عندما نتحدث عن حياة شاب مولود في السبعينات أو الثمانينات، مولود بين قرنين، فإننا نشهده على تطور هائل في العالم وتغيرات جذرية في كافة المجالات بدءاً من التكنولوجيا والاتصالات وصولاً إلى الثقافة والعلاقات الاجتماعية.
لنلقِ نظرة على رحلة هذا الشاب خلال تلك الفترة الزمنية في أواخر القرن العشرين وُلد هذا الشاب، قبل بداية القرن الجديد كانت الحياة في ذلك الوقت تتميز بالبساطة وقلة التكنولوجيا المتاحة كانت وسائل الاتصال محدودة وكان الهاتف الثابت هو الوسيلة الرئيسة للتواصل عن بُعد، كما كانت الرسائل البريدية تستخدم للتواصل وإرسال المعلومات.
أصبح الهاتف الذكي وسيلة للتواصل الفوري مع العالم بأسره وللوصول إلى معلومات لا حصر لها عبر الإنترنت وبالإضافة إلى التكنولوجيا تغيرت أيضًا العادات والثقافات خلال هذه الفترة تزايدت التطورات العملاقة في جميع مناحي الحياة التي كانت بسيطة وبطيئة وأصبحت الموسيقى تقدم مجاناً، والفنون تعرض في نفس الوقت.
تأثر هذا الشاب وتطوّرت اهتماماته وأذواقه تنوعت بشكل ملحوظ، أصبحت وسائل الترفيه أكثر تنوعًا وسهولة الوصول إليها وهو مستلقٍ في فراشه، حيث يمكن مشاهدة الأفلام والمسلسلات والاستماع إلى الموسيقى عبر الإنترنت من خلال جهاز بحجم كف اليد بالإضافة إلى ذلك تغيرت العلاقات الاجتماعية وطرق التواصل، ظهرت شبكات التواصل الاجتماعي مما جعل هذا الشاب يتواصل بسهولة مع الأصدقاء والعائلة ويشارك الصور والأحداث في حياته عامة بسهولة.
كما أصبح التعارف والتواصل الاجتماعي أكثر سهولة من خلال تطبيقات عديدة عبر الإنترنت ومنصات المشاركة المجتمعية للأفكار.
بين القرنين، تغير عالمه بشكل كبير، وتأثرت حياة هذا الشاب بكل هذه التغيرات استفاد من التكنولوجيا الحديثة والوسائل الجديدة للتواصل والمعلومات، وشاهد تحولات كبيرة في الثقافة والعادات كما أنه شاهد التطور التكنولوجي السريع واستفاد من الفرص والتحديات التي أحدثها هذا التطور المذهل. مع كل هذا، يحن الشاب للطبيعة، والخروج للعب الجماعي كما كان قبل القرن الحديث المتطور هُجرت الحدائق، وتوقف اللعب، وتناقصت التجمعات العائلية عندما نتحدث عن تأثير التكنولوجيا على حياتنا اليومية لا يمكننا تجاهل تأثيرها على حدائقنا وملاعبنا والمساحات الخضراء العامة. في السنوات الأخيرة شهدنا تغيراً كبيراً في عاداتنا وسلوكياتنا بسبب التكنولوجيا مما أدى إلى تراجع استخدامنا للحدائق والملاعب والترفيه الهوائي. أحد التأثيرات الرئيسة للتكنولوجيا هو زيادة الاعتماد على الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية؛ فالناس يقضون ساعات طويلة يوميًا في التفاعل مع التطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي ومشاهدة الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، هذا التفاعل المستمر مع الشاشات يُصبح مغريًا بالنسبة للكثيرين لأنه يعطي جرعات من الإثارة السريعة بضغطة زر يتنقل بين عدة مواقع وبالتالي يقلل من الوقت الذي يجب أن يقضيه في الهواء الطلق، ويقلل من النشاط البدني الذي يمارسه الأفراد في الهواء الطلق.
تتطلب الحياة الجيدة الصحية الحفاظ على حدائق أكثر وملاعب جميلة جاذبة والاستثمار في الترفيه الخارجي؛ لذا يجب علينا أن ندرك أهمية هذه الأماكن في تعزيز الصحة والعافية البدنية والنفسية للأفراد إذا تم تجاهلها وهجرها بسبب التكنولوجيا وما تقدمه من ترفيه افتراضي، فقد نفقد فرصاً عديدة للاستمتاع بالطبيعة والتفاعل الاجتماعي والنشاط البدني والمهارات الاجتماعية الإنسانية كما يجب
علينا أن نعمل على إيجاد التوازن المناسب بين التكنولوجيا والحياة في الهواء الطلق، ويمكن أن تلعب التكنولوجيا دورًا إيجابيًا في تعزيز استخدام الحدائق والملاعب وكذلك العمل على تعزيز الوعي بأهمية الخروج كأسرة إلى الحدائق والملاعب والمساحات الخضراء العامة وتشجيع الناس على استخدامها والاستمتاع بها، ويمكن تنظيم فعاليات وأنشطة في هذه المناطق داخل الأحياء مثل الحفلات الطلابية للتخرج والمهرجانات الرياضية لجذب الشباب وتشجيعهم على زيارتها والاستفادة منها.
باختصار يجب أن ندرك أن التكنولوجيا لها تأثير كبير على استخدامنا ومتعتنا للحياة الحقيقية ويمكننا نحن من عاش في قرنين بحكم تجربتنا، ومعايشتنا للحياتين، أن نعمل على إيجاد توازن لأبنائنا بين الاستفادة من التكنولوجيا والاستمتاع بالحياة في الهواء الطلق كما كنا نفعل، كما يجب علينا المحافظة على هذه الحياة والأماكن الخضراء والعادات الاجتماعية ونتعامل معها كمجموعة قيمة من الموارد الطبيعية ووسائل تعزيز الصحة والعافية البدنية والعقلية.
حسن أحمد الألمعي – جريدة الرياض
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فی الهواء الطلق هذا الشاب
إقرأ أيضاً:
سحر التكنولوجيا وفتنتها
ليست التكنولوجيا بمفهوم حديث أو معاصر، وإنما هي مفهوم صاحب وجود العلم على مر التاريخ. والحقيقة أن مصطلح «التكنولوجيا» technology مستمد في الأصل من الكلمة اليونانية «تخني» techne التي كانت تُستخدَم للدلالة على الصنعة (أو الحرفة) والفن معًا؛ ولذلك كان الفنان يُسمى أيضًا «تخنِتس» technites، أي صاحب الصنعة أو الحرفة. ومع ذلك، فإن اليونان لم يستخدموا كلمة «الصنعة» (أو الحرفة) بالمعنى السطحي الذي نستخدم به الكلمة الآن؛ لأن كلمة «تخني» لم تكن تعني مجرد «التكنيك» الذي يتخذ شكل الإجراء العملي، وإنما كانت تعني أسلوبًا في الرؤية والمعرفة يسعى إلى إظهار معنى وحقيقة شيء ما (كما علَّمنا الفيلسوف الكبير هيدجر). غير أن معنى التكنولوجيا قد تطور واختلف بعد ذلك بدءًا من العصر الحديث، بحيث لم يتبق منه سوى مفهوم الصنعة والتطبيق المقترن بالعلم وتطوره.
ولا شك في أن تطور التكنولوجيا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتطور العلم ذاته؛ ولهذا السبب ذاته فإنه يعد مقياسًا لتقدم الدول. ومن هنا يمكن أن نفهم سعي الدول النامية -كما في عالمنا العربي على سبيل المثال- إلى التركيز في مجال المعرفة والتعليم على تطوير التكنولوجيا وتنمية ما يُعرَف الآن بالذكاء الاصطناعي الذي هو غاية ما بلغته التكنولوجيا في عصرنا، وأصبح بمثابة فتنة لا يمكن مقاومة سحرها: ولهذا نجد أن موضوع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي أصبح هو الموضوع الرائج الآن في سائر المنتديات والمؤتمرات التي تتناول تطوير التعليم واستراتيجيات التنمية وتحقيق جودة الحياة. ولا شك أيضًا في أن هذه الحالة من الفتنة بالتكنولوجيا لها ما يبررها؛ إذ يكفي أن نتأمل كيف غيرت التكنولوجيا أسلوب حياة البشر وجعلته أكثر راحة وسهولة وقدرة على تصنيع أدوات لم يكن بمقدورنا حتى أن نتخيلها: ويكفي أن نتأمل في هذا الصدد أبسط الآلات التي أنتجتها التكنولوجيا منذ عقود بعيدة، أتخيل الآن آلة تصوير المستندات التي كان شيوعها فيما مضى كشفًا عظيمًا استفاد منه الباحثون، إذ كنا في باكورة شبابنا- قبل شيوع هذه الآلة- نعكف على اقتباس النصوص من المراجع بالنقل من خلال الكتابة، بينما الآن يمكن لأي باحث أن ينقل هذا النصوص بنقرة على جهاز الحاسوب. وأنا أتأمل الآن أيضًا أجهزة الحاسوب والهاتف المحمول التي تتطور برامجها يوميًّا بشكل مذهل حتى إنها تضع المعرفة وأحداث العالم بين يديك بنقرات على أزرارها وشاشاتها. فما بالنا بالذكاء الاصطناعي وبرامجه التي أصبحت تُستخدَم في مجالات التأليف والترجمة والإبداع أيضًا (وهذا موضوع جدالي يمكن تناوله نقديًّا في مقال آخر).
كل هذا صحيح -دون شك- ولكن سحر التكنولوجيا لا ينبغي أن يفتننا بحيث نغفل عن رؤية أكثر عمقًا وشمولًا لدور التكنولوجيا في التطور وعملية التنمية بمفهومها الواسع. فمن الأخطاء الكبرى التي تقع فيها كثير من الدول الساعية للتنمية -في عالمنا العربي بوجه خاص- تصور أن التنمية ينبغي أن تنصب على التكنولوجيا، لا العلوم النظرية؛ فهي بذلك تغفل عن أن التكنولوجيا باعتبارها تطبيقات للعلم تكون غير ممكنة من دون تطور في العلم ذاته؛ وبالتالي في نظريات العلم، فأول العلم نظري بالضرورة، وبعد ذلك تأتي تطبيقات هذه النظريات بعد أن تصبح «مُبرهَنات» theorem (بلغة المنطق وفلسفة العلوم). والواقع أن هذه هي أعلى صور أو آخر مراحل تطبيقات العلم بعد أن تتحول نظريات العلم ونتائجه العملية أو التطبيقية إلى أسلوب إنتاج أو تقنية من خلال التكنولوجيا. ولهذا فإن الدول الساعية إلى التنمية ينبغي أن تهتم في المقام الأول بتطوير العلم ونظرياته ذاتها، ومواكبة المعرفة بنتائجها العملية، قبل العكوف على التكنولوجيا؛ لأنها لن تفعل عندئذ شيئًا سوى استيراد التكنولوجيا وتطبيقاتها.
كما أن سحر التكنولوجيا لا ينبغي أن يفتننا بحيث نغفل عن أن تطويرها وتنمية الذكاء الاصطناعي نفسه، لا ينبغي أن تكون بديلًا عن تنمية العقل والذكاء البشري التي يجب أن تكون لها الأولوية في استراتيجيات التنمية وتطوير التعليم. حقًّا إن التكنولوجيا -كما سبق أن قلنا- قد أسهمت بقوة في تطوير أساليب الرفاهة في حياتنا وطرائق عيشنا بكل يسر وسهولة، مثلما ساهمت بقوة في تيسير طرائق التعلم وتحصيل المعرفة، ولكن التجارب الواقعية تشهد أن التكنولوجيا لم تكن ناجعة في كل مجال؛ خاصة في مجالات الإبداع البشري لا في مجال الفن فحسب، وإنما أيضًا في مجال التأليف والترجمة، فضلًا عن مجال تنمية ملكة التنظير في العلوم جميعًا. بل إن التكنولوجيا وبرامج الذكاء الاصطناعي أصبحت تستدعي مفاهيم تتعلق بعمليات الإبداع في عمومه، مثل: «الفردية» و«الشخصية» و«الهُوية». وذلك موضوع جدالي شائك من جوانب عديدة؛ ولذلك فإنه يستحق أكثر من مقال مستقل بذاته.