ماذا يعني سعي واشنطن لتنشيط السلطة الفلسطينية؟
تاريخ النشر: 26th, January 2024 GMT
نشر موقع "إنترسبت" تقريرا أعدته الصحفية أليس سبيري قالت فيه "إنه منذ أن شنت إسرائيل هجومها على غزة قبل أكثر من ثلاثة أشهر، تحدث المسؤولون الأمريكيون مرارا عن عودة السيطرة الإدارية والأمنية بعد الحرب".
وأضافت، "في مناسبات متعددة، قال مسؤولو إدارة بايدن إن غزة، التي كانت تحكمها السلطة الفلسطينية قبل سيطرة حماس على السلطة في عام 2007، يجب إعادة ربطها بالضفة الغربية (في ظل سلطة فلسطينية متجددة ومنشطة)".
وفي مذكرة تم توزيعها على الدبلوماسيين الأجانب هذا الشهر، انتقد رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية الخطة الأمريكية، قائلا إن "الكثير من الحديث الحالي عن الحاجة إلى تنشيط السلطة، وهو في الواقع مجرد غطاء لفشل المجتمع الدولي في إلزام إسرائيل بحل سياسي".
وفي وقت سابق، كان أكثر صراحة: إذ قال اشتية في تشرين الثاني/نوفمبر إن مسؤولي السلطة الفلسطينية لن يذهبوا إلى غزة "على متن دبابة عسكرية إسرائيلية".
ويعد تعليق اشتية اعترافا نادرا من قبل مسؤول كبير في السلطة الفلسطينية بالافتقار الشديد للدعم بين الفلسطينيين، الذين ينظرون إلى قيادتهم إلى حد كبير على أنها "مقاول" غير شرعي وسلطوي بشكل متزايد للاحتلال الإسرائيلي.
وتابعت، "على وجه الخصوص، كان دور قوات الأمن الفلسطينية المدعومة من الولايات المتحدة في قمع المقاومة الفلسطينية والتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل "بموجب ترتيب تديره الولايات المتحدة" منذ فترة طويلة عاملا رئيسيا في غضب الفلسطينيين من ممثليهم".
وقد تفاقمت خيبة أملهم في السنوات الأخيرة مع قيام قوات السلطة الفلسطينية بسلسلة من حملات قمع عنيفة حيث لم يقتصر الأمر على اعتقال وإساءة معاملة من يُنظر إليهم على أنهم يشكلون تهديدا لأمن الاحتلال فحسب، بل أيضا منتقدي السلطة الفلسطينية نفسها. بينهم مئات المتظاهرين السلميين، بحسب الكاتبة.
ويحذر المدافعون عن حقوق الإنسان من أن الدعم الأمريكي لقوات السلطة الفلسطينية قد مكن من تنامي ثقافة الإفلات من العقاب لديها.
وقال شعوان جبارين، مدير مؤسسة الحق الفلسطينية لحقوق الإنسان، التي توثق التعذيب وغيره من الانتهاكات على أيدي قوات الأمن الفلسطينية: "عندما يفعلون أي شيء، فإنهم يعرفون أن الأمريكيين يقفون خلفهم ويمكنهم حمايتهم".
وقالت سبيري، إن دور السلطة الفلسطينية في الحفاظ على مصالح إسرائيل في الضفة الغربية هو على وجه التحديد السبب وراء إثارة الشكوك بين الكثير من الفلسطينيين من احتمال عودتهم إلى غزة، حيث يخشى هؤلاء الفلسطينيون ألا يؤدي هذا الترتيب إلا إلى الاستعانة بمصدر خارجي للقمع الإسرائيلي، بدلا من أن يقدم لهم ممثلا شرعيا للدفاع عن مصالحهم.
وذكرت ديانا بوتو، المحامية الفلسطينية والمفاوضة السابقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، أن "الناس يعرفون أن السلطة الفلسطينية لن تحرر المكان"، مشيرة إلى أن الثقة في السلطة تدهورت أكثر منذ أن شنت إسرائيل حربها على غزة. "لكنهم يتوقعون التمثيل".
وأضافت: "بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كانت السلطة الفلسطينية غائبة تماما، ولم يقوموا بدورهم في تمثيل الشعب، لذلك عندما يتحدث الناس عن هذه السلطة الفلسطينية التي يتم تنشيطها، ليس لدينا أي فكرة عما يتحدثون عنه. ماذا يعني تنشيطها؟ الشيء الوحيد الذي أعتقد أنه يعنيه هو أن تذهب المزيد من الأموال إلى قوات الأمن، وأن يتم استثمار المزيد من الأموال للقمع".
وتم إنشاء قوات الأمن الفلسطينية كجزء من مفاوضات أوسلو في منتصف التسعينيات بدلا من الجيش لما كان من المفترض أن يكون دولة فلسطينية ذات سيادة.
وأردفت، تلك القوات عبارة عن مجموعة من هيئات الشرطة والاستخبارات والدفاع المدني التي تمولها وتدربها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وتقوم قوات السلطة الفلسطينية بمجموعة من مهام إنفاذ القانون، العديد منها بالتنسيق مع نظيرتها الإسرائيلية".
وهذا التنسيق، الذي هدد القادة الفلسطينيون مرارا بإنهائه أثناء تصاعد العنف الإسرائيلي، يصبح أكثر إثارة للجدل عندما يتم نشر القوات الفلسطينية لاستهداف الجماعات والأفراد الذين تتهمهم إسرائيل بـ "الإرهاب".
من جانبه قال فادي قرعان، الناشط الفلسطيني والمحلل السياسي الذي اعتقلته قوات الأمن الفلسطينية مرارا لمشاركته في الاحتجاجات المنتقدة للسلطة الفلسطينية، لموقع إنترسبت في مقابلة أجريت معه العام الماضي: "إن التنسيق الأمني هو أحد العقبات الرئيسية أمام تحقيق التحرر الفلسطيني.
وبينت سبيري، "أن هذا نظام متطور للغاية للهيمنة والسيطرة تم تصميمه داخل المجتمع الفلسطيني، وهي عملية منهجية للغاية تهدف إلى إقناع الفلسطينيين بأن يساعدوا في السيطرة على شعبهم".
وكان التوتر بين التطلعات السياسية للشعب الفلسطيني ودور القوات الأمن الفلسطينية في تقويضها واضحا في قاعدة لقوات الأمن في مدينة أريحا بالضفة الغربية العام الماضي.
وخلال زيارة استغرقت يومين قبل بدء الحرب، تحدثت إنترسبت مع العديد من المجندين والمسؤولين من المستوى المتوسط في القاعدة بشرط عدم الكشف عن هويتهم، لأن الزيارة لم تكن مرخصة من قبل القيادة العليا.
وتحدث المجندون الشباب في التدريب عن التزامهم بالقضية الوطنية الفلسطينية ورفضوا الأسئلة حول مساهمات السلطة الفلسطينية في الحفاظ على الاحتلال.
وفي القاعدة، مارسوا التدريبات مرددين الأغاني والشعارات القومية، وفي ثكناتهم، احتفت الجداريات المرسومة باليد برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، لكنها أشادت أيضا بالمقاومة المسلحة و"عرين الأسود"، وهي جماعة مسلحة مقرها الضفة الغربية ظهرت في السنوات الأخيرة وسرعان ما أصبحت هدفا للاحتلال.
وتردد صدى الخطاب في القاعدة خلال الانتفاضة الثانية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما انضم أفراد من قوات الأمن الفلسطينية إلى فصائل المقاومة في القتال ضد الجيش الإسرائيلي.
وفي أعقاب الانتفاضة الثانية، آخر انتفاضة فلسطينية كبرى ضد إسرائيل، سعت الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى استعادة السيطرة من خلال الاستثمار بكثافة في الاستقرار الاقتصادي والأمني في الأراضي المحتلة، والسعي إلى عدم تسييس القوات الفلسطينية، وتأجيل الحل النهائي للصراع إلى أجل غير مسمى.
وقال جوليانو بوليتي، عضو قوات الكارابينيري الإيطالية، وهي قوة شبه عسكرية، تعمل على تدريب مجندي السلطة الفلسطينية في قاعدة أريحا على حماية الشخصيات الرسمية، وإطلاق النار الأساسي، والنظام العام: "نحن نعمل من أجل تحقيق الاستقرار. كل شيء يهدف إلى ذلك".
وتنتمي الأغلبية الساحقة من قيادة قوات الأمن إلى حركة فتح، والعديد منهم مقاتلون سابقون وسجناء سياسيون، ما يمنحهم هالة من الشرعية لدى الأجيال الشابة، لكن كمؤسسة، قايضت قوات السلطة الفلسطينية التزامها بتحرير الأراضي من الاحتلال بالحفاظ على النظام، وفقا للكاتبة.
وقال الناشط قرعان: "لكي نكون منصفين مع المجندين الأصغر سنا، فإنهم عندما يدخلون يعتقدون أن هذا هو هدفهم، يأتي الناس مع هذا الافتراض بأنهم سيكونون جزءا من نضال التحرير، ولكن بعد ذلك يُترجم نضال التحرير بالنسبة لهم على أنه نوع من الحفاظ على السلام والنظام لشعبهم".
ويرجع ذلك جزئيا إلى الضغوط التي تمارسها الحكومات الأجنبية التي تمول السلطة الفلسطينية وخاصة الولايات المتحدة، التي استثمرت بكثافة في قطاع الأمن الفلسطيني. و"غالبا ما تكون السلطة أيضا تحت رحمة إسرائيل، التي طالما اعتبرت السلطة الفلسطينية تهديدا سياسيا أكبر من حماس".
وأكدت، "أن السلطة الفلسطينية هي المحرك الاقتصادي الرئيسي في فلسطين، حيث توظف ما لا يقل عن 150 ألف شخص وتوفر سبل العيش لنحو 942 ألف شخص، بما في ذلك في غزة، لكن لدفع رواتبهم، "تقع السلطة الفلسطينية تحت رحمة المانحين الأجانب وإسرائيل، التي تسيطر على تدفق الأموال إلى السلطة الفلسطينية وتحجبها في كثير من الأحيان لممارسة الضغط على السلطة".
وقال قرعان: "إنهم في الواقع جزء مهم من الاحتلال
المستمر، لأنه بدون حشد 150 ألف شاب فلسطيني ضد شعبهم، من أجل أمن إسرائيل، إذا تم حشد هؤلاء الـ 150 ألف شخص للقيام بأنشطة أخرى تركز على التحرير الفلسطيني، ستكون لديك لعبة مختلفة تماما، ونوع مختلف تماما من النضال على الأرض".
ويعترف بعض قادة قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية بالتناقض في دورهم في الحفاظ على النظام في الضفة الغربية، لكنهم يصرون على أن البديل سيكون كارثيا.
وقال عضو كبير في قوات السلطة الفلسطينية لموقع إنترسبت: "ستدمر إسرائيل بنيتنا التحتية مرة أخرى، وتدمر مؤسساتنا مرة أخرى، وتدمر قواتنا مرة أخرى، ويمكنهم فعل ذلك بسهولة، سوف يدمرون كل ما بنيناه في الثلاثين عاما الماضية".
وأضاف المسؤول، الذي طلب عدم الكشف عن هويته لأنه غير مخول بالتحدث مع الصحفيين، أن القوات الفلسطينية "تقف على حد السيف".
وتابع، "نحن نتعرض لضغوط هائلة من قبل الإسرائيليين. إنهم يبذلون قصارى جهدهم دائما لاستفزازنا للرد بعنف حتى يتمكنوا من تبرير جرائمهم".
وأوضح، "إنهم يحاولون طوال الوقت إثبات أننا فاشلون ولا نستطيع الحفاظ على القانون والنظام ولا نستطيع الحفاظ على أمن المكان الذي من المفترض أن نكون مسؤولين عنه، لتبرير توغلاتهم اليومية وقتل شعبنا".
ومن الناحية العملية، كان ذلك يعني تراجع قوات السلطة الفلسطينية في مواجهة عنف المستوطنين المتزايد، ومع تزايد غزو الجيش الإسرائيلي لأجزاء من الضفة الغربية التي تخضع اسميا للسيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية.
كما أدى ذلك إلى ظهور جماعات مسلحة جديدة تسعى إلى ملء الفراغ الذي خلفته قوات السلطة الفلسطينية.
وقال جبارين من مؤسسة الحق: "إذا لم يتم توفير الحماية لك من طرف ثالث، من حكومتك، أو من قوة الاحتلال، فسوف تحاول البحث عن طرقك الخاصة لحماية نفسك".
وقد أدى قمع قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية للمعارضة إلى تجريدها من شرعيتها في نظر الجمهور الفلسطيني.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر، مع تصاعد الغضب من الحرب على غزة، أطلقت قوات الأمن الفلسطينية الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية على المتظاهرين في رام الله بالضفة الغربية.
وقد أصبحت مثل هذه الحملات أكثر تكرارا في السنوات الأخيرة، ووصلت إلى ذروتها في أعقاب مقتل نزار بنات على يد قوات الأمن الفلسطينية عام 2021.
وقال غسان بنات، شقيق نزار، لموقع إنترسبت في مكتبه في الخليل، الذي حوله إلى مزار مليء بالصور والاقتباسات من أخيه الراحل: "حرية الشعب الفلسطيني كانت مطلب نزار، ومن وجهة نظره فقد الشعب الفلسطيني تلك الحرية لسببين: محمود عباس والسلطة الفلسطينية وإسرائيل.
وأضاف، "كان يقول نزار أننا يجب أن نحرر أنفسنا من السلطة الفلسطينية، وبعد ذلك يجب علينا أن نعمل معا لتحرير أنفسنا من إسرائيل. ولذلك قتلته السلطة الفلسطينية".
وقال بنات: "قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية ليست موجودة من أجل أمن الفلسطينيين. إنهم الأمن لإسرائيل".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية غزة السلطة الفلسطينية الضفة التنسيق الأمني محمود عباس محمود عباس غزة السلطة الفلسطينية الضفة التنسيق الأمني صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قوات السلطة الفلسطینیة قوات الأمن الفلسطینیة السلطة الفلسطینیة فی للسلطة الفلسطینیة الولایات المتحدة الضفة الغربیة الحفاظ على على أن
إقرأ أيضاً:
فلسطين من المتن إلى الهامش.. ماذا فعلوا لتقزيم القضية الفلسطينية؟!
ما دمنا في شهر كانون الأول/ ديسمبر فالفرصة قائمة للتذكير ببدء المأساة الفلسطينية في العام 1917، حينما دخل الجنرال البريطاني إدموند ألنبي القدس في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1917، وذلك بعد 39 يوما على وعد بلفور الذي كشف سعي بريطانيا إلى إقامة وطن قوميّ لليهود في فلسطين، إذ لا يمكن، والحالة هذه، فصل الانتداب البريطاني على فلسطين، والسياسات الانتدابية الخاصّة التي انتهجتها بريطانيا في فلسطين والمختلفة عن سياسات الانتدابين البريطاني والفرنسي في العراق وشرقي الأردن وسوريا ولبنان، عن المشروع الصهيوني، الذي استكمل نفسه، وأعلن عن دولته على أنقاض الفلسطينيين المشرّدين، على أساس تلك السياسات البريطانية، كما لا يمكن القفز عن المعاناة الفلسطينية الهائلة في ظلّ الانتداب البريطاني الذي انتهج سياسات غاية في الوحشية في قمع الفلسطينيين والتمكين للصهاينة، لا سيما وأنّ سياسات القمع هذه، كما في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، أفضت إلى إنهاك الفلسطينيين، وتسهيل مهمة العصابات الصهيونية في حرب العام 1948.
في السنوات الأخيرة، وفي إطار خطابات تجاوز القضية الفلسطينية، ووضعها في مقارنات تهدف إلى التحقير من معاناة أهلها، لجعل جانب المعاناة وحده المعيار في تقييم القضايا من حيث الثقل والأولوية، لم تَكن تُؤخذ هذه السنوات الطويلة الممتدة من الاستعمار والمعاناة بوصفها معاناة كمّية، إذ كان يوضع البطش الصهيوني وما ينجم عنه من معاناة يمكن قياسها كمّيّا (مثلا: أعداد الشهداء والجرحى والمشرّدين وأوضاع المعتقلين في السجون) في مقارنة مع البطش الذي تقترفه أنظمة سياسية عربية، كالنظام الأسدي في سوريا،أكثر من قرن من الزمان من الاستعمار المتصل ببعضه هو في حدّ ذاته معاناة كيفية، علاوة على كونه معاناة كمّية تتحوّل إلى إضافة كيفية للكيف الموجود أصلا، فطوال هذا القرن والعقد تقريبا، الذي ولدت فيه أجيال وماتت والمعاناة قائمة، لم تنقطع الاعتقالات ولا القتل ولا هدم البيوت ولا الحصار في الأرزاق ولا تقييد الحركة، علاوة على أوجه من المعاناة الكمّية التي لا يقدر على تصوّرها من لم يعانها مباشرة كمصادرة الأراضي وتحويل البلاد إلى سجن كبير وشلّ حركة الناس وتقطيع البلاد عن بعضها والخلوص بذلك للقول إنّ القضية الفلسطينية لا تستحق تلك الأهمية بالنظر إلى الحساب الكمّي للمعاناة، وذلك لأنّ الكمّ المتراكم والمتفاحش من البطش بالضرورة يتحوّل إلى كيف، فالقضية ليست حسابا كمّيّا يُصادر الانفعال بالمعاناة والتي هي نسبيّة، ولكنه كمّ يتحوّل إلى كيف بحيث يجعل المعاناة متمايزة بالضرورة.
لكن وبقطع النظر عن دقّة التصوّر للمعاناة الكمّية الناجمة عن الاستعمار الصهيوني، طالما لا يأخذها في الإطار الزمني الممتد وبالقياس إلى عدد الفلسطينيين، كتشريد 51 في المئة من الفلسطينيين الذين سكنوا عموم فلسطين حتى عام 1948، و82 في المئة من سكان الأراضي التي احتلت عام 1948، وهو تشريد مدفوع بأنماط متوحشة من المجازر، فإنّ احتساب العقود الطويلة المتلاحقة واجب حين إرادة النظر إلى المعاناة من الجهة الكمية أو المادية القابلة للقياس. فأكثر من قرن من الزمان من الاستعمار المتصل ببعضه هو في حدّ ذاته معاناة كيفية، علاوة على كونه معاناة كمّية تتحوّل إلى إضافة كيفية للكيف الموجود أصلا، فطوال هذا القرن والعقد تقريبا، الذي ولدت فيه أجيال وماتت والمعاناة قائمة، لم تنقطع الاعتقالات ولا القتل ولا هدم البيوت ولا الحصار في الأرزاق ولا تقييد الحركة، علاوة على أوجه من المعاناة الكمّية التي لا يقدر على تصوّرها من لم يعانها مباشرة كمصادرة الأراضي وتحويل البلاد إلى سجن كبير وشلّ حركة الناس وتقطيع البلاد عن بعضها.. الخ.
ذلك كلّه بقطع النظر عن كون المعاناة نسبية، من حيث إنّه لا يمكن لأحد تقدير انفعال غيره بما يصيبه وأثر مصابه على حياته، حتى لو اتفقنا على كون الكمّ بالضرورة يتحوّل إلى كيف، وبقطع النظر عن كون مصادرة معاناة الآخرين أمرا معيبا أخلاقيّا ومبدئيّا مهما كانت دوافعه، وبقطع النظر عن المضامين الجوهرية الأخرى التي تمنح القضية الفلسطينية أهمّيتها الخاصّة، وبقطع النظر عن القصور الأخلاقي الذي كان ينتظر إبادة الفلسطينيين لاستكشاف أهمّية قضيتهم، ولكن الذي أردت قوله هنا، جرى بالفعل توظيف المعاناة الكمّية لتحقير القضية الفلسطينية، وإذا كان البعض قد تورّط في ذلك في غمرة المأساة الذاتية والانفعال الغريزي بذلك، فقد تحوّلت هذه الخطابات إلى ظاهرة ثقافية وإعلامية، تصبّ في طاحونة التطبيع العربي التحالفي مع "إسرائيل"، يتورّط فيها مثقفون وإعلاميون لا يمكن عدّهم من الذباب الإلكتروني الذي أهمّ وظائفه تسويغ التخلّي عن القضية الفلسطينية وشيطنة أهلها، ومن ثمّ لا يختلف هؤلاء في النتيجة عن ذلك الذباب!كيف أنّه جرى بالفعل توظيف المعاناة الكمّية لتحقير القضية الفلسطينية، وإذا كان البعض قد تورّط في ذلك في غمرة المأساة الذاتية والانفعال الغريزي بذلك، فقد تحوّلت هذه الخطابات إلى ظاهرة ثقافية وإعلامية، تصبّ في طاحونة التطبيع العربي التحالفي مع "إسرائيل"، يتورّط فيها مثقفون وإعلاميون لا يمكن عدّهم من الذباب الإلكتروني الذي أهمّ وظائفه تسويغ التخلّي عن القضية الفلسطينية وشيطنة أهلها، ومن ثمّ لا يختلف هؤلاء في النتيجة عن ذلك الذباب!
والحاصل أنّ كمّ تلك الخطابات تحوّل بدوره إلى كيفية في التعامل مع القضية الفلسطينية، باتت تجد لها مساغا في التداول العام وفي الطرح السياسي، وهذا الكيف يتبلور في صيغ متعددة، منها الحساب الكمّي المضلّل للمعاناة الذي جرت الإشارة إلى بعضه، أو تحويل القضية الفلسطينية إلى فاعل ضارّ بالأمن العربي لا من جهة الاستعمار الصهيوني بل من جهة الاستغلال الإيراني لها، فتصير الأولوية هي مكافحة الاستغلال الإيراني لا تحرير فلسطين ولا إسناد أهلها، بل يتولّد موقف نفسي يمكن ملاحظته في أوساط معينة من فلسطين وأهلها، سببه "استغلال" إيران للقضية الفلسطينية أو التذكير المستمرّ بالقمع الذي مارسته أنظمة عربية بحقّ شعوبها متغطية بفلسطين، وفي الإطار نفسه جعل قضية التحرر من الاستبداد متعارضة مع قضية التحرر من الاستعمار الأجنبيّ وتهميش الثانية لصالح الأولى، ودون أن يطرح هؤلاء الأسئلة الصحيحة عن السبب الذي يفسح المجال لإيران لـ"استغلال القضية الفلسطينية" في حين أنّ الدول العربية أولى بذلك، على الأقل إن لم يكن إدراكا منها لخطر المشروع الصهيوني عليها، فلقطع الطريق على إيران، ومن ثمّ وبعدما صارت فلسطين عند البعض على هامش هموم عربية أخرى؛ فلن يكون مستغربا ضيق ذلك البعض من مخاوفنا من التمدّد الإسرائيلي، وعدم تبلور طرف معادٍ له حتّى اللحظة بعد مُصاب قوى المقاومة واختلال التوازن الإقليمي لصالح "إسرائيل".
x.com/sariorabi