صحيفة أثير:
2024-12-18@05:57:52 GMT

د. سلطان الخروصي يكتب: عُمان التي لا يعرفونها!

تاريخ النشر: 25th, January 2024 GMT

د. سلطان الخروصي يكتب: عُمان التي لا يعرفونها!

د. سلطان بن خميس الخروصي – باحث في قضايا التربية والمجتمع

تشكل القيم الإنسانية خارطة طريق لمجد الأمم ورسم لوحة حضارية للأجيال المتعاقبة، وتمثل المواقف مفتاح تلك الخارطة لتكون شمسا في وسط أقمار مكفهرة في أنوارها الباهتة، وأمام تلك المواقف الخالدة التي تسجلها كتب تاريخ (العواذل) قبل أهل الدار مواقف سلطنة عُمان منذ الأزمنة السحيقة وحتى اللحظة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلا أنه لا يخلو فضاء الفراغ والوحشة من وجود بعض المراهقين ممن لهم صولاتهم وجولاتهم في الساحة الفكرية والإعلامية والدينية والسياسية بأن يتسلقوا إلى الشهرة (المقنَّعة) عبر خلال استثمار غياب الوعي المعرفي والمعلوماتي والتاريخي في الوطن العربي لبث بعض الفقاعات الفارغة بدافع الشعور بالنقص، فلا ضير بين الفينة والأخرى أن تنبري الأقلام الوطنية المجيدة في نشر الوعي والمعرفة لاستظهار بعضا من المواقف التاريخية العمانية الثابتة التي تُبرهن اليوم بمواقف مشرِّفة استمرارا للمسؤولية التاريخية والحضارية وليست مواقف عاطفية وآنية مرتجلة لكثير من الأحداث الراهنة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

أخبروهم أن هذا القطر العربي الأصيل أخرج لنا مازن بن غضوبة حينما آمن طوعاً بدين محمد الشريف ولم يُكبِل الأغلال على قومه للدخول في الدين الجديد وترك الولاء والسجود لصنمهم الأعظم “باجر”، وأخرج لنا أحمد بن ماجد الذي صال وجال بحار العالم طولاً وعرضًا، وأخرج لنا المهلب بن أبي صفرة القائد العربي العُماني الشهم الذي دافع عن وطنه ودينه وعرضه ليضرب لنا موعدا خالدا مع التاريخ فتتوارثه الأجيال حقبًا متوالية وإن حاول البعض تشويه صورته أو سرقة مجده العماني لكن وطء قدميه وصليل سيفه وصهيل خيله تنبع من ثرى وثريّا عمانيته الخالدة أبد الدهر، وأخرج لنا إمبراطورية آسيوفريقية –أفريقيا وآسيا– بلا سلاح ولا قتال حيث تعاقب سلاطينه العظماء في بناء مؤسسات الدولة والحضارة في عمان العربية الشرقية الآسيوية وتراب زنجبار الأفريقية الجنوب شرقية، وعبق مجد قصر المتوني والعجائب تحكي عن نفسها.

أخبروهم أن السياسة الخارجية العُمانية مع كثير من مجريات الأحداث المحيطة الملتهبة كانت وما تزال في موقع القيادة والإدارة الدقيقة، ففي الملف الإيراني كان مبدأ الحوار والجوار هو مؤشر البوصلة الأساس انطلاقا من المصالح المتبادلة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا؛ فكانت عُمان تقف موقف الحياد والقيادة في الكثير من الأزمات التي تكون فيها إيران طرفا مباشرا مع دول الجوار أو مع تطورات المشهد العربي، فبعد المأساة التي عصفت بالعلاقات العربية-الإيرانية إثر حرب الاستنزاف بين العراق وإيران على مدى ثماني سنوات عجاف (1980-1988م) نجد أن الموقف العماني كان يتوخى الحذر لينزوي بعيداً عن التصعيد أو الاحتكام للرصاص والمدافع، بل كان يدعو لتغليب الحكمة والعقل والاحتكام للروح الإنسانية النبيلة، علاوة على أنها القطر الوحيد في المنظومة الخليجية التي تتمتع بعلاقات وطيدة ذكية مع إيران باسم الإنسانية وحسن الجوار، متناسية في ذلك شبح المذهبية المقيتة التي يتعاظم أثرها المخيف في نفوس كثير من الأنظمة الخليجية والعربية، فنأت بنفسها عن أن تكون مياهاً راكدة تقطع حلقة الوصل بين الخليج العربي والبوابة الشمالية له بفضل القيادة الحكيمة والحنكة السياسية النبيلة؛ فكانت محل ثقة الإيرانيين في التعامل مع كثير من المواقف الخليجية والعربية والعالمية، ولا أدل على ذلك من أنها شكلت على مدى السنوات العشر الأخيرة جسر التلاحم والتواصل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في وقت كان الكل يرى فيه استحالة أن تكون هناك أي بوادر للقاء من هذا النوع لتتوج تلك اللقاءات بتوقيع اتفاقية نووية بين إيران والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية في العام 2015.

أخبروهم أنه وخلال أكثر من سبعة عقود، وعلى الرغم من أن القضية الفلسطينية شكلت مهد ولحد التحرر العربي والحلم الخالد في سبيل الوحدة العربية، وعلى الرغم من مرور هذه القضية بموجات ارتدادية متتالية بين كرٍّ وفرٍّ لتشي بواقع هلامي للمشروع العروبي السياسي، إلا أن الموقف العُماني التاريخي الثابت يوحي للمراقب عمق صناعة القرار السياسي والانتماء القومي الأصيل رغم كل المتغيرات والمساومات وتقلّب الأمزجة والأنظمة وازدواجية الولاءات والانتماءات، متضلّعا بقاعدة الثوابت والأولويات، فعزلت نفسها عن صخب الدعوات القومية التي تُنازل الثُريَّا في استثارة شعوبها نحو أهداف وطنية هُلامية تمضغها الألسنة لتكون بعد حين قُربانا لتحقيق مقاصد حزبية أو قومية زائفة، أو قبلية أو مذهبية سمجة؛ فلا ضبابية في الثوابت العُمانية، ولا مساومة على الحقوق وتحديد المصير؛ ليضرب بذلك نموذجا رائدا في بناء مفهوم ودلالات القرار السياسي والانتماء الخالد للقضية المشروعة.

أخبروهم أن الصوت العُماني الرخيم الذي استطاع إخراج بلاده من عمق الزجاجة والعُزلة إلى محافل الوجود الدولي ليصبح رقماً صعباً ضمن المنظومة العالمية، قوامُها التبصُّرِ والحكمة والثوابت الإنسانية النبيلة نحو عيش رغيد للجميع؛ يؤمن بضرورة أن يشعر العالم والدول العظمى بأحقية الفلسطينيين في مكتسباتهم وحقوقهم وعيشهم وتاريخهم، كما أن الثوابت السياسية لهذا البلد لا تقبل بأن تُنتقص إنسانية وكفاح الفلسطينيين لتكون عيشة بدائية محاطة بعُزلة سياسية وحضارية واقتصادية وضمن “فُتات” شبه دولة؛ يسيل على تمزّق أوصالها لُعاب أهل النفوذ من سماسرة وشراذمة الموت والحروب.

أخبروهم أن عمان العظيمة أرضا وإنسانا قد نأت بنفسها عن صخب ازدواجية المعايير وتمييع المفردات والمفاهيم، فسلطان البلاد المفدى وفي خطابه السامي أثناء افتتاح مجلس عُمان نجده يُشدَّد على موقف البلاد الثابت والحضاري بحق الشعب الفلسطيني بأرضه وسمائه، ويُجرِّم مجازر الصهيونية تجاه الحياة الإنسانية الكريمة، ليتناغم مع خطاب جلالته رسائل سماحة الشيخ أحمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عُمان، والتي يبارك فيها أفعال المقاومة وحركات التحرر الوطنية والدعوة لمقاطعة الشركات الداعمة للصهاينة ومن عاونهم، ويوجه خطاباته ونداءاته لعلماء الأمة بأن يتحملوا ذنب صمتهم عند الله تعالى عن إزهاق الأرواح بدون وجه حق في غزة، ويكون للشعب كلمته الثابتة الراسخة من خلال طوفان المظاهرات الجماهيرية التي يقودها ثُلَّة من الشباب المؤمن بمبادئه والقابض على ثوابته كالقابض على الجمر.

إنَّ الهجمة المستعرة في الفترة الأخيرة على الموقف العُماني الواضح والصريح والجريء في مناصرة القضية الفلسطينية لها مآرب واهية سمجة يقتات على فتاتها زُمرة مراهقة من مرتزقة المواقف والمصالح، فهم يعرفون تاريخ هذا البلد العظيم ومواقفه السيادية الرصينة في الكثير من القضايا القومية والعالمية، فما جرى تروجيه بأنه تعزيز لقيم العنف وخلق جيل متضلِّع بالكراهية تجاه القوميات والأديان الأخرى في إشارة إلى اليهود ما هو إلا تكريس لسياسة التطبيع والانبطاح في القيم والثوابت بعدما أتعبتهم الفلسفة السياسية والتربوية في القدرة على خلق جيل يحمل في صدره حب فلسطين وعروبتها وطيفها الديني القويم، لقد آلمتهم صلاة الجمعة التي ما فتأت تُذِّكر العالم بحق الحياة للفلسطينيين الذين أغرقوا أرضهم بدمائهم الزكية وصلاة الغائب على أرواحهم الطاهرة في ظل صمت وجُبن عربي مُخيف حتى من رفع أكف الضراعة لله تعالى بأن ينصرهم ويرحم شهداءهم، عُمان ليست  بحاجة لأنَّ تُعلِّمها الصُّحف الصفراء، ولا أن يقوِّم ويقيّم مواقفها صُغراء القلم وتُجَّار المواقف، ولا أن يوجَّه سفينتها الأقزام والقراصنة فهم رُبَّان البحار على مدار الزمان،  بل هي تُلجم تلك الأفواه بالإرث التاريخي المشرِّف تجاه القضايا العربية والإقليمية منطلقة في ذلك من إرثها الحضاري ومسؤوليتها الأخلاقية والإنسانية.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: الع مانی التی ت

إقرأ أيضاً:

مؤمن الجندي يكتب: قائد على حافة الانفجار

وسط المشهد المشحون، وقف القائد محاطًا بالعيون، يترقب الجميع كلمته أو حتى نظرة.. في داخله عاصفة تغلي، لكن الصمت كان خياره الوحيد، فالقيادة ليست في اتخاذ القرارات وقت السكون، بل في ترويض النفس وقت الغضب، وكظم الغيظ حين يكون الانفجار أسهل الطرق.

مؤمن الجندي يكتب: بلا وداع مؤمن الجندي يكتب: حين تتلاشى الألوان

ليس القائد من يُعرَّف بموقعه، بل بمواقفه، تلك اللحظات التي تتسلل فيها الأزمات فجأة، وتتعرى النفوس أمامها دون درع أو قناع؛ القائد الحقيقي يُقاس في لحظات الانفعال، حيث يُختبر صبره وحكمته! لكن، ماذا لو تحدث الغضب قبل الحكمة؟ وماذا لو صرخ الانفعال في وقتٍ كان الصمت فيه أبلغ رد؟

هي لحظة واحدة تكفي لتقلب الموازين! لحظة يسقط فيها القائد في فخ انفعاله، فينسى أن العيون لا تتركه، وأن كلماته تصبح سهامًا تُحدّد المسار.. القائد ليس معصومًا، لكنه مُطالَبٌ دائمًا بما يفوق طاقة البشر.

محمد الشناوي، قائد الأهلي، وعملاق حراسة مرماه، حمل أمانة القيادة على كتفيه لسنوات، لكنه في لحظة غضب بعد خسارة كأس التحدي أمام باتشوكا المكسيكي، خرج عن الإطار الذي ما دام احتضنه.. جاء الرد على أحد الجماهير من المدرجات، كأنه صرخة من قلبٍ مثقل بالإحباط، لكنه لم يكن مجرد رد، بل كان رسالة غير مقصودة بأن حتى الجبال قد تهتز عندما تضغط عليها الرياح.

فن التحكم في الذات 

القائد يواجه ليس فقط خصومه، بل نفسه أولًا! فالغضب حين يخرج عن السيطرة لا يكشف عن الضعف فقط، بل قد يجرّ معه صورة رسمها الزمن بصبرٍ وجهد، والشناوي لم يكن يومًا مجرد لاعب؛ هو قائد، وشخصية لا تقف عند حدود الميدان، لكن تلك اللحظة كانت شاهدة على صراع داخلي بين إنسانية القائد ومثالية الصورة التي يريد الجميع أن يراها.

من وجهة نظري أن الحياة دائمًا تمنح فرصة للتصحيح، والقائد الحقيقي هو من يعيد الإمساك بزمام الأمور.. محمد الشناوي سيبقى قائدًا، لكنه اليوم أمام فرصة ليُعيد تعريف قيادته، ويثبت أن لحظات الانفعال ليست النهاية، بل بداية لرحلة أعمق في فن التحكم بالذات.

في النهاية، أرى أن القائد قد يغضب، لكن قوته الحقيقية تكمن في قدرته على تحويل ذلك الغضب إلى وقودٍ للمضي قدمًا، دون أن يُحرق من حوله.

للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا 
 

مقالات مشابهة

  • د.حماد عبدالله يكتب: وما نيلُ المطالب بالتمنى !!
  • سعود الحوسني يكتب: أدبنا العربي مرآة هويتنا وذاكرتنا الحية
  • د. حسن البراري يكتب .. الطغاة يجلبون الغزاة
  • مؤمن الجندي يكتب: عرّافة الكواكب في شقة "سِباخ"
  • د.حماد عبدالله يكتب: " تحــدث " كـــى أراك
  • البرلمان العربي يشيد بالجهود والإنجازات التي حققتها سلطنة عمان في مجال حقوق الإنسان تحت قيادة السلطان هيثم
  • بالتزكية.. هود الخروصي رئيسا لفريق العوابي
  • مؤمن الجندي يكتب: قائد على حافة الانفجار
  • الدكتور سلطان القاسمي يكتب: اكتشاف آثار برتغالية جنوب رأس الحدّ في بحر عُمان
  • المواقفُ المشرِّفة تفشل مخطّطات الأعداء