يبدو أن مقطع الفيديو الذي جرى تداوله على نطاق واسع، في السابع من يناير 2024، وظهر فيه عناصر من قوات الدعم السريع يحملون حطام إحدى الطائرات المسيّرة، قد يتحوّل إلى دليل إثبات على تورط إيران في تغذية الصراع بالسودان.

إذْ أوردت وكالة "بلومبرغ"، الأربعاء، إفادات من مختصين تثبت أن الحطام لطائرة مسيّرة من طراز "مهاجر 6" يتم تصنيعها في إيران بواسطة شركة القدس للصناعات الجوية.

بلومبرغ: طهران زودت الجيش السوداني بطائرات مسيرة كشف مسؤولون غربيون كبار عن قيام إيران بتزويد الجيش السوداني بطائرات مسيرة، وفقا لما أوردته وكالة بلومبرغ، الأربعاء.

كما نقلت الوكالة عن ثلاثة مسؤولين غربيين، طلبوا عدم الكشف عن هويتهم، قولهم، إن "إيران تقوم بتزويد الجيش السوداني بطائرات مسيّرة، وإن السودان تلقى شحنات من طائرة "مهاجر 6".

وفي السادس من يناير ذكر الناطق باسم قوات الدعم السريع، أن قواتهم أسقطت طائرة تابعة للجيش السوداني في العاصمة السودانية الخرطوم، ليتم بعدها تداول مقاطع فيديو لحطام طائرة مسيّرة.

أسقط أشاوس قوات الدعم السريع بالعاصمة الخرطوم اليوم السبت ، طائرة حربية من طراز (ميغ) تابعة لمليشيا البرهان وفلول النظام البائد الإرهابيين.

وتصدى أشاوس الدعم السريع، لاعتداءات فلول النظام البائد على المدنيين الأبرياء بإسقاط طائرة حربية من طراز (ميغ) تناثر حطامها في منطقة شرق… pic.twitter.com/9vAcxgVhtz

— Rapid Support Forces - قوات الدعم السريع (@RSFSudan) January 6, 2024

ونقلت وكالة "بلومبرغ"، عن الخبير الهولندي في مجال الطائرات المسيّرة، ويم زويغنبرغ، قوله، إن "من بين الأدلة التي تثبت وجود طائرة "مهاجر 6" في السودان، صورة أقمار اصطناعية التقطت في 9 يناير للطائرة في قاعدة وادي سيدنا الجوية شمال العاصمة الخرطوم".

وأعاد مقطع الفيديو الجدل حول دور إيران في الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ  15 أبريل 2023، خاصة أن إسقاط المسيّرة جاء بعد استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السودان وإيران.

وكانت وزارة الخارجية السودانية أعلنت في أكتوبر 2023، أن الخرطوم وطهران استعادتا علاقتهما الدبلوماسية رسمياً، بعد قطيعة بدأت في يناير 2016، بسبب اقتحام سفارة السعودية لدى طهران.

طريق ممهد

في الوقت الذي دخلت وزارة الخارجية السودانية في خلافات معلنة مع عدد من الدول مثل تشاد والإمارات، وبعض دول الجوار السوداني المنضوية في الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا "إيغاد"، إلا أن ذات الوزارة أعلنت استئناف العلاقات مع طهران بعد قطيعة امتدت لسبع سنوات، ما أوجد تساؤلات عن جدوى ودلالة الخطوة في ظل الحرب الدائرة حالياً بالسودان؟

بالنسبة للقيادي في الحرية والتغيير ماهر أبو الجوخ، فإن "عودة العلاقات بين السودان وإيران تأتي في إطار خطط الجيش السوداني للبحث عن العتاد الحربي، بخاصة عقب استيلاء قوات الدعم السريع على حاميات عسكرية ومدن ذات تأثير عسكري واقتصادي بالغ".

⭕️ سقوط مسيرة من نوع مهاجر 6 ايرانية الصنع ..#الدعم_السريع_مليشيا_ارهابيه pic.twitter.com/GTjF9LthzU

— درويش ®️ (@Derwish249) January 6, 2024

أبو الجوخ أشار في حديثه مع موقع "الحرة" إلى أن "البرهان فشل خلال جولاته الخارجية في الحصول على السلاح الذي كان هدفاً رئيسياً من زياراته، ولذلك اتجه إلى إيران لتوفير العتاد الحربي".

وشدد القيادي في تحالف الحرية والتغيير على أن "إيران لن تقدم السلاح للسودان دون مقابل، على نحو ما تفعله مع حزب الله والنظام السوري والحوثيين في اليمن، لأنها تنظر إلى السودان كسوق للسلاح، يعينها على فك ضوائقها الاقتصادية المتصاعدة، خاصة أن حصول السودان على السلاح بالطرق الرسمية فيه كثير من التعقيدات".

وكان مجلس الأمن الدولي، أصدر في 29 مارس 2005، قراراً بحظر توريد السلاح على الحكومة السودانية والفصائل المسلحة في دارفور، وذلك على خلفية الحرب التي اندلعت بإقليم دارفور في العام 2003، كما ظل المجلس يجدد قراره سنوياً.

بدوره، اعتبر قائد القوات البحرية السودانية السابق، الفريق فتح الرحمن محي الدين، أن "استعادة العلاقة بين الخرطوم وطهران خطوة طبيعية، قائمة على المصالح المشتركة، وأنها تأتي في ظل انفتاح السودان على الدول الصديقة".

محي الدين قال لموقع "الحرة"، "قمنا بمعاداة إيران استجابة لرغبة السعودية، والآن هناك متغيرات كثيرة، والسعودية نفسها أعادت علاقتها مع إيران".

ولفت قائد القوات البحرية السودانية السابق، إلى أن "العقوبات الخارجية المفروضة على السودان حتّمت عليه أن يبحث عن مسارات جديدة في علاقاته الخارجية".

وتابع قائلا "من الطبيعي أن يتجه السودان شرقاً، بسبب عقوبات الغرب وأميركا.. ليس معقولاً أن تفرض عليّ عقوبات وتطالبني أن أقطع علاقاتي مع دول الشرق".

وفي عام 2014، تم إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في السودان، وبررت الخرطوم قرارها بتزايد نشاط هذه المراكز في نشر المذهب الشيعي في السودان. حيث يعتنق أغلب السودانيين المذهب السني، بحسب تقرير سابق لوكالة فرانس برس.

تحركات النظام السابق

وعلى عكس ما ذهب إليه، قائد القوات البحرية السودانية السابق، الفريق فتح الرحمن محي الدين، الذي ربط استئناف العلاقات بين الخرطوم وطهران، باستعادة العلاقات بين السعودية وإيران، فإن المحلل السياسي أشرف عبد العزيز، يرى أن "عناصر نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، لعبوا دوراً مؤثراً في نسج التقارب السوداني الإيراني، خاصة أنهم أصبحوا أكثر تأثيراً في صناعة القرار، وخاصة القرار العسكري في السودان، بعد تفجر القتال بين الجيش والدعم السريع، وأن التقارب بين الطرفين كان سيتم حتى إذا استمر العداء بين الرياض وطهران".

عبد العزيز قال لموقع "الحرة"، إن "قادة تنظيم الإخوان المسلمين في السودان نجحوا في إنهاء القطيعة بين الخرطوم وطهران، على الرغم من المرارات الناتجة عن مشاركة السودان في الحرب ضد الحوثيين الحليف الاستراتيجي لإيران".

ولفت إلى أن "إنهاء القطيعة جاء بعد سلسلة لقاءات سرية، هدفت بشكل أساسي، لضمان حصول الجيش على الدعم العسكري في حربه ضد الدعم السريع".

ورجّح المحلل السياسي أن يكون "ظهور الطائرات الإيرانية المسيّرة في سماء السودان، نتاجاً للتقارب الذي جرى بين الجيش السوداني وطهران".

وفي المقابل يرى المحلل السياسي الإيراني، حسين رويوران، أن "عودة العلاقات بين الخرطوم وطهران خطوة دبلوماسية تأتي في إطار خطة إيران للانفتاح على محيطها الجغرافي".

رويوران قال لموقع "الحرة"، إن "عودة العلاقات بين الطرفين حدث دبلوماسي ليس له تأثير كبير، أولا بسبب وضع السودان الداخلي، وثانياً لأنه جاء في وقت تصعد فيه أولويات أخرى في المنطقة، بخاصة موضوع غزة وتداعياتها على المنطقة"

ولم يعلّق حسين على المعلومات المتداولة بشأن تزويد إيران الجيش السوداني بالعتاد الحربي، واكتفى بالقول: "في تصوري قد لا يستحوذ حدث عودة العلاقات على الاهتمام، لأن تأثيره محدود، ولأنه ليس من الأولويات في المنطقة".

لكن ما اعتبره المحلل السياسي الإيراني، رويوران، عديم الأهمية والأولوية بسبب الحرب الدائرة في السودان، اعتبره المحلل السياسي أشرف عبد العزيز رأس الزاوية في التقارب الحالي بين طهران والخرطوم.

عبد العزيز قال إن "إيران تحاول الاستثمار في حالة الهشاشة التي يعيشها السودان بسبب الحرب، وذلك لتوسيع نفوذها في ساحل البحر الأحمر، بما يضمن حماية حلفائها في اليمن، والتأثير على عمليات الملاحة في البحر الأحمر، بجانب تنشيط خط إيصال السلاح إلى غزة، على نحو ما كان يحدث من خلال تحالفها مع نظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير".

وارتبط السودان، قبل قطع العلاقات بروابط جيدة مع إيران وخاصة في المجال العسكري. وفي عام 2012، زار البشير، طهران حيث وصف العلاقات بين البلدين بالراسخة، كما أن السفن الايرانية كثيرا ما ترسو في ميناء بور سودان على البحر الأحمر.

وتشير أدلة إلى أن إيران قامت بدور رئيسي في دعم قطاع إنتاج الأسلحة في السودان، بحسب تقرير أصدره معهد دراسات الأسلحة الصغيرة في سويسرا، في مايو عام 2014.

أطماع ساحلية؟

على وقع الحرب الدائرة في غزة، تسارعت خطوات التقارب السوداني الإيراني، وتناست طهران حنقها على الخرطوم بسبب مشاركتها في عاصفة الحزم ضمن تحالف استعادة الشرعية في اليمن، فما الذي يدفع طهران لاستئناف العلاقة مع الخرطوم؟

هنا يستبعد القيادي في الحرية والتغيير، ماهر أبو الجوخ، أن تكون لإيران أطماع في إقليم السودان الشرقي المطل على البحر الأحمر، حجته في ذلك أن "أي أطماع لإيران في هذه المنطقة يمكن أن تثير سخط السعودية ودول الخليج، كما أن طهران لا ترغب في تعكير علاقاتها مع الرياض التي تعافت مؤخراً"، وفق قوله.

بيد أن أبو الجوخ عاد وأشار إلى أن "تقارير دولية متعددة أشارت إلى أن إيران ونظام الرئيس المخلوع عمر البشير تورطا في نقل السلاح إلى حركة حماس المصنفة في الولايات المتحدة وعدد من الدول كجماعة إرهابية".

وتابع قائلاً: "حينما كان نظام البشير يموّل حركة حماس بالسلاح كان جزءً من ذلك السلاح صناعة سودانية والآخر كان يتم بمعرفة خبراء إيرانيين، والآن هناك محاولة لإحياء مسار التهريب، بعد أن ظل مجمداً خلال السنوات الماضية".

قائد القوات البحرية السودانية السابق، الفريق فتح الرحمن محي الدين، أشار إلى أن "إيران لم تقدم للسودان، حينما كانت العلاقات قوية ومتينة، أي طلب لإنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، ولم تظهر أي اهتمام في هذا الجانب".

ولفت إلى أن "هناك اتفاقا روسيا سودانيا على إقامة قاعدة في البحر الأحمر، لكن تم تجميد الاتفاق".

محي الدين عاد وقال "لكن إذا طلبت إيران حالياً إنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر فهناك إمكانية لذلك، كما أنه يمكن أن يتم تنشيط اتفاق السودان وروسيا، طالما أن أميركا ودول الغرب مستمرة في فرض العقوبات على السودان".

وفي المقابل، يرى المحلل السياسي، أشرف عبد العزيز، أن "رغبة إيران الرئيسية من التقارب مع السودان، هي تمديد نفوذها في منطقة البحر الأحمر، بوصفها منطقة صراع إقليمي، خاصة بعد اندلاع الحرب في غزة".

عبد العزيز أبان أن "التقارب السوداني الإيراني سيعيد إلى ذاكرة الموساد الإسرائيلي أن منطقة ساحل البحر الأحمر في الحدود السودانية كانت منطقة نشطة ومعبراً استراتيجياً لتهريب السلاح إلى حماس، ما قد يثير مخاوف الإسرائيليين".

وأشار المحلل السياسي إلى أن "إيران تملك علاقات راسخة وقوية مع الجيش السوداني"، وهو ما أقرّ به قائد القوات البحرية السودانية السابق، الفريق فتح الرحمن محي الدين، مشيرا لوجود تعاون عسكري بين الخرطوم وطهران، نافياً – في الوقت ذاته – وجود اتفاق دفاع مشترك بين الطرفين".

وأضاف قائلاً: "أي حديث عن تورط السودان في إيصال السلاح إلى غزة هو اتهامات باطلة، لأنه لا توجد حدود مباشرة للسودان، لاستخدامها في تهريب السلاح إلى هناك".

ونفى محي الدين أن تكون الخرطوم استقبلت أي شحنات سلاح من إيران في الوقت الحالي، وقال إن "ما تروج له الدعم السريع حول إسقاط طائرة مسيّرة إيرانية في الخرطوم، هراء وكذب".

وأشارت تقارير أجنبية سابقة، إلى تنسيق سوداني إيراني في عمليات إيصال السلاح إلى الفصائل الفلسطينية، باستخدام ساحل البحر الأحمر والحدود السودانية.

وأوردت وكالة "رويترز"، في مارس 2009، نقلا عن اثنين من كبار الساسة السودانيين، قولهم إن طائرات مجهولة الهوية هاجمت قافلة يشتبه في أنها لمهربي أسلحة، كانت في طريقها من شرق السودان إلى مصر، ما أسفر عن مقتل معظم أفراد القافلة.

وفي أكتوبر 2012 اتهمت الحكومة السودانية إسرائيل بقصف مجمع الصناعات العسكرية في منطقة اليرموك في الخرطوم، باستخدام أربع طائرات، وقالت إن الهجوم أدى إلى مقتل شخصين.

وأوردت صحيفة "يديعوت أحرونوت" حينها، أن إسرائيل "تمتلك معلومات أكيدة بشأن وجود قواعد عسكرية إيرانية في الخرطوم، وأن مصنع اليرموك ينتج أسلحة كانت في طريقها إلى حركة حماس".

وفي تقرير لها، ذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست" أن السودان كان في متناول إيران منذ عقود من خلال استخدامه كمقر لنقل الأسلحة في المنطقة، حيث هربت أسلحة لحركة حماس في أعوام 2009، 2012، و2014.

التطبيع ومآلات التقارب

لسنوات طويلة، اصطف السودان ضمن الدول التي ترفض التقارب مع إسرائيل، وهو ما عزز فرص تقارب الخرطوم مع طهران، بخاصة في عهد البشير، لكن في فبراير 2020 انتهج رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، خطوات نادرة للتطبيع، والتقى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو في أوغندا، فما مصير التطبيع بعد التقارب السوداني الإيراني؟

يقول القيادي في الحرية والتغيير، ماهر أبو الجوخ، إن البرهان سيستمر في نسج وتطوير العلاقات مع إسرائيل، وأن عملية التطبيع لن تتوقف، طالما أن البرهان على رأس الجيش السوداني، لأنه يعتقد أن وصل حبال المودة مع إسرائيل يمثل مصدر قوة بالنسبة له".

وكان الناطق باسم الجيش السوداني، أعلن – وقتها - دعم وترحيب الجيش للقاء البرهان ونتانياهو، واعتبره "خطوة في إطار المصلحة العليا للسودان".

وبدوره، يرى قائد القوات البحرية السودانية السابق، الفريق فتح الرحمن محي الدين، أن العلاقات بين طهران في طور التكوين والتشكل، وأنه من السابق لأوانه التكهن بمآلات الخطوة، متوقعاً أن يكون لعودة العلاقات تأثير منظور في مجالات الاقتصاد والتبادل التجاري بين البلدين".

هنا يعود المحلل السياسي، أشرف عبد العزيز، ويشير إلى أن التقارب الإيراني سيأتي خصما على مصير التطبيع الذي انتهجه البرهان، لأن قادة النظام السابق أصبحوا أكثر تأثيراً على قرارات المؤسسة العسكرية".

وتابع  قائلا: "لا أتوقع أن تمضي خطوات التطبيع إلى الأمام، بل يمكن أن يتحول شرق السودان وساحل البحر الأحمر، إلى منطقة صراع إقليمي ودولي، في ظل الخطوة الانتحارية التي قامت بها الخرطوم باستئناف علاقاتها مع إيران".

وقلل عبد العزيز من أي تأثيرات اقتصادية محتملة للتقارب السوداني الإيراني، وأشار إلى أن "إيران لم تكن ظهيراً وسنداً اقتصادياً قوياً للسودان حتى حينما كانت العلاقة عامرة وقوية بين الطرفين".

وأضاف أن "إيران لم تنفذ وعدها بتشييد الطريق المخصص لربط منطقة الجبلين بمدينة ملكال الواقعة في جنوب السودان، مع أن تنفيذ الطريق كان يمكن أن يسهم في بقاء السودان موحداً، وربما يقلل فرص انفصال جنوب السودان الذي كان يشكو من غياب التنمية المتوازنة".  

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الحریة والتغییر فی البحر الأحمر أشرف عبد العزیز المحلل السیاسی الجیش السودانی عودة العلاقات الحرب الدائرة العلاقات بین بین الطرفین فی السودان السلاح إلى أبو الجوخ من الدول إیران فی یمکن أن مهاجر 6 إلى أن ما کان

إقرأ أيضاً:

كيف أسست أمريكا سياستها تجاه السودان على معلومات استخباراتية خاطئة؟

توطئة:

“فشل استخباراتي؟ دعونا نعود إلى السودان”، هذا كان عنوان لمقال كتبه كل من تيموثي كارني، السفير الأمريكي في السودان في منتصف التسعينيات، ومنصور إعجاز، وهو من الاستخبارات الأمريكية المسؤول عن التفاوض مع السلطات السودانية في موضوع مكافحة الإرهاب.

وقد نشر المقال في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 29 يونيو 2002 وهو يسلط الضوء على فترة مهمة جداً في تاريخ السودان في النصف الثاني من التسعينيات ويوضح الكاتبان كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية أسست مواقفها ضد السودان على معلومات استخباراتية غير صحيحة. وأوردا أن السودان تنازل كثيراً وعرض تعاوناً استخباراتياً غير مشروط ولكن السلطات الأمريكية تجاهلت العرض.

ولأهمية محتوى المقال رأينا أن نترجمه كاملاً لقراء موقع “المحقق” الإخباري كونه يسلط الضوء على مرحلة مهمة في تاريخ علاقة السودان بالولايات المتحدة خصوصاً والغرب عموماً.

فإلى المقال…

ترجمة: رمضان أحمد

“في أوائل عام 1996، أقنع مدير وكالة المخابرات المركزية جون دويتش أقنع وزير الخارجية وارن كريستوفر بسحب الدبلوماسيين الأميركيين من السودان خوفاً على سلامتهم. وكانت مخاوفه مبنية على معلومات استخباراتية تخص الحكومة السودانية. ورغم أن السفارة لم تُغلق رسمياً، فقد تم إخلاؤها، وأصبحت العلاقات مع الخرطوم متوترة بشدة.

وبعد فترة وجيزة، أدركت وكالة المخابرات المركزية أن تحليلها كان خاطئاً. وقد قام أحد المصادر الرئيسية بتزييف المعلومات أو فبركتها بالكامل، وفي أوائل عام 1996 ألغت الوكالة أكثر من 100 تقرير من تقاريرها عن السودان.

فهل قامت وزارة الخارجية بعد ذلك بإرجاع دبلوماسييها إلى السودان؟ كلا، بل اكتسبت المعلومات الاستخباراتية السيئة طوراً جديداً خاصاً بها. فظل هناك شعور بعدم الثقة. هذا وأصبحت السفارة بمثابة كرة قدم سياسية ودبلوماسية لصناع القرار والناشطين الذين أرادوا عزل الخرطوم حتى توقف حربها الأهلية الدموية مع الجنوب ذي الأغلبية المسيحية. وحتى يومنا هذا، لا تزال السفارة خالية من الموظفين في أغلب الأحيان.

هذه الحلقة تستحق أن نرويها الآن. سواء أكان ذلك في إطار مطاردة الإرهابيين في أفغانستان، أو الحكم على نزاهة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، أو التوسط في حل النزاع بين الهند وباكستان، أو التفكير في فضيلة الهجوم على العراق، فقد أولت إدارة بوش عناية كبيرة لمحتوى التقارير الاستخباراتية الأميركية (وأحياناً الأجنبية). وبينما تشن الولايات المتحدة حرباً على الإرهاب، ويعيد الكونجرس تنظيم وكالات الاستخبارات الأميركية وتعزيزها، سوف يتزايد تأثير المعلومات الاستخبارات على السياسة الخارجية والعسكرية.

ولكن يتعين على صناع السياسات الأميركيين أن يكونوا أذكياء في استخدام المعلومات الاستخباراتية.

وتُظهر قصة السياسة الأميركية في السودان كيف يمكن للمعلومات الاستخباراتية السيئة ــ أو المعلومات الاستخباراتية الجيدة التي تُستخدم بشكل سيئ ــ أن تلحق الضرر بالمصالح الأميركية. وفي السودان، أربكتنا هذه الحرب فيما يتصل بالإسلام السياسي، وأضرت بقدرتنا على التدخل في الحرب الأهلية السودانية التي استمرت 47 عاماً، وفي عام 1996 قوضت أفضل فرصة لنا على الإطلاق للقبض على أسامة بن لادن وخنق منظمته، قبل أن يتم طرده من السودان ويجد طريقه إلى أفغانستان.

نحن نكتب عن تجربة. وكان أحدنا، كارني، الدبلوماسي المتقاعد، آخر سفير للولايات المتحدة في الخرطوم. أما الآخر، إعجاز، وهو مدير صندوق تحوط أميركي، فقد لعب دوراً غير رسمي من خلال نقل الرسائل بين الخرطوم وواشنطن بعد إخلاء السفارة.

ولعل الفشل الاستخباراتي الأعظم في السودان لم يكن مرتبطاً بحماية سلامة الدبلوماسيين الأميركيين، بل بفهم البيئة السياسية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وهذا أحد جوانب القصة التحذيرية للسودان: خطر فقدان التركيز على السياسة مع التركيز على الإرهاب.

خلال تسعينيات القرن العشرين، حاول بعض المسلمين الملتزمين في مختلف أنحاء العالم تشكيل حركة سياسية لسد الفجوة بين العالم الحديث والكتاب المقدس في العصور الوسطى. ولكن بدلاً من الانخراط في هذه الحركة، دمجت الولايات المتحدة الجماعات السياسية الإسلامية في مجموعة واحدة واعتبرتها جميعها خطيرة. وتشبثت الولايات المتحدة بالعلاقات مع الأنظمة الاستبدادية التي شعرت بالتهديد من جانب الجماعات الإسلامية، وبالتالي سمحت للمتطرفين المنظمين جيداً بالهيمنة على الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي.

وكانت الخرطوم مركزًا مهمًا للنشاط السياسي الإسلامي. لقد استولت الجبهة الإسلامية القومية السودانية بقيادة حسن الترابي، خريج جامعة السوربون، على السلطة في انقلاب عام 1989. كان الترابي يعقد مؤتمرات سنوية اجتذبت آلاف المتطرفين المسلمين إلى الخرطوم لصياغة رؤيتهم لمدينة إسلامية مثالية. ووصف الترابي المؤتمرات بأنها جلسات تنفيس تهدف إلى تعديل خطاب الإسلام المتطرف. ووصفت الحكومة الأميركية هذه الاجتماعات بأنها جلسات تخطيط إرهابية، وبدلاً من التسلل إليها وفك رموزها، طالبت الخرطوم بوقفها.

أديس أبابا ونيروبي وكمبالا. اعتمدت واشنطن على قراءة هذه العواصم للأحداث في السودان، بدلاً من الاعتماد على عينيها وأذنيها.

وكانت هناك أسباب حقيقية للقلق. عزز القادة الجدد في السودان علاقاتهم القائمة منذ فترة طويلة مع الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط. وصل بن لادن وأتباعه في عام 1991. وكان “الشيخ الأعمى” عمر عبد الرحمن، وهو مصري الذي أدين فيما بعد بالتخطيط لتفجير معالم في نيويورك، قد حصل على تأشيرة السفر إلى الولايات المتحدة من الخرطوم في عام 1993.

ولكن بحلول أواخر عام 1995، بدأ العديد من الزعماء السودانيين يتساءلون عما إذا كان احتضانهم للمتطرفين الإسلاميين الأجانب يمثل هزيمة ذاتية، إذ يشكل تهديداً للأمن الداخلي وحاجزاً أمام العالم أجمع. ولكن عندما ساعدت السودان فرنسا في القبض على الإرهابي سيئ السمعة المعروف باسم “كارلوس الثعلب”، رفض المحللون الأميركيون هذا الأمر واعتبروه تهدئة للمخاوف الغربية وليس تغييراً في سياسة السودان تجاه الإرهاب.

وتضمنت المعلومات الاستخباراتية الخاطئة اتهامات مغلوطة، فضلاً عن تحليلات سياسية ضعيفة. التقارير الكاذبة عن مؤامرات ضد الأميركيين ودفعت السفير الأميركي دونالد بيترسون إلى التهديد “بتدمير اقتصادكم [السوداني]” و”التدابير العسكرية التي ستجعلكم تدفعون ثمناً باهظاً”، وفقاً لما ذكره في حديثه. وفي أواخر عام 1995، أطلق خليفته، المؤلف المشارك كارني، تحذيرات مماثلة. إن التركيز على الاتهامات الكاذبة أدى إلى صرف الانتباه عن دعوات الولايات المتحدة إلى معالجة المظالم المشروعة لمواطني جنوب السودان المحاصرين.

كما ألحقت المعلومات الاستخباراتية الضعيفة الضرر بسياسة مكافحة الإرهاب الأميركية في أغسطس/آب 1998، عندما قامت صواريخ كروز الأميركية بتدمير مصنع للأدوية في الخرطوم، رداً على تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا، والذي زعمت واشنطن أنه كان ينتج مواد أولية للأسلحة الكيميائية. ولم يكن لدى البيت الأبيض في عهد كلينتون حتى الحقائق الأساسية، مثل عن الشخص مالك المصنع. غير أن الرئيس اعتمد على تأكيدات غير قابلة للتحقق بشأن ارتباط الشركة بابن لادن.

وكان الفشل الاستخباراتي متجذراً في مصادر غير مباشرة قدمها حلفاء مناهضون للخرطوم في المنطقة، وخاصة في إريتريا وإثيوبيا ومصر. ولو تُرك موظفو السفارة الأميركية على الأرض، لربما كان من الممكن تحديد الأهداف الصحيحة أو تجنب ضربة كانت في نهاية المطاف ستعزز التعاطف مع المتطرفين الإسلاميين العازمين على مهاجمة الولايات المتحدة. وقد برز هذا الخطر مرة أخرى في الآونة الأخيرة، مع استهداف الولايات المتحدة لأهداف بعيدة، وأحيانا خاطئة، في أفغانستان، معتمدة على معلومات استخباراتية من مصادر مشكوك فيها في كثير من الأحيان.

وتُظهر قصة السودان أيضاً أن السياسة يمكن أن تتغلب على صانعي السياسات وأنهم يتجاهلون المعلومات الاستخباراتية الجيدة. فبحلول عام 1996، تراجع حماس الخرطوم لإقامة دولة إسلامية أيديولوجية. وكان البراجماتيون يتفوقون على الإيديولوجيين. وفي فبراير 1996، وكما ذكرت صحيفة واشنطن بوست، حاولت الخرطوم التعاون في مجال مكافحة الإرهاب. لقد قام وزير الدولة السوداني لشؤون الدفاع (الذي يشغل الآن منصب سفير السودان لدى الأمم المتحدة)، اللواء الفاتح عروة، بزيارة سرية إلى الولايات المتحدة ليقترح صفقة تبادلية ـ تسليم بن لادن إلى المملكة العربية السعودية مقابل تخفيف العقوبات السياسية والاقتصادية. غير أن الرياض رفضت، وبعد ثلاثة أشهر، وبعد أن كان السودان قد عرض تسليم بن لادن إلى السلطات الأميركية، قام بطرده، بناء على طلب نائب مستشار الأمن القومي صمويل ر. “ساندي” بيرغر. وفي يوليو، أعطت السودان السلطات الأميركية الإذن بتصوير معسكرين مفترضة للإرهاب. وقد فشلت واشنطن في المتابعة. وفي أغسطس، أرسل الترابي رسالة “غصن زيتون” إلى الرئيس كلينتون عبر إعجاز. لم يكن هناك رد.

في شهر أكتوبر، عرض قطبي المهدي، رئيس الاستخبارات السوداني المعين حديثاً، والذي تلقى تعليمه في الغرب، عرض معلومات استخباراتية حساسة عن الإرهابيين الذين يتم تعقبهم عبر الخرطوم على أحد أعضاء فريقنا، وهو إعجاز، لنقلها إلى إدارة كلينتون. وبحلول يوم الانتخابات عام 1996، كان كبار مساعدي كلينتون، بما في ذلك بيرغر، على علم بالمعلومات المتاحة من الخرطوم وقيمتها المحتملة في تحديد الخلايا الإرهابية ومراقبتها وتفكيكها في نهاية المطاف في جميع أنحاء العالم. ولكنهم لم يفعلوا شيئا بهذا الشأن.

وحدث تغيير آخر في التفكير السوداني في إبريل 1997. وتراجعت الحكومة عن مطالبتها بأن ترفع واشنطن العقوبات مقابل التعاون في مكافحة الإرهاب. وفي رسالة سلمها إعجاز إلى السلطات الأميركية، عرض الرئيس السوداني على وحدات مكافحة الإرهاب التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية الأميركية إمكانية الوصول غير المقيد وغير المشروط إلى المعلومات استخبارات الخرطوم.

وأثار التحول في سياسة السودان جدلاً في وزارة الخارجية، حيث يعتقد مسؤولون في الخدمة الخارجية أن الولايات المتحدة يجب أن تعيد التواصل مع الخرطوم. وبحلول نهاية صيف عام 1997، نجحوا في إقناع وزيرة الخارجية القادمة مادلين أولبرايت بالسماح لبعض الموظفين الدبلوماسيين على الأقل بالعودة إلى السودان للضغط من أجل التوصل إلى حل للحرب الأهلية ومتابعة العروض للتعاون في مجال الإرهاب. تم الإعلان رسميًا عن ذلك في أواخر شهر سبتمبر.

غير أن شخصين اختلفا في الرأي. تمكن ريتشارد كلارك، الخبير في شؤون الإرهاب بمجلس الأمن القومي، وسوزان رايس، المتخصصة في شؤون أفريقيا بمجلس الأمن القومي، والتي كانت على وشك أن تصبح مساعدة لوزير الخارجية للشؤون الأفريقية، من إقناع بيرغر، مستشار الأمن القومي آنذاك، بإلغاء قرار أولبرايت. تم إلغاء السياسة الجديدة بعد يومين.

إن إلغاء هذه العملية المشتركة بين الوكالات والتي استمرت لعدة أشهر أدى إلى تقويض جهود مكافحة الإرهاب الأمريكية. وفي محاولة أخيرة لإيجاد طريقة للتعاون مع السلطات الأميركية، كرر رئيس الاستخبارات السوداني العرض غير المشروط بتبادل بيانات الإرهاب مع مكتب التحقيقات الفيدرالي في رسالة في فبراير 1998 موجهة مباشرة إلى الوكيل الخاص المسؤول عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ديفيد ويليامز. ولكن البيت الأبيض وسوزان رايس اعترضا. وفي 24 يونيو 1998، كتب ويليامز إلى قطبي المهدي قائلاً إنه “ليس في وضع يسمح له بقبول عرضك الكريم”. وبعد ستة أسابيع، تعرضت سفارتا الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا للتفجيرات.

لقد عدلت إدارة كلينتون عن موقفها قبيل الهجوم على المدمرة كول، وذلك بإرسال خبراء مكافحة الإرهاب من مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى الخرطوم لإجراء مسح. ولكن كل ذلك تم بعد فوات الأوان تماماً.

مازلنا نعيش عواقب السياسة الأمريكية وفشل الاستخبارات في السودان.

لقد قدمت لنا الخرطوم أفضل فرصة للتصدي للإسلاميين المتطرفين ووقف بن لادن في وقت مبكر. إذا كان للولايات المتحدة أن تتحمل مسؤولية الإخفاقات التي أدت إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فإننا بحاجة إلى فهم أفضل لإخفاقاتنا في السودان. إن المعلومات الاستخباراتية الصلبة التي تساعد في صياغة سياسة سليمة قادرة على توليد الحكمة التي تساعد في التمييز بين أميركا وأولئك الذين يسعون إلى تدميرها.

المحقق

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • تجدد المواجهات العنيفة بين الجيش والدعم السريع في الخرطوم
  • اليوم.. تجدد المواجهات العنيفة بين الجيش والدعم السريع في الخرطوم
  • الجيش يهاجم مواقع للدعم السريع في الخرطوم وشرق النيل
  • ‏نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني: رد ⁧إيران⁩ على اغتيال هنية سيكون في التوقيت المناسب
  • الخارجية السودانية: بعثة تقصي الحقائق تتماهى مع تحركات يشهدها مجلس الأمن
  • اشتباكات عنيفة بالخرطوم ونزوح مئات الأسر السودانية من الشمال
  • نزوح كثيف من الخرطوم بسبب تبادل القصف بين الجيش والدعم السريع
  • اشتباكات عنيفة بالخرطوم بين الجيش والدعم السريع
  • السفير الإيراني:بلادي ستحصل على (100) مليار دولار من العراق من خلال التوقيع على (30) إتفاقية
  • كيف أسست أمريكا سياستها تجاه السودان على معلومات استخباراتية خاطئة؟