#موت
#محمد_طمليه
** وصل اقارب أبي , رجال متجهمون ما رأيناهم من قبل … ونساء سمينات جئن على مضض , واطفال بشوشون محمولون في الاحضان وعلى الاكتاف , اضافة الى ثلاثة او اربعة رجال عديمي الوجاهة من النوع الذي يحرص على الظهور في اي مناسبة خشية الملامة والعتب , وكان في المعية ايضا شيوخ طاعنون تقتصر مساهمتهم في الحياة العامة على الاضطجاع تحت عرائش العنب والجلوس عند عتبات الدكاكين قبيل صلاة الظهر , وقذف البلغم , واسداء نصائح تتعلق بالعفة لنساء ارامل ومطلقات منسيون , لا يؤبه بهم غير انهم غير انهم يتألقون في المأتم .
استقبلهم في اول الحارة نفر من اقارب أمي … خالي حسن الذي تبوأ مكانة مرموقة في الحي بعد ان افلح في فض عدة نزاعات بين ازواج سكيرين عاطلين عن العمل وزوجات شبقات يرتدين اول الليل ثياب نوم خليعة ذات الوان تنم عن ذوق مشوه . وجدتي ” بدرية ” اللئيمة ذات القامة القصيرة والخدَين المحمرَين جراء الصفع , وقريب لأمي في الاربعين من عمره جرت العادة ان يستفاد من خبراته لدى ختان الاولاد , وحشو شرج الميت بالقطن , وحمام العريس … وكان في صفوف المستقبلين ايضا ثلة من النساء المولعات بالندب , المتشوقات للحظة الاعلان عن بدء العويل … تصافح الرهطان وتحدثوا باقتضاب عن هول الصدمة , وعن امرأة مسنة ذات ورع وتقوى مصابة بسلسلة من الامراض ابرزها السكري اعاقها الهلع عن المجئ … قيل ” لا حول ولا قوة الا بالله ” . فبكت امرأة ولكن شيخا احبط مسعاها المتمثل في التنكيل بنفسها قائلا ( وحدي الله يا مره ) . ثم توجه الجميع نحو بيتنا .
مقالات ذات صلةكانت أمي تحت الدالية بصحبة خالتي ” عائشة ” التي ورثت عن امها ” بدرية ” الحيطة والحذر , واغلاق سائر الابواب بأقفال ذات مفاتيح ضخمة توضع في قلادة من خيط القنب حول الرقبة … كانتا تتحدثان عن الشماتة المحتملة من جانب النسوة غير المحبات في الحي . ولكنهما كفتا حين قيل : الاقارب وصلو … فأرخت خالتي رأسها الى اسفل في محاولة للايحاء بأنها منشغلة بالذهول , فيما وقفت أمي على قدميها لاستقبال الاقارب , وهو سلوك ادى الى ترسيخ القناعة بأن خبرات أمي في مجال الترمل ضحلة … اذ كان حريا بها ان تظل جالسة مثلما تتصرف عادة النساء المنكوبات … صوفحت امي وعونقت من قبل النساء السمينات .
كان ثمة اطفال جاءوا طلبا للدهشة , وجارات اهملن اغطية الرؤوس بغية الحصول على مظهرٍ مزرٍ , واطلت من نوافذ البيوت المجاورة اطياف لنساء ممنوعات من الخروج بحكم الولادة . او الازواج المتعصبين او الخصومة التي لم يمحها الموت بين الاسرتين … اطلقت في الاجواء صرخة مدوية وقامت جارتنا ” ام وليد ” بقد ثوب قديم ارتدته لهذه الغاية , فبان ثدياها الضخمان اللذان اعتادت على دلقهما عند عتبة الدار بحجة ارضاع الصغير … حذت نساء اخريات حذو ” ام وليد ” . فعم الاندلاق , وصار من الصعب ان تنظر باتجاه ما دون ان يفجؤك نهد رخو بحلمة بحجم الابهام … صار لزاما على الرجال ان ينسحبوا فانسحبوا , واجتمعوا عند البوابة الخارجية وتمخضوا عن جملة قرارات منها : ايفاد شخص الى السوق لشراء ” خاروف ” . ومد سلك كهربائي من بيت الجيران للاستعانة بالقرآن على مضاعفة العبوس , ونصب خيمة ضخمة لاستقبال المعزيين .
سرعان ما اقيمت الخيمة ومدت البسط فيها , وجئ من مكان ما بوسائد , ثم قام احدهم بايصال التيار الى جهاز تسجيل تبرع به الجيران , فارتفع صوت المقرئ يتلو ما تيسر من قصار السور ك” القارعة ” , ” ويل لكل همزة لمزة ” , ” العاديات ” . وغيرها من السور التي دأب الناس على توظيفها في مناسبات مماثلة لتكثيف الكآبة وتصعيد الوجوم .
الاجراءات الاخيرة كانت بمثابة الاعلان عن بدء الفقرة الخاصة بالشيوخ , الطاعنين بالسن , وهي الفقرة التي تهدف الى اشباع عنصر الترهل , وقد امتثل هؤلاء فانتقلوا للخيمة حيث امكنهم ان يضطجعوا على جنوبهم ويتكأوا على الوسائد ويرخوا رؤوسهم الى اسفل في محاولة متفق عليها لاضفاء شئ من الزهد على المشهد.
خالي ” حسن ” وجدتي ” بدرية ” التقيا وراء الخيمة . تهامسا , ويبدو انهما تبادلا مشاعر الارتياح ازاء منسوب الفجيعة الذي امكن تحقيقه في العزاء .. رأيتهما ولكني حرصت على ان لا يرياني خشية ان يتذكروا بأن الميت هو أبي , وانني ملزم بحكم هذا المنصب الحساس بالتصرف كولد يتيم للتو كأخي ” مروان ” الذي يكبرني بسنة , والذي كان خاضعا آنذاك لمواساة ضارية شنها عليه الطاعنون المضطجعون في الخيمة , ومرشوقا برذاذ الريق الذي تناثر من فم جارنا خليل ذي الزوجة التي بتروا ثديها الايسر جراء الاصابة بورم خبيث .. انفلت انا صوب الركن المخصص لعويل النساء , كانت امي مدفونة بأجساد تهدلت نتيجة الافراط في الصياح , والى جانبي خالتي ” عائشة ” المستنفرة تحسبا لحدوث سرقات .. رايت حقيبتي المدرسية مدعوكة تحت الارجل , فهممت بالتقاطها , غير انني عدلت عن ذلك حين تذكرت انني غدوت يتيما .. الايتام لا يذهبون الى المدارس .. وانني سوف لا اكون مضطرا بعد اليوم لاخفاء حقيبتي والزعم بأنها ضاعت , وانه ليس بامكاني الذهاب الى المدرسة دون كتب ودفاتر خشية التعرض لضرب شديد ومبرح من قبل معلمين اشرار كانوا يتقاضون الرواتب الشهرية لمجرد ان يفتكوا بالطلاب .. وقررت من قبيل الحيطة ان اضع الحقيبة في مكان اكثر تعرضا لدوس الارجل للحصول على مزيد من التلف والاهتراء .. ولما انحنيت لالتقاطها سمعت جارتنا ” ام وليد ” ترجو امي بأن تأذن لها بالانصراف بعد ان سنحت ما ترتب عليها من دموع , وصار من حقها ان تطلب الى امي الايعاز للرجال لكي يخفضوا صوت المقرئ المنبعث في جهاز التسجيل ليتمكن ابنها الاكبر الذي يستعد لامتحان الثانوية من التركيز .. تناولت حقيبة كتبي وخرجت . رأتني جدتي ” بدرية ” اللئيمة فأمرتني بالجلوس على حجر في اول الزقاق كي ادل القادمين الجدد على بيتنا , واوصتني بالتجهم بما يوحي انني موشك على الانفجار من شدة الكمت , جلست … حاولت قدر المستطاع ان ابدو على اهبة الرضوخ لأي مواساة محتملة .. أترابي في الحي كانوا على مقربة .. الا ان احد منهم لم يجرؤ على مخاطبتي ربما لانبهارهم بالامتيازات التي تحققت لي , وانا لم اشأ في المقابل ان ارفع الكلفة بيننا , فقد اعجبني ان اكون موضع حسد .
وصل الخاروف محمولا في حضن الرجل الذي اشتراه , ومصحوبا بزوبعة من الاولاد ذوي الرؤوس المحلوقة ” بناءً على طلب مربي الصف ” والاسنان الامامية التي تكسرت نتيجة الارتطام بأجسام صلبة , الامهات الموزعات على مناسبات الاقارب والجيران , وبهذا الاجراء ” مجئ الخاروف ” بات من الواضح ان العزاء قد بلغ الذروة .. اذ علت الاصوات , ودبَت في اقسام العزاء المختلفة حركة نشطة لا مبرر لها سوى الطعام الذي بات وشيكا .. وظهرت فجأة طناجر ضخمة , وارامل مكسورات الخاطرجرت العادة ان تناط بهن مهام الطبيخ لقاء الحصول على الاطراف والاحشاء , وسواعد انزاحت عنها الاكمام وتهيأت لتقديم المساعدة , وتصريحات حول اخلاق الفقيد ادلى بها شخص متأنق في الخمسين شبيه برجال التربية والتعليم .. عرفت فيما بعد انه زوج عمتي , وانه خرج مؤخرا من السجن .. اما هو ” اعني الخاروف ” , فقد فوجئ بالحفاوة التي قوبل بها , وجعل يلوك الاعشاب بكسل , ثم شرب ماء وهبط عند جذع الدالية ناظراً بعينين متهدلتين الى الجمهور , ومعربا عن قناعة استثنائية بمشيئة الله .
قرروا ان يتم الذبح حالا .. وارسلوا في طلب رجل متخصص في دق الاعناق .. تدخلت امي وقالت لخالي ” حسن ” : هل يمكن ارجاء الطبخ لليوم الثالث كما هو متبع لدى موت الاخرين ؟ .. لم يسمعها .. لم يسمعها احد .. فجلست تحت الدالية , وكأني بها همست : انه زوجي على اي حال .. ونفرت من عينيها دمعة ..
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: موت
إقرأ أيضاً:
العاشر من رمضان.. النصر الذي هزم المستحيل
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في ذلك اليوم المشهود عبّر المصريون عن معاني التضحية والفداء وسطروا بدمائهم الطاهرة ملحمة لا يزال صداها يتردد في جنبات التاريخ. كان العاشر من رمضان الموافق للسادس من أكتوبر 1973 هو اليوم الذي تبددت فيه غيوم الهزيمة التي خيمت على الأمة منذ نكسة يونيو 1967 وهو اليوم الذي شهد ميلاد أمة جديدة لا تعرف المستحيل ولا تركع للهزيمة ولا تقبل الانكسار.
لم يكن الطريق إلى هذا اليوم سهلًا ولم يكن العبور مجرد عبور للأجساد فوق مياه القناة بل كان عبورًا لإرادة أمة بأكملها من اليأس إلى الأمل.. من الانكسار إلى الانتصار. كان المصريون قبل هذا اليوم يعيشون تحت وطأة الاحتلال الصهيوني لأرض سيناء يشعرون أن أرضهم مستباحة وأن عزتهم منقوصة وأن شرفهم قد تعرض لطعنة غادرة في نكسة 1967 ولم يكن أمام الجيش المصري سوى طريق واحد طريق الثأر واستعادة الأرض وإعادة الاعتبار للعسكرية المصرية التي لم تعرف الهزيمة إلا كعثرة عابرة في طريق طويل من المجد والانتصارات.
بدأت التحضيرات لهذه الملحمة منذ أن أعلن الرئيس جمال عبد الناصر بعد النكسة أن "ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة".. كانت هذه الكلمات بمثابة المبدأ الذي بنيت عليه كل الاستعدادات للحرب بعد النكسة ولم يكن ذلك مجرد شعار سياسي بل كان قاعدة انطلقت منها عملية إعادة بناء الجيش المصري من جديد. وعهد الرئيس عبد الناصر بهذه المهمة إلى الفريق أول محمد فوزي وكذلك مهمة بناء حائط الصواريخ المصرية ضد إسرائيل والذي استُعمل بكفاءة في إيقاع خسائر جسيمة في صفوف العدو الإسرائيلي طوال حرب الاستنزاف.. فمنذ عام 1968 بدأت حرب الاستنزاف التي كانت تمهيدًا لا غنى عنه للعبور العظيم تعلم خلالها المصريون كيف يواجهون العدو ويستنزفونه وكيف يستخدمون كل مواردهم لتحقيق الهدف الأكبر وهو التحرير.
تولى الرئيس أنور السادات قيادة البلاد في لحظة تاريخية شديدة الحساسية ورغم كل التحديات التي أحاطت به لم يكن لديه خيار سوى اتخاذ القرار الذي ينتظره الجميع قرار الحرب. لم يكن السادات يتحدث كثيرًا لكنه كان يُخطط بعبقرية وهدوء رجل يعرف أن المستقبل مرهون بقدرته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب ومعه كانت قيادة عسكرية عظيمة يقف على رأسها المشير أحمد إسماعيل الذي تولى قيادة هيئة العمليات في الحرب والفريق سعد الدين الشاذلي الذي خطط للعبور بحرفية عسكرية أذهلت العالم.
عندما دقت ساعة الصفر في الثانية ظهرًا يوم العاشر من رمضان انطلقت الطائرات المصرية لتدك حصون العدو في سيناء وتفتح الطريق أمام الموجات الأولى من قوات المشاة التي اندفعت بقوة نحو الضفة الشرقية للقناة. لم يكن المشهد عاديًا ولم يكن مجرد معركة بين جيشين بل كان حدثًا أسطوريًا تجسدت فيه كل معاني الإصرار والإيمان والبطولة.. رجال عبروا القناة تحت نيران العدو.. رجال حملوا أرواحهم على أكفهم ودكوا أقوى خط دفاعي عرفه التاريخ الحديث خط بارليف الذي كان الصهاينة يروجون لاستحالته لم يصمد هذا الحصن سوى ساعات قليلة أمام الجسارة المصرية.. أمام إرادة رجال لم ترهبهم النار ولم يوقفهم الرصاص ولم تمنعهم التحصينات.
على الضفة الأخرى من القناة كانت دماء الشهداء تروي أرض سيناء وتمتزج برمالها لتعلن للعالم أن هذه الأرض مصرية كانت وستظل كذلك إلى الأبد.. كان مشهد الجندي المصري الذي يحمل العلم ويرفعه فوق التلال في سيناء صورة خالدة تختصر كل معاني البطولة والفداء.. كانت صيحات التكبير تهز القلوب وكانت الدموع تنهمر فرحًا وزهوًا بهذا النصر العظيم.
لم يكن هذا النصر مجرد انتصار عسكري بل كان انتصارًا سياسيًا واستراتيجيًا غير موازين القوى في المنطقة وأعاد الاعتبار للعرب بعد سنوات من الإحباط والهزائم.. كان انتصار العاشر من رمضان هو البداية الحقيقية لاستعادة الكرامة العربية لقد كان هذا اليوم بمثابة إعلان رسمي بأن الأمة العربية ليست أمة ضعيفة بل تستطيع أن تنهض من كبوتها وتستعيد مجدها متى ما توفرت الإرادة والتخطيط والإيمان بالحق.
اليوم ونحن نحتفل بهذه الذكرى الخالدة لا بد أن نتوقف أمام تضحيات الشهداء الذين رووا الأرض بدمائهم وكتبوا التاريخ ببطولاتهم لا بد أن نتذكر كل جندي ضحى من أجل أن تظل مصر حرة عزيزة، كل ضابط قاد قواته في أصعب الظروف ولم يتراجع، كل مواطن ساهم في دعم المجهود الحربي وتحمل المعاناة بصبر وإيمان.. اليوم نعيد قراءة الدروس المستفادة من هذه الحرب كيف استطاعت مصر أن تهزم المستحيل كيف استطاعت أن تبني جيشًا قادرًا على الانتصار في فترة زمنية قصيرة كيف تمكنت من توظيف كل مواردها وإمكاناتها لتحقيق الهدف الأكبر.
العاشر من رمضان سيظل يومًا خالدًا في وجدان الأمة، يوم العبور الذي لم يكن مجرد عبور للأجساد، بل كان عبورًا إلى مستقبل جديد ملؤه العزة والكرامة سيظل هذا اليوم رمزًا للإرادة المصرية التي لا تنكسر ودليلًا على أن الشعوب الحية لا تقبل الهزيمة ولا تعرف المستحيل اليوم نرفع رؤوسنا عاليًا ونردد بفخر أننا أبناء هؤلاء الأبطال أبناء العاشر من رمضان أبناء الذين عبروا وانتصروا.