تأملات في أحوال ما بعد الحرب
تاريخ النشر: 25th, January 2024 GMT
تأملات في أحوال ما بعد الحرب
الأغلبية الحاكمة فى إسرائيل لا تخفى عزمها إنهاء الصراع بمحو اسم فلسطين من خرائط السياسة فى الشرق الأوسط.
أفلحت إسرائيل وأمريكا فى ردع الدول العربية مجتمعة ومنفردة بعد نجاحهما في تدمير بنية غزة التحتية ومحو المدن وقطع الكهربا والمياه ووسائل الاتصال.
النخبة الإسرائيلية الحاكمة قررت أن المستقبل للرئيس ترامب أوجمهورى آخر متصلب إيذانا بعصر ذهبى إسرائيلي بالسياسة الدولية وسياسات الشرق الأوسط.
احتمال تزداد قابليته للتحقيق فى حال استمر الركود العربى وانهيار حدود النظام العربي السياسية والعقائدية والقومية أمام سيل الاختراقات المتباينة من الخارج.
أمريكا تخرج أكثر ارتباكا وانحدارا من تجربتها في حرب أوكرانيا وحرب الإبادة فى غزة والضفة، تخرج منهما فاقدة رصيدا مهما من الثقة المتبادلة والضرورية داخل الحلف الغربى.
أرى النظام العربى بسبب أزمته الراهنة وفشله فى الخروج منها وتحت ضربات متعاقبة وضغوط خارجية يقترب من الانفراط وأظهرت متابعة مواقف دول النظام العربى من أزمة غزة تناقضا ملفتا.
في حين أعلنت أمريكا وبريطانيا وألمانيا تحالفها مع إسرائيل في مواجهة صريحة لم تتمكن دول النظام العربى من التصريح بأن الأزمة بين غزة وإسرائيل تقع ضمن الصراع العربى الإسرائيلى.
* * *
أقول إننا لو تركناهم ينفذون الخطط والمشروعات التى أعدوها لنا ولغيرنا، بل ولهم هم أنفسهم، لوجدنا أنفسنا بغير إرادتنا فى عالم غير عالمنا ونحو مصير غير ما كنا نود وكل بلادنا بحدود غير ما سبق ورسم لنا. أراهم وأرانا على النحو التالى:
أولا: دوليا، أرى نظاما دوليا يخطو متأرجحا بين مكونات وقواعد عصر هيمنة أمريكا على العالم، وبين مكونات ناشئة لعصر قطبية ثنائية أو متعددة وقواعد لها.
هذه القواعد يجرى العمل حاليا على صياغتها بدأب من خلال توترات وعنف وعدم استقرار ومنافسة شرسة وحروب صغيرة عديدة وصل عددها فى الشرق الأوسط وحده عشرة صراعات، كلها وغيرها من طباع المراحل الانتقالية.
أرى أمريكا تخرج أكثر ارتباكا وانحدارا من تجربتها في حرب أوكرانيا وحرب الإبادة فى غزة والضفة الغربية، تخرج منهما فاقدة رصيدا مهما من الثقة المتبادلة والضرورية داخل الحلف الغربى.
تخرج مثل ألمانيا مثخنة بجراح ناتجة عن سوء تصرف وانصياع لضغط صهيونى كلاهما شاركا فى خلقه قبل أن يستسلما له. تخرج، كما خرجت بريطانيا العظمى من عصرها الإمبراطورى منهكة وبنظام حزبى ونخبة حاكمة عاجزتين، كلاهما شوهته تجارب الانسحاب العسكرى والسياسى من المستعمرات ومواقع النفوذ وصعوبات المواجهة مع أقطاب صاعدة وثورة شاملة فى عالم الجنوب.
أرى فى كلا البلدين وبلاد أوروبية بوادر عواصف عنصرية جامحة. أرى وبكل الوضوح الممكن أزمات متلاحقة للديمقراطية، كنظام حكم، فى العالم بأسره وفى دول الغرب بصفة خاصة.
أراها مثلا فى شكل فوز دونالد ترامب فى انتخابات هذا العام وفى الوقت نفسه فى شكل فوز جو بايدن ونظامه المستكين. أراها فى تضخم حال ونفوذ الشركات العظمى وفى الصعود المتسارع لتطبيقات الذكاء الاصطناعى. رأيتها جميعا تفوح فى جلسات ومناقشات مؤتمر دافوس.
أرى الصين تزداد قوة وتقدما اقتصاديا ونفوذا دوليا وأرى الجنوب بصفة عامة أكثر اقترابا منها وتفهما لسياساتها وأملا فى استمرار صعودها. أراها تزداد ثقة فى مكانتها الدولية وفى استمرار انحدار مكانة الولايات المتحدة. أراها جاهزة لتفادى الاصطدام بأمريكا ومستعدة بمزيد من الصبر ذى التكلفة الداخلية الباهظة لتأجيل المواجهة الحتمية فى موضوع تايوان.
أراها أكثر حرصا فى التعامل مع الدول المشاطرة فى بحر الصين الجنوبى، الملعب الأهم للمنافسة بين الصين وأمريكا. أرى روسيا تستعيد الثقة بنفسها والقوة اللازمة للاحتفاظ بمكانتها كقطب من أقطاب القمة الدولية.
أراها غير غافلة عن إرث ماضيها الإمبراطورى وحريصة على ابتكار أشكال مناسبة للنفوذ وبخاصة فى وسط وشمال آسيا والقوقاز وشرق أوروبا. أراها مستمرة فى صياغة أو تعزيز علاقات فى إفريقيا والبحر الأحمر وبلاد العرب. تعرف أن الحال فى معظم هذه البلاد العربية والإفريقية مرشح لتحولات كبيرة وتعرف أن دورا لها هناك ينتظرها.
* * *
ثانيا: إقليميا. أرى النظام العربى بسبب أزمته الراهنة وفشله فى الخروج منها، وتحت ضربات متعاقبة وضغوط خارجية يقترب من الانفراط. كان مثيرا للاهتمام والتحليل مراقبة ومتابعة مواقف دول النظام العربى من أزمة غزة. رأينا تناقضا ملفتا.
أثبتت الأزمة أو كشفت عن ضعف شديد لدول النظام منفردة فى المواجهة بين الدول أعضاء النظام. اتضح أن هذه الدول منفردة أو مجتمعة لم تعترف أصلا بأنها فى وضع مواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وفى حين أعلنت أمريكا وبريطانيا وألمانيا ودول أخرى أنها متحالفة مع إسرائيل فى مواجهة معلنة وصريحة لم تتمكن دول النظام العربى من التصريح بأن الأزمة بين غزة وإسرائيل تقع ضمن صراع أشمل وأعم وهو الصراع العربى الإسرائيلى.
يظهر التناقض واضحا من إجماع دول النظام العربى على التمسك بهذا الموقف من الأزمة. أجمعت هذه الدول على رفض تهجير أهل فلسطين وعلى طلب وقف إطلاق النار وعلى عدم توسيع نطاق الحرب الدائرة.
لكنى أظن، وأتفهم لو كان ظنى صحيحا، أن إسرائيل وأمريكا معها أفلحتا فى ردع الدول العربية مجتمعة أو منفردة بعد نجاحهما فى تدمير البنية التحتية لغزة ومحو المدن وقطع الكهربا والمياه ووسائل الاتصال.
أمريكا حليفة معظم الدول العربية كانت طرفا فى هذه الأعمال الحربية والسياسية والمتوحشة التى شنتها إسرائيل بإرادتها المستقلة أو بدعم كامل مسبق ومعلن من الحليف المشترك لكل من إسرائيل والدول العربية.
لم يكن موقف أمريكا من «فلسطين تحت الغزو» الاختراق الوحيد الخطير لحدود وعقيدة النظام العربى، كان هناك اختراق آخر لعله أهم لأنه يحدث من داخل النظام العربى. إذ إنه منذ أن استلمت مقاليد المقاومة المسلحة فصائل وجماعات وأحزاب اختلطت لديها وفى داخلها ولاءاتها وعقائدها.
بفضل هذه المقاومة صارت إيران طرفا فاعلا فى صنع مصير النظام العربى، ولعلها باختراقها النظام العربى على هذا النحو الخطير، ساهمت فى تصعيد أهمية الرأى القائل بأن النظام الإقليمى العربى مهدد بالانفراط. وتعددت الاختراقات:
اختراق إسرائيل برفضها الاعتراف بوجود شعب فلسطينى وتأكيد هذا الرفض بحرب مدمرة وحركة استيطان ضخمة وخرائط صريحة تلغى بها عروبة دول مشرقية مؤسسة للنظام العربى وأراضى ممتدة غربا حتى قناة السويس.
اختراق إسرائيل بعد أن كان عاملا ساهم فى تأسيس النظام العربى فى الأربعينيات من القرن الماضى أصبح بتوحشه وبالتطور الحادث فى النظام الدولى وبالانحدار الأمريكى إلى حد الخضوع المهين لإسرائيل أهم عناصر تفكيك النظام العربى.
أما اختراق إيران فمختلف نوعا وإن ظل مؤثرا عملا وفعلا لاعتماده على مواطنين ومؤسسات عربية وحاملا مسئولية تصدر المواجهة مع إسرائيل، وفى الوقت نفسه مطمئنا إلى علاقة بين إيران والولايات المتحدة يحيط بها الغموض المثير للاهتمام وكثير التخمينات.
هناك أيضا اختراق تركى واختراق إثيوبى، كلاهما استفاد من حال الركود العربى، حال يثير الاعتقاد أو الأمل لدى دول الجوار بقرب انفراط النظام العربى وبالتالى سعيها لجنى ثمار هذا التطور المهم.
* * *
ثالثا: فلسطين. ليس خافيا أنهم فى إسرائيل وفى أمريكا يعدون أو يستعدون لفلسطين بما أطلقت عليه الصفقة القاتلة. يتحدثون بدم بارد عن دولة فى مستقبل ليس بالضرورة قريبا، دولة منزوعة السلاح، بمعنى دولة مفتوحة الحدود أمام إسرائيل لتفعل بها ما تشاء وقتما تشاء، دولة ناقصة السيادة لا حق لشعبها فى الدفاع عن نفسه، دولة مقطعة الأجزاء مثل قالب الجبنة السويسرية تشبها بجنوب إفريقيا فى زمن الفصل العنصري الأبارتهايد، بمعنى آخر دولة محكوم على شعبها فى آخر المطاف بالهجرة أو العذاب والقمع.
المدهش فى الموضوع أن المخططين لمستقبل فلسطين يتحدثون عن ضرورة إصلاح الحكومة القائمة الآن فى رام الله أو إقامة حكومة بديلة مختارة بعناية من جانب إسرائيل مستعينة بدول جوار عربية. آخرون وهم حسب ظنى الأغلبية الحاكمة فى إسرائيل لا تخفى عزمها على إنهاء الصراع بمحو اسم فلسطين من خرائط السياسة فى الشرق الأوسط.
لا يخفون هذا العزم بل تراهم فى الصور يتعالون على المبعوثين الأوروبيين والأمريكيين باستثناء اليهود الصهاينة منهم، حتى الرئيس بايدن صارت الكاميرات والشخصيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية تتعامل معه وتتحدث عنه باحترام أقل وبما لا يليق برئيس أهم وأقوى دولة.
هناك ما يشير إلى أن النخبة الإسرائيلية الحاكمة قررت أن يكون المستقبل للرئيس دونالد ترامب أو لجمهورى آخر متصلب إيذانا بعصر ذهبى إسرائيلى فى السياسة الدولية وبخاصة فى سياسات وقضايا الشرق الأوسط.
هذا الاحتمال تزداد قابليته للتحقيق فى حال استمر الركود العربى واستمر انهيار حدود النظام العربي السياسية والعقائدية والقومية أمام سيل الاختراقات المتباينة من الخارج.
*جميل مطر كاتب ومفكر سياسي، دبلوماسي مصري سابق
المصدر | الشروقالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: فلسطين الحرب أمريكا الصين إسرائيل ترمب النظام الدولي النظام العربي النخبة الإسرائيلية الدول العربية الدول العربیة الشرق الأوسط مع إسرائیل
إقرأ أيضاً:
أندرو مارش حول الديمقراطية المسلمة.. تأملات في فكر راشد الغنوشي
شغلت أسئلة الديمقراطية والإسلام والحداثة الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، وظلت الإجابات المختلفة المقدمة من قبل الحركات الإسلامية ومواقفها من هذه القضايا الأساسية، أحد المعايير الأساسية التي اعتمدها المفكرون والباحثون العرب والأجانب في تصنيف وتمييز الحركات الإسلامية بعضها عن بعض.
ففي الوقت الذي يعتبر فيه بعض الإسلاميين أن هناك إمكانية للتوفيق بين الإسلام والديمقراطية، ويرى فريق منهم في الديمقراطية تطبيقا لمفهوم الشورى في القرآن استنادا إلى ما جاء في القرآن والسنة النبوية وبعض الآراء الاستثنائية في الفقه الإسلامي التي تعتبر الشورى ملزمة، نجد فريقا ثانيا يعتبر أن الديمقراطية والشورى سواء.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ما الذي جرى لليابان بعد أن اكتشفت الإسلام؟list 2 of 2الأيديولوجيا والقتل الجماعي.. ما الذي يدفع البشر لارتكاب الإبادة؟end of listويذهب إلى الاستدلال على ذلك بوثيقة المدينة التي يرى فيها "أول عقد مواطنة في التاريخ" لما فيها من حث على العدل والتعددية وحماية الأقليات واعتبار اليهود والمسلمين أمة واحدة.
كما أن هناك فريقا آخر من الإسلاميين يعتبر أن الديمقراطية والإسلام ضدان لا يجتمعان، وينقسم هؤلاء بدورهم إلى فريقين: فريق تقليدي وآخر جهادي، ويستشهد الفريقان بالكتاب والسنة لإثبات أن الحكم لله وليس للشعب، وأن التشريع لله وليس للبرلمان.
ويرى الفريق الأول أن الديمقراطية تتعارض مع التصور الإسلامي للسلطة والحكم، فيما يتجاوز الفريق الثاني التعارض الفقهي إلى المفاصلة العقدية، ويرى في الديمقراطية كفرا ويصفها بـ"طاغوت العصر".
ولعل هذه التفريعات والتصورات المختلفة المبنية على قناعات منها الراسخ والمتحول المبني على التحولات المجتمعية والتغيرات الفكرية والسياسية والإستراتيجية وحتى الأيديولوجية، والناتج عن موجة الديمقراطية العالمية التي هبت على العالم أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
إعلانوهذا ما أنتج الكثيرَ من الكتابات العربية والأجنبية التي أغنت المكتبة العربية في هذا الاتجاه، وسلطت الضوء على الكثير من القضايا الشائكة المتعلقة بالتجديد الديني والحداثة والديمقراطية والليبرالية، والإسلام السياسي ومنزلقاته الخطيرة، خاصة بعد موجة "الربيع العربي" ومطالبة الشعوب العربية بالحرية والكرامة والمساواة والديمقراطية ومشاركة المرأة في الحياة السياسية.
ومن بين هذه الكتب نجد كتابات أشهر القادة الإسلاميين في العالم الإسلامي والمجتهدين في الفكر والفقه الإسلامي المعاصرين:
وهما المفكر والزعيم السياسي والديني السوداني الراحل حسن عبد الله الترابي صاحب كتاب "السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع"، الذي أصدره عام 2003 وهو في السجن بعد اختلافه مع نظام الحكم في السودان الذي كان هو عقله المدبر. والمفكر وزعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي المعتقل منذ عام 2023 صاحب كتاب "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" بجزأيه الأول الصادر عام 1993 والثاني الصادر عام 2012. إضافة إلى كتابه "الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام" الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات وعن الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2012. الغنوشي والديمقراطية المسلمةإن هذه الأعمال المجددة للشيخ راشد الغنوشي وغيرها من كتاباته، التي فاقت الـ20 مؤلفا، والتي قدم فيها اجتهادات في مواضيع الحريات والعلاقة بين الديمقراطية والإسلام، وتشبع بها حتى على مستوى الممارسة السياسية بتونس والمواقف التي تصدر عنه، هي ما أثار الاهتمام بهذا الرجل السياسي والمفكر والزعيم الإسلامي من قبل الباحثين العرب والغربيين.
فلقد أفردوا له كتابات، بل وخصصوا له من الوقت ما لم يخصصوه لغيره، وعلى رأسهم الباحث الأميركي وأستاذ العلوم السياسية أندرو مارش الذي أصدر عام 2023 كتابا عنه وبالتعاون معه باللغة الإنجليزية تحت عنوان: "ON MUSLIM DEMOCRACY: ESSAYS AND DIALOGUES-حول الديمقراطية المسلمة: نصوص وحوارات" عن "منشورات جامعة أكسفورد" قسم الدين والسياسات العامة.
إعلانوهو كتاب يضم مجموعة من النصوص والمقالات للشيخ راشد الغنوشي المترجمة من العربية إلى الإنجليزية من قبل الباحث الأميركي المتخصص في الفكر الإسلامي، وحوارا مطولا معه يرصد مساره الفكري والسياسي والتحولات الكبيرة التي عرفها وكيفية انتقاله من الديمقراطية الإسلامية إلى الديمقراطية المسلمة وقطعه مع الإسلام السياسي.
تحدث الباحث الأميركي أندرو مارش عن تأليفه لهذا الكتاب، الواقع في 284 صفحة من الحجم المتوسط، في الملتقى الفكري حول "الإسلام والديمقراطية" الذي خصصه "منتدى المتوسط للتبادل والحوار" مساء يوم الثلاثاء 18 مارس/آذار الجاري بمدينة سلا المغربية للاحتفاء بهذا المؤلف ومناقشته بحضور نخبة من الكتاب والسياسيين والمثقفين المغاربة وحضور المناضل التونسي رضا إدريس مستشار الغنوشي للعلاقات الخارجية.
قال الباحث إن دواعي تأليفه تعود إلى اهتمامه بدراسة المفاهيم الإسلامية المتعلقة بالحكم والحرية، حيث أثارت قراءته لكتاب الشيخ راشد الغنوشي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" فضوله المعرفي للنبش العميق في مفهوم "الاستخلاف"، باعتباره مبدأ محوريا في الفكر الإسلامي السياسي.
ذلك ما دفعه إلى الاهتمام بتتبع مراحل تطور الفكرة من نموذج الخلافة التقليدية إلى التفاعلات الديمقراطية الحديثة، خصوصا مع ما شهده العالم العربي والإسلامي في ظل "الربيع العربي"، وتحديدا تونس التي أطلقت شرارته الأولى في عام 2011.
ويعرض الأكاديمي الأميركي والأستاذ بجامعة "ماساتشوستس" في مقدمته لهذا الكتاب، والتي تفوق 30 صفحة، الأسباب التي دفعته إلى تأليفه مع الغنوشي، ولجمع وترجمة مجموعة من المقالات إلى اللغة الإنجليزية وهي غير معروفة بالنسبة إلى القارئ الغربي.
وقد تم ذلك بعدما عمل مع جامعة "ييل" الخاصة في كنتيكيت على ترجمة كتاب "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" إلى الإنجليزية، وهو ما فتح أمامه المجال للقاء الغنوشي والتواصل معه بشكل مباشر، والكتابة عن العشرية الديمقراطية بتونس، والتي كان للغنوشي دور كبير في إنجاحها.
إعلانحيث لعب الغنوشي دورا محوريا على مستوى الممارسة السياسية في فترة الانتقال الديمقراطي في تونس بعد الثورة، ثم في فترة "التوافق" التي جمعته بالرئيس السابق الباجي قائد السبسي.
وتميزت حركة النهضة عن غيرها من الحركات الإسلامية بتقديم تنازلات كبيرة لمعارضيها العلمانيين من أجل المحافظة على استقرار تونس، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك وتخلت عن السلطة السياسية، التي حصلت عليها في انتخابات حرة ونزيهة، لصالح حكومة تكنوقراطية.
كما أنها أعلنت رسميا في مؤتمرها العاشر في مايو/أيار 2016، بعد عامين من اعتماد دستور ديمقراطي، تمت صياغته بعد ما يقرب من 3 سنوات من المداولات والمفاوضات الشاقة في مجلس تأسيسي وطني، أنها تجاوزت تسمية "الإسلام السياسي" وعرّفت نهجها باسم "الديمقراطية المسلمة".
ودعت إلى حوار مع مجموع الديمقراطيين المسلمين من أجل سن نهج صحيح يقوم على رفض أي تناقض بين قيم الإسلام والحداثة، وفق ما جاء في البيان الختامي لمؤتمر النهضة العاشر.
وهو ما رأى فيه الكثير من المراقبين والمتتبعين لحركة النهضة قطيعة حادة وانفصالا عن النهج التاريخي والأيديولوجي الذي خطته الحركة لنفسها منذ البداية.
ويضيف البروفيسور أندرو مارش في أول لقاء بالعالم العربي لتقديم هذا الكتاب بعد لقاءات خصصت له بتركيا وببعض الدول الغربية، أن ما يتعرض له الغنوشي من اعتقال إلى غاية اليوم يعد انتكاسة كبيرة للتجربة الديمقراطية في تونس.
وأن هذا الوضع "يعكس التحديات التي تواجه الديمقراطية المسلمة، ليس فقط كتجربة سياسية، ولكن أيضا كمفهوم فكري يسعى إلى تحقيق التعددية والحرية ضمن إطار إسلامي".
يشير مارش إلى أنه على الرغم من أن ظاهرة "الديمقراطية الإسلامية" كانت موضوعا لبعض الدراسات، فإن هذا الكتاب، على حد قوله، هو أول عمل باللغة الإنجليزية يقدم ترجمة لنصوص "المصدر" الأولية التي توضح بالتفصيل معالمه الأيديولوجية، لأنه يقف على نموذج حي هو حزب النهضة التونسي الذي تجاوز الإسلام السياسي الكلاسيكي، ودور مؤسسه راشد الغنوشي في تطوير مفهوم "الديمقراطية المسلمة"، الذي يراه تطورا فكريا يتجاوز الإسلام السياسي التقليدي.
العلاقة بين الإسلام والديمقراطية فهل "الديمقراطية المسلمة" مجرد مصطلح سياسي، أم أنها تمثل رؤية فكرية متكاملة تتجاوز الإسلام السياسي؟ وهل هي أيديولوجية أم نظرية حول السياسة من وجهة نظر إسلامية؟ وما أوجه اختلافها عن الإسلام السياسي أو النظريات السابقة لـ "الديمقراطية الإسلامية"؟ وكيف تختلف عن النظريات غير الإسلامية للديمقراطية البرلمانية التعددية؟ وهل الأمر يتعلق بتسويق سياسي في مرحلة الانتخابات فقط أم بقرار إستراتيجي مناهض للأحزاب الأخرى المعادية لدمقرطة الإسلام؟ إعلانهذه بعض من الأسئلة الأساسية المؤطرة لكتاب "حول الديمقراطية المسلمة" الذي يناقش فيه الأكاديمي أندرو مارش العلاقة بين الإسلام والديمقراطية والعدالة والتعددية، ويقدم محاولة فريدة لتفسير هذه الظاهرة أيديولوجيًا من خلال ترجمة 10 مقالات مركزية لراشد الغنوشي تطور مقاربة متميزة للسياسة والديمقراطية والخلاف، فضلا عن حوار فلسفي مطول بين الغنوشي أحد مفكري الحركة الإسلامية والأكاديمي السياسي أندرو مارش.
وعلى هذا الأساس جاء الكتاب موزعا إلى مقدمة عامة تحمل عنوان "من الديمقراطية الإسلامية إلى الديمقراطية المسلمة: راشد الغنوشي في الفكر والعمل"، و10 فصول.
الأول منها يحمل عنوان "الحريات الأساسية في الإسلام" والثاني "جدلية الوحدة والاختلاف والتعددية السياسية في الإسلام" والثالث "متى يكون الإسلام هو الحل؟" والرابع عن "الحرية أولا" والخامس "بين سيد قطب ومالك بن نبي: عشر نقاط" والسادس حول "الإسلام والمواطنة". ثم الفصل السابع حول "مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر" والثامن حول "العلمانية والعلاقة بين الدين والدولة من منظور حزب النهضة" والتاسع حول "دلالات ومتطلبات دستور ما بعد الثورة". أما الفصل العاشر المعنون بـ "حقوق الإنسان في الإسلام" فيضم حوارات فلسفية لاهوتية حول الديمقراطية والتعددية والإسلام والعلمانية للأكاديمي أندرو مارش مع زعيم حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي.وهي حوارات يتتبع فيها مسار هذا الزعيم السياسي الاستثنائي، الذي بدأ علمانيا وقوميا، وتحول إلى الحركة الإسلامية عبر حزب النهضة، وتعرض إلى الكثير من المضايقات والاعتقال والتعذيب في ثمانينيات القرن الماضي.
كما حكم بالإعدام مرتين في التسعينيات، ما اضطره إلى البقاء في المنفى بلندن لمدة 21 عاما من 1989 إلى غاية2011، بسبب أفكاره وتصوراته التي لم تكن تجد صدى لها من طرف الكثير من معارضيه، خاصة حينما حاول تقديم نموذج فكري جديد يمكن أن يلهم الدول الإسلامية الأخرى التي تسعى إلى تحقيق التغيير السياسي والاجتماعي.
إعلانبَيد أن خصومه من الإسلاميين والعلمانيين الذين يؤمنون باستحالة التوفيق بين الإسلام السياسي والديمقراطية، كانوا يصفون التيارات التي تتماهى مع الديمقراطية بالتلفيق، ومحاولة أسلمة الديمقراطية أو دمقرطة الحركات الإسلامية كإجراء تكتيكي مرحلي للوصول إلى الحكم ثم الانقلاب على الديمقراطية لصالح دولة الخلافة التاريخية، رغم أن حركة النهضة أعلنت الانسحاب من المشاركة السياسية في الحكومة حفاظا على الديمقراطية والسلم والوطن.
ولهذا فالغنوشي حسب مارش، ليس مجرد سياسي، بل هو "مفكر ومجدد سعى إلى التوفيق بين التراث الإسلامي ومتطلبات الديمقراطية الحديثة"، وهو ما حاولت هذه الحوارات الغنية والمفيدة الوقوف عنده عبر التركيز على عصارة فكر الغنوشي وأطروحته السياسية، وتقديم الخصائص الأساسية للديمقراطية المسلمة التي تدمج القيم الإسلامية في إطار ديمقراطي تعددي بما يجعلها تتميز عن الديمقراطية الإسلامية، والتي اجتهد في إبرازها راشد الغنوشي عبر التركيز على التعددية السياسية والحقوق والحريات وعلى رأسها حرية المعتقد والضمير والإيمان بالدولة المدنية والعدالة.
من الديمقراطية الإسلامية إلى الديمقراطية المسلمةوانطلاقا من التجربة التونسية التي تختلف عن تجارب بلدان مثل تركيا، والمغرب، وماليزيا، وباكستان، ومن داخل المنظومة الفكرية للشيخ راشد الغنوشي وحركة النهضة، يبرز الأكاديمي الأميركي الكثير من الفوارق الجوهرية بين الديمقراطية الإسلامية التي تسعى إلى فرض نموذج إسلامي على الدولة، وبين الديمقراطية المسلمة التي تعترف بالتعددية كحقيقة سياسية لا يمكن تجاوزها، مشيرا إلى أن التجربة التونسية فرضت هذا التحول، حيث لم يعد من الممكن تجاهل الأحزاب العلمانية، والليبرالية، واليسارية، مما استدعى تبني نهج أكثر مرونة يقوم على مرتكزات أساسية لتخطي مجموعة من الصعوبات والمنزلقات، وعلى رأسها الالتزام بالحرية، حيث يرى الغنوشي أن "الحرية ليست مجرد قيمة ليبرالية، بل هي شرط أساسي لأي عمل أخلاقي وديني، ولا يمكن تحقيق الفضيلة الدينية دون حرية حقيقية".
ثم الاعتراف العميق بالتعددية السياسية، على اعتبار أنها ليست أمرا سحريا، بل عمل أنطولوجي للسياسة. مستدلا على "وثيقة المدينة" أو صحيفة المدينة التي وضعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، باعتبارها أول دستور مدني في تاريخ الدولة الإسلامية، والتي تمثل حسب الغنوشي "نموذجا لدولة تعددية تنبني على توافق دنيوي قائم على المصالح المدنية وليس على الانتماء الديني أو العقدي".
إعلانويشير مارش في تقديمه لهذا الكتاب إلى أن الغنوشي بعد عقود من النضال السياسي انتقل من الطوباوية إلى الواقعية السياسية، وأضحى يتبنى رؤية أكثر واقعية، لأنه أدرك أن السياسة ليست مجالا للمثاليات، بل هي مجال لإدارة المصالح وتقليل الأضرار.
وهنا ركز على تحول مثير لدى الغنوشي في رؤيته للعلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين، حيث لم يعد ينظر إلى الصراع السياسي من منظور ديني يفرق بين العدو والصديق أو الأخ المتدين والكافر، بل من موقع آخر في إطار الديمقراطية المسلمة لأن العدو أصبح هو "المعارض للديمقراطية، سواء كان إسلاميا أو علمانيا" وأصبح الصديق هو "المؤمن بالديمقراطية، بغض النظر عن انتمائه الأيديولوجي ولكن خارج الدكتاتورية والاستبداد ومن دون أي مساندة من أي بلد خارجي".
ويخلص مارش في هذا الكتاب إلى أن نجاح الديمقراطية المسلمة يعتمد بالأساس على قدرتها على تقديم بديل عملي وفعال للاستبداد، بديل نابع من الداخل يقوم على الحرية والتعددية وتحقيق العدالة.
فبدلا من تقديم نموذج مثالي للدولة الإسلامية برأيه، تسعى الديمقراطية المسلمة إلى خلق نظام سياسي يسمح بالتعايش بين مختلف التيارات، ولهذا فإن الديمقراطية المسلمة بحاجة إلى ديمقراطيين، ويقول إنه "لا يعرف أي شخص ملتزم بها أكثر من الشيخ راشد الغنوشي الذي يمضي رمضانه الثاني في السجن"، ويرى في اعتقاله "اختبارا حقيقيا لمستقبل الديمقراطية المسلمة"، وأن استمرار سجنه يعكس "صعوبة ترسيخ القيم الديمقراطية في العالم الإسلامي".
ويختم حديثه عن الكتاب بالقول: "الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم، بل هي ثقافة تحتاج إلى أناس يؤمنون بها. وإذا كان الخيار بين الديمقراطية والاستبداد أو الحرب الأهلية، فإن الديمقراطية المسلمة تظل الحل الأمثل لضمان الاستقرار والتعددية في المجتمعات المسلمة".
ويعتبر المشاركون في الملتقى الفكري حول "الإسلام والمواطنة" لمنتدى المتوسط للتبادل والحوار الذي يرأسه السياسي الإسلامي رضا بنخلدون، أن كتاب أندرو مارش وراشد الغنوشي ليس مجرد تجميع لمقالات وحوارات امتدت على مدى سنتين 2021 و2022.
إعلانبل كتاب استوعب آخر إنتاجات الغنوشي، كما يقول الباحث بلال التليدي، وهذه نقطة تحسب للأكاديمي الأميركي أندرو مارش، الذي وقف عند أفكار وتفسيرات الغنوشي وحركة النهضة، ولم يسائلها.
مع العلم أن النسق الغنوشي -لمن درس أدبياته- مختلط يجمع بين القطعية والتحوّلية، ولهذا وجب إعادة النظر، حسب التليدي، في هذه الأدبيات وتصنيفها من جديد وتتبع مسعى التأصيل الديمقراطي فيها دون إغفال التوازنات أو التنازلات التي رضخ لها حزب النهضة.
ويرى الكاتب حسن أوريد من جانبه أن الكتاب يحتاج إلى وقفة، لأنه يعتبر نقلة نوعية في مسار الحركة الإسلامية، وفي المرجعيات التي أثرت في هذه الحركة وعلى رأسها سيد قطب الذي يرى أن الحاكمية لله، ولا شيء غير الله، وأن الإسلام هو الحل وأن الذين لا ينخرطون في توجه إسلامي يحق عليهم نوع من التكفير، وهي المرجعية الناظمة للإسلام السياسي.
فالكتاب، برأيه، ينقلنا من مرجعية أثرت في جيل وألهمت الحركات السياسية وغيرها، إلى مرجعية أخرى ترى أن "الحاكمية لله لا تتنافى مع سيادة الشعب، وأن استخلاف الإنسان لا يعفيه من المسؤولية ولا يمكن تبعا لذلك أن نقسم المجتمع إلى جاهليين وغير جاهليين، ولكن إلى أطياف يمكن أن يجمع بينها الحوار والتوافق عوض التكفير، لتقوم آصرة مثلى بين عناصر المجتمع وهي المواطنة".
ويعود الفضل في هذه النقلة الفكرية النوعية إلى راشد الغنوشي، حيث يظل فكره حاضرا ببصمته المميزة، بوصفه رجل فكر أتى من الفلسفة وليس من الفقه الإسلامي، ورجل فعل عرك السياسة وعانى من التضييق، أغنته تجربة المنفى في لندن ومكنته من أن يخلق نوعا من المواءمة وليس التوفيق بين التجربة الإسلامية والفكر الغربي والفصل بين ما هو دعوي وسياسي عبر تبني مفهوم الديمقراطية المسلمة، لأنه لا بديل عن الديمقراطية اليوم فهي الجامع المشترك بيننا.
إعلانوبشكل عام، فإن كتاب "حول الديمقراطية المسلمة" لأندرو مارش وراشد الغنوشي له راهنيته، فهو يقدم رؤية مستقبلية ملهمة تسعى لتحقيق التوازن بين الأصالة والحداثة، ما يجعله مرجعا مهما لكل من يهتم ببناء مجتمعات ديمقراطية قائمة على القيم الإسلامية. كتاب لا يسائل علاقة الديمقراطية بالإسلام بل يتجاوزها إلى علاقة الإسلام بالحداثة ككل.
كما يسائل التجربة الديمقراطية التونسية التي تنبأ لها الكل بالنجاح، ولكنها كما يقول مستشار الغنوشي في العلاقات الخارجية رضا إدريس في ختام الملتقى، قد أخفقت لأنها "ديمقراطية لم تنتج الثروة، والمجتمع التونسي كان ينتظر الثروة من الثورة".
كما أن "التونسيين قد أخفقوا في أمر آخر وهو بيع الديمقراطية وأن تكون جذابة للمال الحلال"، كما يقول، ولهذا فإن النخبة التونسية التي تفننت في صناعة الدستور التونسي المتقدم، يلزمها بعض الوقت للقضاء على الشعبوية التي استشرت، والعمل على بناء نهضة ديمقراطية جديدة للبلد، بحسب وصفه.