موقع فرنسي: هل تنتهي حرب السودان بعد تسعة شهور من الدمار والبؤس؟
تاريخ النشر: 26th, January 2024 GMT
نشر موقع "أوريون 21" الفرنسي تقريرا سلّط فيه الضوء على الوضع الحالي في السودان بعد تسعة أشهر من الحرب.
وقال الموقع، في تقريره الذي ترجمته "عربي21"، إنه منذ نيسان/ أبريل 2023، أدّى الاشتباك بين الجيش النظامي لعبد الفتاح البرهان والقوات شبه العسكرية التابعة لقوات الدعم السريع لمحمد حمدان دقلو - الملقب بحميدتي - إلى تدهور الوضع في السودان وإجبار عدة ملايين من السودانيين على الفرار من منازلهم أو حتى اللجوء إلى الخارج وسط لامبالاة المجتمع الدولي.
ونقل الموقع قصة كل من نسيم وإبراهيم، وهي أسماء مستعارة بهدف حمايتهم. قبل الحرب، كان نسيم يعيش في أحد أحياء الطبقة العاملة في الخرطوم. كان طالبا ماجستير يعيش مع والديه، وهما موظفان حكوميان من الطبقة المتوسطة ناضلا من أجل الحفاظ على مستوى معيشي لائق إلى حد ما على الرغم من التضخم المرتفع.
كان نسيم ينتمي إلى النواة الصلبة للجنة المقاومة في حيه أيام الثورة الشعبية، وهي هيئة أساسية في الثورة الشعبية سنة 2018-2019. ولكن بعد الارتفاع الكبير للحماسة خلال الانتفاضة، ابتعد قليلا عن الساحة السياسية، محبَطا من عودة الأحزاب القديمة العالقة في خلافاتها المتبادلة ومعارك غرورها.
قبل الحرب، تعاون إبراهيم مع المنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الكبيرة، حيث فتح لها أبواب بلاده التي يعرفها في كل زاوية وركن. كما شارك في الثورة وفي هذا الزخم الفكري الذي وعد بإعادة بناء السودان وجعله دولة لكل مواطنيه. كان يكافح ضد أزمة اقتصادية مدمرة تركت الشعب بأكمله فاقدا للحيوية، باستثناء النخبة المفترسة في النظام القديم.
الفرار من الخرطوم
صمد نسيم وإبراهيم في وجه تقلبات فترة ما بعد الثورة. خاطرا، مع ملايين آخرين، بحياتهم حتى لا يستسلموا للجنود ورجال الميليشيات. ولم يتراجعوا أمام انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021، الذي توحد خلاله الجيش النظامي (القوات المسلحة السودانية) والقوات شبه العسكرية (قوات الدعم السريع) لوضع حد للتجربة الديمقراطية. ومنذ 15 نيسان/أبريل يحظى عبد الفتاح البرهان، القائد العام للجيش، والزعيم الفعلي للبلاد، بدعم إسلاميي النظام القديم ضد محمد حمدان دقلو، على رأس قوات الدعم السريع.
على غرار الملايين من السودانيين، غيّر يوم 15 نيسان/أبريل 2023 مصير نسيم وإبراهيم. قام إبراهيم برحلات متعددة في سيارته المتهالكة لإجلاء عائلته أولا، ثم أصدقائه الأعزاء، ثم معارفه. لقد فروا جميعا من الاشتباكات في الخرطوم، بعضهم باتجاه الحدود المصرية، والبعض الآخر باتجاه شرق البلاد.
وذكر الموقع أن سكان العاصمة عانوا من أعمال النهب والاغتصاب والقتل على يد قوات الدعم السريع التابعة للجنرال حميدتي. وفي الوقت نفسه، تعرض سكان الخرطوم لقصف مدفعي ثقيل وطيران الجيش النظامي. لذلك انتهى الأمر بإبراهيم بالمغادرة أيضا باتجاه مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، وهي مقاطعة زراعية شاسعة تقع على بعد 185 كيلومترا جنوب شرق الخرطوم.
وتجدر الاشارة إلى أن سبعة ملايين ونصف المليون شخص نزحوا داخل البلاد وخارجها، وذلك وفقا لأرقام مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في 14 كانون الثاني/ يناير 2024، دون أن ننسى مقتل 12 ألف شخص، وهو تقدير تم الاستهانة به بالتأكيد.
يمر الجميع بنفس المأساة: العثور على سكن، واستعادة أموالهم بعد نهب وانهيار المؤسسات المصرفية، والتعويض عن غياب المدارس المغلقة منذ أبريل/نيسان، والتعويض عن التدمير الفعلي للبنية التحتية الطبية... باختصار، البقاء على قيد الحياة في بلد فقير بالفعل وضعيف الموارد منذ فترة ما قبل الحرب.
"فيلات الأشباح"
في كانون الأول/ ديسمبر 2023، كانت الصورة واضحة تماما: السودان منقسم إلى قسمين في الاتجاه الشرقي الغربي. تسيطر مليشيا حميدتي على جزء كبير من العاصمة، بينما ينحصر الجيش النظامي في عدد قليل من القواعد وعدد قليل من الأحياء في أم درمان. ويسيطر رجال حميدتي أيضا على غرب دارفور وجزء من كردفان. وهذا ليس مفاجئا: فقد تم تجنيد قوات الدعم السريع بشكل رئيسي من القبائل العربية في المقاطعة الغربية الكبيرة، التي تعرف التضاريس بشكل جيد، واستولوا على المدن الرئيسية دون صعوبة كبيرة.
وأضاف الموقع أن لجان السلام المكونة من شخصيات دينية وعلمانية حاولت الحفاظ على وقف إطلاق النار، لكنها انهارت الواحدة تلو الأخرى. أصبحت مهمة قوات الدعم السريع أسهل بسبب افتقار الجيش النظامي إلى الرغبة في قتالهم، حيث فضل الأخير التراجع إلى معسكراته. وفي كل مكان في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، يتم الإبلاغ عن انتهاكات خطيرة للغاية لحقوق الإنسان، تُرتكب إما بشكل مباشر من قبل رجال حميدتي، أو من قبل الميليشيات العربية المحلية المرتبطة بقوات الدعم السريع من خلال الأسرة أو القبيلة.
من جهة أخرى، انتقل الجيش النظامي، بقيادة البرهان، والمدعوم إلى حد كبير من الإسلاميين التابعين لنظام عمر البشير، إلى بورتسودان. ويسيطر هؤلاء الرجال على شرق البلاد وشمالها، أي وادي النيل، حيث تنحدر الطبقات الاقتصادية والعسكرية والسياسية للحكومات المتعاقبة منذ استقلال البلاد. وكما هو الحال في النظام القديم، فإنهم يتبعون سياسة قمعية ضد أي معارض. وفي هذا السياق، يتم إحياء الذاكرة المريرة لـ "فيلات الأشباح"، وهي أماكن الاحتجاز السرية.
ونقل الموقع عن المحللة السياسية السودانية التي تعيش الآن في المنفى خلود خير أنه "حتى منتصف كانون الأول/ديسمبر، بدا أننا نتجه نحو سيناريو على النمط الليبي مع تقسيم البلاد وقيادتها من قبل كيانين معاديين، كل منهما مدعوم من رعاة أجانب: قوات الدعم السريع تدعمها دولة الإمارات العربية المتحدة والقوات المسلحة السودانية مدعومة من قبل مصر. لكن هذا السيناريو عفا عليه الزمن".
"الانسحاب المشبوه للجيش النظامي"
في فجر يوم 15 كانون الأول/ديسمبر، هاجم رجال حميدتي ضواحي مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، التي توافد إليها مثل إبراهيم مئات الآلاف من سكان الخرطوم. وأصبحت المدينة ملجأً للنازحين، كما أصبحت مركزا لتخزين المساعدات الغذائية والأدوية. في المقابل، انسحبت القوات النظامية دون قتال تقريبا. وفي 18 كانون الأول/ ديسمبر، كانت ود مدني في أيدي قوات الدعم السريع. وتؤكد خلود خير: "داخل قوات الدعم السريع، يشعر الضباط ذوي الرتب المتوسطة بالغضب، لأنهم تلقوا أوامر بمغادرة المدينة دون قتال".
وأورد الموقع أن سقوط ود مدني أحدث صدمة ونقطة تحول لا يمكن إنكارها. وتم كسر القفل الذي يحصن بورتسودان في الشرق وسنار وكوستي في الجنوب، ليفر 300 ألف شخص، من بينهم إبراهيم، من ود مدني في الساعات الأولى لهجوم قوات الدعم السريع، و200 ألف آخرين في الأيام التالية، وذلك وفقا للأمم المتحدة.
وبسقوط ود مدني، استسلم نسيم الذي كان مسؤولا عن والديه المسنين وبعض إخوته وأخواته، وانتهى به الأمر باختيار المنفى، فقامت الأسرة بالرحلة من كوستي إلى دنقلا شمال الخرطوم، ومن هناك دفع المال للمهربين وهو اليوم في مصر.
قمع كافة أشكال المقاومة المدنية
في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع تسعى المنظمات الثورية ولجان المقاومة ولجان الأحياء فضلا عن المنظمات النسائية والنقابات إلى إنقاذ الدولة التي على وشك الإنهيار. لكن تواجه المنظمات تحديات في كل مكان. وهذا هو القاسم المشترك بين الجنرالين حميدتي والبرهان. ورغم مواقفهما المتعارضة، فإن هدفهما واحد وهو وضع حد للثورة.
في هذا الصدد، تقول خلود خير: "كلا الطرفين مقتنع بانتصاره. لذلك يريد كل منهما قمع جميع أشكال المقاومة المدنية قبل غزو البلاد. وبخلاف ذلك، تعلم هذه الأطراف أن القوة التي يعلقون عليها آمالا كبيرة ستكون هشة للغاية. لذلك يستخدم كلاهما ستار الحرب لاغتصاب ما تبقى من الثورة عن طريق اغتيال الأطباء والصحفيين والناشطين والاعتقال والسجن والتعذيب".
دفن نية اتفاق
في ظل هذه الفوضى، ظهرت صورة لحميدتي وهو يصافح عبد الله حمدوك، الذي تولى منصب رئيس الوزراء بين أيلول/ سبتمبر 2019 وتشرين الأول أكتوبر 2021. وفي الوقت الراهن، يترأس رئيس الحكومة السابق تحالف القوى الديمقراطية أو التقدّم الذي تم إنشاؤه في أديس أبابا سنة 2023، وهو تجمع بين الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني التي تريد التأثير على الأطراف الفاعلة في الصراع من أجل وقف الأعمال العدائية، وربما الحصول على ضمانات لما بعد الصراع.
في الثاني من كانون الثاني/يناير، وقّع تحالف التقدم اتفاقًا مع أحد الطرفين المتحاربين. على حسابه على موقع إكس، أعرب عبد الله حمدوك عن سروره لتواجد قوات الدعم السريع من أجل الوقف الفوري وغير مشروط لإطلاق النار واتخاذ تدابير لحماية المدنيين وتسهيل عودة المواطنين إلى ديارهم وإيصال المساعدات الإنسانية والتعاون مع لجنة التحقيق. وعلى الطرف الآخر من الطيف السياسي، أثر الإسلاميون الغاضبون من النظام القديم على الجنرال البرهان مما جعله يرفض أي لقاء مع تحالف التقدم وحميدتي.
ترى خلود خير أن هذا يعكس مدى انقسام المدنيين، موضحةً "فقد التقدم مصداقيته بتوقيعه اتفاقا مع حميدتي رغم كل الفظائع التي ترتكبها قوات الدعم السريع. ويعتقد البعض داخل التحالف أنهم قادرون على السيطرة على حميدتي بمجرد توليه السلطة".
في هذه الأثناء، لم يتم الوفاء بالوعود الواردة في إعلان أديس أبابا، الذي تباهى به عبد الله حمدوك، بحيث تؤكد الشهادات أن استئناف "الحياة الطبيعية" الذي روّجت له قوات الدعم السريع في ود مدني يتم تحت تهديد السلاح في ظل إجبار الأطباء على العودة إلى وظائفهم تحت التهديد وابتزاز التجار. وقد سمحت المصافحة لحميدتي باكتساب مزيد من الاحترام، ليتم استقباله كمحاور موثوق ومثير للاهتمام في عديد العواصم الأفريقية خلال جولة أداها إلى بريتوريا وجيبوتي مرورا بنيروبي وكمبالا وكيغالي، حيث زار النصب التذكاري للإبادة الجماعية.
تتنبأ خلود خير بأن حميدتي "حتى لو نجح في التقدم شرقا وشمالا، والاستيلاء على بورتسودان والسيطرة على البلاد بأكملها، فلن يكون قد انتصر في الحرب"، لأن المقاومة الشعبية توزّع الأسلحة على سكان وادي النيل الذين يريدون الدفاع عن مدنهم وقراهم. ومن الواضح أن الشرخ القديم بين وادي النيل والضواحي وخاصة دارفور، لم يختفِ في صراع الأسلحة، بل على العكس من ذلك ظهر من جديد.
للاطلاع إلى النص الأصلي (هنا)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية السودان الخرطوم حميدتي السودان الخرطوم حميدتي صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قوات الدعم السریع النظام القدیم کانون الأول ود مدنی من قبل
إقرأ أيضاً:
عقوبات على حميدتي والبرهان.. إلى ماذا تهدف أميركا في السودان؟
ظلّ الموقف الأميركي من السودان محكومًا بمزيج معقد من المصالح الإستراتيجية: (مثل الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب) والقيم المعلنة (كالديمقراطية وحقوق الإنسان). ومع ذلك، غالبًا ما افتقرت السياسة الأميركية تجاه السودان إلى رؤية متكاملة طويلة الأمد، وركزت على مقاربات تكتيكية للتعامل مع الأزمات.
في الآونة الأخيرة، فرضت الولايات المتحدة عقوبات متتالية على قادة الدعم السريع المتورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وأعمال عنف ممنهجة ضد المدنيين، وقد استهدفت العقوبات قادة بارزين، مثل: محمد حمدان دقلو (حميدتي) وأشقائه، وشملت تجميد أصولهم وحظر التعاملات المالية معهم.
تحمل هذه الخطوات دلالات حقوقية وسياسية، لكنها تعكس أيضًا تناقضًا في السياسة الأميركية؛ إذ يبدو أنها تسعى لتحقيق مصالحها الواقعية في المنطقة عبر الحفاظ على نفوذها، بينما تروّج لقيم حقوق الإنسان والديمقراطية.
وفي تطور بدا متوقعًا على ضوء السياسة الأميركية الملتبسة تجاه السودان وأزمته، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات مماثلة ضمن قرار بفرض عقوبات أيضًا على رئيس مجلس السيادة، الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان. جاء ذلك في سياق مزاعم باتهامات استهداف المدنيين، والبنية التحتية، ومنع وصول المساعدات الإنسانية.
إعلانوأثار هذا القرار موجة من الانتقادات في الأوساط السودانية، والدولية باعتباره مفتقرًا للعدالة، والموضوعية، واستمرارًا لسياسات الكيل بمكيالين التي تتبعها الولايات المتحدة في المنطقة.
وتحمل هذه العقوبات أبعادًا متعددة، تتجاوز إطارها الحقوقي والسياسي لتلامس تعقيدات إقليمية ودولية عميقة. فمن الواضح أن التوتر بين الأجندات الإقليمية والدولية يشكل عائقًا أمام تحقيق الاستقرار في السودان، خاصة في ظل التنافس الشرس بين القوى الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة، على تعزيز نفوذها في المنطقة.
ورغم أن هذه العقوبات قد تسهم في إضعاف هذه القوة المتمردة وزيادة عزلتها دوليًا، مما يتيح فرصة لعودة الاستقرار إذا استُغل الضغط الدولي بشكل فعال، فإن الموقف الأميركي يحمل بعض التناقضات. ففي الوقت الذي تعاقب فيه واشنطن قادة المتمردين على انتهاكاتهم الجسيمة لحقوق الإنسان، فإنها تفرض عقوبات على الجهة التي تكافح جرائم أولئك المتمردين انطلاقًا من واجبها الدستوري والوطني، فضلًا عن طرحها مقاربة سياسية تتحدث عن حلول قد تمنح الدعم السريع دورًا سياسيًا مستقبليًا.
وهذا يتناقض مع الرأي العام السوداني، الذي يرفض أي شكل من المشروعية السياسية لهذه القوات، حاليًا أو مستقبلًا.
ويبقى السؤال: هل تتجه واشنطن نحو تصعيد العقوبات إذا استمرت الدعم السريع في انتهاكاتها، وهل يشمل ذلك القوى الخارجية الداعمة لها؟، وهل تهدف واشنطن إلى تحقيق توازن الضعف بين الجيش وبين الدعم السريع، خاصة بعد الانتصارات الكبيرة التي حققها الجيش على الدعم السريع، مما يسمح بتمرير السياسة الأميركية في السودان التي لا تريد دولة قوية يحميها جيش قوي؟
السياق العام للموقف الأميركي من الأزمةلقد حاولت الولايات المتحدة أن تظهر أنها داعمة للجهود الدولية الهادفة لتحقيق الاستقرار في السودان خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام عمر البشير في عام 2019، لكنها فعلت ذلك انطلاقًا من منظور مصالحها المستقبلية في السودان، وليس من منطلق ترسيخ الديمقراطية أو ضمان حقوق الإنسان.
إعلانومن هذا المنطلق، شاركت الولايات المتحدة مع بريطانيا في صياغة ما عرف بـ"الاتفاق الإطاري"، الذي سعى إلى تمكين قوى سياسية محددة تُعتبر حليفًا محتملًا لمصالحها، بينما استُبعدت قوى أخرى فاعلة، خاصة تلك التي تُصنّف ضمن التيار الإسلامي.
علاوة على ذلك، بدا أن واشنطن وشركاءها تغاضوا عن الماضي الأسود للدعم السريع في دارفور، والتي عرفت كذلك بـ "الجنجويد"، وتكوينها القائم على القبلية، عندما شملوها ضمن التحالف الذي يدعم الاتفاق الإطاري. بل إن الخطة استهدفت، في جوهرها، تقويض الجيش الوطني تحت مزاعم إعادة هيكلته، بينما لم تتخذ أي خطوات حقيقية لإعادة هيكلة الدعم السريع، أو دمجها في الجيش ضمن إطار الدولة السودانية ومؤسساتها.
وجاء هذا النهج بعد أن أظهرت القيادة العسكرية الوطنية ممانعة واضحة تجاه خطط واشنطن وحلفائها، خصوصًا فيما يتعلق بإعطاء الدعم السريع دورًا سياسيًا غير مشروع بدلًا من دمجها في الجيش وفقًا لمعايير وطنية.
من هذا المنطلق، ترى واشنطن في الدعم السريع قوة عسكرية وسياسية مناوئة للجيش، الذي تتهمه بدعم التيار الإسلامي، مما دفعها إلى الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة مع الدعم السريع؛ لضمان استمرار نفوذها في أي تسوية سياسية مستقبلية. في المقابل، لجأت إلى العقوبات كوسيلة ضغط متوازية.
غير أنَّ الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبها "الجنجويد" منذ اندلاع الحرب في أبريل/ نيسان 2023، إضافة إلى التقارير الدولية الصادرة عن منظمات حقوقية، مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، والتي وثّقت تلك الانتهاكات المروعة، دفعت واشنطن أخيرًا إلى التحرك لفرض عقوبات على قادة الدعم السريع. ومع ذلك، فإن هذا التحرك جاء متأخرًا كثيرًا، وهو ما يعكس تردد الولايات المتحدة بسبب حساباتها المتعلقة بالمستقبل السياسي للسودان.
خلفيات فرض عقوبات على البرهانتُبرر الولايات المتحدة العقوبات التي فرضتها على البرهان بأنها تهدف للضغط على القيادات العسكرية للمشاركة في مفاوضات سلام وإنهاء النزاع. لكن السياق السياسي يشير إلى أن العقوبات تأتي أيضًا في إطار مقاربة أميركية تُساوي بين الجيش الوطني وقوة متمردة مثل الدعم السريع، ما يثير استياءً واسعًا في السودان.
إعلانواستنكر الجيش السوداني القرار الأميركي، واصفًا إياه بأنه استهداف لسيادة السودان وشعبه، معتبرًا أن الهدف الحقيقي للعقوبات هو إضعاف الجيش، وهو رمز الوحدة الوطنية وضمانة استقرار الدولة. وأكد الجيش أن هذه الإجراءات لن تثنيه عن مواصلة واجبه في الدفاع عن البلاد وتأمين أراضيها من المرتزِقة والعملاء. سياسيًا قللت فعاليات سياسية من تأثير العقوبات على رأس الدولة، مؤكدة أن "سياسة العصا دون الجزرة" لن تنجح في تحقيق أهداف واشنطن في السودان.
وكان ينظر للبرهان في الأوساط الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة باعتباره شريكًا محتملًا للاستقرار، خاصة بعد خطوات التطبيع التي بدأها مع إسرائيل. لكن يبدو أن هذه الجهود لم تُترجم إلى دعم فعلي، إذ استمرت السياسة الأميركية في التركيز على مصالحها بأسلوبها الخاص الذي قد يستعصي على فهم الكثيرين.
ويشير في هذا الصدد العديد من المراقبين إلى ازدواجية المعايير في السياسة الأميركية، إذ تغض واشنطن الطرف عن جرائم موثقة ارتكبها قادةُ دول آخرون، مثل بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، بينما تفرض عقوبات على قادة يحاربون مليشيات تهدد وحدة بلادهم، وترتكب جرائم ضد الإنسانية.
هذه الازدواجية تؤكد أن الهدف الأساسي للعقوبات ليس العدالة أو حماية المدنيين، بل الضغط السياسي، وإضعاف الدول التي لا تتماشى مع الأجندة الأميركية. غير أنه يبدو أن الشعب السوداني، الذي عانى لعقود من العقوبات الأميركية، ينظر إلى القرار في حق البرهان باعتباره تأكيدًا على استمرار استهداف الولايات المتحدة للسودان شعبًا وأرضًا. ويستدعي السودانيون حادثة ضرب مصنع الشفاء للأدوية كمثال على سياسات واشنطن العدائية التي لم تُفرق بين الحكومة والمدنيين.
دلالات العقوبات على قادة الدعم السريعيشير الموقف الأميركي، كما يظهر من العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية، إلى تحميل قائد الدعم السريع المسؤولية المباشرة عن الانتهاكات الجسيمة، إضافة إلى كشف تفاصيل دقيقة عن الشركات السبع التابعة للمليشيا، بما يشمل أسماءها، ومسؤوليها، ودورها في تمويل وشراء الأسلحة.
إعلانهذا التوجه يعزز المزاعم السودانية المستمرة حول وجود دعم خارجي للدعم السريع، يُتهم بأنه يمثل مركز قيادتها وعملياتها، كما أشارت صحيفة نيويورك تايمز هذا الشهر في تقريرها بشأن العقوبات المفروضة على قائد المليشيا، والشركات السبع المسجلة لدى هذا الطرف الخارجي.
استهدفت العقوبات الأميركية قادة بارزين في الدعم السريع، وهم شخصيات محورية تدير العمليات العسكرية والميدانية، مما يعكس سعي واشنطن لمحاصرة البنية القيادية للدعم السريع والتبرؤ من أي صلة بها.
وصدر آخر هذه العقوبات في يناير/ كانون الثاني الجاري بحق قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حيث فرضت وزارة الخزانة عقوبات عليه؛ بسبب دوره في الفظائع الممنهجة ضد الشعب السوداني، بما في ذلك الاغتصابات الجماعية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
وفي سبتمبر/ أيلول 2023، فُرضت عقوبات على عبدالرحيم حمدان دقلو، نائب قائد الدعم السريع وشقيق حميدتي، لدوره في أعمال عنف جسيمة، بما في ذلك استهداف المدنيين، والقتل العرقي، واستخدام العنف الجنسي. تلت ذلك عقوبات في أكتوبر/ تشرين الأول 2024 على القوني حمدان دقلو، شقيق آخر لحميدتي والمسؤول عن الجانب المالي؛ بسبب تورطه في شراء الأسلحة والمعدات العسكرية، مما أسهم في استمرار العمليات العسكرية والهجمات على المدنيين، بما في ذلك الهجوم على مدينة الفاشر في شمال دارفور.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، فُرضت عقوبات على عبدالرحمن جمعة، أحد القادة العسكريين البارزين في الدعم السريع، لدوره في الفظائع الممنهجة ضد المدنيين السودانيين. تستهدف هذه العقوبات، بشكل عام، تجميد الأصول المالية لهؤلاء القادة في الولايات المتحدة، وحظر التعاملات المالية معهم، بهدف زيادة الضغط على الدعم السريع لوقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان.
هذه العقوبات تؤكد، ولو بشكل ظاهري، التزام واشنطن بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، لا سيما بعد تصاعد الضغوط من المنظمات الحقوقية الدولية. كما تحمل العقوبات رسالة تحذير للأطراف الأخرى من مغبة دعم المليشيا أو ارتكاب المزيد من الجرائم، عبر إظهار عواقب ملموسة على الداعمين من وراء الكواليس.
إعلان نتائج وحساباتتعكس العقوبات على قادة الدعم السريع تحوّلًا ملحوظًا في الموقف الأميركي، إذ يبدو أن فشل محادثات السلام التي رعتها الولايات المتحدة والسعودية في جدة كان دافعًا إضافيًا لهذا الإجراء، في محاولة لتحريك الجمود. ومع وجود أدلة على ارتباط الدعم السريع بمجموعة "فاغنر" الروسية، فإن العقوبات قد تكون جزءًا من إستراتيجية أوسع تهدف إلى تقليص النفوذ الروسي في السودان والمنطقة.
ومع ذلك، فإن هذه الخطوات، رغم شدتها، لا تشكل تحولًا جذريًا في السياسة الأميركية. فالولايات المتحدة لا تزال تسعى للموازنة بين ممارسة الضغوط على الدعم السريع، وبين إبقاء قنوات التفاوض مفتوحة. يمكن فهم العقوبات كأداة ضغط أكثر من كونها تغييرًا كاملًا في السياسة، حيث ترى واشنطن أن الدعم السريع، رغم جرائمها، لا تزال طرفًا قد يخدم مصالحها في السودان والمنطقة.
لكن هذه العقوبات تحمل تداعيات غير محسوبة بالنسبة لواشنطن. فهي لا تضعف فقط القوة المتمردة عبر عزل قادتها دوليًا وحرمانهم من الموارد، بل تعزز أيضًا صورة الدعم السريع كقوة غير شرعية في أعين المجتمع الدولي، مما يقلل من احتمالية حصولها على دعم خارجي مستقبلًا.
كما يبدو أن العقوبات ضد البرهان تهدف إلى توجيه رسائل سياسية للجيش السوداني، مفادها تحذير من تعميق العلاقات مع روسيا. بيد أن اللاعب الأميركي لا يضع اعتبارًا لتأثير ذلك على استقرار الدول أو رفاهية شعوبها.
والسؤال الذي يدور في خلد المتفائلين: هل تفضي العقوبات ضد الدعم السريع إلى تدابير ظلت تعتمدها الولايات المتحدة ضد الجماعات الإرهابية، ولا يستبعد أن يكون إعلان العقوبات خطوة تمهيدية لتصنيف الدعم السريع باعتبارها جماعة إرهابية، كما هو الحال ووفقًا للمعايير الأميركية للتعامل مع جماعات مثل "تنظيم الدولة" و"بوكوحرام".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
إعلان aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية