جسر وادي نخلة نموذجا.. غياب الدولة يفتح شهية المبادرات المجتمعية لملء الفراغ (تقرير خاص)
تاريخ النشر: 25th, January 2024 GMT
يمن مونيتور/ وحدة التقارير/ من عدي الدخيني
مشروع جسر سائلة وادي نخلة الواقع بشرعب السلام شمال محافظة تعز جنوب غربي اليمن، أحد الجسور التي تكتسب أهمية كبيرة حيث يعتبر منفذ عبور يربط بين ثلاثة محافظات رئيسية (تعز- إب – الحديدة)، وشريان رئيسي يستفيد منه أكثر من نصف مليون نسمة بمختلف الفئات من مواطنين وتجار ومسافرين وخاصة المرضى.
وفي ظل الحرب للعام التاسع على التوالي، وتدهور الاقتصاد في اليمن، انطلقت العديد من المبادرات المجتمعية في القرى اليمنية لتلبية احتياجات الناس عبر إصلاح الطرقات وفتح أخرى بمناطق وعرة في وقت غابت فيها الدولة والسلطات المحلية والجهات المعنية التابعة لها.
ومن بين هذه المبادرات الناجحة، مشروع جسر نخلة، إذ يقول المهندس أحمد أنعم الحقطاني أحد أعضاء الفريق الهندسي، إن فكرة هذا المشروع انطلقت في العام 2021م، وبدء المواطنون بتناقل المشروع والتحرك الفعلي نحو التخطيط والتصميم والحصول على التمويل عن طريق التبرعات المجتمعية ودعم التجار لتمويل الدراسة، وإنزال الفرق الهندسية وعمل الرفوعات مساحية وتصميم الجسر واعتماده من الجهات الحكومية لبدء العمل.
العمل مستمر في جسر النخلةوأضاف القحطاني في حديثه لـ”يمن مونيتور”، أنه تم تنفيذ نصف المرحلة الأولى من هذا المشروع والمتمثلة بالأعمال الخرسانية من قواعد وركائز ومجنحات والتي تعتبر أهم مرحلة من المشروع، ويتبقى لاستكمال المرحلة الاولى عدة أعمال، من بينها رصف أرضية الجسر وبناء الجدران الساندة التي وسط السائلة.
وأكد أن “طول المشروع إجمالًا هو 194 مترًا، وبعرض إجمالي 10.76م، وصافي ارتفاع فتحة الجسر لمرور الماء 5.5م، وطول فتحة الجسر صافي لمرور حركة السيل 13م، وتطلبت أعمال التنفيذ أيضًا وجود جدران ساندة وسط المجرى (السائلة)، إلى جانب رصف أرضية السائلة بطول 30 مترًا وعرض 13 مترًا”.
“حلم لم يكتمل”
“لا وسيلة أمامهم لصد هذه السيول الجارفة إلى بيديهم عبر مبادرة مجتمعية عقد العزم على انجاحها من خلال بناء جسرًا للمركبات حين غابة الدولة”؟
يقول عبدالسلام محمد العامر ناشط وأحد القائمين على المشروع في حديثه لـ”مونيتور”: “جاء مشروع جسر وادي نخلة لتخفيف الكثير من معاناة السكان والمسافرين، بينما كنا في أمس الحاجة لهذا المشروع الحيوي الذي يعد من أبرز المشاريع المجتمعية القائمة في ظل غياب الدولة، التي راح ضحية هذه السائلة عشرات الأرواح وعشرات المركبات أثر السيول الجارية في الوادي، تنوعت الحوادث المؤلمة بين ضحايا بشرية ومادية متكررة ما أنتجت خسائر فادحة بالأرواح والمركبات، وقت مباغتتها العابرين فيه مع موسم الأمطار الغزيرة.
جانب من العمل في جسر النخلةوأضاف العامر “كنا في ماسة وبحاجة إلى إنشاء مثل هذا المشروع الحيوي الذي كان حلم الجميع، ولكن الحمدلله بتكاتف الجميع والمبادرات المجتمعية والتجار ومبادرة بعض رجال الأعمال من المنطقة تحقق جزء من الحلم الذي انتظرنه لسنوات طويلة، ويتبقى لاستكمال المرحلة الأولى عدة أعمال، من بينها رصف أرضية الجسر وبناء الجدران الساندة التي وسط السائلة، واستكمال جميع المراحل المتبقية”.
“سيول مباغتة وحوادث مؤلمة”
من جانبها، تقول الناشطة المجتمعية سميرة المهيوب وهي إحدى المستفيدين من هذا المشروع في حديث لـ”يمن مونيتور”: لقد تضرر الكثير من السائقين وخاصة عند عبورهم السائلة أثناء مباغة السيول الجارفة، موضحًا. ذهبت أرواح في هذه السائلة بسبب تدفق السيول أثناء موسم أمطار غزيرة، وتوقف حركة السير لمدة ساعات من الزمن، عانَ سكان هذه المناطق والعزل إلى الكثير من المخاطر التي فاقمة أكبر شريحة من المجتمع من المعاناة المستمرة.
وتنوعت ضحايا السيول الجارية في الوادي بحوادث بشرية ومادية متكررة، أنتجت خسائر فادحة بالأرواح والمركبات، وتتكرر الحوادث المؤلمة بسبب عبور المواطنين، وهذا ما يضاعف أعداد الضحايا في كل عام.
عبدالرحمن الصبري، المنسق الإعلامي لمشروع
حوادث مميتة وخسائر بشرية عند الأمطارجسر نخلة وأحد أبناء المنطقة يقول في حديث لـ”يمن مونيتور”: تحاصرنا سيول الأمطار ساعات طويلة، تصل أحيانًا لأيام متواصلة على جانبيه، وتتقطع السبل بالمسافرين ذهابًا وإيابًا لمناطقهم ومساكنهم، مما يضطرهم إلى الانتظار طويلًا حتى تنتهي عملية تدفق السيول في المجرى ليسمح لهم بالعبور الآمن
وأضاف الصبري، “ما يعيق المشروع حتى الآن، هو قلة التمويل، حيث إن المبالغ كبيرة، وتحتاج إلى تعاون وتكاتف الجميع، والمزيد من الدعم والجهود لاستكمال هذا العمل الاستراتيجي الهامّ الذي ينتظره أبناء العزل المستفيدة”.
“طوقَ نجاةٍ للمواطنين”
قصص مفزعة لا نهاية لها نتيجة السيول الجارية في وادي نخلة، حيث يعتبر إنشاء الجسر طوقَ نجاةٍ للمواطنين، يحميهم من طوفان سيول الوادي الجارفة التي حصدت عشرات الأرواح خلال السنوات الماضية.
الدكتور عبدالباقي محمد علقم مدير مركز بني الطبي يقول أيضاً، في حديثه لــ”يمن مونيتور”، “إن إنشاء جسر وادي نخلة يعتبر شريان حيوي سيخدم التجمعات السكانية المحيطة بالوادي والمسافرين”.
وأضاف “تصل إلينا حالات مفزعة وحرجة جدًا، البعض منها تحتاج إلى إسعاف مباشرةً نتيجة السيول المتدفقة من نواحي عديدة، ومع وعورة الطريق يصعب على السكان إسعاف الحالات المصابة نتيجة السيول”.
وتابع حديثه بالقول: “غالبية الحالات تنجي بصعوبة من تدفق السيول، ويصعب الأهالي من إسعافها، خاصة حالات الولادة المتعسرة التي تحتاج إلى عمليات طارئة والعديد من حالات الأمراض المزمنة.
أمين الوزف سائق مركبة يتحدث عن معاناته بالمرور من هذا الطريق بالقول: “مرينا في أصعب المراحل والتنقل في السفر عبر وادي نخلة، عانينا كثيرًا، 33 عام، وأنا سائقا في هذا الخط واجهنا الكثير من المخاطر والفزع، أدت إلى خسائر كبيرة بشرية ومادية، وانجراف المركبات.
وأضاف في حديثه لـ”يمن مونيتور”: “عند تدفق السيول يستمر توقف الخط لساعات طويلة، وفي أغلب الأحيان عندما تتعطل إحدى المركبات في مكان الجسر حاليًا كان يتم إغلاق الخط تمامًا، يكون هناك خيارين أمامنا لا ثالثهم، أما نضطر الانتظار طويلًا حتى يتم إصلاحها، أو نقوم بعبور طريق بديلة ما يقارب تبعد أكثر من كيلو نص لنخرج من هذا المأزق”.
وقد نفذت اللجنة المشرفة والقائمة على هذا المشروع المرحلة الأولى من المشروع والمتمثلة بالأعمال الخرسانية من قواعد وركائز، حيث بلغت التكلفة الإجمالية، بحسب التصاميم الهندسية وجداول الكميات الإنشائية، حوالي 455 مليون ريال يمني، بما يعادل 855 ألف دولار أمريكي (بسعر الصرف القائم في المنطقة).
“طفل يكمل الحلم”
وتعرض المشروع الكبير هذا لسلسلة توقفات بسبب قلة الدعم، لكن ذلك لم يمنع الطفل اليمني المبدع محمد فواز العامر (12 عاما)، من إطلاق مبادرة إنسانية ملهمة، تمكن خلالها خلال الأيام الماضية وعلى حسابه بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” من جمع جمع مبلغ 100 ألف ريالا سعوديا خلال 48 ساعة فقط، لصالح المشروع الذي يربط بين ثلاث محافظات يمنية، ويسهل حركة المواطنين والسلع والخدمات بينها.
استمرار العمل في جسر نخلةوأطلق الطفل محمد فواز العامر حملة تبرعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، استطاع من خلالها أن يحظى بتفاعل واسع ودعم كبير من قبل النشطاء والمؤسسات والشخصيات العامة، الذين أشادوا بروحه الإنسانية وإبداعه في العمل الخيري.
وقد أعرب الطفل محمد فواز العامر عن سعادته وفخره بما حققه من إنجاز، وشكر كل من ساهم في نجاح حملته، مؤكدا أنه سيواصل جهوده في دعم المشاريع الإنسانية والتنموية في اليمن.
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: إب الحرب الطرق المبادرات المجتمعية اليمن تعز لـ یمن مونیتور هذا المشروع تدفق السیول فی حدیثه لـ الکثیر من من هذا
إقرأ أيضاً:
أي شرق نريد؟
الدكتور إياد البرغوثي*
ذروة الأهداف التي وضعها نتنياهو للحرب الاسرائيلية الدائرة الآن على غزة ولبنان، إنشاء "شرق أوسط جديد". قبل مئة وثمانية أعوام أنشأ (لنا) أسلاف نتنياهو سايكس وبيكو "شرق أوسط" كان جديدا في حينه، قسم العالم العربي، ووضع أسس قيام "اسرائيل"، وخلق الدولة العربية "الوطنية" متطلبا لذلك، حيث أكتملت عملية ذلك التجديد في العام 1948 بقيامها فعليا.
لكن الذي اعتقدناه بأن انشاء إسرائيل كان ذروة عملية "تجديد" المنطقة أو اكتمالها، تبين لنا فيما بعد أنه ما هو إلا "قص الشريط" لعملية تجديد لا تنتهي، فأخذت اسرائيل منذ لحظة انشائها بتغيير الخارطة الجيواستراتيجة والديموغرافية للمنطقة، فاحتلت مزيدا من الأراضي الفلسطينية والعربية وصل ذروته في العام 1967، وضاعفت من جهودها في تهجير الفلسطينيين و"استحضار" يهود مكانهم، وبدأت بعملية "تطبيع" حثيثة مع الدول "الوطنية" العربية.
ومع كل ما جرى واثنائه، لم يتوقف الحديث (والسعي) حول انشاء شرق أوسط جديد، منذ بدأ بذلك برنارد لويس في سبعينات القرن الماضي، مرورا بشمعون بيرس وكتابه "الشرق الأوسط الجديد" في العام 1992، وغونداليزا رايس في العام 2006 الى نتنياهو هذه الأيام.
من البديهي أن يكون الغرب وإسرائيل (الامبريالية والصهيونية) الأكثر سعيا وإلحاحا ودراية بأهمية "التجديد" المستمر للشرق الأوسط، فهما اكثر من "يستخدمه" ويسيء ذلك الاستخدام، ويحمله أكثر من طاقته. وهما التي ترتبط اهدافهما ارتباطا وثيقا بعملية التجديد تلك وباستمرارها وديمومتها، لضمان "استخدام" اكثر سهولة وأكثر نجاعة. التجديد في حالة الشرق الأوسط مرتبط بالاستخدام لا اكثر.
ماذا يعني تجديد الشرق الأوسط؟.ارتبط الحديث عن الشرق الأوسط الجديد بالغرب وباسرائيل، فالقاء نظرة سريعة على الكلمات والدراسات والأفعال المرتبطة بذلك، تشير (غربيا) الى الحرص على تعميق تبعية المنطقة للغرب. أما اسرائيليا فيعني السعي الى مزيد من التوسع، وضرورة "تكبير" الدولة الصغيرة كما صرح الرئيس ترامب، وزيادة نفوذ اسرائيل في المنطقة وهيمنتها عليها. لقد تلازم الحديث عن تجديد الشرق الأوسط مع كل حروب اسرائيل التي هدفت الى إضعاف العرب وإنهاكهم ودفعهم نحو اختيار التطبيع الذي لم يعن سوى المزيد من الضعف والتبعية.
لا يبذل المسؤولون الاسرائيليون أي جهد لإخفاء اهدافهم في توسيع "حدود" اسرائيل وتجسيد قيادتها للمنطقة. فقبل إعلان نتنياهو مؤخرا عن سعيه لتغيير خارطة الشرق الأوسط، كان شمعون بيرس قد قال بصريح العبارة أن "العرب قد جربوا قيادة مصر للمنطقة لمدة نصف قرن، فليجربوا قيادة اسرائيل".
"الشرق الأوسط الجديد" في ذهن اصحابه، يعني جغرافيا جديدة، وديموغرافيا جديدة، وعلاقات دولية جديدة، وسياسات جديدة، ومسَلمات جديدة، وثقافة سائدة جديدة، ومناهج تعليمية جديدة. انه إعادة ترتيب للمنطقة تكون فيها اسرائيل الوحيدة المرشحة للتوسع، في حين تنقسم الدول العربية الموجودة، وتظهر دول جديدة، ويتم نقل (تهجير) شعوب أو أجزاء منها من مكان الى آخر، ويجري العبث بالتركيبة الثقافية والاثنية لبعض الشعوب، ويُعمل على تغيير وعيها بذاتها وباسرائيل وببعضها البعض وبتاريخها ومعتقداتها وقيمها ورموزها. كل ذلك من أجل تسيد اسرائيل للمشهد، واعتبارها مركز الاقليم ورابط علاقاته وبوابته الى العالم. انه باختصار تدشين فعلي "للامبراطورية" الاسرائيلية في المنطقة.
هنا أجد من الضروري التذكير بكلام كنت قد كتبته قبل اربعة أعوام في مقدمة كتابي "تحرير الشرق.. نحو إمبراطورية شرقية ثقافية" وهو.... "ما زال أمام مثقفي شعوب المنطقة وشبابها متسع من الوقت للعمل على خلق (الامبراطورية) (الشرقية) المفترضة، خاصة اذا ما أدرك هؤلاء، واكثرهم بالتأكيد يدرك، أنه إن لم يقم بذلك، فإن اسرائيل ستعمل- وهي تعمل فعلا - على انشاء امبراطوريتها في المنطقة، تلك التي تزيد شعوبها الحاقا وتهميشا".
العرب و"الشرق الأوسط الجديد"رغم ارتباط مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بإضعاف العرب وتمزيق دولهم، إلا أنهم الأقل اكتراثا به في المنطقة. فالعالم العربي الرسمي بمجمله يبدو إما متجاهلا للموضوع أو متماهيا معه. ومن الواضح أن أحدا من العرب لا يجابه هذا المشروع باستثناء "قوتين" من خارج "الدولة"؛ ما بقي من نخبة مثقفة قومية عربية، ترفضه من خلال التمسك بالوضع الحالي الذي هو في حقيقة الأمر، النسخة الأقدم من الشرق الأوسط الذي كان جديدا (سايكس بيكو)، أو قوى "المقاومة" في بعض البلدان، وهي الوحيدة التي تتصدى له وتقف في مواجهته.
بعد تآكل المشروع القومي العربي بعد العام 1967، ذلك الذي حدث أساسا بفعل التحرك الاسرائيلي الامبريالي لخلق "شرق أوسط جديد"، لم يبرز أي مشروع عربي يفكر بمستقبل المنطقة، ويتعامل معها كوحدة اقليمية واحدة، مما أفقد "الأمة" معظم "إن لم يكن كل" عناصر مناعتها.
فبعد عبد الناصر، لم يعد للعالم العربي قيادة ولا يبدو أنها ستكون في المستقبل المنظور. ومن سخرية القدر، أن دولا تدعي دور القيادة في العالم العربي الآن لم تكن في حياتها قومية، بل كانت مساهما أساسيا في إحباط المشروع القومي العربي الحقيقي من خلال "تحالفها" مع الامبريالية والصهيونية.
دخل العالم العربي بفعل دولته "الوطنية" ومآلاتها، ونخبه "الحديثة" وتوجهاتها، وعلاقتهما معا بالامبريالية والصهيونية في حالة موت سريري، بل اصبحت تسمية "العالم العربي" موضوعا للجدل، ولم يعد موضوع الأمن القومي العربي مطروحا، بل لم يعد هناك ما يبرر طرحه بعد أن فُتحت أبواب التطبيع مع إسرائيل على مصراعيها، وأصبح "العرب" جزءا من الحالة الصهيونية.
فيما يتعلق بالدولة العربية "الوطنية"، التي أقل ما يُقال فيها أنها نشأت في حالة "ملتبسة" وفي سياق مضاد للأمة إثر سايكس بيكو، ذهبت إلى اعتماد العزلة عن شقيقاتها "عقيدة" لها، وتنصلت من المشاركة "الايجابية" في أية قضية قومية تحررية بما فيها القضية الفلسطينية، باعتبارها "عبئا" لا مبرر له، أو لا علاقة لها به في أحسن الأحوال. ثم أخذت بالانعطاف الواضح والمعلن نحو "العدو"، الاستثناء هنا كان عند البعض في الفترة الناصرية.
لقد كان تأثير البترودولار الذي برز دوره مباشرة بعد هزيمة المشروع القومي في العام 1967، حاسما في رسم طريقٍ باتجاه واحد للدولة "الوطنية" نحو الامبريالية، وذلك من خلال دوره في القضاء على البرجوازية الوطنية في الدولة العربية، والابقاء على الكومبرادور والبرجوازية البيروقراطية ممثلة بأجهزة الدولة الإدارية لقيادة الدولة.
بغياب البرجوازية الوطنية، أو على الأقل بإضعافها، انتهت مقومات الدولة الوطنية الحقيقية، ولم يعد باستطاعة الدولة الموجودة أن تكون حاضنة لأي مشروع وطني نهضوي، فساهمت في تهميش الهويات الجامعة، وغيبت مفهوم الأمن القومي، ولعبت دورا حاسما في التأثير السلبي على نخبها خاصة الثقافية، في موقفها من الاستعمار والصهيونية ومشاريعهما في المنطقة.
أما بالنسبة للنخب المكونة أساسا من الجيش والمثقفين (الانتلجنسيا العسكرية والمدنية)، فقد ساهم البترودولار مباشرة، أو من خلال الدولة "الوطنية"، بأخذهما الى مكان آخر معاكس للمكان الطبيعي الذي كان يجب ان يكونا فيه. فالجيش الذي ينبغي أن يكون رمزا لوحدة "الأمة" واستقلالها وسيادتها وحافظ أمنها القومي، أصبح جزءا من الكومبرادور في شكل علاقته المباشرة و"المثيرة" مع الغرب ومع اسرائيل قبل التطبيع وبعده. الشيء الوحيد الذي يجعله مختلفا عن الكومبرادور التجاري هو اعتماده "البلطجة" في علاقاته مع السوق ومع الناس، بدل "الفهلوة" التي يعتمدها الكومبرادور المدني.
أما المثقفين المدنيين الذين لم تكن نسبة كبيرة منهم بمنآى عن تأثير البترودولار والدولة، فقد ذهب جزء منهم الى التنظير "للدولة" وأولويتها وانعزالها، وإلى "تتفيه" أي عمل وحدوي يفكر في "لملمة" عناصر القوة، ووصل بهم الأمر الى السعي لتبييض صفحة "العدو" وذلك بتحميل الذات عواقب "سوء" التصرف، ووجدوا أنفسهم في نهاية الأمر يصلون الى حيث كان لا بد أن يصلوا وهو الترويج للتطبيع والانخراط فيه. ربما لم يحدث في التاريخ أن "اقتنعت" نخبة "بعدوها" كما فعلت وتفعل بعض النخب العربية هذه الأيام.
من المهم هنا ايضا الإشارة الى "الخدمة" الكبيرة التي قدمتها مجموعة من المثقفين الحداثيين للمشروع الغربي الصهيوني والشرق الأوسط الجديد دون قصد على الأغلب وبشكل غير مباشر، إذ في خضم قيام هؤلاء بعملهم "الثوري" ضد الثقافة "الرجعية" التي يصنفون "الدين" كأحد أهم عناصرها، اقتربوا اكثر من "الدولة" (الرهينة والمرتهنة)، وساهموا في تفكيك المجتمع من خلال" تعففهم" في التعاطي مع "الإسلام" الذي اعتبروه "حاضنة" للتخلف فسهلوا تقديمه للامبريالية والصهيونية لاستخدامه ضد "الأمة" على شكل داعش احيانا ومشروع ابراهيمي احيانا أخرى.
إيران.. مشروع آخر لشرق مختلفلا نحتاج لكثير من العناء للإقرار بأن ايران (وحلفائها) هي القوة "الأساسية" التي تقف أمام النسخة الامبريالية الصهيونية من مشروع الشرق الأوسط الجديد، ليس فقط لأن لديها تصورا مختلفا حول مستقبل المنطقة، بل لأنها الوحيدة التي تملك مشروعا متكاملا مضادا له.
المشروع الايراني مبني على مسألتين رسخهما الخميني منذ بداية الثورة الإسلامية؛ حتمية تحرير فلسطين على اعتبار أن اسرائيل "غدة سرطانية" غريبة في المنطقة، وضرورة انسحاب كل القوات والأساطيل والقواعد الأجنبية من المنطقة وتركها لأصحابها لتحديد شكل وجودهم وعلاقاتهم البينية. هو يعتبر اسرائيل والقواعد الأجنبية تهديدا مباشرا للأمن القومي الايراني. لذلك ينبغي أن نفهم أن تخلي ايران، أو بشكل أدق تخلي (الثورة الإسلامية في ايران) عن فلسطين هو تخليها عن مشروعها هي قبل أن يكون موقفا عقائديا أو اخلاقيا تضامنا مع الشعب الفلسطيني.
من المهم خاصة للنخب السياسية والثقافية العربية معرفة أن المشروع الايراني يتكيء على "ضلعين" هما الدولة والثورة. هذان الضلعان ليسا متعارضين لكنهما ليسا متماثلين تماما، والغرب في توجهاته نحو ايران يفترض وجود فجوة بين الدولة والثورة يسعى لتعميقها واسقاط الثورة من خلال ذلك. انه يراهن من خلال الحصار والضغط على ايران تأليب الدولة على الثورة، وإظهار أن ما يعانيه الشعب الايراني والدولة الايرانية ما هو إلا بسبب التصرف "غير المسؤول" لها، وهو يعتبر أن "تخليص" الدولة من الثورة هو الطريق الأمثل لها للإنخراط في مشروعه للشرق الأوسط الجديد.
مما تقدم، يمكن الحكم على المشروع الايراني أنه مشروع شرقي تحرري، شرقي بمعنى أنه ليس مصمما للتموضع ضمن مصالح أي من القوى الكبرى خاصة الولايات المتحدة، هو مشروع ذاتي ايراني تماما. وهو مشروع تحرري بمعنى أن أهدافه المعلنة تتلخص في "تطهير" المنطقة (الشرق) أو (غرب آسيا) من كل القوى الأجنبية المتواجدة فيه والمتحكمة بمصيره. هذا هو ببساطة، والأمر لا يحتاج للذهاب كثيرا في "زواريب" الايديولوجيا و"مؤامرات" التاريخ.
العرب.. بين مشروعينأصبح واضحا أن العرب، رسميون وغير رسميين، لا يملكوا أي مشروع ولا حتى أي تصور خاص لمستقبل المنطقة (الشرق)، وهم أساسا وبناء على ما تقدم، ليسوا في وضع يتيح لهم التفكير في أي مشروع كهذا لا الآن ولا في المستقبل المنظور، لذلك فإن دورهم ينحصر في أحسن الأحوال في اختيار كيفية التموضع مع ما هو مطروح أمامهم، رغم أن ذلك مشكوك فيه ايضا لأنهم على الأغلب لا يملكون حرية الاختيار، ويذهبوا صاغرين الى حيث تريد لهم القوى المتنفذة الذهاب.
إننا أمام مشروعين لإعادة صياغة مستقبل المنطقة لا ثالث لهما؛ مشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي الاسرائيلي، يقابله المشروع الايراني. ونحن كذلك أمام عرب رسميين يمتثلون دون تردد للانخراط في المشروع الأول رغم إدراك بعضهم لخطورته المباشرة عليهم وعلى انظمتهم. ونخب (مثقفين بالأساس) بعضها غير مبال بحجة أنه لا يرى فرقا بين المشروعين، وبعضها يدعو الله للحفاظ على القديم (الموجود)، وما تبقى هو الذي وجد في المشروع المقابل ما يمكن أن يشكل أساسا لتجديد مختلف.
اذا ما استثنينا الجانب الرسمي الذي لا جدوى من النقاش معه كونه حسم موقعه "غرائزيا" الى جانب الشرق الأوسط (الصهيوني) الجديد، فإن الأكثر خطورة بين النخب هم اولئك الذين يتمترسون حول رأيهم بأن لا فرق بين المشروعين، كونهم يعرفون أن لا وجود لمشروع ثالث، ولا امكانية لوجوده، وهم بذلك إنما يسوقون المشروع الأول (الصهيوني) من باب "الحرص" على الذات وعلى "الاستقلال والسيادة".
هذا لا يعني أنه ليس من حق أحد أن يبدي "ملاحظاته" أو "تحفظاته" على المشروع "الايراني"، لكن التعامل العقلاني مع هذه التحفظات لا يكون بوضعه في خانة التساوي مع المشروع الصهيوني، بل بتقديره كمشروع تحرري للمنطقة والعمل على "تطويره" من خلال التفاعل والحوار بين كل المعنيين ليكون مشروعا "شرقيا" اكثر شمولا وجذرية واستثمارا لطاقات "الأمة"، كما تطمح شعوبها بكافة اثنياتهم وثقافاتهم (عربا وايرانيين وكرد وامازيغ...الخ) وطبقا لمصالحها في التحرر والاستقلال والسيادة والتنمية الحقيقية. مرة أخرى، إن لم تتوحد شعوب الشرق لتصنع "شرقها" على مقاسها، فإن اسرائيل جاهزة لتصنع لها ولهم "الشرق الأوسط الجديد" والقابل للتجديد دائما على المقاس الإسرائيلي.
*باحث وأكاديمي فلسطيني / رام الله
القدس المقدسية
© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com)
محرر البوابةيتابع طاقم تحرير البوابة أحدث الأخبار العالمية والإقليمية على مدار الساعة بتغطية موضوعية وشاملة
الأحدثترند أي شرق نريد؟ صلاح ينتقد إدارة ليفربول.. ما السبب؟ شذى الأدهمي تهدد أصدقاء طليقها رامي الجابر: "لموا صاحبكم.. وتاريخكم المشرف كله عندي" بريانكا شوبرا تشارك لحظات عائلية خاصة رفقة زوحها نيك جوناس وابنتهما شاهد: ظهور السعودي عبد الحميد الأولى في الدوري الإيطالي Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا فريقنا حل مشكلة فنية اعمل معنا الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTubeاشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن
اشترك الآن
© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter