صالح الرزوق  بدأ فن الرواية كنوع من مفهومين متجاورين  وتطور باتجاهات يصعب الجمع بينها. الأول هو البنية الطبيعية التي تعرضت للانتخاب والتبلور وفق نظريات شعوب الشمال بدءا من روسيا وحتى فرنسا، ومن خلفها تقاليد السرد الإنكليزي بكل ما عرف عنه من زهو واهتمام بالتفاصيل والتعمية عليها بنفس الوقت. ومثّل هذا الاتجاه دون أي شك أو تردد رائد الرواية العربية جرجي زيدان صاحب أكثر من عشرين رواية تاريخية استفادت من المدونة الإسلامية (كما ورد في كتاب “جرجي زيدان ومشروع الحداثة الاستعمارية” لانتصار شوقي أحمد*).

  وقد أعادت هذه الروايات التنقيب عن الحقائق المستترة تحت ركام من الخرائب والأنقاض، ومنها مسائل لها علاقة  بالوجدان وأسلوب الحكم والحرية الممنوحة للنساء عند العرب المسلمين ( التي ربطها زيدان بالعمل السياسي الانقلابي وضرورة التمدن كما لاحظت انتصار أحمد ص94). أضف لذلك المكانة المركزية لتعريب وإلغاء الرق والمناداة بالعدالة الاجتماعية. ولكنها لا تذهب إلى درجة توهم تيار اشتراكي إسلامي كما حاول أن يؤكد الدكتور يوسف العش في دراساته المتميزة والرائدة. فالاشتراكية شيء والعدالة المقيدة والزهد شيء آخر. ويصعب أن نضع التفكير الاجتماعي (لأبي ذر مثلا) جنبا إلى جنب مع التفكير الفابي الرومنسي. ناهيك عن النظر إليه، هو وحركة الزنج والقرامطة، على أنه خطوةو على الطريق العربي إلى الإشتراكية. عموما يوجد نزاع حول ريادة زيدان للرواية. 1- لأسباب فنية منها ضعف الحبكة وإعادة كتابة التاريخ وليس إحياءه. 2- لأسباب سياسية وهي عدم إنصاف الإسلام وتشويه سمعة شخصياته.  3- ولأسباب تاريخية. فقد سبقه سليم بطرس البستاني بروايتين صدرتا عام 1870 و1871. ولكن التوقيت وحده لا يعطيه الحق لمزاحمة زيدان. فروايات البستاني تمثيليات وحواريات، ولا تخلو من المحسنات القروسطية التي دفنت النص تحت بهلوانيات أساليب القرون الوسطى، بمعنى أن الخلل كان بنيويا، وإلا وضعنا كل الألغاز والطرائف والأمثال في بند السرد. وتوجب علينا أن ننتظر قرابة خمسين عاما قبل ظهور الموجة الجديدة على يد الدكتور محمد حسين هيكل مؤلف “زينب” 1913. الاتجاه الثاني هو رواية الشخصيات وليس الروائي (أو موت المؤلف إن استعملنا لغة بارت)، وقد تزامن مع ظهور “زينب”، وأول من يمثله نقولا حداد مؤلف “آدم الجديد”. وفي هذا الاتجاه تبشير واضح بأدب الحداثة، وقد تابع في هذا الطريق مجموعة من المهاجرين أمثال جبران في “النبي” وميخائيل نعيمة في “مذكرات الأرقش”. وبينهما بنية متحولة وتائهة ويغلب عليها التردد وهي “كتاب خالد” لأمين الريحاني. وكانت مختلفة تماما عن الروايات التعليمية والتهذيبية التي أسس لها محمد مبارك والطهطاوي في مصر.  والحقيقة أن هذا الرعيل الجريء والمبكر قد وضع بذور الحداثة في أرض غير جاهزة لها، ولم تؤت التجارب ثمارها إلا عام 1960 حينما ظهرت أعمال تخريبية بالمعنى الإيجابي للكلمة. والأفضل أن نقول ثورية. فقد وجدت نفسها بين جدارين، الواقع الافتراضي لحداثة طبيعية تنادي بالعمل العسكري لفرض تبدل اجتماعي. والواقع الفعلي لبنية سرد مركزي يتجاوز ماضي الخيال الفني ويستبدله بمحاكاة تضع المرآة قبل الصورة. بمعنى أوضح تؤمن بالذات على أنها هي مصدر الموضوع. بتعبير آخر تعددت المصادر وتشعبت الاتجاهات. ولكن بوسعنا اختصارها باثنين: رواية طبيعية تندرج في إطار فلسفة الموت الأبيض وتغسل عقدة أوديب من شبهة زنا المحارم وتتابع قصص الفروسية والحب بكل أشكالها (الحروب والمعارك المباشرة في قصص تاريخ الإسلام – وقصص العودة – سيرة العائد بلغة الناقد حمزة عليوي – ويسبقها الترحال ثم خوض حرب معرفية وحرب غرامية). ورواية مريضة أو منحولة تتلصص على العالم الداخلي للوعي الباطن وجزئياته ومخزونه من الأسرار والمعميات، وهو تلصص أوديبي نظامي سيدشن ولادة رواية الإنسان المتأله الذي لا يستطيع أن يرى شيئا خارج إرادته، حسب قانون الحداثة المعصوبة أو جريمة قتل الأب (بهدر دمه – كما عند جبران- ونورمان ميلر إن أردنا تعميم الفكرة، أو بالوصاية عليه وكسر شوكته كما لدى نعيمة – وإيان ماك إيوان للتعميم أيضا – وأحيل حصرا إلى روايته Machines Like Us وليس لكل أعماله). ويؤسفني أشد الأسف توجيه النقد  لزيدان على أساس أنه لم يتمسك بأصول الفن الروائي ص13. ولا أستطيع أن أرى كيف يمكن للتجديد والتحديث أن يتم وهو في ثياب مفصلة وجاهزة. ولو وافقنا على هذا المنطق ربما ما وصلنا إلى رائد يوجد إجماع عليه مثل محمد حسين هيكل، ثم مجدد من وزن نجيب محفوظ، قبل أن نصل لموجة الستينات في مصر والتي لعبت دورا معاكسا لموجة الستينات في باقي الشمال الإفريقي وبلاد الشام.  فقد انصب أكبر قدر من الضغط السياسي على بلاد الشام  لسببين. أولا  لقربها من الحكومة المركزية العثمانية وتشديد القبضة عليها. والثاني لقربها الشديد من هدف الحملات الصليبية وهي أراضي كنعان. وكانت أصلا امتدادا طبيعيا لجغرافيا وتضاريس سوريا والأردن. ولا يوجد فرق في الهجمة على روائي تنويري مثل زيدان وباحث تنويري مثل طه حسين. ومكافحة الاثنين تمت بمعاول متأسلمة فرضت على المنهج الفني اتجاهات لا تسمح بالنقد والنقاش، مع أن مهمة هذه المناهج هي الإضافة وليس التكرار، والبحث عن نقاط الإضاءة وليس زيادة مساحة التعمية. وإن بدأ طه حسين أطروحته من التشكيك بالمدونة الساكنة فإن جرجي زيدان بدأ أطروحته من تعويم الوقائع. بتعبير أوضح عاد إلى المدونة الموجودة، وتصور ما وراءها. ويمكن أن تجد مثل هذا الأسلوب في أعمال معاصرة منها رواية “عزازيل” ليوسف زيدان. فهي إضافة فنية لواقعة تاريخية سابقة. وأقصد بذلك مصير المدرسة الأفلاطونية الجديدة من خلال استعادة سيرة حياة الفيلسوفة هيباتيا. وقد سبقه إلى ذلك نجيب محفوظ في أعماله التاريخية حينما استفاد من التاريخ الفرعوني لإعادة تصور سيرة أخناتون موحد الوجهين القبلي والبحري. وإن هرب يوسف زيدان ومحفوظ من حملة صليبية يقودها الإسلاميون فذلك فقط لأنهما بعيدان عن الشخصيات الإسلامية والبطولات المعزوة لهم، وما يرافق ذلك عادة من مسلمات أو تأليه وبالأخص في فترة الهزيمة والضعف. وإذا اتفقنا أن التنوير والنهضة لها رواد مثل الطهطاوي والأفغاني لا يمكن إلحاق مشروع جرجي زيدان بهم. هذا يجوز في حالة العقاد مؤلف “العبقريات” أو طه حسين مؤلف “على هامش السيرة” و”الفتنة الكبرى”. أما تصور زيدان للتاريخ فقد كان مبنيا على  أساس التناوب، نصفه حقيقة والنصف الآخر تأويل وربما إسقاطات خيالية. ولكن أهم ما تسجله أحمد لرواياته. 1- الإقرار بأولوية الواقع الراهن على المدونة أو الخبيئة، ولذلك لم يدخل في جوقة البروباغاندا الوطنية أو الدينية. 2- عدم المبالغة في تصوير شخصياته ومتابعة لحظات ضعفهم مع لحظات الجبروت والطغيان. 3- الاهتمام بالعوام والقادة على حد سواء. 4- أولوية الحداثة والمعاصرة عنده، فقد بدأ سلسلة أعماله مع “المملوك الشارد” وصعود نجم شخصية محمد علي. وبهذا الاختيار التمهيدي يكون قد تخلص من هيمنة العائلة الهاشمية على اتجاه الأحداث، وترك المهمة للرومنسيين أمثال الرائد والمعلم معروف الأرناؤوط وكل الاستشراقيين الذين جاؤوا بعده واعتمدوا على مفهوم القوة النيتشوي (مقابل مركزية المكر والخدع السياسية في مشروع زيدان – وهو جزء من الحرب الباردة التي اندلعت بين التنمويين والنهضويين). وأدى ذلك لعزل الحداثة النيتشوية وراء جدار زجاجي وهمي أقصى عنها الجانب المدني للدولة واختصره بمضمون عسكري أو أعمال حربية وأمنية – انظر “أعمدة الحكمة السبعة” للورنس. حتى أن بنية “المملوك الشارد” تتكرر لاحقا في بنية “خريف الغضب” لمحمد حسنين هيكل. فقد كان الهدف في الحالتين تصوير  محمد علي – وأنور السادات – وتحقق ذلك من خلال متابعة الكواليس وليس  البلاط. 5- ولكنه ختم السلسلة بــ “جهاد المحبين” وهي قصة غرامية. وبرأيي يصلح هذا العنوان لمجمل السلسلة لأنه كما لاحظت انتصار أحمد لا تخلو رواية من قصة حب عنيف يتخللها عقبات ودسائس. وذلك يدل على أولوية التفسير الاجتماعي للأحداث بالمقارنة مع التأويل السياسي. 6- نظر للإسلام على أنه ديانة دولة وليس ديانة روحية. وضمن لنفسه الحياد أو التبرئة من تهمة طالما أسقطها النقاد عليه وهي نظرية التآمر (وإن تراوحت بين حقد مسيحي وخدعة ماسونية يهودية). والحقيقة أن نقد زيدان لم يتناول الدين بحد ذاته ولكن توظيف الدولة له. بتعبير آخر اتبع سياسة مدنية في فصل الشريعة عن النظام كما حصل في أوروبا حينما حررت المجتمع من سلطة الكنيسة. وهذا اختلاف آخر عن جيل التنوير. فقد كان أضعف من أن يدعو للتحرر من سلطات الفقيه واكتفى بنظريات تلفيقية ومتدرجة. وهو ما لم يساعد في حرمان القائد من صفات النبي ومعجزاته. وكما تقول انتصار أحمد حتى الإمام محمد عبده آخى ببن المدنية والاسلام (ترك المدنية وراء برقع ميتافيزيقي). وكذلك بالنسبة لقاسم أمين فقد احتفظ بركن شخصي للدين (احترمه احتراما كليا ولكنه سمح للمدنية أن تحاسب نفسها على أساس غير ديني) ص35. وربط انتصار أحمد لهجرة زيدان إلى مصر مع موقفه المناهض للعثمانيين تبدو لي محقة وفي محلها ص37. ولكن لا أرى أنه وصل لدرجة المقاومة واختار موقفا مترددا يغلب عليه الطابع الحضاري قبل السياسي. فقد كانت مصر تمثل للمثقف العربي فضاء متحررا من إملاءات السلطة العثمانية والنفوذ الفرنسي. مثلما كانت روسيا تعبر عن نفي لسياسة الباب العالي التوسعية والاستفزازية. ولكن هذا لا يلغي الخلفيات التنويرية لفرنسا وبالذات في مصر التي انفتحت على العالم بعد غزوة نابليون وقبل تسلل الإنكليز إليها. وهو ما أتاح لها أن تكون نقطة إجماع. فقد وضعت الدين الاسلامي والسياسة الانكليزية والاستراتيجية الفرنسية والألبانيين المهاجرين في نفس البوتقة، وقدمت نموذجا تركيبيا يعبر عن مجتمع متحول يعمل في سبيل شرق أوسط جديد ومبكر. ولا يخلو اسم مطبعة الهلال التي أسسها زيدان على أنقاض مطبعة التأليف ص37 من انحياز للإيديولوجيا الشرقية المؤمنة بالثقافة القمرية، وليس الشمسية التي اعتمد عليها الرومان ثم تبناها الغرب بالإجماع. ودعم ذلك بدراسة وإتقان اللغتين السريانية والعبرية بعد أن انضم لعضوية المجمع العلمي الشرقي ص37. وحتى لو رأى هشام شرابي أن مسيحيي بلاد الشام دانوا بثقافتهم للغرب – والدليل لديه إتقان اللغتين الفرنسية و الانكليزية والاطلاع الواسع على التفكير العلمي ص38، لا يمكننا إلغاء المضمون الشرقي الذي يغذي اللغة والثقافة الغربية. فقد كانت العلاقة تشبه ما يسميه فانون “قناع أبيض لوجه أسود:. والأفريقانية عند فانون لا تختلف بشيء عن العروبانية عند رواد الماسونية في بلاد الشام وما بين النهرين. وأخص بالذكر جرجي زيدان وعبد الرحمن الكواكبي. فقد كان عبر الأول عن شرق غربي والثاني عن شرق شرقي. ولكن في إطار حداثة شبابية منفتحة على الواقع. وأقصد حرفيا واقع النخبة الحاكمة في مصر (المضيفة والحاضنة لمشروعهما التحرري). فقد كان طموح محمد علي يسعى  للانضمام إلى مجلس تعاون اوروبي – إن صحت التسمية، أو لكومنولث أوروبي – يتمتع بدرجات متفاوتة من الاستقلال عن المركز. ولذلك كان أساس إيديولوجيا رواد التنمية (التنمويون) هو كما قال هشام شرابي: العلم والحضارة الغربية الحديثة ص38 ولكن على أساس كوني واستعلائي. بتعبير آخر على أساس أنها معارف متعولمة غير عرقية أو قومانية. فأوروبا بالنسبة لهم ليست مصدرا لتهديد وجودي ص39 ولكنها أداة لتثبيت هذا الوجود بعد دمجه بتيار الاكتشافات الصاعدة – ويوجد فرق كبير بين منطق الكشوفات وسياسة الغزو والضم والإلحاق. وكما ورد في كتابه عن رحلته إلى أوروبا عام 1912: نحن كنا نتخبط لاختيار ما يلائم أحوالنا ص39. وهذا تقييد واشتراط أو أنه انتقائية أو بلغة علمية هو مجرد انتخاب، ويقابله تخريب ونفي وإلغاء لبقايا السلطة العثمانية (كما ورد على لسان انتصار أحمد عن رواية “الإنقلاب العثماني” ص39). وإذا احتفى زيدان بواقع المجتمعات الأوروبية فقد سبقه إلى ذلك الشيخ الطهطاوي (المسلم المعمم). ولا ضرورة للإشارة أن الكلام عن المجتمعات وليس الدول ولا برامجها التوسعية المبيتة التي ظهرت للعلن بعد خذلان ثورة الشريف حسين وإخراجه من شبه الجزيرة العربية إلى سوريا والعراق. وهكذا أمكن اعتقال الهوية العربية في سجون الانتدابين البريطاني والفرنسي. وإعلان جرجي زيدان أنه خالف “الفرنج” في طريقة بنائه للحبكة ص46 يأتي من وعيه العروباني – لعلاقة التاريخ بالهوية. فالأول متبدل والثاني ثابت. ولذلك اهتم بأصول اللسان العربي وربطه بمنطق حوضه الحضاري في مجموعة من المؤلفات الهامة ومنها “الفلسفة اللغوية” الذي صدر عام 1886. ولكنه عمليا لم يخرج عن تقاليد سكوت ودوما الأب. ومع ذلك أحتفظ له بحق التمايز وعدم التماثل مع المغامرات التاريخية كما كتبها ستيفنسون ودراما شكسبير (في عطيل وهاملت والملك لير) والقائمة تطول. فمفهوم المغامرات عند زيدان يشبه التفسير الميداني لمعنى البطولة والتضحية – لأنه بالأساس يخرج من معطف وطني (يضع هموم النهضة والتحديث بجانب وعي وإدراك الهوية بسياق النوع – لأنه يقوم بالحفر في الذاكرة حتى يتم الكشف عن المرجع أو ما اصطلحنا عليه بكلمة الينابيع).  بعكس أدب المغامرات الذي يتباين في تصوراته بين يوتوبيا وطنية ودايستوببا. والتطابق المزعوم بين الحبكة والواقع ص47 – مجرد أسطورة من أساطير ناقد ترك ظله على تاريخ الرواية العربية لأكثر من نصف قرن وهو عبد المحسن طه بدر. فمراجع زيدان تتراوح بين الموثوقة والضعيفة. فقد بنى أحداث رواياته على مدونات موجودة حتى الآن مع مدونات لم نعد نعرف عنها شيئا. واعتمد على مؤلفات بعض المستشرقين مثل بروكلمان والتي لا تخلو من التسرع وسوء التفسير وأحيانا عدم الدقة في فهم الأصل (ويمكن أن أذكّر بالمعركة التي لم يخمد غبارها حول علاقة المتنبي بالقرامطة وأسباب سفره من الكوفة إلى بغداد – ثم بملاحظات الدكتور سامي الدروبي عن ترجمة الشعر العربي الجاهلي إلى الفرنسية ونقل المفردات بمعزل عن معناها في التراكيب). هذا غير كتاب “التقويم العام” والذي اعتمد عليه في تركيب أحداث روايته “الحجاج بن يوسف الثقفي”، مع “صحيح البخاري” الذي ورد في قائمة المصادر. وهو مرجع في قفص الاتهام لاهتمامه بالحياة الجنسية للرسول وإهمال أكثر من ألف خطبة ألقاها في يوم الجمعة، وقس على ذلك. فتوريط عتبات النص (الباراتيكست بتعبير انتصار أحمد ص68) بجيوب خرافية تم توطينها في الرواية الرسمية للتاريخ سيقود بالضرورة لتزوير النتائج.  ولذلك يتوجب علينا إدراج الحقيقة التاريخية في هذا المشروع ضمن البرنامج الثقافي الذي تنتمي له، وهو النهضة التي حمل لواءها أبناء بلاد الشام المهاجرين من سوريا العثمانية إلى مصر وأمريكا ص54 . فالمشروع والهدف واحد مهما كان الأسلوب والبنية، ولا يمكن لأحد أن يفصل رؤية زيدان عن مخاض جبران (المختلف لدرجة راديكالية في الشكل واللغة والخطاب). وكلاهما باعتقادي ينتمي لحركة ثورية ضد الماضي الظلامي للذات الأسيرة –  فالإسلام العربي – بالمعنى الثقافي للكلمة وليس الديني كان مسخرا لخدمة الإسلام التركي – بنسخة معدلة عن الماضي العرقي أو أقله الوطني للسلاجقة السنة العدو التقليدي للبوبهيين والفاطميين الشيعة. وكما تقول انتصار أحمد لا يوجد مشروع بريء من الأهداف والواجبات. وأي خطاب يكون دنيويا وهو الإطار الأول الذي يتطور أو يتبلور ضمنه النص ص55.   ولكن هذا لا يعني أن حدود النص هي خلاصة متعمدة ودالة على المعنى. فالحدود و منها عنوان العمل وعناوين الفصول قد تكون للتمييز مثل علامات التنقيط، تساعد على الفهم ولكنها لا تضفي شيئا إضافيا على النص. وقد تكلم الدكتور حسين سرمك حسن في عدة مواضع عن هذه القضية واعتبر العلاقة بين أي كتابة وعنوانها عشوائية ومضللة في بعض الأحيان، وربما تساعد على التعمية وليس التوضيح والتوجيه. ومن الأمثلة على ذلك رواية “سمرقند” لأمين معلوف (فهي ليست عن المدينة ولكن الشاعر والفلكي عمر الخيام). حتى أن بعض الأعمال الهامة تصدر بعدة طبعات وبعناوين مختلفة ومنها كتاب “الكلمات والأشياء” لفوكو فقد صدر باللغة الإنكليزية المعتمدة تحت عنوان “نظام الأشياء”. وأذكّر هنا بثلاثية نجيب محفوظ. فهي بالأساس عمل واحد، وصدرت بثلاثة عناوين بناء على طلب من الناشر وليس بمبادرة خاصة من الكاتب. وما ورد على لسان انتصار أحمد بخصوص الانقلاب العثماني وعلاقتها بتدمير سلطة الأب ص82 موجود في كل السلسلة إن لم يكن في المعنى الرمزي لفن الرواية بشكل عام. فالتفسير الفرويدي للرواية العائلية وعقدة التلصص ثم الصراع بين الأخوة ومحاولة امتلاك الأم لا تخلو منه رواية. ولكن مركز الثقل يتبدل من محور لآخر. فيكون التركيز على التنافس من أجل الأم (في العقدة الغرامية) أو على الخلاف بين الأخوة (في الروايات الوطنية). والأب في الحقيقة هو الخصم اللدود في جميع الاتجاهات الحداثية لأنها إما تمثل خروجا على الأخلاق والتقاليد أو نوعا من التحدي لتسلسل الأحداث وإعادة ترتيبها حسب ذاكرة ضاق ذرعها بنائب الإله وحجمه وجهازه العقابي. ولا يجوز أن يغيب على الذهن أن “الانقلاب العثماني” هي رسالة يوجهها رجل مغبون إلى كل الأمة. ولا سيما أن الحبكة تبدأ مع رامز الذي فقد أمه وتعهد أبوه بتربيته على مبادئ الحرية والمساواة وكره المظالم ص114. وبلغة الخطاب الفني الرواية هي سيرة حياة أسرة غير أوديبية ضد قدر ظالم. أو هي سيرة صراع بين ذكور وبغياب تام للأم الكبيرة التي خبأها الموت في مملكته السوداء. وأي إصرار على حبكة أوديبية سيكون له شكل وطني أو سياسي لأن الابن الكبير والابن الصغير يقاتلان ضد أب خارجي من قبيلة أجنبية، وهو ما يلغي أي شبهة بتجريم المرأة ووأدها وخنقها وهي في المهد.  ولذلك عمليا لا أرى أية علاقة بين الشرق وحركات تحرير المرأة. فموجة مظلومية النساء واردة في كل عصر وفي كل منطقة من العالم. والربط بين الماركسية والفرويدية والنسوية هي واحدة من نقاط الارتكاز في النقد الأدبي والدراسات الاجتماعية التي تفشت في أوروبا في أعقاب ظهور ما بعد الحداثة وتفكيك ثم تأويل بنية الخطاب. وحمل هذا الاتجاه أعباء مقاومة سياسة السوق وكشف ألاعيب وخدع النظام الرأسمالي. بتعبير آخر تحرير المرأة ليس وقفا ولا ضرورة اجتماعية وحقوقية عند العرب والمسلمين فقط بل هو ظاهرة من ظواهر العقل البشري. وإذا لم تحتل أية امرأة دورا قياديا في رأس هرم الدولة الأمريكية منذ تأسيسها وحتى اليوم فتاريخنا العربي ثم الإسلامي – يقدم عدة أمثلة ابتداء من زنوبيا (اسمها الآرامي بات زباي 240-274 ) وحتى شجرة الدر المتوفاة عام 1257، وأروى الحرة ملكة اليمن (1048 – 1138). ولا ضرورة للدخول في تفاصيل كالمساكنة وتعدد الزوجات فهي مجرد ظواهر عارضة و ليست أساسية في التفكير الشرقي ولا تختلف عن الأمراض الاجتماعية لاقتصاد السوق وقبله مخادع الملوك في العصر الذهبي لحضارة الشمال. ويمكن اعتبار المسألة أنها تتعلق بنقاط ضعف في الجنس البشري بشكل عام.  كما ورد على لسان ميشال بوتور(لا يخلو بيت غربي من قصة غرام سرية محرمة). والاختلاف كما أرى هو في شكل الخطأ و ليس في تفشيه أو أساليب التعبير عنه. ووجود جمعيات تحرير المرأة في أوروبا يعني وجود أزمة نسائية في الغرب بمستوى أزمات مماثلة تعبر عنها جمعيات حماية البيئة والحد من العنف وتعزيز حقوق الطفل ومجانية التعليم وغير ذلك كثير. وأعتقد أن دور المرأة كان يعكس واقعا اقتصاديا ولا يدل على حقائق اجتماعية. وإذا عدنا إلى البواكير بوسعنا عزل نمطين نسائيين الأول تجاري ومنزلي، وحتى الرجل يكون فيه مقيدا وراء منصة في السوق كانه امرأة بشكل رجل، فمعنى الارتباط بمكان كلوستروفوبي والاستسلام للقدر وحركة المجتمع يحوله إلى امرأة تجلس بعباءة أو معطف رجل. ولا تختلف رعاية الأم للأولاد في البيت عن رعاية الأب للعمال في السوق. فهي أبوة بالوكالة وذات مضمون أخلاقي تربوي واقتصادي – بمعنى الإعالة والإشراف والتوجيه. النمط الثاني هو الأم الريفية التي تساند الأب في الحقل هي وأبناؤها. فالاقتصاد الريفي اقتصاد أسري يقاتل به النساء والرجال في معركة ذات شروط قاسية ضد الأرض والطبيعة. وتكون الأداة العقابية مسلطة على الأرض وليس الأم – ولا المرأة لتحثها على الإنتاج والعمل ومقاومة البيئة. ولذلك أجد أن المرأة الشرقية لم تتعرض للغبن إلا بمقدار ما تعرضت له المرأة الغربية للاستغلال (ومن الأمثلة على ذلك كتاب “آخر أيام راقصات التعري: مذكرات” لشيلا ماكلير). وإذا كان لا بد من الكلام عن سلطة هرقلية مذكرة في الشرق الأوسط يجب أن يكون ذلك بالتوازي مع بقية علامات مرض وتخلف وتراجع الأمة في كل مستوياتها العسكرية والاقتصادية. وغني عن الذكر أن العلاقة جدلية بين ظواهر المجتمع ومظاهر الحضارة. وقد تزامن مفهوم المرأة الجديدة لدينا مع نشوء المدينة الحديثة. في حين أن الغرب كان يناقش أطروحة الإنسان الجديد، وهو مفهوم رموزي إنتاجي وغير تربوي وغير بيولوجي يعيد فيه صياغة معنى الحرية الفردية على أساس وجودي. ولذلك يمكنني التأكيد أن المسألة النسوية في المشرق هي جزء بسيط من المسألة الدستورية والتي بدأت عام 1876 ص111.  وهذا يقودنا لمشكلة لها علاقة بدكتاتورية الراوي وديمقراطية المضمون.  فالراوي العليم الذي يدير كل شيء بنفسه وينوب عن صوت الراوي المباشر  ص121 يؤله نفسه من خلال ثنائية الغياب بالظاهر والحضور بالقوة أو الإنجاز والأداء. ومن البديهي أن التستر والاستدلال على الموجود بالأثر شيء من صفات الإله أو الشيطان. كلاهما يلعب دورا مؤسساتيا دون أن يكشف نفسه. وطاقية الإخفاء هي الجدار الذي يختبئ وراءه. ومع أن هدف الرواية هو التنديد بالاستبداد لا نشعر بأي خلل عضوي في تغليف الحكاية التحررية بغلاف استبدادي. فالراوي لم يكن جاهزا للحوار، ولم يسمح لأصوات الآخرين أن يعبروا عن أنفسهم، وفرض عليهم صوته الذي حمل علامات ذهان وشخصية قلقة ومضطربة مع تجزيء الخطاب وتوزيعه على بنية مختلة شعريا ومتماسكة جدليا. وهو إنجاز هام يكشف عورة الروايات التعليمية السوية والباردة. ويمكن الإقرار أن جرجي زيدان أخذ دور مصور محايد أعاد تركيب الصور بعدسة انتقائية. وأفاد ذلك بإلغاء نثرية الحبكة ورفعها إلى مستوى أقول عنه شعرية الحكاية. وهذه الانتقائية هي التي رشحت رواية “الانقلاب العثماني” لتكون سيرة روائية لعبد الحميد الثاني وصراعه مع جمعية الاتحاد والترقي ومن يقف وراءها (الماسونيون وشعار إقامة مملكة اليهود العالمية  ص174). غير أن ما يجعل شخصية الطاغية عبد الحميد شعرية دون السقوط في حفرة الذهان هو ثلاث عناصر غائبة. الأول مدحت باشا (تسميه انتصار أحمد طيف الميت أو العائد من الموت ص160). الثاني سعيد بك – الوكيل الخيالي للميت ص161. الثالث رامز الابن الصغير (ويحتل موقع مضاف إليه إن نظرنا للنص على أنه جملة طويلة) ص 160. وكفلت الرواية لنفسها بهذه البنية  نهاية سعيدة – في الجانب المتخيل – رامز والحقيقي – الاتحاد والترقي.  بمعنى أنها طابقت بين الجسم المفقود والجسم المنظور. وتجنبت أي هلوسة أو رؤية كابوسية (كما هو حال أدب الرعب التاريخي مثل روكامبول وفومانشو وبقية رموز الحرب الباردة). وتبني انتصار أحمد على العتبات – بالأخص العنوان والاستهلال والنهاية عدة استنتاجات. فهي تضع القارى في جو العمل، أو أنها تبرم معه ميثاقا. ولذلك يوحي عنوان “الانقلاب العثماني” أنه يتناول أحداثا مفصلية في تاريخ الدولة. في حين أن رواية مثل “أسير المتمهدي” تصور بداية اضطرابات في إطار ثوري كاذب ومخادع. ص187. وقل نفس الشيء عن الاستهلال – أحيانا يأتي بشكل مقدمة وتحت عنوان “فذلكة تاريخية”. ويحاول زيدان من خلالها أن يعوض بالخيال ما عجز التاريخ عن تدوينه، والكلام لانتصار أحمد أيضا. وتعتقد أن مشروع زيدان يهدف إلى استكمال السجلات التاريخية بتذييل أو ملحق أو استطرادات مكملة تسميها مع دريدا supplementarity. وهذا يعني وجود فراغات وعجز في سجلاتنا التاريخية ص188. ويؤكد زيدان أنه لاحظ هذه الفراغات بجولة استطلاعية قادته من مصر إلى السودان، الساحة التي جرت فيها أحداث روايته. بمعنى أنه استفاد من قرب تاريخ الأحداث واعتمد على الملاحظة والمشاهدة بالإضافة لتبويب المعلومات الموجودة وتصنيفها. وتم استغلال هذه النقطة لربط جرجي زيدان بالمخابرات البريطانية، بالإضافة لعمله مع جريدة الزمان الموالية لهم. ودعم هذه التهمة أنه مهاجر وفقير ومن أصل طبقي متواضع. ص192. ولكن متى كانت محاكمة أي عمل فني يرتكز على حياة الكاتب الشخصية وواقعه المهني والاجتماعي. فالأدب مؤسسة مستقلة يمكن استنتاج بعض الحقائق منها ولكن لا يمكن الحكم عليها انطلاقا من تلك الحقائق، ولم أسمع أن أحدا قلل من شأن جورج أورويل، وكان عميلا للمخابرات البريطانية، وبنفس الوقت حارب الفاشية في إسبانيا وتحول إلى رمز من رموز الأدب التحرري والإنساني.  وإذا ارتبط زيدان بمهنة أمنية فقد ظهرت رواياته بعد انتهاء مهمته، وهي بالأساس الترجمة وليس التخابر. والعلامات الثقافية ليست جامدة، وتتبدل بتبدل الواقع والبيئة كما ورد على لسان انتصار أحمد ص199.  ولذلك أعتقد أن تهمة الإساءة لشخصية المهدي نجمت عن الخوف من مقص الرقابة الإنكليزية، وليست ناجمة عن مقت شخصي.  وفي الأرشيف الأدبي عشرات الأعمال التي ظهرت بطبعات ناقصة – لأسباب أمنية مثل “في الأدب الجاهلي” لطه حسين، أو اجتماعية  ومنها “ألف ليلة وليلة” والتي يتوالى صدورها بطبعات مهذبة. ومن ناحية واقعية لا توجد شخصية تاريخية لا تحيط بها هالة التقديس من جهة والشبهات المضادة من جهة مقابلة. وبعد كل مرحلة نحن بحاجة لغسل وتنظيف المرحلة السابقة وضمنا رموزها أو ما أصبح يحمل اسم قيادات (مفهوم اجتماعي) ونخبة (مفهوم ثقافي). وطال التبييض وإعادة التصوير كلا من ماضي كولومبوس (بعد أن كان مكتشفا نزيها أصبح جزارا وسفاحا ساهم بإبادة عرق بشري أو على الأقل دشن سياسة التطهير العرقي)، ثم ماضي ماجلان (وكان يقترن اسمه بإثبات كروية الأرض وأصبح يدل على شخصية أنانية واستعمارية إن لم تكن انتهازية.  وقد رأى المؤرخ البريطاني فيليبي فرناندز أرنستو – نقلا عن أحمد الشافعي أنه  إمبريالي فاشل قام بحرق القرى وزهق الأرواح). وإن كانت أسرة المهدي ذات سمعة وطنية لا تطالها الشكوك في السودان لم يكن الأمر بهذا الوضوح في منعطف القرن الماضي. وإذا قارنا “أسير المتمهدي” مع “شوق الدرويش” لحمور زيادة** لا بد إلا وأن ننتبه للانزياح في المضامين والأساليب.  فرواية زيدان مكتوبة بإملاءات الرواية الطبيعية وما قدمته يداها من مفاهيم شمولية لا تعرف الاستثناءات ولا التردد، بينما اعتمد زيادة على عدة أصوات ومستويات لقراءة الواقع التاريخي ثم تركيب الحقيقة الفنية، ولم يكن يعفي روايته من العنف الذي تضاعف بسبر نفسية الشخصيات وشدة المعاناة مع الطبيعة. وإن أكلت الحرائق والمجاعة البشر والمدن عند زيادة فقد غطت على هذه القسوة عند زيدان قصة الحب المتخيلة وشدة السطوع. والمتبقي في النهاية هو التناقض وتمثيلاته بشكل حركة تمرد عند زيدان وحركة تحرير عند زيادة – وكلتاهما تنطبق عليها حبكة الرواية الكورية التي أصبحت تعرف باسم جريمة الابن الصالح، وهي محاكاة صغيرة وعلى نطاق أضيق لخطيئة دستويفسكي، السفاح قاتل المرابية العجوز في “الجريمة والعقاب”، وهكذا يصبح الفرق بين الطرفين له علاقة بالأسلوب وليس الاتجاه، الأول يلجأ للذاكرة (السارد)، والثاني لصوت الشخصيات (القارئ) كما تقول نشوة أحمد***. ولا شك أن الخلاف بين الاثنين يدل بشكل غير مباشر على اتفاق نسبي. فقد كان كلاهما مع تحديث السرد والمفاهيم، واقتضى ذلك من زيدان الخروج من عباءة التدين والاقتراب من المصادر المتاحة للتحديث (وهي بالتأكيد استعمارية)، وهذه مشكلة جائرة عانت منها الشخصية العربية على وجه الإجمال، حتى أن الشريف حسين وافق أن يستعين بالبورجوازية الأوروبية ليحارب بها الأتراك. كما أن زيدان لم يستسلم للسلطات الاستعمارية طوعا، وأشار لمظاهر التمدن باسم “التفرنج”، وهو لغويا ليس بعيدا جدا عن “التمهدي”. وللكلمتين معنى التشبه والمحاكاة. وأكد علنا أن إبراهيم – والد بطل الرواية ليس إفرنجي النزعة ص203 كما أن شفيق لم يكن مرتاحا للكلام بالفرنسية لأنها تخون روحه الشرقية ولا تحسن التعبير عنها ص207.  وكل جريمته أنه قارن بين السياسة الاستعمارية في مصر الحديثة مع أحوال السودان – والذي كان تحت تأثير العلاقات العشائرية (شيء انتهى تقريبا من الوجه البحري في مصر). عدا عن تطور مفهوم الهوية الحضارية من موقف وطني إلى حركة عسكرية تحررية (وساعد على ذلك حروب العرب مع إسرائيل في فترة 1960-1990 وانحياز الغرب بشكل سافر للإسرائيليين. ولا شك عندي أن معنى الكفاح المسلح ضد الأجنبي والمحتل كان مركزيا في رواية زيادة مقابل نشاط الجمعيات السرية وثورة المجتمع المدني في رواية زيدان. هذا غير اختلاف العدو، فهم الأتراك عند زيدان والإنكليز عند زيادة. ولكن هذا لا يعفي زيدان من موقفه المتشكك من الثورة العرابية ص221. وإذا أشار بصريح العبارة لفظائع ارتكبها العرابيون في الإسكندرية، لم يختلف معه زيادة. فقد رأى: هوجة وجنون في الإسكندرية، قتل المصريون المسلمون الناس في الشوارع، ص162. ويضيف: مقتلة عظيمة وقعت في المدينة ص162. ثم يردف: والدها أندرياس إليفثيريوس ذبحوه على مدخل البيت. ص163. وأما نفور جرجي زيدان من موكب الدراويش ص239 فهو مجرد دليل آخر على الشك وعدم الثقة بكل الإحالات الدينية والأصولية التي سوقها العثمانيون وجاء الغرب ليضع حدا لها. غير أنه لم ينتقص من المهدي نفسه ورأى أنه طويل خفيف العضل كبير العينين (علامات فيزيائية) وفي وجهه مهابة ولطف (علامات روحية) ص243. وكما أرى كان جرجي زيدان تحرريا فيما يتعلق ببلاد الشام واستعماريا فيما يخص وادي النيل. وهذا شيء طبيعي في لحظة الأزمات. فقد تحالف ستالين مع روزفلت وديغول وتشرشل لخمس سنوات من أجل التخلص من العدو المشترك وهو النازية. وأعتقد أن زيدان جارى الإنكليز حتى يتم له التخلص على أيديهم من تركة الإمبراطورية العثمانية  والحد من نفوذ الاحتلال الفرنسي لبلاد الشام. وهي نفس الحيلة المتواضعة التي تورط بها أبطال رواية “ليون الافريقي” لأمين معلوف و”دروز بلغراد” لرببع جابر و”حنا الترجمان” لمحمد سعيد علوان. وإن عدنا للكلام بصيغة أسود وأبيض، أو بلغة مهذبة شمال وجنوب، لا تخلو أي حركة تحررية ونهضوية من مشكلة استعارة أدواتها من أعدائها. فهي إن لم تكن غنيمة حرب، هي نفق مظلم لا بد منه. بالنتيجة كان مشروع جرجي زيدان عروبيا بالمعنى التنموي للكلمة – على شاكلة مشروع الشريف حسين. وهذا يعني التأكيد على أربع مكونات. 1- البطولة الفردية والاعتراف بالسلطة المطلقة لكل فرد على نفسه. ولذلك حملت معظم رواياته أسماء شخصيات هامة أو حوادث شهيرة ارتبطت بأسماء معروفة. 2- فرض سياسة التنوير بكافة أشكالها واستعمل أسلوب المحاكاة بالمرآة أو ما أسميه التصوير بدرجة سطوع تامة. ولا توجد في ذهني مشاهد كلوستروفوبية يتخللها كوابيس أو مواخير أو أنفاق. 3- استعمل حبكة روايات ثوب الزفاف، بمعنى أن الأحداث تتحرك بدافع غرامي نظيف. وهي حبكة دموية وتفترض تأجيل الاندماج ريثما يتم الفصل بين كافة المتنازعين. 4- لا يوجد بقايا أحفورية من ثقافة البادية والصحراء، وتراوحت ثقافته بين حواضر بني عبد شمس وهندسة المدينة المملوكية. بعكس “أعمدة الحكمة السبعة” للورنس، فقد كان غبار البادية يغطي الأحداث منذ أول مشهد وحتى آخر لحظة. والعمران في رواية لورنس كان عبارة عن نقاط علام في تيه واسع وغير محدد، بينما توقف زيدان كثيرا عند تفاصيل الأبنية.  وهذه النقطة فقط ترفع عنه تهمة التخابر. فالتجسس يقتضي العمل من داخل غبار المعركة، وليس من خارجها. وكان زيدان أقرب لمدون، واعتمد في تدويناته على الملاحظة، وليس المشاركة. ويدعم هذا الافتراض روايات التجسس (القديمة مثل روايات رايدر هجارد والحديثة مثل أعمال إيان فليمنغ وخلفه جون لو كاري)، فهي حكاية تدور داخل نفوس وحياة أشخاص بينهم علاقة متعمدة. ولكن ليس حكاية أشخاص يتبارى من حولهم القدر (غير المحدد) والمجتمع (الذي يتحكم به لاشعوره، وتحدوه أنا عليا مسبقة الصنع – كأنها تتبع سياسة البيوت الجاهزة – الموجودة مسبقا – والمرتبطة عضويا بمرحلة ميتة من الماضي – بمعنى أنها ذكرى غابرة أو أطياف). 5- لم ينتمِ عضويا لمذهب واضح. وعلى فرض أنه قريب من حركة الاستشراق، لم يتأثر بأطروحتها الأساسية. وتخلو أعماله من أوهام ألف ليلة وتمثيلات شهرزاد. ولم يفرض علينا في أعماله الصور النمطية للمغامر الشاطر والفهلوي، ولا نموذج الفاتنة والماكرة دليلة. ويمكن أن تجد في خطابه عدة أنماط من صور المثقف التي تكلم عنها إدوارد سعيد ومنها البراغماتي – وإن كنت أرجح أنه جزء من منظومة اللامنتمي أو المثقف الذي يعرف ما يريد ولكن يعجز عن تحقيقه. وكما قال كولن ولسون: كان يعبر عن الشر الكامن الضروري لاستمرارية حياتنا. بمعنى أنه وضع أبطاله في معركة ضد الحياة، ولذلك كتب عليهم التألم والعذاب أو قتل القانون ودفنه لأنه قانون مجحف وغير متوازن. وبهذه الطريقة تتساوى النهايات وتبدو السعادة وكأنها هدنة أو لون آخر من ألوان الشر والشقاء. *جرجي زيدان ومشروع الحداثة الاستعماري . انتصار شوقي أحمد. مؤسسة هنداوي. 2023. / 264 ص. **شوق الدرويش. حمور زيادة. دار العين. 2014 / 460 ص. *** في مقالتها: الكاتبة الكورية جونغ يو جونغ، المنشورة في إندبندنت عربية. 8 إبريل 2023.

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: على أساس على ذلک على أنه لا یمکن طه حسین لم یکن فی مصر

إقرأ أيضاً:

حفل من أجل السلام.. عمر حرفوش على درب الساحة الثقافية العالمية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

الموسيقى ضد الحروب

في مساء اليوم ( 18 سبتمبر)، في تمام الساعة 7:30 مساءً بتوقيت باريس، يستضيف مسرح الشانزليزيه المرموق حدثًا موسيقيًا استثنائيًا: "كونشيرتو السلام" لعمر حرفوش. سيقدم عازف البيانو والملحن اللبناني الفرنسي، وهو شخصية صاعدة على الساحة الثقافية العالمية، عمله الرائد هذا جزء من جولة أوروبية مخصصة لتعزيز السلام والوئام من خلال الموسيقى. وكالعادة تلعب باريس دورًا مركزيًا في تطوير هذا العمل والترويج له.

منذ استقرار الفنان عمر حرفوش في مدينة النور، رأى الجمهور الفرنسي أن فنه والتزاماته يتخذ بعدًا جديدًا. لقد أثرت باريس، التي تعتبر محطة فنية وثقافية ودبلوماسية راقية، بشكل عميق على أسلوبه الموسيقي، مما سمح له بابتكار لون فني فريد حيث تمتزج التقاليد الغربية والشرقية بشكل متناغم. يعد "كونشيرتو السلام" بأن يكون خالدًا، وهو عمل مدته 17 دقيقة في حركة واحدة، يجسد هذا الاندماج بشكل مثالي. وهو مصمم للبيانو والكمان والأوركسترا الفيلهارمونية، وهي ترمز إلى الطموح الفرنسي اللبناني وأمل لخلق "طاقة سلام" موسيقية تتجاوز الاختلافات الثقافية.

يعد مسرح الشانزليزيه الليلة بأن يجسد قمة هذا التحول الباريسي. وسيجمع الحدث 60 موسيقيًا من أوركسترا بيزييه المتوسط ​​السيمفوني، تحت إشراف قائد الأوركسترا ماتيو بونين. ويؤكد الحضور المعلن للعديد من الشخصيات القادمة من العالم الثقافي والسياسي الباريسي على أهمية هذا الحدث. وهكذا يجسد عمر حرفوش جيلًا جديدًا من الفنانين الملتزمين، الذين تعتبر باريس بالنسبة لهم مصدر إلهام ونقطة انطلاق نحو الاعتراف الدولي. وتوضح رحلته كيف يمكن للمدينة أن تحول الموهبة إلى صوت مؤثر على المسرح العالمي.

.

بالنسبة لعمر حرفوش، الألحان فوق كل شيء رسائل سلام. ففي السنوات الأخيرة، قدم عازف البيانو الموهوب عروضه في العديد من الأماكن الشهيرة، وخصص كل واحدة من هذه الحفلات لقضية عزيزة عليه. وقد أكسبه التزامه جوائز عالمية مرموقة من أجل السلام. بعد أن حازت ألحانه وموسيقاه على استحسان الجماهير في كييف، والمفوضية الأوروبية في بروكسل، وحتى بيزييه، واليوم جاء دور باريس ثم غدا جنيف لاستقبال الملحن.

لا يقتصر تأثير باريس على المجال الموسيقي. لعبت المدينة أيضًا دورًا حاسمًا في تطور التزامات عمر حرفوش السياسية والإنسانية. فكما وضح حفله الموسيقي الذي أقامه في مجلس الشيوخ الفرنسي عام 2020، تكريمًا لضحايا تفجيرات ميناء بيروت، هذا التعايش بين الفن والنشاط السياسي. وفي باريس، وجد منصة لنشر رسالته للسلام والدفاع عن حقوق المرأة اللبنانية، وهي معركة اتخذت أبعادًا جديدة بفضل العلاقات التي أقيمت في العاصمة الفرنسية.

سمحت له عاصمة النور خلال إقامته ببناء شبكة رائعة من العلاقات المتنوة في الأوساط الفنية والسياسية والإنسانية. يهد تعيينه رئيسًا فخريًا للمنظمة الأوروبية غير الحكومية "الحوار والتنوع" في عام 2023 وحصوله على جائزة العالمية من أجل السلام من منظمة الليكرا (المناهضة للعنصرية) بباريس،على نفوذه المتزايد. ومن بين المقربين منه، هناك الآن شخصيات مؤثرة من العالم الثقافي والسياسي، مثل وزير الثقافة السابق الأشهر في فرنسا جاك لانج ووزير الخارجية السابق فيليب دوست بلازي. تتيح له هذه الشبكة ليس فقط الترويج لأعماله، ولكن أيضًا رفع مستوى الوعي بين جمهور أوسع حول القضايا القريبة من قلبه.

علاقات ودية بين لبنان وباريس

تتميز العلاقات بين لبنان وفرنسا بتاريخ غني وروابط ثقافية عميقة. حتى سمي بعض سياسيو فرنسا لبنان بأنه ابن فرنسا، غالبًا ما يُنظر إلى باريس على أنها موطن ثانٍ للعديد من اللبنانيين، لا سيما بسبب الجالية اللبنانية الكبيرة التي تقيم هناك. ويعيش في فرنسا نحو 300 آلاف لبنانيا، ويبلغ عدد الجالية الفرنسية في لبنان نحو 30 ألف شخص. تعزز هذه الروابط الإنسانية والثقافية العلاقات الثنائية بين البلدين، بدعم من مؤسسات مثل دار لبنان في باريس، التي تعمل على الترويج للثقافة اللبنانية وترحب بالطلاب اللبنانيين.

لقد كانت فرنسا، من خلال مشاركتها الدبلوماسية والثقافية، شريكا أساسيا للبنان، داعمة لتطلعاته إلى السيادة والاستقرار. وينعكس هذا الإرث التاريخي في أعمال فنانين مثل عمر حرفوش، الذين يستخدمون فنهم لبناء الجسور بين هاتين الثقافتين.

ومن خلال اختيار باريس وهذا المسرح المرموق لإبداعه، يعد حرفوش جزءًا من تقليد طويل من الفنانين العالميين الذين وجدوا أرضًا خصبة للتعبير الإبداعي في مدينة الأضواء. تبلغ رحلته، من بيروت إلى باريس عبر أوروبا الشرقية، ذروتها على هذا المسرح الأسطوري، مما يدل مرة أخرى على قوة جذب باريس وتحويلها للفنانين من جميع أنحاء العالم.

فنان السلام يواصل عمله

سيواصل عمر حرفوش جولته الأوروبية حيث سيتوجه الى الأمم المتحدة في جنيف يوم 20 سبتمبر ليعزف ألحانه ويقدم حفله الثاني، في مكان رمزي، ومثالي لرسالته للسلام كما سبق وعزف في مبنى الإتحاد الأوروبي. توفر مدينة جنيف، معقل حقوق الإنسان والدبلوماسية، بيئة مثالية عشية اليوم العالمي للسلام، الذي يحتفل به في 21 سبتمبر. سيجتمع الدبلوماسيون والشخصيات الملتزمة وعشاق الموسيقى معًا في حفل من أجل السلام الذي سيكون له صدى خاص، مذكرًا الجميع بأهمية الحوار، بينما تقرع الحرب مرة أخرى على أبواب أوروبا والشرق الأوسط.

فنان ملتزم بخدمة رسالة عالمية

ولد عمر حرفوش في طرابلس، لبنان، في خضم الحرب الأهلية، ووجد ملاذًا وصوتًا في الموسيقى. بعد أن أصبح عازف بيانو موهوبًا ورجل أعمال ناجحًا، لم يتوقف أبدًا عن الإيمان بقدرة الموسيقى على تغيير العالم. ويقول: "الموسيقى لغة عالمية يمكنها أن تمس قلوب الجميع، بغض النظر عن اللغة أو الثقافة". "إن لديها القدرة على تغيير العقليات وإنشاء الجسور بين الناس."

عمر حرفوش ليس موسيقيًا فحسب، بل هو أيضًا سفير للسلام ومدافع عن حقوق الإنسان وناشط من أجل العدالة. وستمثل حفلاته الموسيقية في باريس وجنيف، على هذا النحو، دعوات نابضة بالحياة للعمل، وتذكيرًا بأن كل واحد منا لديه القدرة على إحداث فرق. يدعونا الملحن من خلال موسيقاه إلى الاستماع والتفكير والعمل من أجل السلام. باختصار، أن نصبح أنفسنا ملحنين لعالم أكثر عدالة فهل تنجح الموسيقى في وقت فشلت فيه الدبلوماسية  في إيقاف الحروب؟

مقالات مشابهة

  • خبير سياسي: العدوان الإسرائيلي على لبنان اختراق استخباراتي وليس هجمة سيبرانية
  • الخلفيات المتحركة في اجتماع "الزووم" تسبب الإجهاد العقلي والبدني
  • زيدان يكشف مدى توافق طرق بيولي مع النصر .. فيديو
  • زيدان يعلق على بيان فتوح
  • حفل من أجل السلام.. عمر حرفوش على درب الساحة الثقافية العالمية
  • مفاجأة صادمة.. رونالدو يرفض بيولي ويطلب زيدان في النصر!
  • البطل الاولمبي مشروع وليس بقصة
  • القاضي زيدان يستقبل رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر
  • الجديد: الزوايا الصوفية تفرخ حفظة القرآن وليس الدواعش
  • زيدان ودوريل يبحثان التعاون القضائي بين العراق وفرنسا