أعلنت محكمة العدل الدولية بأنها ستصدر اليوم قرارها في الدعوى المقدمة من دولة جنوب أفريقيا ضد دولة إسرائيل التي تتهمها فيها بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ، وحقيقة الأمر أن المحكمة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، تكون بذلك لم تتأخر كثيراً، فهي بعد أسبوعين فقط من استماعها لمرافعتَي الادعاء والدفاع، تعلن قرارها، الذي رغم أن معظم العالم يتوافق مع فحوى الدعوى نظراً لما رآه بأم عينه، لأن إسرائيل ارتكبت ولاتزال ترتكب جرائم الحرب على مرأى ومسمع العالم، في عصر "السوشيال ميديا" والفضائيات، إلا أنه ليس من المؤكد أن يصدر القرار معبراً عن العدالة، أي لصالح الضحايا، وذلك لأن العالم ما زال يفتقر للعدالة والمساواة بين البشر، وما زال محكوماً بنظام عالمي ظالم، تتعرض فيه محاكم الدول والمحاكم الدولية للضغوط والاعتبارات السياسية.


ولكن حتى في حال تحلت المحكمة وقضاتها بالشجاعة، وقدمت أملاً البشرية بحاجة إليه حتى لا تفقد ثقتها بالإنسانية والتعايش بين الشعوب والبشر، وصدر قرارها، منسجماً مع الواقع، ومجرّماً إسرائيل التي عجز مجلس الأمن والمجتمع الدولي عن ردعها، أي لو صدر القرار مؤكداً ارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية، وطالبها بوقف الحرب فوراً، فإن السؤال التلقائي سيكون، هل ستذعن له إسرائيل، وعلى الأغلب فإن إسرائيل لن تفعل، وهي كانت قد أعلنت صراحة وعلى لسان العديد من قادتها بمن فيهم رئيس حكومتها نفسه، بأن قرار المحكمة لن يوقفها عن مواصلة الحرب، وذلك بعد أن هاجمت المحكمة نفسها، وبعد أن فعلت الشيء نفسه تجاه منظمة الأمم المتحدة وأمينها العام، حيث اعتبرت أكثر من مرة، منظمةَ الأمم المتحدة غير عادلة، بل وعملياً أوقعت إسرائيل العشرات من العاملين بالمنظمة الدولية وغيرها من المنظمات العالمية قتلى من بين ضحايا حربها على قطاع غزة.
والحقيقة أن إسرائيل قد وصلت إلى ذروة العنف والتطرف والإجرام الرسمي، وقد صارت _وحدها_ في جانب والعالم كله في جانب آخر، وحتى الولايات المتحدة، ظهرت خلال هذه الحرب المستمرة منذ شهور، غير منسجمة سياسياً مع إسرائيل، لكنها وقفت إلى جانبها ميدانياً وعملياً، بل ودخلت معها الحرب ضد اليمن، ودفعت بقوتها العسكرية على مقربة من حزب الله، أي أنها سهّلت الحرب ميدانياً وسياسياً على إسرائيل، بأن عبّدت لها طريق الانفراد بغزة، بمنع نصرة الآخرين لها، حزب الله في الشمال واليمن في الجنوب، ولم تنجح في إقناع إسرائيل بتجنب قتل المدنيين الفلسطينيين بالمئات يومياً، كذلك أعلنت أنها ضد تهجيرهم من وطنهم، وأنها ضد إعادة احتلال غزة، وضد حتى السيطرة الأمنية الإسرائيلية عليها، لكنها لم تنجح حتى في إجبار إسرائيل على تحويل أموال المقاصة، كما سبق لإسرائيل نفسها أن تعهدت، عبر نتنياهو وسموتريتش بتحويل تلك الأموال المستحقة للجانب الفلسطيني عبر النرويج، وأكثر من ذلك ما زالت إسرائيل تربك العالم بما تعلن عنه من تصريحات في غاية التطرف، فهذا هو الاتحاد الأوروبي قبل أيام وهو يعد خطة لحل سياسي، يُفاجأ بوزير خارجية إسرائيل الجديد، إسرائيل كاتس يقترح إقامة جزيرة صناعية في البحر لتوطين الفلسطينيين فيها، أي أن إسرائيل ما زالت مصرّة على التهجير الذي ترفضه دول الجوار (مصر والأردن) وكل الدنيا، فضلاً عن أنه جريمة حرب.
أي أن إسرائيل لم ترتدع، ولم تُقم للمحكمة الدولية، ولا للمجتمع الدولي كله أي اعتبار، فهي لم تكتف بما ارتكبته من جرائم، وهي ما زالت تعلن ليلَ نهار، عن مواصلة الحرب بنفس الوتيرة وبنفس الكيفية، وكأنها تقول لأميركا: عليكِ أن تقفي وراءنا وليس معنا فقط، كما وكأنها تقول للمحكمة الدولية: اتخذي قرارك ضدنا، فلن يغير ذلك من الأمر شيئاً، وتقول للأوروبيين، وللعرب كلهم فرادى ومجتمعين، بأنها لن تستجيب لأدنى مطلب أو حد أو حاجز، فهي ما زالت تواصل منع دخول المساعدات، ولتشرب مصر ومعها بايدن من البحر، وهي ما زالت تمنع نازحي الشمال وغزة من العودة، وهي بذلك تؤكد بأنها لا تحترم أحداً، لا من قريب ولا من بعيد، بل إن حكومتها لا تهتم بشأن الداخل لا باستطلاعات رأيه ولا بمظاهرات عائلات المحتجزين، فنتنياهو لا يهتم بصفقة تؤدي إلى الإفراج عنهم، معارضاً ما تطالبه به المعارضة، وكل هذا رغم ما يقال من خلافات داخل كابينت الحرب، وفي المجلس الوزاري المصغر، تماماً، كما كان حال النظام العنصري في جنوب أفريقيا، حين كانت كل الدنيا ضده، وظل يواصل سيره على طريق الفصل العنصري وإقامة المعازل ما بين البيض والسود من مواطني الدولة.
صحيح أن نتنياهو لا يلين، ولا حتى يُظهر أي مرونة ولا في أي مستوى، ولا حتى أنه يلجأ إلى حيلة الكذب أو بيع الكلام وإظهار المرونة فيما هو شكلي، كما يفعل الأميركيون مثلاً، وكل هذا لأنه في آخر مشواره السياسي، يتشبث بالسلطة حتى الرمق الأخير، رغم أن إسرائيل تخسر أكثر مما تخسره في الاقتصاد وفي أرواح جنودها، من مستقبلها وعلى الصعيد الاستراتيجي، فقد بدأ العالم كله يسميها بالدولة التي ترتكب جرائم الحرب، وجريمة الإبادة الجماعية، حتى قبل أن تدينها المحكمة رسمياً، وحتى لو عجزت، كما حدث مع مجلس الأمن من قبل، عن إدانتها، وستظل إسرائيل بعد حرب غزة، أيا تكن النتيجة دولة معزولة، بل إن حربها فيما بعد ستكون مع المجتمع الدولي كله.
أي أن مصلحة نتنياهو وشركائه من الفاشيين، في البقاء في الحكم عبر خيار استمرار الحرب، بات على حساب مكانة ومستقبل إسرائيل، وإذا كانت مؤسسات الدولة، من الجيش وأجهزة الأمن، والقضاء، عاجزة عن وضع حد لنتنياهو وبن غفير وماري ريغيف وسموتريتش ونير بركات، وحتى جدعون ساعر وافيغدور ليبرمان، لصالح مستقبل الدولة وتعايشها في المنطقة، فإن أحداً لا يمكنه أن ينقذ إسرائيل من مصير محتوم، هو المصير نفسه الذي واجهه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
فقط أميركا وحدها يمكنها أن تضع حداً لحكام إسرائيل الحاليين الذين يواصلون حرب الإبادة الجماعية، التي تلحق الضرر الكبير بإسرائيل أيضاً، وتجعل منها دولة تندد بها الشعوب ليل نهار عبر التظاهرات التي لم تخرج ضد أي دولة في العالم، من قبل، فيما تعلن كل الحكومات بما فيها الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية عن مواقف تسارع إسرائيل فوراً لرفضها، حتى أستراليا استغربت مؤخراً من إعلان نتنياهو رفضه إقامة الدولة الفلسطينية، (صح النوم)، فنتنياهو هذا حكم إسرائيل ما بين عامي 1996_1999، ومن ثم ما بين عامي 2009 _2021، وحالياً هو رئيس الوزراء منذ أكثر من عام مضى، أي أنه قاد إسرائيل أكثر من 15 سنة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، كان خلالها قد فعل كل ما يمكنه فعله من أجل إفشال اتفاق السلام الوحيد الذي تم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو الذي كان يمكنه أن يحقق الأمن والاستقرار للشرق الأوسط قبل ربع قرن من الآن، فكيف يمكن لواشنطن أن تجبر إسرائيل على تغيير الاتجاه ووقف الحرب؟
أميركا يمكنها بالطبع أن تفعل ذلك لو أرادت عبر السماح بتمرير قرار بمجلس الأمن، ويمكن لبايدن أن يمتنع عن إرسال الذخائر، على الأقل دون موافقة الكونغرس، وأن يخرج من جبهة التصدي للحوثي ولحزب الله، بل يمكنه أن يسقط نتنياهو فوراً، فقط من خلال اعتبار أن نتنياهو لا يمثل إسرائيل، لكنه لا يفعل، وكل هذا لارتباط الموقف الأميركي بانتخابات الرئاسة، أما نتنياهو فيتشبث باحتمال عودة ترامب للبيت الأبيض، الذي بدأ طريق تلك العودة بالفوز بترشيح الحزب الجمهوري في ولايتَي أيوا ونيوهامبشاير، مع ترافق ذلك بانسحاب أبرز منافسيه رون ديسانتيس، أما بايدن فسيواجه ترامب مجدداً، أي أن أميركا قد دخلت فعلياً في "مرحلة البيات الشتوي" على صعيد السياسة الخارجية، وهكذا فإن المغامرة العسكرية الإسرائيلية محفوفة بالمخاطر، التي ستوقع المزيد من الضحايا الفلسطينيين، لكنها ستؤدي إلى تآكل ليس الردع العسكري الإسرائيلي وحسب، بل مكانة إسرائيل كدولة قابلة للحياة والتعايش في عالم، تتزايد رغبته في نظام عالمي أكثر مساواة وعدالة، عالم متداخل تتعايش فيه الشعوب في حب، وسلام، وليس في كراهية وتسلُّط وحروب أياً كانت طبيعتها.

المصدر : وكالة سوا

المصدر: وكالة سوا الإخبارية

كلمات دلالية: أن إسرائیل أکثر من ما زالت

إقرأ أيضاً:

مطالب وشروط نتنياهو أبعد من مجرّد صفقة لوقف الحرب

كتب غاصب المختار في" اللواء": يتضح من كل المشهد السياسي الفولكلوري والعسكري الدموي، ان لا مجال لإقناع إسرائيل بوقف الحرب، خاصة في ظل «الدلع» الأميركي الزائد وغض النظر عن المجازر التي يرتكبها الاحتلال وعن التقدم البرّي الذي أدّى الى تدمير قرى بكاملها عند الحد الأمامي الجنوبي، ما أوحى لبعض الجهات السياسية المتابعة بأن الكيان الإسرائيلي ذاهب الى أبعد من مجرد مطالب وشروط أمنية وسياسية لضمان حدوده الشمالية وإعادة المهجرين من المستوطنات الحدودية. فظهر من كلام نتنياهو في الأسابيع الأخيرة ان هدف الحرب هو تغيير خريطة الشرق الأوسط وواقعه السياسي، وصولا الى ما يخطط له من استكمال التطبيع مع بعض الدول العربية وإقامة سلام في الشرق الأوسط وفق رؤيته لهذا «السلام» بالخلاص من كل يتسبب بإفشال مشروعه، من لبنان الى سوريا والعراق وإيران وحتى اليمن.

وفي صورة أوسع من المشهد الحالي القائم، لا بد من العودة الى وعود الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بأنه سيعمل فور تسلّمه منصبه رسمياً على «تحقيق السلام في الشرق الأوسط بما يعيد الازدهار والاستقرار والامان الى شعوبه»، ويتضح ان السلام الذي يريده ترامب لا يختلف عن الذي يريده نتنياهو بل يتماهي معه الى حد التوافق التام. فأي سلام بالمفهوم الأميركي - الإسرائيلي يعني تغليب مصالح الدولتين على مصالح كل دول المنطقة الحليفة والصديقة منها كما الخصوم، بحيث تبقى إسرائيل هي المتفوّقة وهي المتحكّمة وهي التي تفرض الشروط التي ترتأيها على كل الراغبين بوقف الحرب وبتحقيق السلام الفعلي والشامل الذي يُفترض أن يعيد الحقوق الى أصحابها في فلسطين ولبنان وسوريا.

لذلك أي قراءة جيو - سياسية وعسكرية لوضع المنطقة الآن لا بد أن تأخذ بالاعتبار مرحلة حكم ترامب ومصير نتنياهو بعد الضغوط الدولية الكبيرة عليه، والتي تجلّت مؤخراً بإصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر بإعتقال نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في غزة. فهل تبقى توجهات أميركا وإسرائيل هي ذاتها أم تكبح الضغوط الدولية السياسية والقانونية بعض الجموح والتطرف؟!
يتضح من موقف ترامب من قرار المحكمة الجنائية انه سيقف ضد أي إجراء بحق إسرائيل ونتنياهو شخصياً، وان مرحلة حكمه المقبلة ستكون مليئة بالتوترات في الشرق الأوسط لا سيما إذا استمر في السياسة العمياء بدعم إسرائيل المفتوح سياسيا وعسكريا والضغط على خصومها وأعدائها، والتوافق الى حد التماهي مع ما تريده إسرائيل ومحاولة فرض أي حل سياسي بالحديد والنار والمجازر.
 

مقالات مشابهة

  • أسباب مخاوف نتنياهو من الموافقة على وقف الحرب في لبنان.. ما علاقة بايدن؟
  • مطالب وشروط نتنياهو أبعد من مجرّد صفقة لوقف الحرب
  • موسكو تتهم إدارة بايدن بالعمل ضد خطط ترامب لحل أزمة الحرب الاوكرانية
  • ترامب يسعى للعمل مع بايدن لإنجاز "تسوية" في الحرب الأوكرانية
  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • بايدن يندد بمذكرات توقيف نتنياهو وغالانت: "أمر شائن"
  • مواقف تتبدل ومعادلات تتغير
  • أكسيوس: نجاح ترامب في إنهاء أزمة غزة يمنحه نفوذا أكبر من بايدن على نتنياهو
  • هل يسعى بايدن لتوريط بلاده عسكريا قبل تسليمها لترامب
  • ما الدول التي يواجه فيها نتنياهو وغالانت خطر الاعتقال وما تبعات القرار الأخرى؟