منية مازيغ.. تونسية في مواجهة الإسلاموفوبيا بكندا
تاريخ النشر: 18th, July 2023 GMT
أوتاوا- صدر للأكاديمية والكاتبة الكندية من أصل تونسي منية مازيغ مؤخرا كتاب "الإسلاموفوبيا بين الجنسين.. رحلتي مع الحجاب" (Gendered Islamophobia My Journey With a Scarf) باللغة الإنجليزية عن دار ماونزي الكندية للنشر.
وترصد المهاجرة التونسية في الكتاب، ومن خلال قصتها الشخصية، معاناة كثير من المسلمات المهاجرات في كندا مع مظاهر العنصرية والاضطهاد بسبب الدين واللون والعرق والطبقة الاجتماعية.
ولدت منية ونشأت في تونس، وهاجرت إلى كندا عام 1991. وصدر أول كتاب لها عام 2008 بعنوان "الأمل واليأس" (Hope and Despair) وهو يحكي قصة ترحيل زوجها "ماهر عرار" المواطن الكندي من أصول سورية إلى سوريا في إطار سياسة "الحرب على الإرهاب" عام 2002، والتي تبناها الغرب بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، حيث تم تعذيبه واحتجازه بدون تهمة لأكثر من عام، قبل أن يتم الإفراج عنه لاحقا، لكنها خاضت معركة وحملة إعلامية مؤثرة للإفراج عنه ومحاولة إظهار الصورة الصحيحة عنه بعد حملات تشويه السمعة التي طالته بعد هذا الحادث.
في يناير/كانون الثاني 2007، وبعد تحقيق طويل، تلقى زوجها أخيرًا اعتذارًا من الحكومة الكندية وتم تقديم تعويض عن "تجربة فظيعة" تعرضت لها عائلته.
رحلة أكاديميةتجيد منية العربية والفرنسية والإنجليزية بطلاقة، وتحمل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة ماكغيل. وعملت في جامعة أوتاوا وتدرس في عدد من الجامعات الكندية.
وعام 2004، شاركت بالانتخابات الفدرالية مرشحة لحزب الديمقراطيين الجدد "إن دي بي" (NDB) وحصلت على أعلى عدد من الأصوات بدائرتها الانتخابية في تاريخ الحزب.
منية مازيغ وزوجها ماهر عرار (غلوب أندميل)عام 2014، نُشرت روايتها الأولى "المرايا والسراب" عن دار أنانسي. وتم ترشيحها لجائزة كتاب مدينة أوتاوا وجائزة تريليوم بالنسخة الأصلية الفرنسية. وعام 2017، نُشرت روايتها الثانية "الأمل لديه ابنتان" عن دار أنانسي، وتم ترشيحها لجائزة شامبلين للكتاب.
وتحارب منية -من خلال صفحات كتابها الأخير- الصورة النمطية عن المسلمات بأن سبب ارتدائهن الحجاب يؤكد اضطهادهن من قبل المجتمع والزوج الذي يجبرها على ارتدائه.
وتحكي قصة نشأتها في تونس وقرارها ارتداء الحجاب عام 1990، حيث إن المجتمع هناك ذلك الوقت لم يكن يرحب بارتداء للنساء للحجاب.
وواجهت منية رد فعل غريب من أبيها حين رآها ترتدي الحجاب لأول مرة، حيث كانت في طريقها للسوق لتشتري بعض الاحتياجات التي طلبتها منها والدتها، وسألها والدها المتدين في دهشة: لماذا ترتدي الحجاب؟ فقالت: لأني أريد ذلك.
الحجاب في تونستقول منية "لم يتدخل أبي أبدا في طريقة لبسي رغم تدينه، وأيضا لم ينعكس ذلك التدين على طريقة تعامله مع أمي أو أخي، ولم يحاول أبدا فرض رؤيته الدينية علينا" مشيرة إلى أنه طلب منها بعد ذلك أكثر من مرة خلعه حتى لا تبدو بالمظهر المحافظ الذي كان مرفوضا حينها.
وتواصل منية بين دفتي كتابها سرد أشكال العنصرية والتمييز الذي مورس ضدها، في الإعلام والعمل ووسائل المواصلات وأيضا السياسة.
وتشير في كتابها إلى القانون الذي سنته مقاطعة "كيبيك" مؤخرا لمنع جميع أشكال المظاهر الدينية ب المؤسسات والخدمات العامة والذي كانت المسلمات أكثر المتضررات منه، وتم عزل عدد من المدرسات بمدارس كيبيك وعدد من الموظفات في الأماكن العامة بسبب هذا القانون "العنصري" من قبل المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان في كندا.
يُذكر أن الحكومة الكندية عينت، في يناير/كانون الثاني 2023، أول ممثلة خاصة معنية بمكافحة الإسلاموفوبيا (كراهية الإسلام) وهو منصب استُحدث بعد سلسلة هجمات استهدفت المسلمين مؤخرا في البلاد.
وتشغل هذا المنصب الصحفية والناشطة أميرة الجوابي "لتكون مناصرة ومستشارة وخبيرة وممثلة" لدعم وتعزيز جهود الحكومة الفدرالية في مكافحة الإسلاموفوبيا والعنصرية المنهجية والتمييز العنصري وعدم التسامح الديني.
ويبلغ عدد مسلمي كندا أكثر من مليون، وهو ما يشكل 3.2% من عدد السكان الكلي الذي يبلغ حوالي 38 مليون نسمة.
وقد أدت الحوادث المروعة -التي تعرض لها المسلمون في كندا خلال السنوات الأخيرة- إلى ظهور كثير من القصص والسرديات والأنشطة المجتمعية التي تستهدف المزيد من إلقاء الضوء على ظاهرة الإسلاموفوبيا بالغرب وخاصة الموجهة ضد النساء كمسلمات بسبب ارتدائهن الحجاب أو النقاب.
وتواجه المسلمات في الغرب تحديات مرتبطة بمظهرهن الخارجي وخاصة ارتدائهن الحجاب. تلك التحديات تؤثر بالسلب على اندماجهن في المجتمع وخاصة في الفضاء العام: العمل، المدرسة أو الجامعة، الأسواق وغيرها.
منية مازيغ (موقع مهرجان وينينبغ الدولي للكتاب) عائلة أفضالكانت الحادثة الأكثر قسوة التي اهتز لها المجتمع الكندي بشكل عام والمجتمعات المسلمة هي قيام شاب كندي أبيض -صيف 2021- بدهس أسرة أفضال الكندية المسلمة ومن أصول باكستانية والمكونة من 5 أفراد ، وذلك أثناء ممارستهم للمشي اليومي، كما كان حال الكثير من الأسر الكندية خلال كوفيد-19. وأدى الحدث لمقتل 4 من أفراد الأسرة وإصابة أصغر أفراد الأسرة بجروح بالغة.
ووصفت تقارير الشرطة الكندية هذا الحادث بأنه يقع ضمن جرائم الكراهية التي تمارس ضد الأقليات العرقية والدينية بكندا، وأن هذا الحادث يقع ضمن ما يسمى جرائم "كراهية الإسلام" أو الإسلاموفوبيا، خاصة أن اثنتين من أفراد الأسرة كانتا ترتديان الحجاب وهو ما سهل استهدافها.
كما أظهرت تقارير قضائية بعد ذلك أن الشاب القاتل متورط في أنشطة مرتبطة بمجموعات "التفوق الأبيض" المتطرفة المنتشرة في الغرب.
وقبل 4 سنوات، قتل 6 مسلمين وأصيب 5 بجروح في اعتداء على مسجد بمدينة كيبيك.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: عدد من
إقرأ أيضاً:
دمشق التي تغادر زمن الوجع والمرارة
ما من مدينة أكثر أهمية إذا أردنا قراءة سمات النهوض والتطور من العاصمة السورية دمشق، فقد بقيت تستقطب على الدوام اهتمام الآخر، وعندما يتطلع المرء إليها فإنه يتطلع في الحقيقة إلى أصول الدنيا.
ويُجمع المؤرخون على أن الحياة دبت في دمشق وتواصلت دون انقطاع منذ الألف الثاني قبل الميلاد وازدهرت وتطورت، وأصبحت ملتقى القوافل التجارية الآتية من الجزيرة العربية وأفريقيا الشرقية والأناضول وآسيا الوسطى ومفترق الطرق القادمة من الهند والصين ومحطة رئيسية على طريق الحرير القديم.
وأسهم تعاقب الحضارات على أرضها في تنامي المظاهر الاجتماعية وتعدد دور العبادة وتطور نموذج السلطة الحاكمة، وعبّرت جميعها عن وجود شكل مبكر لحياة مدنية ذات بعد إنساني وصبغة روحانية اشتهرت بها المنطقة.
ومثلما سمحت قدراتها على لعب أدوار متقدمة كمدينة مركز وعاصمة قومية باتت في فترات مختلفة مسرحا لتجاذبات أممية على جانب من الأهمية جعلتها تخضع لامتحانات صعبة في الحرب والسلام دفعت أثمانها غاليا، لكنها نجحت في تجاوز تحدياتها مع مرور الوقت.
ومع ذلك، لم تكن دمشق بمنأى عن لعبة الموت على مر العصور، فقد تعمدت بالدم منذ آماد بعيدة، كما تعرضت للخراب والدمار مرات عديدة، واختفت ورودها وأزهارها، وتعفر ربيعها بسنابك خيول ملوك بيزنطة وقواد الحملات الصليبية ومصفحات ومدافع الجيوش الفرنسية، وأخيرا بدبابات البعث وطائرات وصواريخ عائلة الأسد التي حكمت سوريا منذ عام 1970 حتى سقوطها في ديسمبر/كانون الأول 2024.
إعلان مدينة مليئة بالمسرات والمتعارتبطت دمشق طبيعيا بنهر بردى الذي ينبع من سهول الزبداني على بعد 50 كيلومترا من المركز، وقد ألهبت مياهه التي تسقي ما يصطف على ضفتيه من بساتين مشاعر الكثير من أدباء الغرب ومستشرقيه ممن زاروها.
وطوقتها بساتين وهضاب طبيعية، وأضافت إليها الحدائق وأفرع النهر مشهدا خلابا، مما دفع المؤرخ الطبري إلى أن يعتبرها أحد الأماكن الأربعة في العالم المليئة بالمسرات والمتع، في حين نظر إليها الفرنسي بيير ديلفيل هيلبير كمعجزة، ومعجزتها في الغوطة، هذه الواحة الواسعة والملاذ الظليل.
روح الشرقدخلت المسيحية دمشق في زمن بولس الرسول، وبحسب سفر أعمال الرسل دُعي المؤمنون بالمسيح، مسيحيون لأول مرة في أنطاكيا عاصمة البلاد آنذاك، وأقام في مدنها عدد من الرسل الـ70 الذين عينهم يسوع بحسب إنجيل لوقا، وكان من أبرزهم حنانيا الذي غدا أسقف دمشق.
وفي أواخر العقد الرابع من القرن السادس الميلادي وصلها الإسلام على يد أبي عبيدة بن الجراح، وعيّن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان واليا عليها، وعقب وفاته حل مكانه معاوية، وخلال فترة وجيزة انفردت دمشق بقيادة الدولة الإسلامية، وأصبحت عاصمة إمبراطورية مترامية الأطراف امتدت حدودها من جنوب الصين إلى إسبانيا والجنوب الفرنسي.
وسوف يمنحك تجاور المساجد والكنائس في الحواري القديمة وتمازج أصوات الأذان الشجية من شرفات المآذن مع أصوات أجراس النواقيس بإيقاعاتها المؤثرة انطباعا قويا عن عاصمة بقيت وفية لتقاليدها رغم تطورها المدني والحداثي.
فقد حافظت الشام على التآخي وأصول العيش المشترك بين أديان ومذاهب احتضنت بعضها البعض ضمن نسيج متماسك، خيط من أصول واحدة.
وتماهت العلاقة بين المسيحية والإسلام داخل أحياء وحارات متعددة، لم تكن تفرق في يوم من الأيام بين دين وآخر، ليس فقط على مستوى الجوار، بل على مستوى السلطة والحياة السياسية الوطنية في البلاد.
إعلانوفي هذا الصدد، تروي الصحفية الفرنسية أليس بوللو في يومياتها كيف حاول الفرنسيون إحداث شرخ بين السكان المسلمين وجيرانهم المسيحيين أثناء ثورة عام 1925 عبر بث الإشاعات لإحداث صدع داخل الجبهة المدنية الدمشقية، قائلة "وعلى الفور تلقى غبطة بطريرك الروم الأرثوذكس كتابا من قيادة الثورة يطمئنه بعدم صحة الإشاعات، ويتعهد له على لسان سلطان باشا الأطرش قائد الثورة بأن لا خوف ولا خطر على المسيحيين من الثورة الوطنية، فهي لا تقصد إيذاءهم أو ترمي إلى إساءة معاملتهم بأي حال".
ومن الواضح أن العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط سكان حي باب توما- القصاع أكبر الأحياء المسيحية في دمشق بجيرانهم المسلمين -على سبيل المثال- تتجاوز حدود الجيرة في كثير من الأحيان، لتبدو أقرب إلى علاقة روحية تجسد مفهوم العائلة بمنطق القيم الأخلاقية والعرف والتقاليد.
فقد كانت المسيحية والإسلام وجهين لعقيدة لم ينظر الدمشقيون إليها إلا من خلال مصدر إلهي واحد حض أتباع كل ديانة على الرحمة والتآخي ورهافة القلب.
وزاد الإسلام حين جعل الاعتقاد بالأنبياء ونبوتهم جانبا مكملا للإيمان وشرطا من شروط صحته، وخص عيسى وأمه مريم بمكانة يدرك المسيحيون أنهم لم يألفوا ما يماثلها في أي معتقدات أخرى.
وبقيت المدينة متمسكة بتراثها الديني والإنساني، وحافظت على الروحانية التي تتمتع بها رغم الحروب والمآسي، إذ صنعت من أوجاعها صورة مشرقة لطالما هزت مشاعر الذين لا يعرفونها عن قرب، كما ترجمت بتسامحها روح الشرق، تلك الروح التي كثيرا ما عبرت عن ارتباطها بقوة عليا وانجذابها العاطفي نحو الخير والجمال والمعرفة.
المدينة المقدسةتقلدت دمشق قلادة العروبة في وقت مبكر، وحين كان ينظر إليها كعاصمة حكمت جنوب المتوسط تحت راية الخلافة ومنبع تفاعل الفكر والعلم ومدينة مقدسة تضم تربتها آثار عشرات الرسل والأنبياء مكث فيها المسيح مع أمه، ودخلها القديس يوحنا المعمدان، وغدت المكان الذي وصلته كلمة الله قبل أي مكان آخر، وكان ينظر إليها بمثابة مركز إشعاع قومي شهدت أرضها أولى خفقات العروبة وتجلياتها.
إعلانوعلى هذه الخلفية تواصل استهدافها، وبقيت محط أطماع الشرق والغرب، وقطعة الجبن التي يسيل لها اللعاب كلما داعبت نوازع الشر توجهات المال والسياسة.
لقد حاول الصليبيون احتلالها بعد أن استولوا على القدس لكنهم فشلوا، واستطاع عماد الدين زنكي أن يؤسس في تلك المرحلة مع ابنه نور الدين لزمن استعادت العاصمة السورية فيه مجدها وتألقت ونهضت علومها وإبداعاتها.
ثم تابع الأيوبيون ما أنجزته الأسرة الزنكية، وبرز نجم صلاح الدين الأيوبي باعتباره قائدا ومحاربا من طراز رفيع حكم بلاد الشام ومصر وحرر القدس، وتمكن من بعده الظاهر بيبرس القائد المملوكي من تحرير أنطاكيا وطرابلس وعكا، مسدلا بذلك الستارة على ما عرف بالعصر الصليبي، عصر التوحش والدماء.
دمشق تنافس إسطنبولحافظت دمشق على تألقها كمركز ولايات ثلاث خلال فترة الحكم العثماني لبلاد الشام بعد أن دخلها السلطان سليم في 27 سبتمبر/أيلول 1516 عقب انتصاره على سلطان المماليك قانصوه الغوري في معركة مرج دابق شمالي حلب.
وتؤكد الوثائق العربية والعثمانية ارتباط شمال جبال طوروس بجنوبها بعلاقات طيبة بعد أن أصبحت إسطنبول مقرا لخلافة الإسلام، وكان من الواجب على المسلمين أن يرتبطوا بسلطة أمير المؤمنين أو الخليفة دون تردد أو انتظار.
وخلال فترة قصيرة نافست شام شريف إسطنبول عاصمة الخلافة، وبقيت المدينة الأكثر إثارة في مخيلة رواد المعرفة وباحثي التاريخ ونشطاء الفكر والسياسة.
وكان إذا ما أريد حقا التعمق بهذه الروح ومتابعة خفقاتها -وفق الكاتب الفرنسي بيير لامازيير- فإنه يجب أن تكون وجهة المرء هي دمشق لأنها قلب سوريا ودماغها.
كيف غيرت عائلة الأسد وجه دمشق؟توسعت المدينة خارج حدودها القديمة في مطلع القرن الـ20، وشهدت الأطراف الملاصقة لسورها أحياء حديثة وشوارع ممهدة وأسواقا جديدة كالحميدية ومدحت باشا وناظم باشا وعمارات ذات مسحة غربية أخذت في الظهور على امتداد الطريق الواصل بين ساحة المرجة وحي الصالحية، حيث ينتشر مركزها التجاري.
إعلانوبخلاف العواصم العربية الأخرى مثل بغداد والقاهرة لم تكن العاصمة السورية التي دخلت سجل التراث العالمي في عام 1987 مدينة مترامية الأطراف، بل احتفظت على الدوام بطابع المدينة التقليدية التي ترتبط مع محيطها بعلاقة تكاملية دون اعتماد كلي أو تراجع في مسارها، فبقيت ودودة مع محيطها تربط بينهما علاقات دافئة ومشاعر متبادلة تزداد لحمة في أوقات الشدة.
وخلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في عام 2011 ضد حكم عائلة الأسد كان محيط دمشق أكبر رافعة للثورة، لكنه دفع ثمنا باهظا على غرار ما تعرضت له المدن الناشطة على يد القوات الحكومية من عمليات قتل وتدمير ممنهجة.
لم تتصالح دمشق مع البعث منذ انقلابه في عام 1963، وأعلنت في عام 1965 عصيانا مدنيا داخل الجامع الأموي بدعوة من الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي كان حينئذ يقود صراعا مع الملاحدة حتى العظم، فقابلته سلطة البعث بكل قسوة، ودفعت المدرعات العسكرية لتقتحم حرم الجامع وترتكب مذبحة وتعتقل عشرات المدنيين.
تواصلت المذابح طوال عهد عائلة الأسد، لكنها ازدادت ضراوة أثناء حكم الأسد الابن، إذ لم ينجُ منها حتى الأطفال الذين خرجوا يهتفون للحرية بشكل عفوي وسلمي في الشوارع والساحات.
وفي مفارقة مؤلمة، يروي الشيخ علي الطنطاوي أنه شاهد أطفالا يتظاهرون ضد الاحتلال الفرنسي لدمشق "يخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء فر من مدرسته وحقيبته لا تزال معلقة بعنقه، وحمل مسطرته بيده، ومنهم صبي اللحام وأجير الخباز، قد اتحدوا جميعا وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة وهي تطلق النار، وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة أناشيد وطنية".
ويتابع "وقف الناس ينظرون إليهم وقد عراهم ذهول عجيب، لقد رأوا الدبابة قد كفت عن الضرب ثم انفتح برجها وخرج منه شاب فرنسي يبتسم للأطفال وفي عينيه أثر الدمع من التأثر، ويداعبهم ويقدم لهم قطعة من الشوكولاتة ثم يعود إلى مخبئه".
إعلانفي القروسطية -التي تبوأت صدارة المشهد في ظل حكم آل الأسد- لا مكان للرحمة، فقد دعم العنصر الوراثي للعائلة الحاكمة سلوكا جرميا خطيرا، لم يكن من الوارد بحسب مقاييس الحكم الرشيد أن ينتج رئيسا عصريا يعمل لمستقبل بلاده.
فتغير تاليا وجه دمشق التاريخي والجمالي، وأمعنت معاول السلطة بتحالفها مع الزبائنية في عمليات الهدم لتغيب الديمقراطية والحريات السياسية خلف قضبان السجون والمعتقلات، وتفقد المدينة معظم معالمها الطبيعية والتاريخية، إذ لم يعد بإمكان المرء الذي يقف على جبل قاسيون أن يرى على امتداد النظر غير كتل إسمنتية رمادية اللون ابتلعت مساحاتها الخضراء الواسعة، وطقوس شعوبية تقتص من تاريخها العربي المضيء على نحو مبرمج وصريح.