الجزيرة:
2024-10-03@05:06:32 GMT

مثقف ضد السلطة

تاريخ النشر: 25th, January 2024 GMT

مثقف ضد السلطة

مثلما أنّ محمد علي باشا 1769 – 1849 م هو مؤسّس دولة الاستبداد الحديثة القائمة في مصر حتى اليوم والغد، كذلك فإنّ الشيخ عبدالرحمن الجبرتي 1753 – 1825م هو مؤسّس ثقافة الحرية بمعناها الحديث، أي البحث عن الحقيقة، مستهديًا بيقظة الضمير المتجرّد، دون التفات إلى ما قد ينال رضا الحكّام أو يغضبهم، ودون اعتبار لما قد يحظى بإعجاب النخب والعوام أو ما يسخطهم، أسّس الجبرتي سلطة الضمير الحرّ.

الباشا في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر أنجز أمرَين استثنائيَّين: أولهما – استقرار السلطة في بلد لم تعرف فيه السلطة معنى وحقيقة الاستقرار لقرنَين من الزمن، حيث ضعْف العثمانيين وتناحُر المماليك. وثانيهما: مركزية السلطة وبسط القانون الموحّد على كافة التراب الوطني بالقدر الذي أنجزه مينا نارمر 3200 قبل الميلاد.

طبعة خاصة من الطغيان

حكم الباشا مصر – منفردًا – نصف قرن، ولم يحدث في القرون الثلاثة السابقة على ولايته أن حكمها أحدٌ أكثر من سنوات تعدّ على أصابع اليد الواحدة. لكن استقرار السلطة وما رافقه من أمن وأمان، ومركزية السلطة وما رافقها من تحديث وعمران، هذا وذاك تمّ إنجازهما بقدر عالٍ من الطغيان الذي أصبح مكونًا عضويًا أصيلًا في بنية السياسة المصرية حتى اليوم والغد، بحيث أصبح من البداهة ألا تصير حاكمًا حقيقيًا لمصر دون أن تُنتج طبعتك الخاصة من الطغيان، طغيان وظيفي يسمح للحاكم بأمرَين وضع أساسهما محمد علي الباشا: الأمر الأول: أن يبقى الحاكم في السلطة ما دام على قيد الحياة، الأمر الثاني: أن يقبض بيد من حديد على كافة مفاصل ومفاتيح السلطة، ومعنى الأمرَين حكم فردي مطلق، مع عدة فوارق مهمة:

أولها: أن الطغيان في عهد الباشا وذريته- على مدى قرنٍ ونصفٍ – أي من مطلع القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين – هو طغيان ساذج ومبتدئ وضعيف، إذا قُورن بالطغيان اللاحق عليه، الطغيان الأعنف من دولة 23 يوليو 1952 م وحتى اليوم. وثانيهما: أن الباشا أسس جيشًا وطنيًا حديثًا أعفى مصر من الاعتماد على الجند المرتزِقة والعبيد المماليك من البيض كانوا أم السود، هذا الجيش هو الهيكل العظمي أو الشاسيه الحديدي أو التصميم الخرساني الذي قامت عليه واستندت إليه الدولة المصرية والمجتمع المصري والهُوية المصرية الحديثة .

وثالث هذه الفوارق: أن الباشا أسّس الجيش، لكن لم يحكم بالجيش، حكم حكمًا مدنيًا محضًا، الجيش فقط كان للقتال، لم يكن الجيش في عهد الباشا وذريته من بعده مؤسسة حكم ولا صانع قرار سواء في السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع، بل قرار الحرب والسلم ذاته لم يكن قرار الجيش، فقط كان قرار نخبة الحكم من المدنيين.

رابع هذه الفوارق: أن الجيش في عهد الباشا كان مثل غيره من جيوش القرن التاسع عشر في أوروبا مؤسسة محترفة يديرها المدنيون ولا تدير هي المدنيين.

مثقف متحرر

الجبرتي يختلف عن كل من جاؤوا بعده من رموز الثقافة المصرية في أنه جرّب مذاق الحياة في مناخ الحرية السلبية قبل أن يؤسس محمد علي باشا الاستبداد المطلق، الحرية السلبية التي عاشها الجبرتي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر لم تكن نتاج توازن فعَّال بين صلاحيات الحكم وحقوق المحكومين وحرياتهم، لم تكن نتاج حالة سياسية ناضجة ومستقرّة، لكن كانت نتاج أمرَين: سلطة هشّة غير مستقرة وغير قابضة على أزمّة الأمور، يقابلها طبقة حضرية مصرية في العواصم والبنادر تتشكل من جمهرة واسعة من التجار والعلماء والصوفية وأصحاب الحِرف والمهن، وكلما ازدادت هشاشة السلطة، ازدادت هوامش الحريات والحقوق ومساحات المناورة والحضور السياسي التي تستمتع بها وتستفيد منها الطبقات الحضرية الناشئة.

في مقدمة كتابه: " عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، حدَّد موقفه وموضعه وموقعه كمثقف مستقل متحرر من أي التزام أو طاعة تجاه أي سلطة سياسية، وهو كذلك – بالبداهة – تحرّر من أي مسعى للمنافع المادية والأدبية من وراء الكتابة، كذلك التحرر من أهواء النفس وميولها مع أو ضد هذا أو ذاك.

كتب يقول: " ولم أقصد بجمعه – يقصد الكتاب – خدمة ذي جاه كبير، أو طاعة وزير، أو طاعة أمير، ولم أداهن فيه دولةً بنفاق أو مدح أو ذم مباين للأخلاق، لميل نفساني، أو غرض جسماني، وأنا أستغفر الله من وصفي طريقًا لم أسلكه، وتجارتي برأس مال لم أملكه ".

عنف واستئصال

سجّل الجبرتي تاريخ السنوات الأولى من حكم محمد علي باشا من 1805 – 1822 م، حيث توقف عن الكتابة بعد أن لقي نجله مصرعه، ويُقال إن الباشا ذاته كان وراء مقتله، توقف عن الكتابة 1822 م حتى مات 1825م، وتبقى عظمته في أنه رصد حجم العنف الذي تأسست عليه الدولة الحديثة، وهو العنف الكامن في طبعها وتحت جلدها وعمق تكوينها، وهو العنف الذي تستدعيه الدولة الحديثة كلما احتاجت إليه واستلزمه أمر إعادة تثبيتها من جديد، إذا تعرّضت لهزة أو تعثرت في كبوة، هو العنف الذي ميّز وما زال يميز علاقاتها برعاياها أو مواطنيها.

في كتابه: " مصر في القرن الثامن عشر : دراسات في تاريخ الجبرتي "، يذكر محمود الشرقاوي 1909 – 1971م أنه " مما لا شك فيه، أنّ الباشا كان يعرف ما سجّله الجبرتي عن سيئاته ومساوئ حكمه، وأن الباشا جزع من ذلك، واستاء منه أكبر الاستياء، وقد أراد الباشا أن يرد على الجبرتي، من طريق غير مباشر، فطلب من شيخ الأزهر الشيخ محمد العروسي الذي تولى المشيخة بعد الشيخ الشنواني – هذا تمييز مهم؛ لأن والده كان شيخًا للأزهر، ثم نجله كذلك جاء شيخًا للأزهر، أي الجَد والأب والحفيد تولوا المشيخة – طلب محمد علي باشا من العروسي الأوسط أن يكلف أحد كبار العلماء بتأليف كتاب يعارض ما سجّله الجبرتي، فوقع التكليف على الشيخ خليل بن أحمد الرجبي الشافعي، الذي وضع كتابًا ملأه مدائح في محمد علي باشا والإشادة بذكره، وتوجد من هذا الكتاب نسخة خطية في دار الكتب المصرية تحت رقْم 585 تصنيف تاريخ".

بعد ذلك، وبالخبرة التي كسبها من طول المكث في الحكم، تعرف الباشا على وسائل البروباغندا الحديثة، واجتذب عشرات من الصحفيين والمؤرّخين والرحّالة والجواسيس الغربيين الذين نسجوا – بأمره – سردية عبقريته كمصلح للشرق على خطى الغرب أو نابليون الشرق، كما كان يطيب له أن يوصف، وهؤلاء نسجوا السردية كمثال وليست كواقع، كتجربة نجاح عبقرية في المطلق، لا كتجربة تأسست على العنف والاستئصال وإرهاق المصريين في تحقيق مطامح فردية.

التحرر من قيود السلطة

عاش الجبرتي عمره بين عامي 1753 – 1825 م، النصف الثاني من القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر، وهي فترة اتسمت بدرجة عالية من عدم الاستقرار، وصراعات السلطة في داخل نادي الحكم المملوكي المغلق، واستهزاء المماليك الجدد بالسلطنة العثمانية في إسطنبول، حيث نجحت مغامرة علي بك الكبير 1728 – 1773 م في الاستقلال بمصر والشام والحجاز واليمن والبحر الأحمر، وحيث تجرأ الفرنسيون لأول مرة منذ الحملة الصليبية السابعة 1250م بقيادة لويس التاسع 1214 – 1270م على غزو الشرق الإسلامي من مصر في حملة نابليون 1798م، وحيث دخلت مصر في حزام الصراعات الأوروبية بين الفرنسيين والإنجليز على الاستعمار والسيطرة على تجارة العالم غير الأوروبي مَن في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.

وحيث باتت السلطنة العثمانية رجل أوروبا المريض، وحيث تفتَّتت السلطة في مصر وشهدت عقودًا عدة من السيولة والاضطراب كثرت فيها مظالم الحكام رغم ضعفهم، وكثر فيها احتجاج الشعب بصورة غير مسبوقة وغير ملحوقة، حقبة طويلة من الاحتجاجات الشعبية لم يوقفها غير تمكن الباشا – بمساعدة أوروبا – من تأسيس سلطة مستبدة تملك أدوات السيطرة الحديثة، وفي مقدمتها العنف المنظم الممنهج المشروع، عنف الدولة الوطنية المقدسة.

امتاز الجبرتي بأنه وُلد في أعلى بيوت الأرستقراطية المصرية، والده الشيخ 1698 – 1774م كان من ألمع علماء الشرق سواء في مصر أو عموم الديار الإسلامية، جمع بين علوم الدين والطب والجبر والحساب والهندسة والموازين، بيته قِبلة لطلاب العلم يتوافدون عليه من كل الجهات بما في ذلك أوروبا، مكتبته من كبرى مكتبات الشرق، علاقاته واسعة بالأمراء المماليك في مصر والسلاطين العثمانيين في إسطنبول، ترك لولده ثروة ضخمة كانت سندًا له في التحرر من ربقة الحكام، فلم يبذل الجبرتي أيَّ جهد في التقرب من الحكام قبل أو بعد مجيء محمد علي باشا.

ظل متحررًا من أي قيد يربطه بالسلطة، واحتفظ – مع محمد علي باشا بالذات – بخصومة سياسية وفكرية حافظ عليها حتى مات، ولم يشارك صديقه الصدوق الشيخ حسن العطار 1766 – 1835م في التقرب من الباشا، حيث ألّف العطار كتابًا تقرب به للباشا وأهداه إليه وتولى مشيخة الأزهر، علمًا أنّ العطار جدير بالمشيخة لعلمه ونبوغه حتى لو لم يتقرب للحاكم.

ضرب الرموز الوطنية

كذلك، كان موقف الجبرتي، عندما انقلبت نخبة المشايخ ضد نقيب الأشراف عمر أفندي الأسيوطي الشهير في التاريخ بـ "عمر مكرم" 1750 – 1822 م تورّع الجبرتي أن يكون جزءًا من اللعبة الخسيسة، كانت الإطاحة بعمر مكرم بداية مشوار ممنهج من تخليع أسنان الطبقات الحضرية: العلماء والتجار والأشراف والصوفية وأهل الحِرف، الذين اكتسبوا خبرات النضال السياسي في العقود الأخيرة بين القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر، كانت الإطاحة بعمر مكرم تأسيسًا لواحدة من أخطر قواعد الطغيان في الدولة الحديثة : ضرب الرموز والقوى الشعبية والنخب بعضها ببعض عبر الترغيب والترهيب، ثم القضاء عليها جميعًا، هذه القاعدة معمول بها حتى اليوم والغد، وهي ضمان الحكَّام للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، ثم هي ضمان لهم من أجل الاستحواذ على أكبر قدر من السلطة المطلقة.

الوحيد الذي وقف موقف الجبرتي من الباشا هو صديقه المقرب الشيخ أحمد الطحطاوي، وهو تركي الأصل، كان شيخًا لفقهاء الحنفية، وقد استدعوه للتآمر على عمر مكرم، لكنه خاف الله وتورع، فكاد له المشايخ عند الباشا حتى عزلوه عن مشيخة الحنفية، ثم أعاده الباشا للمشيخة في وقت لاحق.

الجبرتي سبق منظمات حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني في رصد المظالم الاجتماعيَّة باعتبارها انتهاكًا لحقوق الإنسان. كما سبق المدارس التاريخية الحديثة في التركيز على التاريخ الاجتماعي قبل التركيز على التاريخ السياسي. هذه وتلك، هي جوهر الروح النضالية التي اتّصف بها الجبرتي كمثقف وكاتب ومؤرخ.

وهذا مقال الخميس المقبل بمشيئة الله تعالى.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القرن الثامن عشر محمد علی باشا التاسع عشر حتى الیوم من القرن فی مصر

إقرأ أيضاً:

عن حرب الكذبة والفجار (لعنة الكيزان)!!

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم

ما يحدث من معارك دامية في الخرطوم، بعد تحول الجيش من الدفاع للهجوم، فتح الباب امام المعلومات المتضاربة من انصار كلا الجانبين. خاصة مع تحكم وسائل التواصل الاجتماعي في المشهد الاعلامي، وغياب مصادر محايدة وموثوقة، وصمت كلا الجانبين الرسميين عن الادلاء باي معلومات فيما يدور من معارك ضارية او سيطرة جديدة او خسائر مادية ناهيك عن البشرية، وكانهما يخجلان من حقيقة هذه الحرب القذرة.
والحال ان هذه الضبابية التي تحكم سير المعارك، وتضارُب المعلومات حول وجهتها، تندرج ضمن نهج شامل سابق علي الحرب، ويتصل بتغييب الحقائق ونشر الاكاذيب. اما ما جعل تغييب الحقائق في هذه الحرب يتعدي ما هو متعارف عليه في الحروب كجزء من استراتيجياتها وتكتيكاتها، ان كلاهما مجرد ادوات اجرامية. وعموما هنالك عدد من الاسباب جعلت هكذا نهجٍ ملتوٍ يتوهج في هذه الحرب حتي كاد يخسف بالابصار، ومنها:
اولا، ان الدافع الاساس لهذه الحرب هو السلطة العضوض وما تتيحه من فرص لاستباحة موارد البلاد، وقطع الطريق علي تطورها، عبر ضرب تماسكها الاجتماعي، وسحق وتشتيت طبقتها الوسطي وما تحمله من امكانات ادارية ومهنية وتنموية، وتشويه سمعة كياناتها السياسية كتمهيد لعسكرة السلطة.
ثانيا، قذارة الدوافع وتعارضها مع مصالح البلاد والعباد العليا، جعل من يدعمها من الخارج (الامارات) والداخل (الكيزان)، مجبرون علي التمويه ونشر الاكاذيب.
ثالثا، عدم الاكتراث لما يصيب المواطنون من هلاك والبنية التحية من دمار، بعد ان تحولا الي مجرد وسائل لاطماعٍ عمياء. وهو ما يحتاج لغطاءٍ كثيف من الاكاذيب والمغالطات لتبريرها! بل تعدي الامر للتضحية بالجنود البسطاء والضباط الصغار والحواضن الاجتماعية، الذين تنخفض قيمتهم بقدر تصاعد طموحات القادة، وشدة تمسكهم ودفاعهم عن مصالحهم الخاصة.
رابعا، وهو الاهم، صدور كلا الطرفين المتقاتلين من مرجعية واحدة، لا يصدف انها مأزومة ومتفسخة ومنحلة. والمقصود بالطبع المرجعية الاسلاموية الترابوية، التي تقدس السلطة والثروة ويستهويها التسلط والاستكبار، كمتلازمة لوهم التميُّز والسيادة. ومعلوم ان ذات المرجعية درجت علي اعتبار الاكاذيب وسيلة مشروعة لنيل كل المطالب غير المشروعة. وان رفع الشعارات العاطفية الفارغة ينوب عن طرح البرامج الموضوعية والاعمال الجادة والمثمرة علي الارض.
وذات الامر ينطبق علي معاملة السلطة كآلِه، تقدم لها كل القرابيين وتوظف لاجلها جل الموارد. مما يضفي علي اكاذيبها مسحة مقدسة، يؤثم كل من يشكك في ترهاتها او ينكر اباطيلها. اي كونها صادرة عن سلطة مقدسة فهي صادق حتما وان تبناها مسيلمة الكذاب! وذلك رغم ان السبب الاساس في تزويد السلطة بمخالب مسلحة وتسيجها بالارهاب وتبرير نهبها للاموال، ليس قداستها وانما غياب شرعيتها كواقعة فاقعة يصعب اخفاءها، ولو بضحكة مستهترة من ضحكات الترابي المعهودة، او بصناعة دولة ومؤسسات بالتزوير (قصر جمهوري وبرلمان وانتخابات وقضاء وجيش وجامعات وسفارات..الخ).
خامسا، مع انهيار مؤسسات الدولة والقيم والاعراف والنظم الضابطة لعملها، سادت الفوضي والسبهللية وتمرير المصالح الخاصة، كاسلوب عمل يتحكم في اداء تلك المؤسسات. وهذا الامر طال فيما طال اجهزة الاعلام والمؤسسة العسكرية، لنحصل علي اسماء من غير مسميات (مضمون). اي لها فضاءها الخاص الذي تشتغل فيه، ومظهرها العام الذي تتظاهر به امام العامة. وبصفة خاصة تلبية طلبات ما يطلبه الجمهور من دعاية وحماس و(نوم علي مخدات الطرب)! لتصبح دعاية وتطمينات وانجازات السلطة المستبدة، هي افيون الشعب وليس الدين كما نسب لماركس.
والمفارقة ان هذا الامر اكثر ما ينطبق علي الدكتاتور نفسه، وهو يلقي الكلام علي عواهنه ويهدد الخونة والعملاء ويشكو من الاستهداف الخارجي ..الخ من خطرفات. وبصفة عامة الحديث في كل شئ دون قول شئ نافع! وطالما رب الدولة للدف ضارب، فطبيعي ان تنسحب اكاذيبه علي مجمل اداء الدولة، لتتظاهر بعمل كل شئ دون ان تقوم بعمل صالح او تقدم ما ينفع الناس. وهذه المسافة ما بين الاقوال والوعود الكثيرة والانجازات القليلة، تشكل اخصب بيئة للاكاذيب والدعايات وبيع الاوهام في سوق المحرومين.
وعموما ليس هنالك ادل علي خواء الرتب والخبرة والعلم والمعرفة وكل ما يمت لدولة الكيزان بصلة، مما يسمي خبراء عسكريون! والذين احرجوا السودانيين في كل بقاع الارض، واثاروا سخرية المشاهدين في العالم العربي، من ضالحة تفكيرهم وعقم معرفتهم، واسلوبهم المتفرعن في الحديث، والعنجهية المعهودة تجاه المدنيين. والحال كذلك، لماذا لا يتصدر المشهد السلطوي الفاقد التربوي والمهني (حميدتي والبرهان)، ومن ثمَّ يتحكمون في مصير البلاد والعباد، وينحطون بهما الي اسفل سافلين، وبعد ذلك يطمعون في المزيد؟!
سادسا، مع كثرة الاكاذيب واستمراءها، تتحول الي نوع من الجرأة علي الانكار والمغالطات والتزييف، التي بمقدورها قلب الليل الي نهار وإخراج الشمس من مغربها! اي يتعدي الامر التعامل معها كحقائق لا ياتيها الباطل، الي اجبار الآخرين علي تصديقها، وإلا لهم الويل والثبور!
سابعا، ادت هذه الاكاذيب والمغالطات والتلاعب بالقيم، الي ابتذال كل ما هو حق وخير وجمال، بعد ان تطاول عليها هؤلاء الاقزام. لنشهد شفافية في الغموض والمرواغة، ووطنية هي الخيانة والعمالة عينها، واعمال خير تسغل للنهب والفساد..الخ من فعائل يستنكرها الشيطان. والاسوأ من ذلك تمارس في سياق آخر ولكنه موازٍ، جهود مضنية لتغبيش الوعي وامتهان الذاكرة الجمعية والتنصل من المسؤولية والافتئات علي الحقائق واتهام الآخرين بجرائم هم مرتكبوه! والحرب الدائرة الآن خير دليل وبرهان علي ذلك. فرغم ان الكيزان وقيادة الجيش هم من صنع مليشيا الجنجويد ورعاها وتستر علي جرائمها، يحاولون اليوم الصاق الجرم بالحرية والتغيير! وكذلك رغم ان الكيزان هم من يرفضون التفاوض والحلول السلمية، ويزايدون بالكرامة والوطنية، ويراهنون علي الحسم العسكري رغم انف ميزان القوي المختل، إلا انهم يصرون علي ان (تقدم) هي من يؤجج نيران الحرب بدعم المليشيا! بل وبعد ان سلم قادة الجيش بتواطؤ مع كامل المؤسسة، العاصمة برمزيتها السيادية ومركزيتها لكل البلاد، للمليشيا تسليم استسلام، ياتون وبعد عام ونصف من الحرب المدمرة لتحريرها كما يزعمون! وكذلك بعد انسحابهم المحير من ولاية الجزيرة وغيرها من الولايات والحاميات دون مسوغات واضحة، يتحدثون بكل بجاحة عن تخليص البلاد من دنس المليشيا ولو بعد مائة عام وفناء كامل الشعب! فمن يصدق كل هذه الاكاذيب والبلاهة ان لم يكن هو نفسه مغرر به وابله؟!
ثامنا، ونسبة للمكاسب المجانية التي تدرها الاكاذيب، في ظل سلطة كاذبة كسلطة الاسلامويين، تحوَّل الكذب الي نمط حياة طوال فترة حكم الانبياء الكذبة! لدرجة اصبح الحال هو كذب الكل للكل، الرئيس للجميع، ومن حول الرئيس للرئيس، ومن داخل الاسرة الي المجتمع ككل (سطوة المظاهر). ومن الانشطة المجتمعية لكل انشطة الدولة (سطوة الدعاية). بل يصح القول ان الدولة نفسها اصبحت اكبر مضخة لنشر لاكاذيب والاوهام والانجازات المضروبة. اما ان تصل الاكاذيب والتلاعب والاستهتار الي المساس بالامن القومي، لدرجة رعاية المليشيات ارضاء لاوهام واطماع القيادات، فهذه هي الحالقة التي الحقت البلاد ب(امات طه)!
تاسعا، بما ان مليشيا الجنجويد هم الثمرة السامة للكيزان، فهي تحتوي خلاصة اكاذيبهم ومغالطاتهم وشرورهم، وهذا ما ظهر جليا في شكل الخراب الذي الحقوه بالدولة والجرائم والنهب والانتهاكات التي اقترفوها في حق الابرياء من غير رحمة. بل بمجرد دخولها اي منطقة، تختفي مباشرة كل مظاهر الحياة المدنية، ويختفي مجرد وجود للحياة الطبيعية في ابسط مظاهرها، كتوفر الخدمات الاساسية وعلي راسها اكل العيش. ورغم ذلك يتحدثون بكل وقاحة عن الدولة المدنية والديمقراطية ودولة 56 والقضاء علي الفلول..الخ من الترهات والاكاذيب المفضوحة. والحال كذلك، الفارق بين الكيزان والجنجويد، ان الكيزان يجترحون الشعارات البراقة لخداع البسطاء كوسيلة للسيطرة عليهم ونهبهم برضاهم. اما الجنجويد كتجمع مرتزقة منبت الاصل والجذور اقلاه من جهة التقيد باعراف المجتمع، فانهم يسطون ككل الرباطة علي الشعارات والمقولات والاطروحات المطروحة في الساحة كيفما اتفق، للحصول علي هوية في المجتمع ودور في الدولة وموضع قدم في السياسة ومبرر للسيطرة علي السلطة من غير وجه حق.
المهم، واحدة من مآسي الحكم الديني كحكم الكيزان، هو حالة الانفصام والعيش في الاوهام التي تتلبس اصحابه، وتاليا العجز عن الفصل بين الواقع والممكن والمتاح، وبين التصورات والافكار المجردة، والصادرة غالبا عن الهذيان والعقد والشذوذ. والحال كذلك، تشكل الشطحات منطلق للقيادة، والرغبات مقود الافراد والدولة، والاستجابة لنداء الشهوة مقدم علي كل الفروض. لتتحول السلطة عمليا الي بلدوزر يسوي كل العقبات (نظم تشريعات مؤسسات لوائح قوانين اعراف مجتمعية) لجعل الارض مستوية، لافساح المجال لرفاه الاسلامويين وانصارهم، عبر تجيير موارد الدولة لصالحهم حصريا. اما عاقبة ذلك عمليا، فهو تحطيم الدولة وتدهور الخدمات وتردي حياة العامة.
وللاسف بعد ثلاثة عقود من الحكم الاعتباطي وحياة الدلال التي عاشها الاسلامويون، اصبح الفطام من هذه الحياة المترفة في حكم المستحيل. بل كل عقبة تقف امامهم يتوهمون القدرة علي التقلب عليها مهما كانت مستحيلة، وان قاد ذلك لاذاعة الاكاذيب والاحلام وتصديقها، وتقديم كل قطاعات الشعب وتماسك الدولة ككباش فداءٍ لها! وساعدهم علي ذلك عاملان، اولهما، استثمارهما في حماية نظامهما بكل السبل وبما فيها القذرة والغبية منها، مع توافر من هم علي استعداد لمشاركتهم حماية النظام نظير مكاسب مادية ومهنية واجتماعية. اما العامل الآخر فهو اكثر حساسية وجذرية، لصلته بالحديث باسم الإله، والذي عاجلا او آجلا يجعل من يتحدث باسمه ينتحل صفاته وقدراته. اي يطلق الاطلاق علي كل شئ، من السلطة المطلقة الي القدرة المطلقة وانتهاءً بالبقاء المطلق (الي الابد)، لذلك ليس مستغرب حديث نافع عن تسليمها للمسيح.
وعليه، يبدو ان الكيزان الذين تربوا في احضان تصورات مطلقة وشعارات مزيفة وقيم مهترئة واصرار علي المضي في هذا الطريق المهلك مهما كلف الامر. هو نفسه ما جعلهم يسيئون ادارة الدولة ويتآمرون علي الثورة، ويخوضون هذه الحرب بقدرات متدنية وتطلعات وطموحات بعيدة عن الواقع، غض النظر عن حجم الخسائر وما تعرضه من مخاطر علي سلامة الشعب وبقاء الدولة.
وما يحير ان الكيزان الذين يخوضون حرب عدمية من اجل السلطة، دامت لهم السلطة المطلقة لمدة ثلاثة عقود ويزيد، فماذا فعلوا بها غير اساءة استغلالها حتي يطالبوا بالمزيد؟! وكذلك توفرت لهم كل موارد الدولة، فماذا فعلوا بها سوي تجييش الجيوش ورعاية المليشيات واجهزة الامن والمخابرات، وحياة الترف والبهرجة، ولم يتركوا لبقية الشعب إلا الجوع والمسغبة. فلماذا بعد كل ذلك يطالبون بالمزيد؟!
ومعلوم ان الكيزان بدل الفرصة أُتيحت لهم العشرات من الفرص، لاجراء مراجعات عن تجربتهم والاعتذار عن الاخطاء وارجاع المنهوبات، ودفع ثمن ما اقترفوه من جرائم وانتهاكات في حق الشعب حتي تصح توبتهم نصوحا. ولكن المعضلة ان المراجعة او التوبة تمر بالتحلل من هذه المنظومة، اي لفظها بوصفها علة او مرض وليس وصفة علاجية.
لكل ذلك ليس هنالك من خطوة جادة لايقاف هذه المحرقة قبل ان تطال كل البلاد، غير تخلُص الكيزان من اوهامهم واطماعهم. وبما ان ذلك صعب صعوبة تخليهم عن مبررات وجودهم. فعليه، ليس هنالك من مخرج سوي فك الجيش الارتباط مع الكيزان، كخطوة اساسية لتخلي الجيش عن اوهامه واطماعه التي تعشش داخل هذه المؤسسة، ومن ثمَّ معاينة الواقع كما هو. اي اعادة تقييم لقدرة الجيش واداءه منذ اندلاع هذه الحرب، بل حتي ما قبلها، بل منذ تاسيسه. ومهما كانت نتيجة هذا التقييم فلابد من البحث الجاد عن كل الخيارات والفرص لايقاف هذه الحرب العدمية باي ثمن، اي بوصفها كارثة وخراب وخسائر يدفع ثمنها المواطنون والجنود والبلاد بصفة عامة.
اما اذا عجز الجيش عن القيام بهكذا واجب عاجل، لارتباطات متينة بالاسلامويين ومليشياتهم، فلا سبيل عندها من قبول الاسلامويين علي مضض، بل وتقديم حوافز تعينهم علي ايقاف هذه الحرب اللعينة التي تنذر بالقضاء علي كل شئ. اي اذا كان الامر مقايضة بين مشاركة الاسلامويين في السلطة وبقاء الدولة، او رفضهم وضياع الدولة، فمرحبا بمشاركتهم. ومن ثمَّ فرض الرقابة عليهم، مثل اي مدمن لا سبيل لضبطه الا باحكام الرقابة عليه.
وبطبيعة الحال، ما ينطبق علي الاسلامويين ينطبق علي المليشيا بصورة مضاعفة. اي كمجموعة عدمية، ضعيفة الانتماء للوطن وانسانه، ولذلك لا تستحي من عمالتها للخارج، كما انها لا تتقن شيئا سوي القتل والسلب والنهب والتخريب ونشر الفوضي. والحال كذلك، يظل مجرد وجودها تهديد لوجود الدولة باستمرار، وذلك للتناقض البنيوي والوظيفي بينهما. وهو ما يجعل مقاربة الوصول معها لاتفاق لايقاف الحرب في غاية الصعوبة، كما ان الالتزام بما يتم الاتفاق عليه، اذا ما كنا محظوظين وحدث اتفاق، فهو كذلك سيعاني صعاب ليس لها حصر. وكل هذا يقول شيئا محددا، وهو اننا نعيش معضلة وجودية مغلقة كالضمنة، بقدر ما تستنزف طاقة الدولة وارواح مواطنيها. وهو ما يجعل بدوره مطلب التدخل الخارجي (منظمة الامم المتحدة ووكالاتها) ليس ترف، وانما قلة حيلة من اوضاع يسيطر عليها السلاح المنفلت والقادة الجهلاء والدمار الشامل واطماع تحاصرنا من كل اتجاه. اما المضحك والمبكي في آن، فهو خوف البعض من التدخلات الخارجية، اكثر من الخوف علي البلاد وهي في طريقها للهاوية، هارسة لضلوع الاطفال ومريقة لدماء الضحايا.
آخر الكلام
ما يحدث لحماس وحزب الله يُظهر وكأن هنالك توجه للخلاص من كل المليشيات والكيانات الاسلاموية. واذا صح ذلك، ما المانع ان جزء من اغراض حربنا الكارثية المدعومة اقليميا، الخلاص من الاسلامويين، وعندها الجيش والشعب يروحان في الرجلين. خاصة وان سوء الحظ والتعاسة بقدر ما هي ملازمة لهذا الكيان المسمي السودان بشعبه الشقي، بقدر ما حسن الحظ وكل الظروف (التآمر) تخدم الانقلابيين والملعون حميدتي ومليشياته الهمجية. ولسان حالها يردد مع حميد (آخ من حظك يا الجابرية، سابع جامع وبالجبرية!). او (يا ام قلبا حار ينبر فينا، ما عدا صباح من ها المينا، كد الكداح شايلة سفينة، والناس عوجات تحرس ترجا، ترجعبوا سلاح وانوار زينة). تبا لكم كيزان دعامة بن زايد وكل شيطان رجيم يدعم هذه المقتلة. ودمتم في رعاية الله.  

مقالات مشابهة

  • الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية: الأزهر هو المكون الفكري الذي يسير على منهاج الوسطية
  • الشعبوية والوعود الاقتصادية المكسورة
  • الجماعة الإسلامية في لبنان تنعى قائدها دحروج الذي استهدفه الاحتلال (شاهد)
  • سوسن بدر تظهر بفستان عروسة في شوارع طنطا.. ما السر؟
  • عن حرب الكذبة والفجار (لعنة الكيزان)!!
  • الشاعر المفكر الذي غادرعلى أجنحة الهوية
  • من هو محمد المكي إبراهيم الذي تصدر جوجل بخبر وفاته؟
  • اللقاء الذي غير كل شيء.. بريهان تصطدم بحقيقة أكرم في الحلقة 12 من برغم القانون
  • بسبب فيلم بنات الباشا.. أهالي طنطا يحتشدون حول زينة (فيديو)
  • عن الذي يبسط كفيه إلى السيسي ليبلغ رضاه وما هو ببالغه