عبد العالي رحو عند تصفح رواية الطرحان لعبد الله كروم  يظهر جليا الصراع بين المستعمر وسكان تلك المنطقة ويظهر كذلك صورة الآخر في مواجهة الذات أو الأنا الأصلية على الرغم من محاولة المستعمر الظهور بشكل متعايش إلا أن صورة الآخر العدو فتحت باب الصراعات فحاول كاتب الرواية أن يكشف مظهرا من مظاهر علاقة الشرق بالغرب وعدم إنسانية المستعمر ومحاولته الهيمنة والسيطرة على الشعوب وخيراته كما أنه تحدث في مواضع أخرى عن العنصرية المقيتة التي يتسم بها المستعمر الفرنسي فعلى لسان السباعي ولد النجوم  (بطل الرواية )يقول ” في المعسكر في الفيتنام اكتشفت الفرواق بين المجندين العرب والجنود من أصول فرنسية، لم نكن في القيمة سواء….

.  سكن الغربيون منازل تليق بالدرجة الأولى من المجندين بينما كان نصيبنا الخيام التي تساوى فيها كل مجند عربي حتى أولئك الفنانين والمسعفين والطباخين وغيرهم ” الطرحان 191 فهنا نرى أن المبدع يوجه القارئ إلى إلقاء الضوء على صراع  البقاء والوجود بين الشرق والغرب أو بالأحرى بين الغرب والعرب ورفض تلك الهيمنة الإستعمارية التي أكلت الأخضر واليابس ومن جهة أخرى نجد في الرواية على عكس ما قدمته الروايات الأروبية التي عبرت عن مثالية الإنسان الأروبي ونظرة الأرووبين تجاه القارة الإفرقية وشعوبها. فرواية الطرحان عبرت عن الصورة المثالية في الإلتزام بالروح الوطنية والتمسك بالهوية الثقافية النابعة من الأصل والأصالة المحلية، ولم تساير ما كتب الأروبيون عن مجتمعات البلدان التي احتلوها وراء البحار والتي أخضعت الأرض وأهلها لخدمة مصالحها التجارية والإقتصادية والعسكرية  ومـــــــارست فيــــــــها مختلف أشكـــــــــال الجــــــور والتعسف والحروب والتنكيل  بالشعوب المغلوب على أمرها في سبيل الإستلاء على خيراتها وثرواتها الباطنية وغيرها ، تلك القوة المطهدة التي قتلت الأبرياء في الجزائر والفيتنام وغيرها من البلدان الإفريقية للهيمنة الإقتصادية. ولابد الإشارة إلى أن الإستعمار الأروبي الغاشم في إفريقيا وآسيا كان عدوا للإنسان والثقافة بكل ماتحمله هذه الكلمة من معنى فلم يكتف بالقتل والحرق والنهب بل عمل جاهدا على طمس الثقافة والهوية للشعوب المستعمرة وقتل المثقفين الرافضين للهيمنة الإستعمارية وكذا حرق وسرق مخطوطاتهم ومؤلفاتهم وكذا العمل على محو التراث المحلي، كما كان الإستعمار يمارس الضغط على الأهالي لعدم ممارسة العادات والتقاليد التي ورثوها أب عن جد، في المقابل كان الإستعمار يحاول فرض والتسويق للنمودج الغربي من ثقافة وحضارة وفرضها على الشعوب بشتى الطرق المعلنة والغير معلنة. كما أننا نستخلص موقف آخر من الطرحان هو موقف التسامح والتعايش مع الآخر سلميا ويظهر في صورة المرأة الفرنسية نادين زوجة الرائد جنسون يقول عبد الحفيظ بن جلولي عن هذا الموقف ” نادين تكره الحرب وتقرأ بلزاك، أي إنّها تمثل الرقي الوجداني في عمق  الصّحراء التي تمثل تحديا أمام غطرسة المستعمر، إنّها تقهره بأسرار جمالها وصلابتها، التي سوف تقع جسرا بين الذات الإستعمارية وأداة إدانتها والتي تكون سببا في إخراج السباعي من الأمية وتعلم لغة المستعمر بل أكثر من ذلك ستصبح عشيقته “، وهذا دليل على أن شيئ من الإنسانية كانت مخبأة في بيت القائد الإستعماري الذي حاول الإنتقام من السباعي بشتى الطرق ودائما يجد نادين حائلا بينه وبين السباعي الذي يعترف  بفضلها عليه يقول ” فيما يخصك أنت نادين فإنني عاجز عن رد الجميل إليك مثقل بفضلك مشبع بإحسانك صدقيني كل معاجم اللغة لم توفر لي-لحد الآن- الكلمة المناسبة التي توفيك حق شكرك وتكافئ لك جزاء إحسانك عجزت وعرجت اللغة معي شمخت نخلة أثمرت بالخيرات وتسامت شمسا أضاءت عتمة الصحراء نورا أنقدني من ظلام الجهل وإغلاقه وفتحني على العالم وأنواره،الفرنسية التي تعلمتها منك غنيمتي في هذين الحربين وبها تواصلت هنا مع الناس المجد لك واللعنة على الكولونياليزم ” الطرحان 205 وعلى العموم فإن الرسالة والحمولة المعرفية والثقافية لرواية الطرحان ركزت على بث روح التواصل الحضاري مع الآخر والانفتاح العقلاني على ثقافته وحتى على التعايش سلميا مع الآخر وكذلك نجد في الطرحان أن المبدع أبرز الثقافة الفرنسية في شقها الآخر لدى المثقف المناهض للحروب وداعمي للثورة التحريرية الذين دافعوا عن مسيرة كفاح هذه القضية العادلة ، ونجد من أمثال نادين كثر في الثورة الجزائرية الذين شرفوا بأصدقاء الثورة على غرار فرانسيس جونس وزوجته كوليت وجون بول سارتر ووأدان ومنهم كثير و التاريخ يشهد على تجريمهم للإستعمار. ماستر نقد حديث ومعاصر -جامعة طاهري محمد بشار /الجزائر

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

درس الاستـقلال .. تعاسة مشهد الحرب وإمكانية عـودة العقل

 

درس الاستـقلال .. تعاسة مشهد الحرب وإمكانية عـودة العقل

محمد الأمين عبد النبـي

 

الحقيقة التاريخية المجردة تؤكد على ان الادارة الاستعمارية عمدت على تفكيك الدولة الوطنية الأولى التي أنتجتها المهدية، وعملت جاهدة على طمس ومحو أثار تلك الدولة التي أقامها السودانيون بكافة مكوناتهم من أقصى شمال السودان وجنوبه ووسطه وغربه وشرقه وتوحدت إرادتهم في أهداف وطنية ودينية واضحة حققت سيادة وطنية واقامت نظاماً سياسياً وخلقت نسيجاً مجتمعاً موحداً ووضعت إطاراً تعريفياً للدولة السودانية، جاءت الادارة الإستعمارية بسياسات تثبيت أركان سلطتها وفقاً لمصالح استعمارية خالصة، ورسم كتشنر السياسة وهيكلة الادارة لمديريات ومناطق وقسم السودان على اساس اثني وقبلي كان ذلك جلياً في سياسة المناطق المقفولة في جنوب السودان ودارفور والنيل الازرق وجبال النوبة على أسس دينية واجتماعية، سياسة العزلة المناطقية هذه كانت بمثابة أول بذرة للفصل الاثني والعرقي بين مناطق السودان، وكرست الادارة الاستعمارية سياساتها بصورة اكبر خلال حكم ونجت باشا الذي وضع سياسة الادارة الجديدة في إعادة صياغة الانسان السوداني والتي ركزت على تشويه المهدية وخلق نمط ديني بديلاً للفهم الديني التي دعت له لكي يتماشى مع السياسة الاستعمارية، وخلق طبقة من الصناع والموظفين والافندية وفق نظام تعليمي موجه بعد إنشاء مدارس ابتدائية وصناعية وإنشاء كلية غردون التذكارية لخدمة الادارة الاستعمارية وأهدافها ولتشكيل ثقافة الغازي، ونجحت السياسة حيث ظهر مثقفين يقلدون المستعمر في كل شي فإنتشر بينهم لبس البرنيطة والكاسكيتة والطربوش والشورت حتى طريقة التفكير ومظاهر الاكل والشراب، إضافة للتدابير السياسية والادارية والاجتماعية تبني المستعمر سياسات تنموية واقتصادية في مناطق معينة ذات جدوى اقتصادية رأها المستعمر مما خلقت تمايز كبير بينها وبين المناطق الاخرى من حيث التعليم والخدمات.

 

قاوم السودانيون السياسة الاستعمارية مبكراً سيما في ثورة ود حبوبة 1908 وثورة اللواء الابيض 1924 ومؤتمر إدارة السودان 1946 ومذكرة مؤتمر الخريجين 1942، وانطلقت الحركة الاستقلالية من رحم رفض السياسة الاستعمارية ومقاومتها تحت شعار (السودان للسودانيين). وبالتالي لم يكن استقلال السودان منحة كما يظن البعض بل جاء نتيجة جهود مضنية لإنهاء الاحتلال وإعادة الدولة الوطنية.

 

ظهرت تحديات ما بعد الاستقلال في بناء دولة وطنية تستند إلى أسس ومبادئ المواطنة، وتكون قادرة على استيعاب التعددية المجتمعية، العرقية والقبلية والدينية والجهوية، وتحويلها إلى مصدر قوة وإثراء بالاضافة الي تحديات التنمية وقضايا الحكم الوطني الاخرى، وقد ألقت الثقافة الاستعمارية وتشوهاتها بظلالها على الحكم الوطني منذ تمرد الكتيبة الاستوائية قبيل الاستقلال بعام واحد في 1955، يقول الامام الراحل الصادق المهدي: (مؤسسات الدولة التي ورثناها من العهد الإمبريالي لم تكن ناضجة كما يجب وولاءات المواطنين الأولية الاثنية والقبلية والطائفية لم تتراجع بالقدر الكافي لصالح الولاء القومي، وفي ظل الحكم الوطني من عام 1956 في السودان تراجع نضج مؤسسات الدولة وبرزت الولاءات الاولية بصورة اضعفت الانتماء القومي هذه العوامل جعلت الشروط المطلوبة لنجاح الدولة الوطنية تتقاصر على المستويات المطلوبة، مفهوم الدولة الوطنية نفسه غير مؤصل بالقدر الكافي مما فتح المجال لولاءات فوق قطرية، الاهتمام بإنضاج مؤسسات الدولة الحديثة وبلورة الولاء القومي الذي يعلو على الولاءات الأولية ويكرس الولاء للدولة الوطنية من شروط نجاح التجربة الديمقراطية).

 

الواضح لم تكن هناك قطيعة عن السياسات والانماط التي خلفها المستعمر ولم تعالج المظالم التاريخية والخلل التنموي بل في بعض الاحيان كانت هناك تبعية للإستعمار في كثير من السياسات، ولعل اعظم تدخل احدث قطيعة كاملة عن نمط الدولة الاستعمارية كان ثورة إكتوبر 1964 التي أعادت تأسيس دولة تعبر عن الوعي السياسي والاجتماع السوداني، هذا الوعي إستمر في خلال النظم الديمقراطية التعددية على قصر فترتها، وتظل تجارب مؤتمر القوى الجديدة ومؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر وكوكادام علامات فارقة في معالجة المشاكل التي خلفها المستعمر، ولكن الانظمة الديكتاتورية العسكرية التي حكمت أكثر من 60 عاماً بنت على السياسات الاستعمارية حذوك النعل بالنعل لدواعي ايدلوجية ولطبيعة النظام الديكتاتوري المركزي نفسه بإحتكار السلطة واقامة حكمه على الاستبداد.

 

مما لا شك فيه ان النخب السياسية فشلت في تقويم السياسات الاستعمارية وإدارة التنوع وتسبيك الهوية الجامعة ومعالجة الخلل التنموي والاقتصادي؛ ولكن الامانة العلمية التاريخية تقتضي الإشارة بوضوح الي ان هذا الفشل يرجع بالاساس الي النظم الشمولية العسكرية، وبصورة أكبر يعود الي نظام الانقاذ (العسكري – الاسلاموي) ليس لطول فترة حكمه فحسب بل لأنه اعتمد فلسفة متكاملة لإعادة صياغة الانسان السوداني مبنية على الارث الاستعماري السياسي والاقتصادي والاجتماعي وما مشروع حمدي الا احدى تجلياته.

 

الشاهد أننا في الحقيقة امام أكثر من مقاربة حول دولة 56 وليس واحدة كما تقول إحدى سرديات الحرب والتي جاءت للقضاء على دولة 56 حسب ما يشاع؛ مقاربة الدولة الوطنية والتجربة الديمقراطية المستوعبة للتنوع والتعدد والقائمة على التراكم الوطني الحميد، في مقابل مقاربة تبعية نمطية للدولة “الكولونيالية” الاستعمارية “فرق تسد” وفق النسق الشمولي والإسلاموي القائم على تمكين العسكر من السلطة والدولة، إضعاف وتقسيم الأحزاب السياسية، تجريف مؤسسات المجتمع المدني، بث خطاب الكراهية والقبلية والعنصرية، تكريس الخلل التنموي والفشل الاقتصادي وإستسهال الانفصال والتقسيم.

 

إن القراءة الفاحصة والمدخل الصحيح هو بناء سردية إنهاء دولة 1989 الانقاذية العميقة والموازية كإمتداد لسياسات وتوجهات المستعمر، وليس الانجزاز عن الجذور والانبتات عن الواقع وتحويل المظالم التاريخية كمعول هدم لمقومات الدولة السودانية وتحميل المسئولية ظلماً وتزويراً للنظم الديمقراطية رغم إخفاقاتها أو القوى السياسية رغم تقاصر دورها الوطني، ولكن من يتحمل المسئولية كاملة عن الفشل التاريخي والحروب والتهميش والاستقطاب بالأساس هي المؤسسة العسكرية بتدخلها المستمر في السياسة والحكم فـ”القوات المسلحة هي الفيل في غرفة السياسة السودانية” على حد تعبير الدكتور عبد الله علي ابراهيم، وذلك طبعاً بمعاونة القوى الايدلوجية التي لا تؤمن بالتداول السلمي للسلطة وفي طليعتها الحركة الاسلامية بكل مسمياتها التي إنتهجت الانقلابات والحروب كوسيلة للحكم.

 

إن إعادة قراءة التاريخ أضحت ضرورة ملحة لفهم ما جرى في بلادنا منذ الاستقلال الاول مروراً بالاستقلال الثاني والعهود الديمقراطية والعهود الديكتاتورية العسكرية وإنتهاءاً بحرب الخامس عشر من ابريل 2023، وذلك لتحديد مكمن الداء وأصل الانحراف للتمكن من وعي الحاضر والتوجه نحو المستقبل بوثوق ووضوح، إذ لازال هذا الأمر ضرورياً باعتبار أن أجزاء هامة من تاريخنا المعاصر تعرضت للتشويه وطالها التزييف والتزوير، مما أضاع على السودانيين فرص تحقيق مقاصد الاستقلال وبناء الدولة السودانية.

 

بعد مرور 69 عاماً من الاستقلال، مازال السودان يرزح في الحروب والاستبداد، نتيجة فساد الفكر وضحالة المشاريع السياسية وشهوة السلطة لدى العسكريين، حتى وصل بنا المطاف في أول قائمة الدول الفاشلة بفقدان السيطرة وتعدد الجيوش وإنتشار المليشيات وتأكل الشرعية وإنعدام الخدمات العامة وعدم التفاعل مع المجتمع الاقليمي والدولي، وكل المؤشرات تؤكد بان بقاء الدولة السودانية المعروفة أصبح على المحك.

 

تمر علينا ذكرى الإستقلال ومشهد الحرب قد دمج كل عناصر السريالية في قالب واحد، حيث تحولت البلاد بأكملها الي مسرح عبثي بإمتياز، يعج بالتناقضات واللا معقول والسخرية، يجافي كل ما هو منطقي وبديهي، قلة في الحقائق ووفرة في التسريبات والتاويلات، ملهأة قادة وتجار حرب ومأساة شعب بلا وطن، تبدل في المفاهيم والتصورات والدلالات والسياقات، فعلى خشبة المسرح توحش وقتل بلا هوادة، تشريد قسري، قهر واذلال وحط من الكرامة، تخريب ودمار مع سبق الاصرار والترصد، تجويع ومجاعة لنصف السكان، معاناة قاسية وضغوط تقض المضاجع، كراهية مقيتة وعنصرية بغيضة وتمثيل بالجثث وجراح لن تندمل، فساد يزكم الانوف وأمراء حرب مهمتهم التحشيد والتحريض والتسليح والتضليل والنهب والسلب والإغتصاب، إفتراءات وتلفيقات وفتن ما ظهر منها وما بطن، فبركة إشاعات وتسريبات وفشل سياسي وخيبات نخب وإنتاج وهم، وأجندات تتلاعب بمصير أمة، مشهد هزيل في مقام الجد.

 

وحتى تكتمل الصورة السريالية شاهد ما خلف الستار والكواليس ترى سيناريوهات تفكيك الدولة، كل طرف يسعى الي شرعية الغلبة والتغابن وفرض سلطة امر واقع بقوة السلاح، وما عكس البندقية والانحياز المعلن والمستتر الا دليل دامغ على الانتهازية وغياب المسوغ الاخلاقي، وليس مستغرب أن يصبح الرجل في معسكر ويمسي في المعسكر الاخر دون ان يرف له جفن، وهذه ظاهرة للأسف لا تنفصل عن السياق التاريخي الذي يكافئ الانتهازي، وسترى أيضاً مظاهر الرضا ومشاعر الفرح والسعادة بالموت والرقص طرباً على جماجم القتلى والتكبير والتهليل، فقد تحول السودان الي سرادق عزاء كبير يكاد لا يخلو منه بيت، وعلى منصات التواصل الاجتماعي دعاية حربية وإحتفال هنا وهناك بنصر في الأسافير وهزيمة في الميدان، وصراخ وتشنج وشطط وسجال محتدم وشيطنة للأخر وحملات شواء وتعصب أعمى وتصفية الحسابات، تنامي وصعود المليشيات مقابل إنهيار المؤسسات النظامية وتعزيز الولاءات الأولية وتراجع الولاء الوطني، فقد أخرجت الحرب كل قبح وجادت قريحتها بكل وحشية، مشهد لو رأه الحليم في المنام لفزع، والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء.

 

بالمقابل فقد أرهقت الأسئلة الصعبة كاهل السودانيين، وباتوا ينتظرون من ينهي الحرب؟ ومتى وكيف تتوقف الحرب؟ والإجابات القاصرة والمتحيزة هي الأخرى كانت سبباً لاستمرار الحرب وإطالة أمدها، رغم ان الجميع يؤكدون صباح مساء بعدم جدوى استمرارها، وبميزان الربح والخسارة ليس ثمة نصر عسكري منظور، وتتزاحم الاسئلة أكثر عندما يقفز الحديث عن اليوم التالي للحرب، ومصير المتحاربين والضحايا ومن أشعلوا الحرب، ومتى نعود الي منازلنا؟ وخطط إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وفرص بناء السلام وغيرها من الاسئلة الصعبة والملحة التي لا تقبل الإ اجابات حقيقية وجادة.

 

أكبر خطر على مستقبل البلاد ومصيرها إذا ما عدنا إلي صيغة تقاسم السلطة والثروة بين المتحاربين وحلفائهما، خاصة في ظل الرغبة المشتركة للمتحاربين والسعي لتشكيل حكومة هنا وهناك وتقسيم البلاد وفقاً للنموذج الليبي.

 

إن الظرف المعقد الذي تمر به البلاد لا يستوعب الحلول الثنائية والمعلبة والكسل الفكري والسطحية والتي بلا شك ستكون قنبلة موقوتة تنذر بعودة الحرب من جديد، فلا خيار الإ بعودة العقل ومجابهة أزمات البلاد التي خلفها المستعمر وعمقتها النظم الشمولية لاسيما الوحدة الوطنية، المصالحة الانتقالية، العدالة الاجتماعية، المشروع التنموي الاقتصادي، بناء جيش مهني قومي واحد لا علاقة له بالسياسة، نظام الحكم، قضايا الهوية والدين والدولة، إدارة التنوع وبناء عقد اجتماعي جديد يوحد الوجدان السوداني، لقد ظلت هذه القضايا التأسيسية حاضرة منذ صبيحة يوم الإستقلال ومازالت الي يومنا هذا، وتعد وراء إندلاع الحروب في السودان وعدم الاستقرار السياسي، فقد آن الأوان لعودة العقل والتوافق على مشروع خلاص وطني يوفر حلول للمتحاربين أولاً من مأزق الحرب ويعيد أمل السودانيون في ميلاد سودان السلام والحرية والعدالة، وهذا لا يتأتي الإ عبر مائدة مستديرة يصممها ويشارك فيها الجميع الإ دعاة الحرب.

 

عودة الوعي والرشد السياسي واردة وممكنة، فحجم القتل والدمار والواسع الذي خلفته الحرب كفيل بيقظة الضمير والعقل، وتجارب التاريخ البعيدة والقريبة علمتنا أن السودانيين متى توحدت إرادتهم نالوا ما يريدون، وخلال الشهور الماضية إلتقى القيادات السياسية السودانية – رغم الخلافات – في مناسبات عدة وورش عمل واجتماعات تشاورية أكدت على أن القواسم المشتركة بينهم كبيرة وأن إدارة حوار حول المختلف حوله ليس مستحيلة، وقد حملت المبادرات المختلفة نفس الأهداف والمنطلقات، كما ان القناعة بعدم جدوى الحرب وانعدام الحل العسكري للأزمة الراهنة من أكبر الدوافع للبحث عن بدائل سياسية أقل تكلفة، عطفاً على التحولات الإقليمية والدولية التي تدفع الأطراف الخارجية في اتجاه دعم عملية إنهاء الحرب ووضع حداً لمعاناة وعذابات السودانيين، ويبقى الأمل في تنامي الوعي باللحظة التاريخية والتحدي في تحجيم الوعي الزائف وجنون إستمرار الحرب.

 

*****

الوسومالاستقلال الحرب دروس محمد الأمين عبدالنبي

مقالات مشابهة

  • «الشراكة».. الهُوية التي نذهب بها نحو العالم
  • الإسلاميون في السودان: لم تعثروا وكيف ينهضون (١-٦)
  • بالمصري.. مصر حتشد حيلها بأولادها المخلصين مسيحيين ومسلمين
  • الخارجية الروسية: ندعو المجتمع الدولي لاتخاذ موقف فوري تجاه الهجمات الأوكرانية على منشآتنا النووية
  • تحليل إسرائيلي لحجم الأسلحة التي جمعها حزب الله.. ما مصدرها؟
  • التمكين من الشقة للزوج أم للزوجة.. ماذا يقول القانون؟
  • إسقاطات التاريخ في نص «صهيل فرس حروري» لعبد الله حمد سعيد
  • مسجد باريس يُدين حملة التشهير التي استهدفته قناة cnews الفرنسية
  • محمد أبوزيد كروم: سلاح إريتري في السودان.. ما هذا الجنون؟
  • درس الاستـقلال .. تعاسة مشهد الحرب وإمكانية عـودة العقل