سلط موقع "ميدل إيست آي" الضوء على تفاصيل دور الإمارات في الإبقاء على حالة الحرب الداخلية في السودان مشتعلة، مشيرا إلى حصول قوات الدعم السريع السودانية على عدد كبير من الأسلحة بدعم وتمويل من أبوظبي.

وذكر الموقع البريطاني، في تقرير ترجمه "الخليج الجديد"، أن عديد الخبراء يرون أن الدعم الإماراتي هو الذي مكّن "الدعم السريع" من الاستمرار في الحرب، وساعد أبوظبي على "اللعب فوق مستواها" عبر شبكة معقدة من خطوط الإمداد والتحالفات التي لا تقتصر على السودان، بل تمتد كذلك لتشمل ليبيا وتشاد وأوغندا.

وأضاف أن مدرج "حمرة الشيخ"، وهو مهبط للطائرات في ولاية شمال كردفان بالسودان، استقبل في منتصف نهار 6 أغسطس/آب 2023، طائرة تحمل شحنةً أسلحة، واجتمع عدد من السكان المحليين حولها، والتقط أحدهم مقطع فيديو يوثق أن الطائرة البيضاء من طراز بيتشكرافت 1900، وذيل مطلي باللون الأزرق، ومملوكة لشركة Bar Aviation التي يقع مقرها في أوغندا.

ونقل الموقع البريطاني عن مصدر مطلع أن الطائرة المحملة بالأسلحة أقلعت من الإمارات وشملت حمولتها صواريخ كاتيوشا الروسية، وكانت في طريقها إلى قوات الدعم السريع.

اقرأ أيضاً

صراعات شرق أفريقيا.. نفوذ الإمارات يشعل الحرائق بالسودان والصومال

وفي السياق، قال محلل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السابق، كاميرون هادسون: "في البداية، كنت أقول أنا وغيري: سيكون من الصعب على قوات الدعم السريع مواصلة الصراع. لكنهم أثبتوا أننا جميعاً على خطأ، وأعتقد أن الدعم الخارجي هو الذي صنع الفارق".

وأضاف: "أعتقد أن حجم الدعم المقدم من الإمارات كبير جداً. لقد أبقاهم في المعركة، وسمح لهم بمواصلة هذا القتال دون نهايةٍ في الأفق".

وأشار الموقع البريطاني إلى تأكيد مسؤولين ودبلوماسيون ونشطاء محليين وحقوقيون من السودان والغرب لوجهة نظر هادسون، إذ سهّلت مجموعة فاجنر العسكرية الروسية الخاصة وصول الدعم الإماراتي إلى قوات الدعم السريع، خاصة صواريخ الأرض-جو، ما ساهم في إطالة أمد الصراع المسلح ولم يسفر إلا عن مزيدٍ من الفوضى في المنطقة.

مصالح استراتيجية

ونوه التقرير إلى أن قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، المعروف بـ "حميدتي"، اختار دبي لتكون مركزاً رئيسياً لـ "إمبراطوريته التجارية"، وبات مقرباً من نائب رئيس الإمارات، منصور بن زايد، كما أن الذهب المستخرج من المناجم الخاضعة لسيطرته في دارفور يتم نقله إلى الإمارات، حيث يقيم شقيق حميدتي الأصغر، القوني دقلو.

ولدى الإمارات مصالح أخرى طويلة الأمد داخل السودان، تشمل شراء الأراضي الزراعية واستيراد الماشية، إضافة إلى سلسلة من مشروعات الموانئ بطول ساحل البحر الأحمر، بينها خطة بـ6 مليارات دولار لإنشاء ميناء في شمال بورتسودان.

ويلفت الموقع البريطاني، في هذا الصدد، إلى بعد سياسي لمصالح الإمارات في السودان، ما عبر عنه عبد الله حالقي، من منظمة Refugees International: "بقوله: "لقد عملت الإمارات على خنق ظهور الديمقراطية في المنطقة أكثر من أي دولة أخرى".

وخلال الأشهر التي سبقت الحرب في السودان، أفاد دبلوماسيون أوروبيون في شمال أفريقيا بأن المسؤولين الإماراتيين أخبروا الدول الأوروبية بأن عليها دعم قوات الدعم السريع، وذلك "إذا كانت ترغب في دعم الديمقراطية داخل السودان"، ثم بدأت تلك القوات، أواخر العام الماضي، في تبني حملة علاقات عامة تزعم تأييد الديمقراطية.

ومع بزوغ فجر العام الجديد، التقى حميدتي برئيس الوزراء السوداني السابق، عبد الله حمدوك، في أديس أبابا وتعانقا، ما قدم مؤشرا على تعاون بينهما، إذ يعيش حمدوك الآن في الإمارات، كما أن مركز أبحاثه المُسمى بـ"المركز الأفريقي للتنمية والاستثمار" مسجل هناك.

إدخال الأسلحة

ولأن الجيش يُهيمن على المجال الجوي السوداني، كان التحدي الذي يواجه قوات الدعم السريع، منذ اندلاع العرب، هو تأمين خطوط الإمداد، وهو ما عملت الإمارات على مواجهته، عبر توفير الإمدادات وتوصيلها عبر قوات الجنرال الليبي، خليفة حفتر، حسبما نقل الموقع البريطاني عن مسؤولين في جنوب ليبيا ومصادر مقربة من قائد قوات شرق ليبيا.

وحدّدت تلك المصادر سلسلةً من القواعد الجوية الليبية الرئيسية التي يجري نقل البضائع منها إلى جمهورية أفريقيا الوسطى جواً، ثم نقلها بالسيارات إلى دارفور براً.

اقرأ أيضاً

توتر متصاعد بين الإمارات والجيش السوداني.. ومصالح البحر الأحمر تمنع قطع العلاقات

وفي السياق، ذكر المحلل السياسي، جلال حرشاوي، أن عائلة حفتر كانت حريصةً على الحفاظ على "شبكات التجارة غير المشروعة القائمة بين السودان وشرق ليبيا"، مشيرا إلى أن تلك الشبكات شملت: الوقود، والكبتاجون، والحشيش، والذهب، والسيارات المسروقة، والاتجار في البشر.

وفي هذا الإطار، بدأت عائلة حفتر "في إرسال المساعدات" إلى قوات الدعم السريع، لكن مع اشتداد وطيس الحرب، تغيّرت طرق الإمداد التي كانت تنطلق من ليبيا بسبب المراقبة الدولية. حيث فرض مجلس الأمن حظر تسليح على غرب السودان، ثم جدّد قراره في مارس/آذار الماضي.

وأوضح الباحث في الشؤون الأفريقية، موسى تيهوساي، إن الدعم العسكري الذي ينطلق من شرق وجنوب ليبيا إلى السودان كان يمر في الأغلب عبر مجموعة فاجنر، حيث كانت المجموعة تنقل الأسلحة المتطورة والمعدات العسكرية، مثل صواريخ "سام-7" والأنظمة المضادة للصواريخ، عبر الشحن الجوي من مدينة الكفرة.

وأضاف: "كانت طريقة العمل تتغير باستمرار. وكانت أحجام الشحنات تختلف أيضاً. ولم تتوقف المساعدات فعلياً، فلطالما كانت نية الإمارات وروسيا هي ضمان انتصار حميدتي، وذلك منذ اليوم الأول".

جيران السودان

ولدى إقليم دارفور، غربي السودان، حدود مع تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى أيضاً، وفي الأخيرة تعتمد حكومة الرئيس، فوستان آرشانغ تواديرا، على قوات فاجنر من أجل الدعم العسكري في قتالها ضد المتمردين.

وصرحت مصادر معارضة في أفريقيا الوسطى بأن مرتزقة فاجنر تورطوا في نقل الأسلحة عبر الحدود إلى قوات الدعم السريع في دارفور، وكانت تلك الإمدادات تأتي من ليبيا جواً في بض الأحيان، وليس دائماً.

ولفت هادسون إلى أن الإماراتيين سعوا إلى تغيير موقف حكومة تشاد التي كانت تخشى زعزعة الاستقرار نتيجةً الحرب على حدودها، وترى في قوات الدعم السريع جماعةً قد تساعد على تغيير النظام الحاكم لديها، ورتبوا لقاء بين القائد العسكري والرئيس الانتقالي لتشاد، محمد إدريس ديبي، مع أحد مستشاري الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، وشقيق حميدتي وذراعه اليمنى، عبد الرحيم دقلو، وذلك في العاصمة أنجمينا، مطلع شهر يوليو/تموز.

وعرضت الإمارات على ديبي "أكثر من مليار دولار" مقابل "تبديل موقف تشاد نحو دعم قوات الدعم السريع" بحسب هادسون، مشيرا إلى أن هذا المبلغ كان سببا في تحول مدينة أم جرس التشادية النائية، التي تنحدر منها عائلة ديبي، إلى "منطقة مزدهرة"، خلال صيف 2023.

اقرأ أيضاً

في مواجهة دعم الإمارات لحميدتي.. مصر تسلم الجيش السوداني طائرات بدون طيار

وحتى الـ30 من سبتمبر/أيلول، سجلت منصة Gerjon لتتبع الرحلات الجوية 109 رحلات شحن انطلقت من الإمارات وتوقفت لفترة وجيزة في عنتيبي بأوغندا، قبل أن تحلّق مرةً أخرى متجهةً إلى أم جرس.

وتحوّلت أم جرس إلى قلبٍ نابض "لعملية سرية متقنة" تديرها الإمارات لدعم قوات الدعم السريع "عبر توريد الأسلحة والمسيَّرات القوية، وعلاج المقاتلين الجرحى، ونقل الحالات الأكثر خطورة إلى واحدةٍ من مستشفياتها العسكرية"، حسبما أوردت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية.

لكن الرحلات الجوية من أوغندا إلى تشاد كانت قابلةً للتتبع، ولهذا تحاول قوات الدعم السريع وداعميها نقل الشحنات إلى المجال الجوي السوداني حتى يستعصي تعقبها، بحسب "ميدل إيست آي".

رحلات أوغندا

وهنا يلفت الموقع البريطاني إلى أن رحلة بتاريخ 6 أغسطس/آب الماضي إلى شمال كردفان كانت جزءاً من الجهود المبذولة لإرسال الإمدادات جواً إلى داخل السودان مباشرةً، وحطّت تلك الطائرة بنجاح، لكن الضربات الجوية من الجيش السوداني بعدها بأيام أنهت العمل على هذا الخط حتى نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عندما عاود الجيش قصف "حمرة الشيخ" مجدداً لقناعته بأن قوات الدعم السريع عادت لإرسال طائرات الإمداد من جديد.

وكانت الطائرة الظاهرة، في الفيديو الذي وثقه أحد سكان شمال كردفان، مملوكةً لشركة Bar Aviation  التي يرأسها باراك أورلاند، وهو رجل أعمال إسرائيلي يعيش في أوغندا منذ نحو عقدين، ومقرب من عائلة الرئيس الأوغندي، يويري موسيفيني.

لكن محامي حقوق الإنسان الأوغندي، نيكولاس أوبيو، قال للموقع البريطاني: "لقد تحدثت إلى العديد من الأشخاص الذين يُعرِّفون أورلاند على أنه تاجر أسلحة".

وقال إيهود يعاري، المحلل الإسرائيلي الذي شغل منصب مستشار شؤون السودان سابقاً، إن شركة Bar Aviation  سيّرت رحلات جوية من أوغندا إلى شرق تشاد أيضاً، مضيفا: "هناك شك في أن تلك الرحلات كانت تحمل إمدادات من الإمارات".

وأردف يعاري أن "التعاملات التجارية بين حميدتي والأوغنديين تتماشى مع حجم المساعدة المالية التي تقدمها الإمارات لتشاد".

فيما أكد أوبيو أنه في حال استخدام الإمارات طائرات Bar Aviation لإرسال الأسلحة إلى السودان، فمن المستحيل أن يحدث ذلك دون علم الرئيس موسيفيني.

اقرأ أيضاً

نيويورك تايمز: الإمارات تغذي الحرب في السودان سرا وتدعو علنا لتسوية سلمية

المصدر | ميدل إيست آي/ترجمة وتحرير الخليج الجديد

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: الإمارات السودان حميدتي أوغندا خليفة حفتر ليبيا إلى قوات الدعم السریع من الإمارات فی السودان اقرأ أیضا إلى أن

إقرأ أيضاً:

قاعة الامتحانات الكُبرى بجامعة الخرطوم بين إعمار البروفيسور أليك بوتَّر وتدمير قوات الدعم السريع

قاعة الامتحانات الكُبرى بجامعة الخرطوم
بين إعمار البروفيسور أليك بوتَّر (Alick Potter) وتدمير قوات الدعم السريع

أحمد إبراهيم أبوشوك

(1)
تمهيد
زار وفد من إدارة جامعة الخرطوم مباني الجامعة الرَّئيسة (مركز الوسيط) بعد أن أُخرجت منها قوَّات الدَّعم السَّريع، وذلك في يوم 25 فبراير 2025، وأفاد بأنَّ حجم الدَّمار والخراب في بعض مباني الجامعة العريقة لا تصدِّقه عين رأت، إذ تعرَّضت قاعة الامتحانات الكُبرى "لحريق كامل ولم يتبقَّ بالقاعة سوى الرَّماد." دفعني هذا التَّقرير المؤلم إلى إعادة قراءة كتاب مارغريت (Margaret) وأليك بوتَّر (Alick Potter)، الرَّئيس المؤسِّس لقسم العمارة بكلِّيَّة الهندسة جامعة الخرطوم والمهندس الَّذي صمَّم الهيكل المعماريُّ لقاعة الامتحانات الكُبرى. نقل الأستاذ الزُّبير علي الكتاب المشار إليه إلى اللُّغة العربيَّة تحت عنوان: "كلُّ شيء ممكن: سنوات في السُّودان" (Everything is Possible: Our Sudan Years). صدرت الطَّبعة الإنجليزيَّة للكتاب عن دار ألن سوتون بغلوستر (Allen Sutton Gloucester,) في العام 1984، والطَّبعة العربيَّة عن مكتبة مدبولي بالقاهرة عام 1997؛ أي قبل ثلاث سنوات من تاريخ وفاة أليك بوتَّر (1912-2000). وخصَّص المؤلِّفان الثَّلاثة فصول الأولى من كتابهما الفريد لقصَّة بناء قاعة الامتحانات (قاعة النَّجاح) الكُبرى بجامعة الخرطوم. وشرعت في إعداد رثاء لقاعة الامتحانات الكُبرى، مستأنسًا بما جاء في فصول الكتاب الثَّلاثة، ولمَّا حدث لها من دمار بعد اندلاع حرب 15 أبريل 2023. وقبل الفراغ من إعداد الرِّثاء أرسل الأستاذ السِّر سيِّدأحمد لي مقالاً بعنوان: "في تذكُّر قاعة الامتحانات: كلُّهم مرُّوا من هنا"، أعدَّه السَّفير عبد المحمود عبد الحليم، بلغة قلميَّة رائعة وأحرف حزينة-باكيةً على ما آلت إليه قاعة الامتحانات الكُبرى، الَّتي كانت تعدُّ من المعالم المعماريَّة البارزة في السُّودان، والأماكن الَّتي لها وقع في نفوس خرِّيجي الجامعة العتيقة وإن تعدَّدت مذاهبهم السِّياسيَّة والفكريَّة.

(2)
قصة بناء قاعة الامتحانات
يقول أليك بوتَّر في مقدِّمة كتابه المشترك مع زوجته الفنَّانة التَّشكيليَّة مارغريت: "واجهت في السُّودان واحدًا من أكبر التَّحدِّيات في حياتي المهنيَّة، وذلك عندما طلبوا منِّي تصميم وتشييد قاعة كُبرى للامتحانات. فقد كان على هذه القاعة أن تتَّسع لخمسمائة طالب يجلسون بطريقة مريحة، كلُّ طالب على منضدته الَّتي تفصله عن الآخرين مسافةً معقولةً. وأنَّ تكوُّن مراقبتهم جميعًا من موقع محدَّد في سهولة ويسر، كما كان مطلوبًا أيضًا أن يصبح في الإمكان الإفادة من القاعة حينما تكون هناك تجمُّعات عامَّة كبيرة، وأن تُقسَّم القاعة إلى عدَّة أقسام، بحيث يمكن أن تلقَّى عدَّة محاضرات في وقت واحد، دون أنَّ تشوُّش إحداهما على الأخرى. وكان لا بد كذلك أن توضع في الاعتبار الحرارة المنبعثة من أجساد خمسمائة طالب، إضافة إلى حرارة الحمَّى الَّتي تجلبها الامتحانات! " وكان التَّصوُّر الذِّهنيُّ الَّذي وضعه أليك بين تصميماته الأوَّليَّة بناء قاعة ذات تصميم أخَّاذٍ وجديدٍ وغير تقليديّ، مساحتها واسعةً، وأرضيَّتها خالية تمامًا من الأعمدة، رغم سعتها، وفي أعلاها لا توجد دعامات أفقيَّة، ولا تأخذ شكل القباب المعروف في السُّودان. ولكن بديلاً عن ذلك يرتفع ويمتدُّ سقف متموِّج مصنوع خشب المهوقني الفخم ذي اللون البنِّيِّ الضَّارب إلى الحمرة." (ص: 56). ولتنفيذ هذا المشروع سافر أليك وعقيلته إلى مدينتي إستانبول وبورصة في تركيا للوقوف إلى فنون العمارة الإسلاميَّة والاستئناس بها في تصميم مباني قاعة الامتحانات المقترحة، ومن تركيا انطلقا إلى مدينة أسيكس (ESSEX)، حيث رشَّح لهما صديقهما إزرا ليفن (Ezra Leven)، كبير المعماريِّين في جمعيَّة أبحاث وتطوير الأخشاب بالمملكة المتَّحدة، زيارة مدرسة بالمدينة، مصنوعةً سقوفها من خشب يشبه قشرة البيض في رقَّته، لكنَّه متين، بسبب تقويسه من بعديه الاثنين، وأصبح يطلق على التِّقنيَّة المستخدمة في مثل هذه المباني تقنيَّة "قشرة البيض" (Shell Method). وقد رفقهما في الرِّحلة إلى مدينة أسيكس أحمد المرضيِّ جبارة، مسجِّل جامعة الخرطوم آنذاك، لينقل الفكرة إلى اللَّجنة المسؤولة من تنفيذ مشروع قاعة الامتحانات، برئاسة البروفيسور النَّذير دفع اللَّه، نائب مدير الجامعة آنذاك. (ص: 63).
وبعد سلسلة من الاجتماعات مع لجنة الجامعة عرض البروفيسور أليك التَّصميم المجسَّم للقاعة على أعضاء اللَّجنة، الَّذين ووافقوا عليه وصادقوا بمبلغ عشرين ألف جنيه سودانيّ لتنفيذ المشروع، المبلغ الَّذي كان يراه إليك غير كاف. وبعد ذلك طرحت اللجنة تنفيذ المشروع في عطاءٍ، وتقدَّمت ثلاث شركات سودانيَّة وشركة بريطانيَّة وشركة مصريَّة، وأخيرًا، رسا العقد على المقاول السُّودانيِّ جابر أبو العز، الَّذي وصفه بوتَّر بأنَّه "رجل حادّ الذَّكاء، وذا حاسَّة مهنيَّة خارقة."
بدأت عمليَّة تنفيذ المباني في نهاية عام 1958، أي بعد انقلاب الفريق إبراهيم عبُّود في 17 نوفمبر 1958، وصمَّم البروفيسور أليك القاعة حسب تنقية "قشرة البيض"، التِّقنيَّة الَّتي جعلت هيكلها خفيف الوزن، لكنَّه كان يمتاز بالقوَّة والصَّلابة، ممَّا جعلها فسيحةً دون وضع أعمدة رأسيَّة أو أفقيَّة حاملة لسقوفها، وشيَّدت سقوف القاعة من خشب المهوقني ذي اللَّون البُنَّي المائل إلى الحمرة، واستعان البروفيسور إليك في التَّصميم الدَّاخليِّ بزوجته الفنَّانة التَّشكيليَّة مارغريت بوتَّر، الَّتي أضافت لمسات فنِّيَّةً جماليَّةً للقاعة، منها كتابة الآية 88 من سورة هود: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾، والَّتي نقلتها من مسجد أولو كامي (Ulu Cami) بمدينة بورصة التُّركيَّة، وخطَّها الخطَّاط البارع عثمان وقيع اللَّه على الورق، بطريقة تقرأ من اليمن إلى الشَّمال ومن الشَّمال إلى اليمن، ثمَّ نقلتها مارغريت بحجم أكبر عبر ريشتها التَّشكيليَّة على جدران القاعة الأربعة، بلون أسود فاحم، ماعدا كلمة "توفيقي"، الَّتي رسمت بلون قرمزيّ، لاعتقاد أحمد المرضيِّ جُبارة بأنَّه يضفي على النُّقوش لمسةً جماليَّةً. واستورد أليك أقفال ومقابض أبواب القاعة ونوافذها من مدينتي شيفيلد (Sheffield) وبيرمنجهام (Bermingham) بالمملكة المتَّحدة.
ويصف مؤلَّفًا كتاب "كلِّ شيء ممكن" ليلة افتتاح قاعة الامتحانات الكُبرى بقولهما: "كانت القاعة على سعتها قد امتلأت تمامًا، وكانت السَّيَّارات السَّوداء الفارهة تقف تحت أشجار النِّيم المنتشرة في المكان، ويهبط منها علية القوم من كلِّ شكل ولون، بعضهم في بزَّاتهم العسكريَّة والبعض الآخر في ملابسهم الوطنيَّة ذات التَّشكيلات المتنوِّعة والمترفة. وكانوا جميعهم يتَّجهون من هناك إلى أبواب الدُّخول الرَّئيسة. . . وواحدًا بعد الآخر، جلس المدعوُّون على الكراسيِّ الوثيرة، وغاصوا في الوسائد المحشوَّة بوبر الجمال. . . من السَّقف كانت تتدلَّى مجموعة لمبات (الفلورسنت) الَّتي تشبه كعكة الزِّفاف المقلوبة، وهي تتوهَّج بينما سلَّط ضوء كشَّاف على أجزاء السَّقف لإبراز تقويساته وانحناءاته وظلاله وألوانه. وخلف المسرح علَّقت ستائر سوداء عليها بعض الزَّخارف النَّوبيَّة الملوَّنة. . . وفوق المسرح عازفو آلات النَّفخ الموسيقيَّة لأوركسترا راديو كولون السِّيمفونيَّة، وهم في ملابس السَّهرة البالغة الأناقة، وملؤوا القاعة بأصوات موسيقيَّة غاية في الوضوح والصَّفاء. . ." (ص: 94). يرى السَّفير عبد المحمود أنَّ ذلك المشهد المدهش قد رسم "علامات الارتياح على محيا أليك، وأيقن سلامة التَّجهيزات الصَّوتيَّة في القاعة متعدِّدة الأوجه" والأغراض.
وبعد افتتاحها المشهود ظلَّت قاعة الامتحانات الكُبرى بجامعة الخرطوم تقوم بأدوار متعدِّدة الأغراض، منها انعقاد الامتحانات الدَّوريَّة، والمؤتمرات والنَّدوات العامَّة، والاحتفالات السَّنويَّة، واحتفالات استقبال الطَّلبة الجدد، ومراسيم توزيع الشَّهادات العلميَّة للخريجين. ومن أهمِّ المؤتمرات الَّتي استضافتها القاعة "مؤتمر السُّودان في أفريقيا"، في الفترة من 7 إلى 12 فبراير 1968، والَّذي نظَّمته شعبة أبحاث السُّودان بكلِّيَّة الآداب، برعاية السَّيِّد إسماعيل الأزهري، رئيس مجلس السِّيادة آنذاك، وأمُّه علماء وباحثون من المملكة المتَّحدة، وفرنسا، والولايات المتَّحدة الأميركيَّة، والاتِّحاد السُّوفيتيُّ، والنَّرويج، وأثيوبيا، وكينيا، وأوغندا، ونيجيريا، وغانا، ومصر، والإمارات العربيَّة المتَّحدة، والسُّودان البلد المضيف. وقدَّم هؤلاء العلماء والباحثون نحو ثلاثين ورقةً علميَّةً باللُّغة الإنجليزيَّة، حرَّر يوسف 21 ورقة منها، ثمَّ نشرها في كتاب بعنوان السُّودان في أفريقيا (Sudan in Africa)، الخرطوم: شعبة أبحاث السُّودان، 1968.

(3)
كيف الخروج من مأزق الحرب وتداعياتها؟
بعد اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023، أصبحت جامعة الخرطوم مقرًّا لقوَّات الدَّعم السَّريع، الَّتي استباحت مكتبتها العامَّة ودنَّست حرمة قاعاتها التَّدريسيَّة، ولم تنج من آثار الدَّمار والتَّخريب قاعة الامتحانات الكُبرى، الَّتي رثاها السَّفير عبد المحمود عبد الحليم، مستعيرًا كلمات الشَّاعر الدُّكتور عمر محمود خالد، وإنَّ اختلفت المناسبات: "الجامعة بعدك كوم رماد * * * لا تنفع آداب لا اقتصاد * * * لا فيها طبّ لا صيدلةً". ولذلك يصعب على خرِّيجي جامعة الخرطوم أن يروا الجامعة دون قاعة الامتحانات الكُبرى، ذات الحضور المعماريِّ الباذخ، والسُّقوف المجنَّحة من الخارج، والمزوِّقة بأخشاب المهوقني الاستوائيَّة اللَّامعة من الدَّاخل، وخطوط الفنَّان عثمان وقيع اللَّه، ونقوش الفنَّانة التَّشكيليَّة مارغريت أليك على جدرانها الأربعة. إذًا، التَّحدِّي الحقيقيُّ، كما يرى السَّفير عبد المحمود يكمن في سؤال: كيف ينهض طائر الفينيق (The phoenix) من ركام دماره؟ فالنُّهوض، يا سادتي، يحتاج إلى مهندسين وتشكيليِّين من ذوي الهمم العالية، أمثال البروفيسور المعماريِّ أليك بوتَّر وزوجته مارغريت؛ ومقاولين مخلصين، يقدِّمون المصلحة العامَّة على مصالحهم الخاصَّة، أمثال جابر أبو العز؛ وإداريِّين أكفاء، يملكون الرُّؤية وزمام المبادرة في اتِّخاذ القرارات الصَّائبة، أمثال أحمد المرضيِّ جبارة، وبذلك يكون "كلُّ شيء ممكن". لكن للأسف، إنَّ واقع الحال في السُّودان لا ينبئ بذلك؛ لأنَّ الَّذي "يصلح للتَّدمير لا يصلح للتَّعمير"، كما قالها المهندس معمار سنان في بلاط السُّلطان العثمانيِّ سليمان القانوني. ولذلك على خرِّيجي جامعة الخرطوم في أوطان الشَّتات؛ أن يوفوا كيل "الجميلة المستحيلة" (جامعة الخرطوم)، ويسهموا في إعادة إعمارها وإعمار قاعة امتحاناتها الكُبرى؛ لأنَّ جراحات الوطن أضحت نازفةً فوق طاقات الجميع، وإنَّ إعادة إعمار ما دمَّرته آلة الحرب يحتاج إلى طرائق تفكير مبتكرة، بعيدًا عن الرُّؤى المرتكزة على قسمة السُّلطة والثَّروة، والمعضدة بالنُّعرات العرقيَّة والعنصريَّة والخصومات السِّياسيَّة غير المنتجة. والتَّوافق على البرامج المبتكرة للإعمار لا يعني توحيد القوى السِّياسيَّة في كيان واحد، بل يعني أنَّ تقديم مصلحة الوطن الجريح على المصالح الحزبيَّة والخصومات السِّياسيَّة الضَّيِّقة؛ لكن وفق رؤًى وخطط مدروسة، يضعها المهنيُّون وأصحاب الاختصاصات ذات الصِّلة.

ahmedabushouk62@hotmail.com

   

مقالات مشابهة

  • السودان.. مقتل وإصابة 30 مدنياً بقصف لقوات الدعم السريع استهدف مدينة إستراتيجية
  • قتلى وجرحى في هجوم الدعم السريع على الخوي
  • الجيش يهاجم الدعم السريع بعدة جبهات ويسعى للسيطرة على مركز الخرطوم
  • أي دور للإمارات في حرب السودان بين الجيش و”الدعم السريع”؟
  • معتقلون يكشفون عن إعدامات وتعذيب على أيدي الدعم السريع السودانية
  • تتهمها بتسليح قوات الدعم السريع..السودان ترفع دعوى ضد الإمارات في محكمة العدل الدولية
  • قوات الدعم السريع تقتل وتصيب 9 مدنيين في قصف على «الأبيض»
  • الدعم السريع يستهدف أحياء شارع الأربعين بالمدفعية الثقيلة
  • قاعة الامتحانات الكُبرى بجامعة الخرطوم بين إعمار البروفيسور أليك بوتَّر وتدمير قوات الدعم السريع
  • الكشف عن مقبرة جماعية ومركز تعذيب في السودان.. واتهامات للدعم السريع