د. زياد العوف إنّها الرواية الثالثة التي يخصّصها الروائي السوري زياد كمال حمامي، ويقدم فيها المعاناة القاسية والممتدّة لأكثر من اثني عشرَ عاماً في ظلّ حرب داخلية طاحنة طالت البشر والحجر في معظم أنحاء الوطن السوري، وما رافقها من أزمات اجتماعية واقتصادية خانقة، لا يزال المواطن يرزح تحت وطأتها وأعبائها، وصولاً إلى مأساة العدد الهائل من اللاجئين الذين غادروا البلاد بحثاً عن الأمن والأمان والعمل والاستقرار.

فبعد روايتيه ( الخاتم الأعظم -٢٠١٥م) و ( قيامة البتول الأخيرة-٢٠١٨م ) تأتي هذه الرواية لتكمل ماسمّاه المؤلّف، في معرِض تعريفه بالرواية ( التغريبة السورية ) . على أنَّ ما يميّز هذه الرواية عن سابقتيها إنّما هو اهتمامها بالآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية للأزمة السورية في بلدان اللجوء، بل في تركيا، وفي أسوء حي من أحياء إسطنبول،على وجه الخصوص. – الرواية في سطور:    يدور محور الرواية حول معاناة اللاجئين السوريين غير الشرعيين المقيمين في أحد أحياء مدينة إسطنبول البائسة ( أسنيورت) وذلك من خلال تتبّع وتحليل مسار الحياة اليومية الشاقّة والقَلِقَة لعدد من هؤلاء اللاجئين؛ ذلك أن عدم حصولهم على بطاقة ( الكيمليك ) -التي تضفي على لجوئهم الصّفة القانونية وتضمن لهم (الحماية المؤقتة) التي تتيح لهم  الإقامة والعمل والحماية التي يتيحها القانون وفق الاتّفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصّلة- تجعلهم عُرضةً للملاحقة والاستغلال والابتزاز، ما يدفعهم إلى التصرّف بخفّة ورعونة تفضي بهم إلى المزيد من المصاعب والمشكلات. (اللولو) و(شام) هما الشخصيتان الرئيستان اللتان تصنعان أحداث الرواية، إذا صحّ التعبير، من خلال علاقاتهما المركّبة مع كلّ من – ماضيهما البائس في سوريا قبل الهجرة ؛ من خلال الهواجس وأحلام اليقظة والذكريات. – محيط اللجوء التركيّ الرسميّ البيروقراطيّ المرهِق؛ عبر المصاعب القانونية المستمرّة، وكذلك الشعبي القائم على الاستغلال والابتزاز. – شخوص الرواية ذات الصّلة، سواء منها التي تشاركهم المأساة وتتفاعل معهم في محاولة للتغلّب عليها وتجاوزها ( عبود الأقرع- اليبرودي- براق- ياسمينة…) أو تلك التي تحاول استغلال مأساتهم ( بارو- تاجار- نازلي…). يتقلّب اللولو( جميل بن سعيد ) في عدد من المهن الصغيرة المؤقتة دون نجاح يُذكر، ثمّ يحاول الفرار مهاجراً إلى أوربا، إلّا أنّه يخفق في هذه المحاولة ويتعرّض لخطر الترحيل القسري من البلاد، لكنّه يتمكّن من الهرب والعودة إلى مسكنه البائس في ( أسنيورت) . وكان اللولو قد تعرّف بمحض المصادفة على (شام ) اللاجئة غير القانونية المقيمة في ( بيت الشابات ) وهو بيت للدعارة المقنّعة استُدرِجتْ إليه الفتاة المسكينة بالخديعة من بلدها سوريا من بعض تجار البشر الأتراك تحت عناوين العمل برواتب مغرية. تقاوم  الضحية بعناد واستبسال فتتعرّض للتعذيب الوحشي من القوّاد ( بارو ) وزبانيته ( تاجار ونازلي ) إلى أن تشرف على الهلاك. تصل أخبار معاناتها القاسية والمريرة إلى ( اللولو ) عن طريق زميلتها في البلاء الفتاة المغربية ( ياسمينة ) فيتّخذ قراره بالمواجهة وإنقاذ ( شام ) من براثن المجرمين ، لتنتهي الرواية على وقع هذا القرار المصيريّ تاركة للقارئ متعة التكهّن بنهاية الأحداث. – في الخصائص الفنيّة للرواية : تقع الرواية في مئتين وتسعين صفحة مقسّمة إلى خمسة وأربعين فصلاً متفاوتة الطول  يتخلّلها السرد والحوار والوصف والتأمّل والاستبطان والهواجس وأحلام اليقظة… -ويخصّ المؤلف إحدى الشخصيّتين الرئيستين ( شام )  بالإهداء الذي يتصدر صفحات الرواية، دون سواها ، في إشارة واضحة إلى رمزيّة الشخصية وتوحّدها في المعاناة والمقاومة والاستبسال مع ( الشام ) الوطن المستباح والغارق في لجّة المأساة. -أمّا عنوان الرواية ( قِطط إسطنبول )  فيشير إلى المفارقة المؤلمة بين الوضع البائس للاجئين غير الشرعيين المفتقرين إلى الأوراق الرسمية التي تثبت كيانهم الإنسانيّ وتؤكّد هويّتهم الوجوديّة، وبين قطط إسطنبول التى تحظى بقيود رسمية كاملة..على أنّ على قارئ  الرواية أنْ يبلغَ منتصف أحداث الرواية ليدركَ دلالة العنوان ومغزاه ؟ وفي ظنّي أنّ هذا الانتظار مرهقٌ وطويل، وإن انطوى على شيء من الإثارة والتشويق. جاء في الرواية : ” …إذ يسمع صفّارات حراس الأمن الطيّبين وأصواتهم التي تستنكر سباحة القِطط المشرّدة. سأله حارس الشاطئ : -أين هويّة القطّة الرسمية؟ أعطِني إيّاها!     لم يكن يعرف اللولو أنّ للقطط هويّات    رسمية مسجّلة لدى الدوائر الحكوميّة، وأنّ لها أيضاً شجرة نسب كاملة، وسجّلَ لقاحات طبية………………………………….”                                   (الرواية، ص ١٥٢) ومنذ الصفحة الأولى من الرواية يلمّح الرواي إلى الارتباط المصيري المشترك بين (اللولو ) و (شام) … نقرأ في الرواية: ” ليس للمشرّدين مأوى في ليالي البؤس، غير ظلام الحدائق بعد منتصف الليل، أو مقابر المدن أوتحت الجسور الرطبة أو الأماكن المهجورة، يتشابهون مع الكلاب الضالّة وقطط الليل……………….. في هذه الليلة الشاردة من ليالي البؤس التقى الصبية ” شام ” عند مدخل الحديقة، رآها تمشي متعرّجة تغنّي، راعه بياض وجهها وطول عنقها الذي تتدلّى منه قلادة تقليدية زائفة، وثوبها الملوّن شديد اللمعان، حيث كان يتبعها رجل عجوز سكّير…. سعل سعالاً شديداً ومضى في طريق آخر وهو يشتم الدنيا وما فيها…..بينما وقعت العصفورة على الأرض قرب الشجرة، وبدأت تصيح بهستيريا وجنون: – أنا شام..أنا لست داعرة..أنا..شام.    اقترب منها اللولو بهمّة ورفق….حاولت أن تبعده عنها، هتفت بصوت خفيض: -اتركني في حالي، أنا لا أعرفك، وأنت لا تعرفني، اتركني……………………….  وهناك على أطراف ” أسنيورت” وفي حي الغجر…دخلت شام مترنّحة إلى أحد الأبنية، صعدت الدرج، يسندها اللولو خشية أن تقع….. صعدا الدرج وهي تشتم كلّ شيء، وتنتهي شتائمها بترديد كلمة واحدة: ” كلاب..كلاب” “                           (الرواية، ص ص ٧-٨) وفي الصفحات الأخيرة من الرواية يتأكّد هذا الارتباط المصيريّ بين ( اللولو) ، بما يجسّده من معاناة ومقاومة وإصرار اللاجئين على تغيير واقعهم والانتصار على بؤسهم وتشرّدهم، وبين ( شام ) بما تمثّله من دلالات فردية وجمعية ووطنية. جاء في الرواية: ” لم يستطع اللولو أن يتخلّى عن شام وعن نفسه، وكذلك عن صبايا بيت الشابات، ولم يستطع احتمال أن يكون شبه قِط متشرّد، ولم يستطع عقله الباطني أن يستسلم لما آل إليه مصيره، فقرّر أن يخوض حربه الأخيرة……………………………..  وشعر أنّه بدأ بكسر الكرة الزجاجية التي كان مدفوناً فيها، وهو لمّا يزل على قيد الحياة، تذكّر جملة “اليبرودي” عندما قالها في وجهه بصوت قويّ: كن رجلاً …… …………  قالت له نفسه: ” إنّ الخيال قد يوقعك في مصائب عديدة، احترِس، وخذ حذرك….ومع ذلك لم يبالِ بهلوساته وطردَ الخوف والجُبن والتردّد….إذ لا بُدَّ من إنقاذ شام، مهما كان الثمن غالياً…..واقترب بخطوات بطيئة، واثقة،بلا خوف إو تردّد ، متسلّحاً بالتصميم القويّ على ألّا يخذل نفسه، وألّا يخذلها أيضاً، فهذه هي حربُه الأخيرة. “              (الرواية، ص ص ٢٨٨-٢٩٠)  ( قِطط إسطنبول ) رواية أخرى غنيّة وهادفة يضيفها الروائيّ السوري المبدِع زياد كمال حمّامي إلى رصيده الإبداعيّ السابق مؤكّداً،من خلالها، حضوره الفنيّ والشخصيّ المتميّز على خارطة الرواية السورية بخاصّة، والعربية بعامّة. ———————————————– أ.د. زياد العوف، جامعة ” ليون”، فرنسا، أستاذ جامعي وناقد.  *- زياد كمال حمّامي، قِطط إسطنبول، حلب، دار نون 4 للنشر والتوزيع، ٢٠٢٣م، ط١ .

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

مخيلة الخندريس . . رواية غير

كلام الناس

نورالدين مدني

noradin@msn.com

*لاأخفي إعجابي بروايات عبد العزيز بركة ساكن المثيرة للجدل، فهو يتمتع بإسلوب خاص في كتابة الرواية، يغوص في أعماق النفس البشرية - الأمارة بالسوء-،ويكتب بلغةالذين يعيشون في قاع المدينة أو على أطرافها، وإن إعتذر عن بعض مفرداتهم الجارحة إلا أنه يوردها كماهي.
*لا أدري لماذا في روايته"مخيلة الخندريس - ومن الذي يخاف عثمان بشرى" قدم المؤلف إقراراً قال فيه أن أحداث هذه الرواية تجري في دولة خيالية، رغم أنه لم يخرج من مجريات بعض ما يجري في قاع المدينة وفي قاع النفس البشرية، حيث تقل الضوابط الدينية والأخلاقية إن لم نقل تنعدم.
*عندما تحدث عن شخوص الرواية، سلوى عبد الله وأمها وعبد البافي الخضر وادريس والفقية المتشرد وغيرهم، قال في الفصل الأخير بعنوان"ذاكرة المؤلف" أن بعض هذه الشخوص من الواقع وبعضها شخصيات متخيلة بحتة أسماها شخصيات "حبرية".
*لن أحدثكم عن مجريات الرواية التي قال مؤلفها أنها ليست رواية بوليسية مثل روايات أجاثا كريستي التي تعلمنا عبر رواياتها وروايات أرسين لوبين وشرلوك هولمز حب القراءة، كما أنها ليست بحثاً أكاديميا حول مادة الميثانول، وإن كانت الرواية بكل تفاصيلها المثيرة كانت تدور حول هذا العالم السفلي الذي تديره عصابات الإتجار بالبشر، الذين يستثمرون في المتشردين ويحولونهم إلى "إسبيرات" بشرية أي قطع غيار إنسانية للبيع!!.
*يستعين عبد العزيز بركة ساكن ببعض الأحداث الحقيقية في حبك روايته، ويذكر في مواقف أخرى أسماء شخصيات حقيقية وأماكن معروفة ليست مقصودة لذاتها، لكنه يحاول عبر كل ذلك السرد الهجين بين الواقع والعالم المتخيل الغوص في قاع المدينة وفي دواخل شخوص روايته الذين يتعاطون الميثانول ومشتقاته أو يتعاملون فيه.
*أوضح لنا المؤلف أن بعض أبطال روايته إنما يعملون في منظمة مجتمع مدني تعمل في مجال حماية الطفولة، وهم الباحثة الإجتماعية سلوى عبد الله وأمها وعبد الباقي الخضر والصحفي احمد باشا وحكمة رابح ذات الخلفية القانونية، وأورد حادثة وفاة 76 متشرداً في يوم من أيام يوليو2011 التي نشرتها صحف الخرطوم حينها، وكيف كانت مغامرتهم البحثية وسط المتشردين أنفسهم.
*في تجربة إنسانية لاتخلو من مغامرة إحتضنت سلوى وأمها ما يمكن أن نطلق عليهم مجازاً أسرة من المتشردين، هم الفقيه المتشرد الذي يدعي أنه زوج الصغيرة نونو وأنجب منها حسكا وجلجل، قادتهم هذه التجربة إلى إكتشاف بعض خيوط الشبكة الإجرامية التي تتاجر في الأعضاء البشرية.
*من الإشارات الإيجابة التي توصلت لها الباحثة الإجتماعية سلوى عبد الله أن الفضل يرجع للمؤسسة الأسرية في التقليل من عدد المتشردين والأطفال خارج الرعابة الوالدية.
*ألم أقل لكم إن "مخيلة الخندريس" لعبد العزيز بركة ساكن، رواية غير.  

مقالات مشابهة

  • أسعار خيالية ومعاناة يومية.. سكان غزة في مواجهة الجوع والحصار
  • مصطفى بكري: الأزمات التي تحيط بالمنطقة جعلت الدولة تضع قانونا لتنظيم وجود اللاجئين
  • 73% نمو أرباح «اللولو للتجزئة» خلال 9 أشهر
  • تحت شعار “عالم التمور”.. وزير “البيئة “يفتتح المؤتمر والمعرض الدولي للتمور
  • “البديوي”: نشيد بالجهود التي تبذلها وزارات الدفاع بدول المجلس لتبادل الخبرات والتجارب
  • رفع دعوى قضائية ضد الروائي “كمال داود”
  • مخيلة الخندريس . . رواية غير
  • اليوم.. الغبيري يناقش "وظائف السارد وتكوين الشخصية في الرواية المُخابراتية"
  • مصر.. كيف يؤثر “مشروع القانون الجديد” على اللاجئين؟
  • مستشفى “كمال عدوان”يفقد جرحاه بعد اعتقال الاحتلال 45 من الكادر الطبي