْ” واحد للمجلس التركماني السوري، الذي يضمُّ أحزابا متعددة.. إذاً بات للتركمان السوريين الموالين لتركيا علَمَهم الخاص، وباتوا يعتبِرون أنفسهم أمّة بحدِّ ذاتها.. ** بل إن استطردنا قليلا، وخلافا لإدعاءات الطامعون الأتراك، فإن حدود سورية التاريخية والقانونية هي تلك التي رسمتها (معاهدة سيفر) عام 1920 التي وقعتها الدولة العثمانية مع الحُلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، وتم فيها تعيين الحدود السورية ــ التركية بدءاً من بلدة (كاراتاش) شمال غرب خليج اسكندرون على البحر المتوسط، وعلى خط طول مدينة أضنَة ثم يتّجه الخط حتى بلدة جيهان، ثمّ يتّجه شرقا بحيث يضمُّ مدُن عنتاب وأورفا وماردين وجزيرة ابن عمر، ويكون خط الحدود من الشمال الشرقي عند التقاء نهر (قره صو) مع نهر دجلة، ثم يسير خط الحدود بشكل مستقيم مع نهر دجلة حتى دخول الأراضي العراقية.. ولكن بعد رفض المقاومَة العسكرية التركية بقيادة مصطفى كما أتاتورك لذلك، قامت باريس بِعقدِ (اتفاقية أنقرة) في تشرين أول عام 1921، وتنازلت بموجبها لتركيا عن 18 ألف كيلو متر مربّع للجانب التركي من الأراضي السورية.. وتبقَى بالقانون الدولي حدود سورية هي تلك المرسومة في معاهدة سيفر، وحتى يمكن رفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية بهذا الشأن.. طبعا تركيا سترفض ذلك، ولكن حتى ولو رفضت، فإن مُجرد إثارة هذه القضية إنما يبعثُ برسالةٍ قوية لتركيا أن السوريين لن ينسوا أراضي بلدهم الأصلية والتاريخية مهما طال الزمن، وأن تركيا دولة مُحتلّة لأراضٍ سوريةٍ شاسعة.. ** حينما نتحدّثُ عن تركيا، فنحن نتحدّثُ عن العقل العُثماني(العنيد) والذي لا يعرفُ سوى منطق القوة، ولا يرضخُ إلا للقوة، وأردوغان يُجسِّدُ اليوم هذا العقل بكلِّ أبعاده، ويُفاخر بتاريخ العثمانيين، ولذلك يُطلَقُ عليهِ وعلى كل جماعة حزبهِ (العثمانيون الجُدُد).. وما زالت في ثقافتنا الشعبية في بلاد الشام، كلمة (عصملِّي) تُشيرُ للشخص العنيد (يابس الرأس) .. لن أنسى ذاك الإجتماع في مبنى الأمم المتحدة في جنيف، حينما كانت الحرب في البوسنة والهرسك، أوائل التسعينيات، وفي ذروةِ مجازر الصُرب بحقِّ أهالي البوسنة، اجتمع حينها مبعوث المجموعة الأوروبية إلى يوغسلافيا (قبل أن يُولَد الاتحاد الأوروبي) اللورد كارينغتون Lord Carrington (وهو بريطاني الجنسية) وكان يسعى لوقف إطلاق النار بين الأطراف المُتحارِبة، اجتمعَ مع مندوبي الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، وكنتُ من بينِهم، وحينما حصلَ جِدالٌ بينهُ وبين السفير التركي (الذي كانت بلادهُ تساعدُ أهل البوسنة بالسلاح وهذا يُعيقُ مهمة كارينغتون) فقالَ لهُ كارينغتون بنبرةٍ غاضبةٍ: (نحنُ نعرفكم عبر التاريخ، فلم تجلسوا على طاولة المفاوضات في أي وقتٍ إلا وأنتُم مهزومون).. ** فما الذي سيدفع أردوغان اليوم للإنسحاب من شمال سورية وهو في موقع القوة، إذ يحتل 8830 كم2 ، ويتبع له جيش من السوريين، يُسمّى (الجيش الوطني) ويُقدّر عددهُ بأكثر من 80 ألف مُقاتل، ويستخدمهم في حروبهِ داخل سورية، وخارجها، كما ليبيا وناكورنو كاراباخ إلى جانب أذربيجان.. وبيدهِ ورقة إدلب.. ولاسيما أيضا في هذه الوقت الذي أخذتهُ فيه النشوة، وبدأ يشعر أن لديه فائض من القوة.. فقد نجح في ولاية رئاسية جديدة لتركيا.. وتمكّن من ابتزاز دول الناتو في مسألة انضمام السويد للحلف.. ووعدَهُ الجميع بتسريع مسألة انضمام تركيا للإتحاد الأوروبي.. والتقى الرئيس الأمريكي بايدن في فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا خلال قمة الناتو، واتّفقا على مرحلة جديدة بالعلاقات، وتمنّى لِبايدن الفوز في إنتخابات العام القادم في الولايات المتحدة.. وحصل على وعود بأن يرفع الجميع العقوبات والقيود على مشتريات السلاح لبلادهِ، بما فيها طائرات إف 16 .. وربما بعدها طائرات إف 35، لإغراء أردوغان والابتعاد للأخير عن الرئيس بوتين.. وربما هذا سيزيد من غضب موسكو، بعد غضبها من إطلاق أردوغان سراح خمسة ضباط من قادة كتيبة (آزوف) خلال زيارة زيلينسكي لهُ، وكان الإتفاق مع موسكون أن يبقى هؤلاء في تركيا حتى نهاية الحرب في أوكرانيا، بناء على صفقة تبادل أسرى، توسطتها تركيا.. ** المُحتل لا يخرج بالدعاء ولا بالتمنيات.. يخرُج بالمقاومة.. ولنا في جنوب لبنان مَثلا ساطعا.. ودوما هناك حديث في دمشق عن مقاومة لطرد المُحتل الأمريكي.. فهل ستكون هناك مقاومة لطرد المُحتل التركي؟. كاتب سوري وزير مفوض دبلوماسي سابق
المصدر: رأي اليوم
كلمات دلالية:
من سوریة
فی شمال
إقرأ أيضاً:
أردوغان: إسرائيل ستنسحب من الأراضي السورية التي احتلتها
أكد رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي، اليوم الاثنين، أن "رسائل الإدارة السورية الجديدة مطمئنة وتبعث على التفاؤل".
أردوغان:
تركيا لن تسمح بأي تهديدات تمس سيادة
سوريا سفير تركيا بالقاهرة :
مجموعة الثمانية هي مجموعة تمت بمبادرة كفكرة ومشروع من قبل رئيس وزرائنا الأسبق أربكان
وبحسب"سبوتنيك"، قال أردوغان، في كلمة له، إن "تركيا كانت الدولة الأفضل في التعامل وفهم ما يجري في سوريا"، مؤكدا أن "استقرار سوريا سينعكس على باقي دول المنطقة"، حسب وكالة "الأناضول" التركية.
وبشأن إسرائيل، قال الرئيس التركي، إن "إسرائيل ستنسحب من الأراضي التي احتلتها في سوريا، عاجلا أم آجلا، وستكون مجبرة على ذلك"، متابعا: "لا يوجد أي مكان للتنظيمات الإرهابية في مستقبل سوريا والمنطقة.
يشار إلى أن الجيش الإسرائيلي، ومنذ الثامن من الشهر الحالي، بدأ باستهداف مواقع عسكرية في كافة المحافظات السورية، عبر سلاح الطيران، حيث رصدت أكثر من 500 غارة جوية، بالإضافة لصواريخ أطلقت من بوارج إسرائيلية، متمركزة بالقرب من السواحل السورية.
وفي 8 ديسمبر الجاري، سيطرت مجموعة من المسلحين المنتمين إلى "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقا) على مبنى التلفزيون السوري الرسمي في العاصمة دمشق، وأعلنوا سيطرتهم على البلاد، وسقوط حكم الرئيس السابق بشار الأسد.