يبدو أن مقطع الفيديو الذي جرى تداوله على نطاق واسع، في السابع من يناير 2024، وظهر فيه عناصر من قوات الدعم السريع يحملون حطام إحدى الطائرات المسيّرة، قد يتحوّل إلى دليل إثبات على تورط إيران في تغذية الصراع بالسودان.

إذْ أوردت وكالة "بلومبرغ"، الأربعاء، إفادات من مختصين تثبت أن الحطام لطائرة مسيّرة من طراز "مهاجر 6" يتم تصنيعها في إيران بواسطة شركة القدس للصناعات الجوية.

بلومبرغ: طهران زودت الجيش السوداني بطائرات مسيرة كشف مسؤولون غربيون كبار عن قيام إيران بتزويد الجيش السوداني بطائرات مسيرة، وفقا لما أوردته وكالة بلومبرغ، الأربعاء.

كما نقلت الوكالة عن ثلاثة مسؤولين غربيين، طلبوا عدم الكشف عن هويتهم، قولهم، إن "إيران تقوم بتزويد الجيش السوداني بطائرات مسيّرة، وإن السودان تلقى شحنات من طائرة "مهاجر 6".

وفي السادس من يناير ذكر الناطق باسم قوات الدعم السريع، أن قواتهم أسقطت طائرة تابعة للجيش السوداني في العاصمة السودانية الخرطوم، ليتم بعدها تداول مقاطع فيديو لحطام طائرة مسيّرة.

أسقط أشاوس قوات الدعم السريع بالعاصمة الخرطوم اليوم السبت ، طائرة حربية من طراز (ميغ) تابعة لمليشيا البرهان وفلول النظام البائد الإرهابيين.

وتصدى أشاوس الدعم السريع، لاعتداءات فلول النظام البائد على المدنيين الأبرياء بإسقاط طائرة حربية من طراز (ميغ) تناثر حطامها في منطقة شرق… pic.twitter.com/9vAcxgVhtz

— Rapid Support Forces - قوات الدعم السريع (@RSFSudan) January 6, 2024

ونقلت وكالة "بلومبرغ"، عن الخبير الهولندي في مجال الطائرات المسيّرة، ويم زويغنبرغ، قوله، إن "من بين الأدلة التي تثبت وجود طائرة "مهاجر 6" في السودان، صورة أقمار اصطناعية التقطت في 9 يناير للطائرة في قاعدة وادي سيدنا الجوية شمال العاصمة الخرطوم".

وأعاد مقطع الفيديو الجدل حول دور إيران في الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ  15 أبريل 2023، خاصة أن إسقاط المسيّرة جاء بعد استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السودان وإيران.

وكانت وزارة الخارجية السودانية أعلنت في أكتوبر 2023، أن الخرطوم وطهران استعادتا علاقتهما الدبلوماسية رسمياً، بعد قطيعة بدأت في يناير 2016، بسبب اقتحام سفارة السعودية لدى طهران.

طريق ممهد

في الوقت الذي دخلت وزارة الخارجية السودانية في خلافات معلنة مع عدد من الدول مثل تشاد والإمارات، وبعض دول الجوار السوداني المنضوية في الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا "إيغاد"، إلا أن ذات الوزارة أعلنت استئناف العلاقات مع طهران بعد قطيعة امتدت لسبع سنوات، ما أوجد تساؤلات عن جدوى ودلالة الخطوة في ظل الحرب الدائرة حالياً بالسودان؟

بالنسبة للقيادي في الحرية والتغيير ماهر أبو الجوخ، فإن "عودة العلاقات بين السودان وإيران تأتي في إطار خطط الجيش السوداني للبحث عن العتاد الحربي، بخاصة عقب استيلاء قوات الدعم السريع على حاميات عسكرية ومدن ذات تأثير عسكري واقتصادي بالغ".

⭕️ سقوط مسيرة من نوع مهاجر 6 ايرانية الصنع ..#الدعم_السريع_مليشيا_ارهابيه pic.twitter.com/GTjF9LthzU

— درويش ®️ (@Derwish249) January 6, 2024

أبو الجوخ أشار في حديثه مع موقع "الحرة" إلى أن "البرهان فشل خلال جولاته الخارجية في الحصول على السلاح الذي كان هدفاً رئيسياً من زياراته، ولذلك اتجه إلى إيران لتوفير العتاد الحربي".

وشدد القيادي في تحالف الحرية والتغيير على أن "إيران لن تقدم السلاح للسودان دون مقابل، على نحو ما تفعله مع حزب الله والنظام السوري والحوثيين في اليمن، لأنها تنظر إلى السودان كسوق للسلاح، يعينها على فك ضوائقها الاقتصادية المتصاعدة، خاصة أن حصول السودان على السلاح بالطرق الرسمية فيه كثير من التعقيدات".

وكان مجلس الأمن الدولي، أصدر في 29 مارس 2005، قراراً بحظر توريد السلاح على الحكومة السودانية والفصائل المسلحة في دارفور، وذلك على خلفية الحرب التي اندلعت بإقليم دارفور في العام 2003، كما ظل المجلس يجدد قراره سنوياً.

بدوره، اعتبر قائد القوات البحرية السودانية السابق، الفريق فتح الرحمن محي الدين، أن "استعادة العلاقة بين الخرطوم وطهران خطوة طبيعية، قائمة على المصالح المشتركة، وأنها تأتي في ظل انفتاح السودان على الدول الصديقة".

محي الدين قال لموقع "الحرة"، "قمنا بمعاداة إيران استجابة لرغبة السعودية، والآن هناك متغيرات كثيرة، والسعودية نفسها أعادت علاقتها مع إيران".

ولفت قائد القوات البحرية السودانية السابق، إلى أن "العقوبات الخارجية المفروضة على السودان حتّمت عليه أن يبحث عن مسارات جديدة في علاقاته الخارجية".

وتابع قائلا "من الطبيعي أن يتجه السودان شرقاً، بسبب عقوبات الغرب وأميركا.. ليس معقولاً أن تفرض عليّ عقوبات وتطالبني أن أقطع علاقاتي مع دول الشرق".

وفي عام 2014، تم إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في السودان، وبررت الخرطوم قرارها بتزايد نشاط هذه المراكز في نشر المذهب الشيعي في السودان. حيث يعتنق أغلب السودانيين المذهب السني، بحسب تقرير سابق لوكالة فرانس برس.

تحركات النظام السابق

وعلى عكس ما ذهب إليه، قائد القوات البحرية السودانية السابق، الفريق فتح الرحمن محي الدين، الذي ربط استئناف العلاقات بين الخرطوم وطهران، باستعادة العلاقات بين السعودية وإيران، فإن المحلل السياسي أشرف عبد العزيز، يرى أن "عناصر نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، لعبوا دوراً مؤثراً في نسج التقارب السوداني الإيراني، خاصة أنهم أصبحوا أكثر تأثيراً في صناعة القرار، وخاصة القرار العسكري في السودان، بعد تفجر القتال بين الجيش والدعم السريع، وأن التقارب بين الطرفين كان سيتم حتى إذا استمر العداء بين الرياض وطهران".

عبد العزيز قال لموقع "الحرة"، إن "قادة تنظيم الإخوان المسلمين في السودان نجحوا في إنهاء القطيعة بين الخرطوم وطهران، على الرغم من المرارات الناتجة عن مشاركة السودان في الحرب ضد الحوثيين الحليف الاستراتيجي لإيران".

ولفت إلى أن "إنهاء القطيعة جاء بعد سلسلة لقاءات سرية، هدفت بشكل أساسي، لضمان حصول الجيش على الدعم العسكري في حربه ضد الدعم السريع".

ورجّح المحلل السياسي أن يكون "ظهور الطائرات الإيرانية المسيّرة في سماء السودان، نتاجاً للتقارب الذي جرى بين الجيش السوداني وطهران".

وفي المقابل يرى المحلل السياسي الإيراني، حسين رويوران، أن "عودة العلاقات بين الخرطوم وطهران خطوة دبلوماسية تأتي في إطار خطة إيران للانفتاح على محيطها الجغرافي".

رويوران قال لموقع "الحرة"، إن "عودة العلاقات بين الطرفين حدث دبلوماسي ليس له تأثير كبير، أولا بسبب وضع السودان الداخلي، وثانياً لأنه جاء في وقت تصعد فيه أولويات أخرى في المنطقة، بخاصة موضوع غزة وتداعياتها على المنطقة"

ولم يعلّق حسين على المعلومات المتداولة بشأن تزويد إيران الجيش السوداني بالعتاد الحربي، واكتفى بالقول: "في تصوري قد لا يستحوذ حدث عودة العلاقات على الاهتمام، لأن تأثيره محدود، ولأنه ليس من الأولويات في المنطقة".

لكن ما اعتبره المحلل السياسي الإيراني، رويوران، عديم الأهمية والأولوية بسبب الحرب الدائرة في السودان، اعتبره المحلل السياسي أشرف عبد العزيز رأس الزاوية في التقارب الحالي بين طهران والخرطوم.

عبد العزيز قال إن "إيران تحاول الاستثمار في حالة الهشاشة التي يعيشها السودان بسبب الحرب، وذلك لتوسيع نفوذها في ساحل البحر الأحمر، بما يضمن حماية حلفائها في اليمن، والتأثير على عمليات الملاحة في البحر الأحمر، بجانب تنشيط خط إيصال السلاح إلى غزة، على نحو ما كان يحدث من خلال تحالفها مع نظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير".

وارتبط السودان، قبل قطع العلاقات بروابط جيدة مع إيران وخاصة في المجال العسكري. وفي عام 2012، زار البشير، طهران حيث وصف العلاقات بين البلدين بالراسخة، كما أن السفن الايرانية كثيرا ما ترسو في ميناء بور سودان على البحر الأحمر.

وتشير أدلة إلى أن إيران قامت بدور رئيسي في دعم قطاع إنتاج الأسلحة في السودان، بحسب تقرير أصدره معهد دراسات الأسلحة الصغيرة في سويسرا، في مايو عام 2014.

أطماع ساحلية؟

على وقع الحرب الدائرة في غزة، تسارعت خطوات التقارب السوداني الإيراني، وتناست طهران حنقها على الخرطوم بسبب مشاركتها في عاصفة الحزم ضمن تحالف استعادة الشرعية في اليمن، فما الذي يدفع طهران لاستئناف العلاقة مع الخرطوم؟

هنا يستبعد القيادي في الحرية والتغيير، ماهر أبو الجوخ، أن تكون لإيران أطماع في إقليم السودان الشرقي المطل على البحر الأحمر، حجته في ذلك أن "أي أطماع لإيران في هذه المنطقة يمكن أن تثير سخط السعودية ودول الخليج، كما أن طهران لا ترغب في تعكير علاقاتها مع الرياض التي تعافت مؤخراً"، وفق قوله.

بيد أن أبو الجوخ عاد وأشار إلى أن "تقارير دولية متعددة أشارت إلى أن إيران ونظام الرئيس المخلوع عمر البشير تورطا في نقل السلاح إلى حركة حماس المصنفة في الولايات المتحدة وعدد من الدول كجماعة إرهابية".

وتابع قائلاً: "حينما كان نظام البشير يموّل حركة حماس بالسلاح كان جزءً من ذلك السلاح صناعة سودانية والآخر كان يتم بمعرفة خبراء إيرانيين، والآن هناك محاولة لإحياء مسار التهريب، بعد أن ظل مجمداً خلال السنوات الماضية".

قائد القوات البحرية السودانية السابق، الفريق فتح الرحمن محي الدين، أشار إلى أن "إيران لم تقدم للسودان، حينما كانت العلاقات قوية ومتينة، أي طلب لإنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، ولم تظهر أي اهتمام في هذا الجانب".

ولفت إلى أن "هناك اتفاقا روسيا سودانيا على إقامة قاعدة في البحر الأحمر، لكن تم تجميد الاتفاق".

محي الدين عاد وقال "لكن إذا طلبت إيران حالياً إنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر فهناك إمكانية لذلك، كما أنه يمكن أن يتم تنشيط اتفاق السودان وروسيا، طالما أن أميركا ودول الغرب مستمرة في فرض العقوبات على السودان".

وفي المقابل، يرى المحلل السياسي، أشرف عبد العزيز، أن "رغبة إيران الرئيسية من التقارب مع السودان، هي تمديد نفوذها في منطقة البحر الأحمر، بوصفها منطقة صراع إقليمي، خاصة بعد اندلاع الحرب في غزة".

عبد العزيز أبان أن "التقارب السوداني الإيراني سيعيد إلى ذاكرة الموساد الإسرائيلي أن منطقة ساحل البحر الأحمر في الحدود السودانية كانت منطقة نشطة ومعبراً استراتيجياً لتهريب السلاح إلى حماس، ما قد يثير مخاوف الإسرائيليين".

وأشار المحلل السياسي إلى أن "إيران تملك علاقات راسخة وقوية مع الجيش السوداني"، وهو ما أقرّ به قائد القوات البحرية السودانية السابق، الفريق فتح الرحمن محي الدين، مشيرا لوجود تعاون عسكري بين الخرطوم وطهران، نافياً – في الوقت ذاته – وجود اتفاق دفاع مشترك بين الطرفين".

وأضاف قائلاً: "أي حديث عن تورط السودان في إيصال السلاح إلى غزة هو اتهامات باطلة، لأنه لا توجد حدود مباشرة للسودان، لاستخدامها في تهريب السلاح إلى هناك".

ونفى محي الدين أن تكون الخرطوم استقبلت أي شحنات سلاح من إيران في الوقت الحالي، وقال إن "ما تروج له الدعم السريع حول إسقاط طائرة مسيّرة إيرانية في الخرطوم، هراء وكذب".

وأشارت تقارير أجنبية سابقة، إلى تنسيق سوداني إيراني في عمليات إيصال السلاح إلى الفصائل الفلسطينية، باستخدام ساحل البحر الأحمر والحدود السودانية.

وأوردت وكالة "رويترز"، في مارس 2009، نقلا عن اثنين من كبار الساسة السودانيين، قولهم إن طائرات مجهولة الهوية هاجمت قافلة يشتبه في أنها لمهربي أسلحة، كانت في طريقها من شرق السودان إلى مصر، ما أسفر عن مقتل معظم أفراد القافلة.

وفي أكتوبر 2012 اتهمت الحكومة السودانية إسرائيل بقصف مجمع الصناعات العسكرية في منطقة اليرموك في الخرطوم، باستخدام أربع طائرات، وقالت إن الهجوم أدى إلى مقتل شخصين.

وأوردت صحيفة "يديعوت أحرونوت" حينها، أن إسرائيل "تمتلك معلومات أكيدة بشأن وجود قواعد عسكرية إيرانية في الخرطوم، وأن مصنع اليرموك ينتج أسلحة كانت في طريقها إلى حركة حماس".

وفي تقرير لها، ذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست" أن السودان كان في متناول إيران منذ عقود من خلال استخدامه كمقر لنقل الأسلحة في المنطقة، حيث هربت أسلحة لحركة حماس في أعوام 2009، 2012، و2014.

التطبيع ومآلات التقارب

لسنوات طويلة، اصطف السودان ضمن الدول التي ترفض التقارب مع إسرائيل، وهو ما عزز فرص تقارب الخرطوم مع طهران، بخاصة في عهد البشير، لكن في فبراير 2020 انتهج رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، خطوات نادرة للتطبيع، والتقى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو في أوغندا، فما مصير التطبيع بعد التقارب السوداني الإيراني؟

يقول القيادي في الحرية والتغيير، ماهر أبو الجوخ، إن البرهان سيستمر في نسج وتطوير العلاقات مع إسرائيل، وأن عملية التطبيع لن تتوقف، طالما أن البرهان على رأس الجيش السوداني، لأنه يعتقد أن وصل حبال المودة مع إسرائيل يمثل مصدر قوة بالنسبة له".

وكان الناطق باسم الجيش السوداني، أعلن – وقتها - دعم وترحيب الجيش للقاء البرهان ونتانياهو، واعتبره "خطوة في إطار المصلحة العليا للسودان".

وبدوره، يرى قائد القوات البحرية السودانية السابق، الفريق فتح الرحمن محي الدين، أن العلاقات بين طهران في طور التكوين والتشكل، وأنه من السابق لأوانه التكهن بمآلات الخطوة، متوقعاً أن يكون لعودة العلاقات تأثير منظور في مجالات الاقتصاد والتبادل التجاري بين البلدين".

هنا يعود المحلل السياسي، أشرف عبد العزيز، ويشير إلى أن التقارب الإيراني سيأتي خصما على مصير التطبيع الذي انتهجه البرهان، لأن قادة النظام السابق أصبحوا أكثر تأثيراً على قرارات المؤسسة العسكرية".

وتابع  قائلا: "لا أتوقع أن تمضي خطوات التطبيع إلى الأمام، بل يمكن أن يتحول شرق السودان وساحل البحر الأحمر، إلى منطقة صراع إقليمي ودولي، في ظل الخطوة الانتحارية التي قامت بها الخرطوم باستئناف علاقاتها مع إيران".

وقلل عبد العزيز من أي تأثيرات اقتصادية محتملة للتقارب السوداني الإيراني، وأشار إلى أن "إيران لم تكن ظهيراً وسنداً اقتصادياً قوياً للسودان حتى حينما كانت العلاقة عامرة وقوية بين الطرفين".

وأضاف أن "إيران لم تنفذ وعدها بتشييد الطريق المخصص لربط منطقة الجبلين بمدينة ملكال الواقعة في جنوب السودان، مع أن تنفيذ الطريق كان يمكن أن يسهم في بقاء السودان موحداً، وربما يقلل فرص انفصال جنوب السودان الذي كان يشكو من غياب التنمية المتوازنة".  

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الحریة والتغییر فی البحر الأحمر أشرف عبد العزیز المحلل السیاسی الجیش السودانی عودة العلاقات الحرب الدائرة العلاقات بین بین الطرفین فی السودان السلاح إلى أبو الجوخ من الدول إیران فی یمکن أن مهاجر 6 إلى أن ما کان

إقرأ أيضاً:

إعادة هندسة السياسة السودانية- نحو ليبرالية رشيدة وتجاوز إرث الفوضى

من المعلوم أن التحزب والانقسام غير الموضوعي هما من الأسباب الأساسية التي ساهمت في تخلف السودان السياسي. فمنذ الاستقلال، لم تشهد البلاد بيئة سياسية مستقرة تؤسس لحكم ديمقراطي رشيد، بل ظلت تتأرجح بين النظم العسكرية والانقلابات، وبين الأحزاب المتصارعة التي لم تستطع تقديم رؤية متماسكة لخدمة الوطن والمواطنين.
إن الممارسة الديمقراطية الحقيقية تستند إلى تمثيل بعض المواطنين للكل عبر تنظيمات سياسية قوية تتبنى رؤى واضحة حول قضايا الحكم، بحيث يتمتع الجميع بالحرية والسلام والعدالة. غير أن المشهد السياسي السوداني ظل يعاني من تعددية حزبية مفرطة تفتقد للبرامج الواقعية، مما أدى إلى ضعف الأداء السياسي وعدم القدرة على تحقيق الاستقرار.
نحو هيكلة جديدة للحياة السياسية
تجارب الدول الكبرى أثبتت أن وجود حزبين رئيسيين يمثلان الاتجاهات الفكرية العامة في البلاد يحقق استقرارًا سياسيًا أفضل، في حين أن نظام الحزب الواحد قد يؤدي إلى تسلط السلطة وغياب المحاسبة، كما حدث في الاتحاد السوفيتي سابقًا. ورغم أن النموذج الصيني يقدم مثالًا على نجاح الحزب الواحد، إلا أن هذا النجاح مرتبط بعوامل ثقافية وسياسية خاصة بالصين، ولا يمكن استنساخه في السودان.

إن السودان اليوم في مفترق طرق خطير، وإذا استمر على نهجه الحالي فإنه قد يسير نحو مزيد من الفوضى والانهيار. لذا، تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة المشهد السياسي عبر تأسيس نظام حزبي جديد يعتمد على:

تحديد عدد محدود من الأحزاب التي تستند إلى برامج سياسية واقتصادية واضحة، وليس على الولاءات القبلية أو العقائدية.

إعادة تعريف النخب السياسية بحيث يتم استبعاد الأجيال التي كانت جزءًا من الخراب السياسي، وإتاحة الفرصة للشباب القادرين على طرح رؤى جديدة ومتطورة.

وضع دستور واضح المعالم يحدد الإطار العام للممارسة السياسية ويمنع تعدد الأحزاب غير المنتج.
مقترح لنظام حزبي جديد
يمكن اقتراح نظام حزبي يتكون من حزبين رئيسيين:

حزب الاتحاد الفيدرالي (FUP): يقوم على مبدأ سيادة الدستور والقانون كأساس للحكم الرشيد.

حزب الاتحاد والتنمية (UDP): يركز على التخطيط الحديث، والتنمية المستدامة، والعدالة في توزيع السلطة والثروة.
قد توجد أحزاب صغيرة أخرى لإثراء الساحة السياسية، ولكن بشرط أن تقدم أفكارًا مبتكرة، لا أن تكون مجرد أدوات لانقلابات أو صراعات على السلطة.
إزالة الولاءات التقليدية
ينبغي أن يقوم هذا النظام الجديد على إنهاء هيمنة الطائفية والقبلية والوراثة السياسية، واستبدالها بمنظومة حديثة تعتمد على الكفاءة والقدرة على تحقيق تطلعات المواطنين. كما ينبغي استيعاب المجددين من مختلف الخلفيات الفكرية في هذه الأحزاب، شرط أن يكون تأثيرهم قائمًا على الإقناع الفكري لا على الإقصاء والهيمنة.
مستقبل السودان السياسي
من المتوقع أن تكون المنافسة بين الحزبين الرئيسيين قائمة على اختلاف الرؤى حول آليات التنمية وسياسات الحكم المحلي، ولكن ليس حول المبادئ الأساسية للحكم الرشيد. فبهذه الطريقة، يمكن أن تتحقق الديمقراطية الفاعلة التي تستند إلى اختيار القيادات على أساس الإنجاز والكفاءة وليس على أساس الولاءات الضيقة.
الخطوة التالية في هذا المشروع الطموح هي صياغة هذه المبادئ في دستور جديد وقوانين واضحة تنظم العمل الحزبي، بحيث يتم تجاوز أزمات الماضي والانطلاق نحو مستقبل سياسي مستقر ومزدهر.

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • الجيش السوداني: “الدعم السريع” هاجمت بمسيرات سد مروي شمال البلاد
  • الجيش السوداني يستعيد مواقع استراتيجية ويسيطر على جسر المنشية في الخرطوم
  • «شرق النيل» في قبضة الجيش السوداني
  • الجيش السوداني يعلن سيطرته على "مواقع استراتيجية" شرقي الخرطوم
  • الجيش السوداني يعلن سيطرته على “مواقع استراتيجية” شرقي الخرطوم ويتقدم في محور “شرق النيل” مقتربا من جسر المنشية المؤدي إلى وسط العاصمة
  • مكاسب الجيش في العاصمة… هل تُنهي حرب السودان؟ توقعات بأن تنتقل المعارك منها إلى غرب البلاد
  • السودان: هل تنهي مكاسب الجيش في العاصمة الحرب؟
  • الجيش السوداني يتقدم شرقي الخرطوم
  • كيف صمدت مقار الجيش السوداني أمام حصار 21 شهرا؟
  • إعادة هندسة السياسة السودانية- نحو ليبرالية رشيدة وتجاوز إرث الفوضى