معركة العقاب.. بداية خسارة الأندلس
تاريخ النشر: 25th, January 2024 GMT
معركة فاصلة في التاريخ الإسلامي، وقعت في يوليو/تموز 1212م بالقرب من وادي "تولوسا" و"حصن العقاب" في الجنوب الإسباني، بين جيش المسلمين المكون من الموحدين وجموع المسلمين بقيادة الخليفة الموحدي محمد الناصر، وجيش الإسبان المكون من حشود الصليبيين بقيادة ملك قشتالة ألفونسو الثامن.
هُزم المسلمون فيها وتكبدوا خسائر فادحة في الأرواح والأموال، وتحوَّل ميزان القوى لصالح الإسبان، فكانت بداية تحقيق المشروع الاستردادي الإسباني، وتقهقُر دولة الإسلام في الأندلس، كما مثلت أول مسمار دُقّ في عرش دولة الموحدين أدى فيما بعد لانهيارها.
حقق الخليفة الموحدي أبو يعقوب المنصور نصرا كبيرا على الإسبان في موقعة الأرك عام 1195م، واستولى على قلعة رباح ونزل إلى مدينة طليطلة وتوغل في شبه جزيرة إيبيريا (شبه جزيرة إسبانيا)، ولم يكن الوئام سائدا بين الممالك الإسبانية النصرانية، فخاضت قشتالة المعركة وحدها مع الموحدين، ولم تجد بعد هذه الهزيمة الساحقة ضمانا لسلامتها سوى عقد الهدنة معهم.
فأرسل حاكم قشتالة يطلب الهدنة، فهادنه المنصور لمدة 10 سنين، ثم عاد إلى مراكش، وركن القشتاليون إلى فترة من الهدوء والسلام انتظارا للفرصة السانحة للوثوب مرة أخرى، وكان ألفونسو الثامن ملك قشتالة منذ هزيمة الأرك يتوق إلى الانتقام لهزيمته.
ولما توفي المنصور، اعتلى ابنه محمد الناصر لدين الله العرش عام 1198م، وانشغل بالفتن والثورات الداخلية، واستيلاء بني غانية على القواعد والثغور في أفريقيا، فحررها واسترد سيادة الموحدين عليها، ولم يستطع خلال هذه الفترة، التي استمرت زهاء 12 عاما، أن يعنى بالأحداث القائمة في الأندلس.
أقواس الجسر الحضري في مدينة قرطبة بإسبانيا (غيتي)وفي هذه الأثناء قامت الممالك الإسبانية، ما عدا مملكة ليون، بمحاولة إرساء السلام بينها، فعُقدت هدنة بين نافارا وقشتالة سنة 1207م لمدة 5 أعوام، ثم تدخل ملك قشتالة بعد ذلك بين ملك نافارا وملك أراغون، فعقدت بينهما هدنة سنة 1209م.
وكان أجل الهدنة المعقودة بين ألفونسو الثامن وبين الموحدين هو سنة 1215م، ولكن ملك قشتالة الذي شعر بنوع من الطمأنينة والأمل في عون الممالك الإسبانية، أراد استئناف الحرب مع الموحدين، فحصّن قلعة "مورا" الواقعة على حدود المسلمين عام 1209م تحصينا قويا.
وخلال تلك السنة والتي تلتها خرق القشتاليون الهدنة، وأغاروا على منطقة جيّان وبياسة وأندوجر، وعادوا إلى طليطلة محملين بالغنائم، بعد أن قتلوا وسبوا ودمروا وأحرقوا الزرع والحقول، وحذا بيدرو الثاني ملك أراغون حذو ملك قشتالة، فعاث في منطقة بلنسية انتقاما لغزو السفن الموحدين لشواطئه، واستولى على عدد من حصون المنطقة.
ولم يكن في مقدور الحاميات الموحدية الصغيرة أن ترد الجيوش الغازية، فاستنجدت بالناصر، الذي حشد وانطلق إلى شبه الجزيرة الإيبيرية ليضع حدا للغارات الإسبانية، وأخذ يستعد للمعركة، وأرسل كتبه إلى سائر أنحاء المغرب وأفريقيا وأهل القبلة لدعوة الناس إلى الجهاد.
حشد الجيوش والاستعداد للمعركةأقبلت الحشود المسلمة من سائر الأنحاء، وجُهزت بما يلزم من العتاد والسلاح والكساء والمؤن وحُشدت السفن، ثم عبر الناصر بجيوشه الجرارة إلى شبه الجزيرة، ولما استقر به المقام في إشبيلية في أواخر مايو/أيار 1211م، أمر باستنفار الحشود الأندلسية، وصُنع الآلات الحربية واستدعاء العمال والولاة واستكمال الإمداد من سائر الجهات.
وأصبحت الجيوش الموحدية في حالة تعبئة كاملة من الموحدين والعرب وأهل الأندلس والمطوعة والأغزاز وغيرهم من طوائف الجند، وسار بهم الناصر نحو قرطبة في أواخر يوليو/تموز 1211م، ثم سار منها إلى جيّان وبيّاسة، ثم شمالا نحو قلعة شلبَطَرّة، وكانت تقع على ربوة عالية على مقربة من جبل الشارات.
رسم يحاكي مشهد أحد الجيوش الصليبية (شترستوك)وطوق الموحدون قلعة شلبطرة، وهي أكبر وأمنع قلاع تلك الناحية، وكان القشتاليون قد اتخذوها قاعدة لشن غاراتهم على المسلمين، وبعد أن استولى المسلمون على أرباضها، نصبوا حولها 40 قطعة من المجانيق الهائلة، وضربوها بالحجارة الضخمة، وأمطروها بالنبال والسهام، وأبقوها تحت حصار طويل حتى اضطرت الحامية إلى تسليم القلعة ومغادرتها.
وتفاقم الخطر على إسبانيا بعد تلك الواقعة؛ مما جعل ملك قشتالة يبذل أقصى جهوده لمقاتلة الموحدين، وسعى لدى البابا ليضفي على الحرب الصبغة الصليبية، فاستجاب البابا لرغبته وتحرك الرهبان والقساوسة ليثيروا حماسة الشعوب النصرانية، ولم يقتصر ذلك على إسبانيا بل امتد إلى أوروبا، ولم تلبث القوى الصليبية أن انهالت على إسبانيا من إيطاليا وفرنسا وسائر بلاد أوروبا.
واجتمعت الجيوش الوافدة من المحاربين الصليبيين في قشتالة حتى بلغ عددهم أكثر من 10 آلاف فارس و100 ألف من الرّجَّالة (المشاة) في شهر يونيو/حزيران سنة 1212م.
وكان الأساقفة يرأسون صفوف المحاربين من مختلف المدن، ويتولون الإنفاق على حشودهم، وتلقى ملك قشتالة أيضا مبالغ من الأموال والسلاح والمؤن، أُرسلت إليه من فرنسا وإيطاليا، وأنذر البابا إنوصان الثالث ملوك إسبانيا بتوقيع عقوبة الحرمان الكنسي على كل أمير يتأخر عن المساعدة.
كما دعا البابا إلى صوم 3 أيام، وأقيمت الصلوات العامة وعمد رجال الدين إلى ارتداء السواد والسير حفاة وسارت المواكب الدينية في الطرقات، وألقى البابا بنفسه موعظة طلب فيها من النصارى أن يتضرعوا ويدعوا لنصر الإسبان، وأعلن أنه سيمنح صكوك الغفران لمن يذهب معهم إلى الحرب.
وقام الموحدون من جانبهم بمثل هذه الاستعدادات، فاستنفر الناصر عقب عودته إلى إشبيلية من غزوة شلبطرة الناس من سائر الجهات، ليضاعف حشوده ويدعم جيوشه فاجتمعت له قوات جديدة كثيرة.
كاتدرائية قرطبة في إسبانيا (شترستوك) المسير إلى المعركةفي 20 يونيو/حزيران 1212م خرجت الجيوش الصليبية من طليطلة باتجاه الجنوب، وكانت مقسمة إلى 3 جيوش رئيسية:
الجيش الأول: وهو جيش الطليعة بقيادة القائد القشتالي ديجو لوبيث دي هارو، ويتألف من قوات الوافدين التي قُدِّرت بما بين 60 ألفا و100 ألف مقاتل. الجيش الثاني: بقيادة بيدور الثاني ملك أراغون، ويتكون من قوات أراغون وقطلونية وفرسان الداوية. الجيش الثالث: وهو جيش المؤخرة ويقوده ألفونسو الثامن، ويتألف من قوات قشتالة وليون والبرتغال، وفرسان قلعة رباح وشنت ياقب والأسبتارية.واستمرت الجيوش الصليبية في سيرها، فاستولت على حصن ملجون في 24 يونيو/حزيران، وهو من حصون الحدود الإسلامية، ثم زحفت صوب قلعة رباح وكان الخليفة المنصور قد استولى عليها عقب موقعة الأرك وعيَّن لقيادتها أبا الحجاج يوسف بن قادس.
وكانت القلعة فضلا عن مناعتها الطبيعية بوقوعها جنوبي نهر وادي يانة، تتمتع بأسوار وأبراج في منتهى المناعة، فطوقتها الجيوش الصليبية، ثم هجمت عليها يوم 30 يونيو/حزيران واحتلت قسمها الخارجي الذي يحاذي النهر، وهو القسم الأضعف.
ودافعت الحامية الإسلامية ببسالة، وأخذ ابن قادس يستنجد بالناصر ويرسل إليه الرسائل، وأخفى الوزير أبو سعيد بن جامع الرسائل، ولم يُطلع الخليفة عليها، وطالت مدة الحصار، ونفدت المؤن والسلاح، فاضطر ابن قادس إلى تسليم الحصن، وصالح ألفونسو الثامن -الذي كان يؤيد الحل السلمي- على أن يخرج ومن معه من المسلمين آمنين.
وكان الصليبيون الوافدون من أوروبا على العكس من ذلك، يريدون ذبح الحامية الإسلامية ورَفْض أيّ تسوية سلمية، وتزامن ذلك مع ارتفاع الحرارة في إسبانيا، إضافة إلى ما أشيع من أن ملك قشتالة قد استأثر لنفسه بالتحف والذخائر التي كانت بالقلعة، فتنامى الغضب بين صفوف الجنود الوافدين حتى انشق كثير منهم، قُدِّر عددهم بنحو 50 ألف مقاتل، تركوا ألفونسو الثامن وعادوا إلى بلادهم.
وفي ذلك الحين كان الناصر قد وصل بجيوشه الجرارة إلى جيّان، وهنالك استقر بظاهرها أياما، منتظرا عبور النهر، ووقف على ما وقع من أحداث على الحدود، من سقوط قلعة رباح في يد العدو، وما حدث على إثر ذلك في المعسكر النصراني من الشقاق.
وقدم ابن قادس مع صهره ونفر من أصحابه على الخليفة، فمنعه الوزير ابن جامع من لقائه، وصوّر موقفه للخليفة أسوأ تصوير واتهمه بالخيانة فأمر الناصر بإعدامه هو وصهره من دون أن يستمع إليه.
وكان لمصرع القائد الأندلسي على هذا النحو، وقع عميق بين مواطنيه من جند الأندلس، ولما شعر الوزير ابن جامع بما حدث من تغير نفوس الأندلسيين استدعى قادتهم وأنذرهم بمغادرة الجيش، وكان لهذه الحادثة أسوأ الأثر على معنويات الجيش الإسلامي.
ومن جانب آخر، استطاع ألفونسو الثامن، عقب استيلائه على القلعة، أن يتغلب بسرعة على ما حدث في معسكره بسبب رحيل بعض طوائف المحاربين الوافدين، وأن ينظم ما بقي من قواته، واستأنف سيره إلى الجنوب.
عبرت قوات ألفونسو مرتفعات جبل الشارات (سييرا مورينا) واحتلت البسيط العلوي المقفر المُسمى "ممر مورا دال"، يوم 13 من يوليو/تموز 1212م، واحتلت قلعة "فيرال"، التي تسمى أيضا حصن "العقاب" في قمة الجبل، ثم سارت حتى وصلت إلى سهل أبدّة وتوقفت في بسيط "مائدة الملك" وحصنت ما حوله، وظلت بقية الجيش مرابطة وراءه.
وأما الخليفة الناصر فقد تحرك بجيوشه نحو الشمال، وكانت الجيوش الموحدية تضم طوائف العرب والقبائل المغربية مثل صنهاجة وزناتة والمصامدة وغمارة وغيرها، والجنود المتطوعين، وجند الموحدين النظاميين، وجنود الأندلس.
واخترقت الجيوش الموحدية نهر الوادي الكبير، وعبرت ممرات جبل الشارات المؤدية إلى بياسة وأبدة، ومنها إلى ممر "لوسا" الوعر، ثم استقرت في البسيط المسمى بـ"المرشة" في انتظار لقاء العدو.
رسم توضيحي للمقاتلين الذين كانوا يشاركون في الحملات الصليبية (غيتي) وقائع المعركةبدأت معركة "العقاب" -التي تعرف في أوروبا بمعركة "نافاس دي تولوسا"- في الصباح الباكر من يوم الاثنين 16 يوليو/تموز سنة 1212م، أسفل الأكمة المسماة "مائدة الملك" على مقربة من وادي "تولوسا" أو عقاب "تولوسا" في جنوب إسبانيا.
وكان جيش الصليبيين ينقسم إلى 3 أقسام رئيسية، يتزعم كل قسم منها، ملك من الملوك الثلاثة:
القسم الأول: يتكون من القلب ويقوده ملك قشتالة ألفونسو الثامن، مع احتفاظه بالقيادة العليا. القسم الثاني: يتكون من الجناح الأيمن، ويقوده سانشو ملك نافارا، ويضم القوات النافارية، وجند سرية وآبلة وشقوبية ومدينة سالم، وفرسان فرنسا الذين يرأسهم مطران أربونة، وجند جليقية والبرتغال. القسم الثالث: يتكون من الجناح الأيسر، ويقوده بيدرو الثالث ملك أراغون، ويشتمل على قوات الطليعة والقوات التي يقودها أشراف أراغون.وقد وُزع كل قسم من هذه الأقسام إلى وحدات عديدة، فوضع في القلب فرسان الداوية والأسبتارية وفرسان قلعة رباح، وكل منهم تحت إمرة قائدهم الخاص، وكذلك الصفوف التي يقودها مطران طليطلة و5 من الأساقفة القشتاليين.
وأما الجيش الموحدي الذي بلغ على أقل تقدير نحو 200 ألف مقاتل، وقد أوصله بعضهم في شيء من المبالغة إلى 500 ألف مقاتل، فقد قُسم إلى خمس فرق:
الفرقة الأمامية: وتتألف من القوات المتطوعة من مختلف الطوائف، قوات القلب: تتكون من جند الموحدين. فرقة الميمنة: وتتألف من القوات الأندلسية فرقة الميسرة: وتتألف من قوات البربر من مختلف القبائل. فرقة القوات الاحتياطية: وكانت من جند الموحدين وهم أغلبية الجند النظاميين. رسم توضيحي لمقاتل من جيوش المسلمين (الجزيرة الوثائقية)وكان كل من الجيشين على أهبة الاستعداد، وبدأ الصليبيون الهجوم فهبطت طلائعهم مسرعة من المرتفع في بسيط "مائدة الملك" إلى السهل الأسفل الذي يحتله الجيش الموحدي، وانقضت على مقدمته، فلقيتهم صفوف المتطوعة بقوة وثبات.
واقتتل الفريقان بشدة حتى بدأ الصليبيون التراجع، ثم عادوا إلى الثبات بعد تعزيزهم بفرق الفرسان، التي صعب على المتطوعة الموحدين اختراقها، ثم ارتدوا تحت ضغط الصليبيين الهائل، وكثر القتل فيهم، ويُذكر أنهم لبثوا يقاتلون حتى استشهدوا عن آخرهم.
ثم تقدم الصليبيون بعد التغلب على فرق المتطوعة إلى قلب الجيش الموحدي، حيث لقوا أشد مقاومة، ورُدوا على أعقابهم، وهجم جناحا الجيش الصليبي على جناحي الجيش الموحدي، واحتدم الجيشان في معركة حامية الوطيس، واستطاعت قوات الميمنة والميسرة الموحدية بعد قتال عنيف أن ترد جناحي الجيش الصليبي، الذي أخذ في الارتداد والفرار، ولاح للفريقين أن لواء النصر سوف يُعقد للموحدين.
وحين شاهد ألفونسو الثامن من فوق المرتفع ما آلت إليه المعركة، وما ينذر به ذلك من هزيمة محققة، نزل إلى الميدان بقواته الاحتياطية المختارة، من قوات قشتالة وليون واندفع بها إلى الصف الأمامي في قتال مستميت.
وتبعه في الوقت نفسه ملكا أراغون ونافارا كل في قواته، نحو جناحي الجيش الموحدي، وهجمت القوات الصليبية كلها في وقت واحد بمنتهى العنف والشدة، حتى بدأت ميمنة الجيش الموحدي وميسرته في الارتداد، وفرّ الأندلسيون والعرب، وأحدث فرارهم اضطرابا في الصفوف.
وهنا تمركز هجوم الصليبيين على قلب الجيش الموحدي، المكون من الجنود النظاميين والاحتياطيين، وشددوا الهجوم على الموحدين الذين صمدوا ودافعوا ببسالة، وكان الخليفة الناصر قد أدرك خطورة الموقف، فنهض من مجلسه وأخذ يحث جنوده على الاستبسال.
منظر عام لقصر الحمراء أهم المعالم التاريخية لمدينة غرناطة في الأندلس (الجزيرة)واستطاع الصليبيون أن يخترقوا قلب الجيش الموحدي كما اخترقوا الدائرة المدرعة، ومُزق الجيش الموحدي من كل ناحية وكثر القتل فيه.
ولبث الناصر في مكانه صامدا لا يتزحزح، ثم اضطر في آخر لحظة إلى أن يمتطي صهوة فرس، فيفرّ مع نفر من خاصته جنوبا نحو بيّاسة، ومنها إلى جيان، وكانت فلول الجيش الموحدي عندئذ تفر في كل ناحية، ومن ورائها الفرسان الصليبيون يُمعنون فيها قتلا، واستمرت هذه المطاردة المروعة حتى دخل الليل.
وقبيل مغيب الشمس، كان الملوك والمطران والأساقفة وجزء كبير من الجيش الصليبي، قد دخلوا محلة الجيش الموحدي واستقروا بها وأضحى أثرا بعد عين.
نتائج المعركةكانت هزيمة المسلمين قاصمة للظهر، فقد تكبدوا خسائر فادحة في الأرواح، وإن تباينت التقديرات بشدة في حجم الخسائر البشرية، ومن المؤكد أن عدد القتلى كان كبيرا جدا حتى رُوي أن معظم الجيش قد هلك، وذهبت قوات المسلمين والموحدين في الأندلس والمغرب، كما سقط في المعركة كذلك عدد من الأكابر والعلماء والحفاظ.
وحالت هذه الضربة القاسية لجيش الموحدين وجموع البربر فيما بعد دون قيامهم بحملات عسكرية عظيمة، ولم يستطع الموحدون أن يقوموا في أعقابها إلا بغزوات عابرة، إذ لم يقدروا على تعويض ما فقدوه من جنود أثناء المعركة والفرار منها.
معركة العقاب سقط فيها كذلك عدد من الأكابر والعلماء والحفاظ (الجزيرة)ومن المؤكد أن خسائر الصليبيين في الأرواح كانت كبيرة أيضا في هذه المعركة التي التحم فيها الجيشان بأسرهما، ومُنيت هجمات النصارى الأولى بخسائر كبيرة، إذ لم ينجحوا في اختراق قلب الجيش الموحدي إلا بعد جهد جهيد، وبعد أن ألقوا في المعركة بقواتهم الاحتياطية، ولا يمكن أن تقل هذه الخسائر عن ألوف عديدة.
ومع ذلك، كانت النتيجة النهائية لصالح الصليبيين، الذين استولوا على غنائم وفيرة من العتاد والسلاح والخيام والذهب والفضة والنقود الذهبية والبسط والآنية الثمينة والثياب والأقمشة الفخمة، وكذلك على مقادير عظيمة من المؤن، وعلى ألوف مؤلفة من دواب الحمل، فكانت من أعظم الغنائم التي ظفروا بها.
كما استولوا على خيمة الناصر الحريرية الموشاة بالذهب، واستولى ملك نافارا على السلاسل الحديدية التي كانت تحيط بقبة الخليفة، ومن أهم الغنائم أيضا علم موحدي ضخم كان مما يُعلَّق في خيمة الخليفة، وهو عبارة عن سجادة كبيرة، ملئت بنقوش عربية جميلة، وآيات قرآنية وأدعية مختلفة، ومازال يحتفظ به بين ذخائر إسبانيا في مدينة برغش بالدير الملكي.
ومما أسفرت عنه المعركة، أنها فتحت الباب لألفونسو الثامن لجني ثمار ظفره العظيم في موقعة العقاب باقتطاع ما استطاع من الأراضي الإسلامية، فاستولى في غضون أيام على معظم الحصون الإسلامية في تلك الناحية، وكان من بينها حصن فرّال (حصن العقاب)، ثم سار إلى مدينتي بيّاسة وأبّدة فاستولى عليهما بعد أن قتل وسبى وخرّب وعاث فسادا.
تداعيات المعركةتعدّ معركة العقاب إحدى المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي قاطبة، وقد كانت وبالا على المسلمين عامة والموحدين في المغرب والأندلس خاصة، إذ مثلت بداية لتقهقر دولة الإسلام في الأندلس إيذانا بزوالها، كما كانت أول مسمار دُقّ في نعش دولة الموحدين، وشكلت تحولا كبيرا في تاريخ الدولة أدى إلى انهيارها.
رسم توضيحي لإحدى المعارك قديما (غيتي)فقد قضت الهزيمة نهائيا على سمعة الموحدين العسكرية في شبه الجزيرة الإيبيرية، وتحطم ذلك الدرع الذي كانت تسبغه الجيوش الموحدية القادمة من وراء البحر على الأندلس وعلى دولة الإسلام فيها.
كما حولت الهزيمة ميزان القوى لصالح الإسبان، وكانت بداية تحقيق المشروع الاستردادي الذي راود النصارى منذ عقود من الزمن، فأصبحت الفرصة مناسبة لتسديد الضربات للمسلمين في الأندلس، والاستيلاء على أراضيهم، فكانت بداية انهيار دولة الإسلام في الأندلس.
وأدت حركات الاسترداد إلى هجرة أعداد كبيرة من المسلمين وكذلك اليهود فارين بدينهم وأنفسهم وأموالهم من الاضطهاد النصراني، وأخذوا يتجهون نحو المغرب الذي كان بالنسبة لهم الملاذ الآمن.
وكذلك استغلت حركات محلية أندلسية طامعة في الاستقلال، مثل حركة ابن هود وحركة ابن مردنيش وحركة ابن الأحمر ضعف الموحدين، فقاموا بثورات تهدف إلى الاستقلال فانحدرت المنطقة إلى الفوضى الطاحنة، وانتثرت إلى أحزاب وشيع جديدة.
وفي بلاد المغرب، بعد تلك الهزيمة القاسية، بدأت مظاهر الضعف تنخر أركان الدولة التي كانت قوة سياسية عظمى، لا سيما بعد وفاة الناصر عام 1213م، وتولي حكام ضعاف الخلافة بعده، فقامت حركات تمرد وثورات في بلاد المغرب تهدف للاستقلال.
وكان من التداعيات انهيار اقتصاد الدولة الموحدية، الذي أثرت فيه الهزيمة ونشوب الفوضى، فتعرضت التجارة الداخلية والخارجية إلى نكسة عظيمة، وتوقفت القوافل عن السير بسبب انعدام الأمن، وحدث شلل في النشاط الزراعي بسبب هجرة الفلاحين لأراضيهم نتيجة الأعمال التخريبية والفوضى التي أحدثتها الحروب الطاحنة.
كما صاحب الهزيمة انحدار في الحياة الفكرية، وظهر ذلك جليّا في ضعف الحس التأليفي الذي اقتصر على المختصرات والحواشي والشروح، وكان من المآسي الحضارية في ذلك الوقت الهجرة الجماعية للعلماء من الأندلس والمغرب إلى مناطق أكثر أمنا.
أسباب الهزيمةكان من أهم الأسباب التي ساقت إلى هذه الهزيمة النكراء شخصية الخليفة محمد الناصر الذي لم يكن يتمتع بكفاءة قيادية كافية، وظهر ذلك من خلال الإجراءات التي قام بها منذ بداية سير الجيش الموحدي وحتى انهزامه.
فلم يضع خطة محكمة للقتال، وجعل المتطوعين في مقدمة الجيش، ووضع الجيش النظامي من خلفهم، فعلى الرغم من أن المتطوعين كانوا متحمسين للقتال بصورة كبيرة، فإنهم ليست لديهم الدراية الكافية بقتال مقدمة الجيش الصليبي، الذين كانوا من أجود المقاتلين.
إضافة إلى اعتداده برأيه، وعدم استشارة الخبراء العسكريين واعتماده على شخصيات من بطانة السوء كوزيره ابن جامع، الذي أشار عليه بالحصار الطويل لقلعة شلبطرة، الأمر الذي أنهك قوى الجيش.
كما أخفى عنه رسائل ابن قادس، ثم أشار عليه بقتله وأهان القواد الأندلسيين وأنذرهم بمغادرة الجيش، وقد كان لهذه الحوادث أسوأ وقع في نفوس الأندلسيين، وفي تثبيط همتهم في القتال، وكان الأندلسيون على الرغم من قلتهم العددية، عنصرا هاما في جيوش الغزو الموحدية المقاتلة بالأندلس، لأنهم كانوا أكثر خبرة بقتال الإسبان وطريقتهم في الحرب، وأكثر دراية بأرض المعركة.
ومن ناحية أخرى، أبدى الناصر عُجبا واعتدادا بكثرة جموعه واعتمد على تفوقه العددي البالغ وقلل من شأن العدو، مما دعاه إلى عدم الحذر والاحتياط في لقاء العدو.
ومن الأسباب التي أدت إلى الهزيمة كذلك اختلال نظام الجيوش الموحدية الكبيرة العدد وعدم اتساق تنظيماتها، وتنافر العناصر المكونة لها، وعدم توحيد قيادتها بأيدي قادة يتسمون بالبراعة العسكرية، إضافة إلى اختلال نظام التموين بها، نظرا لبعدها عن قواعدها مسافات شاسعة.
كما أن الدولة الموحدية قبيل معركة العقاب لم تكن قد استردت عافيتها، بعد أن أنهكتها الثورات الداخلية والأزمات سنوات، وكذلك تغيُّر قلوب الموحدين، وسخطهم على الوزراء والقادة، وذلك بسبب حبس أعطياتهم وتأخرها وإخراجهم إلى الغزو وهم كارهون، وقد خبت قواهم المعنوية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دولة الإسلام فی یونیو حزیران یولیو تموز فی الأندلس ألف مقاتل من قوات ألف من بعد أن کان من
إقرأ أيضاً:
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
في لحظةٍ باتت فيها عيون آلاف الناجين من جرائم نظام الأسد ترنو إلى بارقة أملٍ في عهدٍ جديد، تُفاجئنا بعض المنصّات الإعلامية باستضافة شخصياتٍ عُرفت بولائها للنظام وتبريرها للانتهاكات التي أدمت قلوب الضحايا على مدار سنواتٍ طويلة. هذا المشهد يشكل استفزازًا لمشاعر المكلومين، ويحمل في طيّاته تهديدًا حقيقيًا للسلم الأهلي؛ إذ قد يدفع ببعض الضحايا نحو الانتقام في ظل غياب إجراءاتٍ عادلة تمنحهم الإنصاف المنشود.
ولعلّ القضية المحورية التي نستحضرها هنا هي ضرورة معالجة ظاهرة استضافة هؤلاء الداعمين والمبررين لجرائم النظام في البرامج الحوارية أو المنصّات الثقافية، خاصةً بعد انهيار سلطة نظام الأسد الاستبدادية وبدء مرحلةٍ جديدة يُفترض أن تُمهِّد الطريق للعدالة الانتقالية.
إنَّ التهاون مع تبرير الجرائم والعنف الذي طال شرائح واسعة من المجتمع، لا يؤدّي سوى إلى تعميق الانقسامات وإبطاء مسار العدالة المنشودة. لقد بات مطلوبًا أكثر من أي وقتٍ مضى توخّي الحذر في اختيار الضيوف، وتحمّل مسؤولية مهنية وأخلاقية تضمن احترام كرامة الضحايا، وترسم معالم مستقبلٍ أكثر عدلًا وتوازنًا.
على مدى سنواتٍ طوال، شهدت سوريا انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان على يد نظام الأسد، بما في ذلك الإخفاء القسري والتعذيب والقتل خارج نطاق القانون، وبحسب قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان كان نظام الأسد وحلفاؤه مسؤولين عما يقارب 90% من تلك الانتهاكات الموثّقة.
إعلانوفي ضوء هذا الواقع الأليم، تبرز أهمية العدالة الانتقالية التي تُعرَف بمجموعة من الآليات والتدابير الرامية إلى تحقيق المحاسبة، والكشف عن الحقيقة، وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي، بما يضمن عدم تكرار هذه الفظائع.
ولأنّ الإعلام يشكّل أحد الأعمدة الرئيسة في مرحلتَي النزاع وما بعد النزاع، فإنّ دوره لا يقتصر على التغطية الإخبارية؛ بل يتعدّى ذلك إلى كونه أداةً محوريةً إما في تهدئة الرأي العام ورأب الصدع الاجتماعي، أو في إعادة إنتاج سردياتٍ تبرِّر الجرائم وتُهيّئ المناخ لبروز أحقادٍ جديدة.
من هنا، يصبح التعامل المسؤول من قبل المنصّات الإعلامية ركيزةً أساسيةً لإنصاف الضحايا، وتعزيز المسار الانتقالي نحو دولةٍ تحترم حقوق الإنسان وتوفّر ضماناتٍ حقيقيةً لعدم العودة إلى دائرة الانتهاكات.
تكمن الإشكالية المركزية في أنّ العملية الانتقالية لا ينبغي أن تقتصر على ملاحقة الجناة المباشرين الذين ارتكبوا أبشع الانتهاكات بحقّ المدنيين، بل يجب أن تمتدّ لتشمل أولئك الذين دعموا وشرعنوا هذه الانتهاكات، سواء كان ذلك دعمًا ماديًّا أو سياسيًّا أو إعلاميًّا.
إنّ تبرير الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ليس مجرّد "رأيٍ مخالف"، يمكن التعامل معه باستخفاف؛ فهو انخراطٌ فعليٌ في إعادة إنتاج السرديات التي تجرّد الضحايا من إنسانيتهم وتضفي شرعيةً وهميةً على مظالمهم.
من هذا المنطلق، يصبح السكوت عن هؤلاء أو دعوتهم للظهور الإعلامي دون محاسبةٍ واضحة إمعانًا في التغاضي عن الآلام التي عانى منها الملايين، ويرسل رسالةً خاطئة إلى المجتمع تفيد بأنّ مجرد تغيير قمة الهرم السلطوي كافٍ للوصول إلى العدالة، بينما تبقى الشبكات الداعمة في منأى عن المساءلة.
على الصعيد النفسي والاجتماعي، إنّ استضافة الشخصيات المبرِّرة للجرائم تشكّل استفزازًا مباشرًا لمشاعر ملايين الضحايا وذويهم، ما قد يولّد موجةً جديدة من الغضب وعدم الثقة في أي عملية انتقالية، ويفتح الباب أمام احتمالاتٍ خطيرة من العنف الانتقامي.
إعلانفحينما يرى الناجي أنّ من برّر قتله أو تعذيبه في السابق ما زال يُمنح منصّةً للترويج لخطابه، فإنّ ذلك يُضعف ثقته في صدقية مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام على السواء، ويقوّض فرص إرساء بيئةٍ مُهيّأةٍ للمصالحة.
ذلك أنّ انتقال المجتمعات من حقبة الاستبداد إلى مرحلة العدالة لا ينحصر في معاقبة المتورطين المباشرين فقط، بل يستلزم تفكيك المنظومات الثقافية والفكرية التي سمحت بتمرير الانتهاكات وتبريرها أمام الرأي العام.
أما فيما يتصل بالسلم الأهلي، فإنّ غضّ الطرف عن هذه الشريحة، وتبرير وجودها في الفضاء العام دون أي اعتذارٍ فعلي أو إسهامٍ حقيقي في جبر الضرر، يرسّخ لدى الضحايا شعورًا بالظلم ويغذّي مشاعر الانتقام التي قد تهدّد بنسف التعايش المجتمعي برمّته.
فالعدالة الانتقالية، كما تستلزم كشفًا للحقيقة واعترافًا علنيًّا بالمسؤولية، تنشد أيضًا إعادة ترميم النسيج الاجتماعي عبر خطواتٍ ملموسة تمنح الناجين الإحساس بأنّ كرامتهم قد استُعيدت وأنّ المجتمع بأسره يقف في صفّ الحقيقة، لا في صفّ النافذين والمبرّرين الذين كانوا جزءًا لا يتجزأ من منظومة القمع.
وفي هذا الإطار، فإنّ تطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب، بأبعاده القانونية والأخلاقية والاجتماعية، هو صمّام الأمان الذي يضمن احتواء شعور الضحايا بالمرارة والإحباط، ويمهّد الطريق أمام مرحلةٍ سياسية ومجتمعية تحترم حقوق الإنسان في العمق، بدل أن تكتفي بتغيير أسماء القادة أو رموزهم.
الحجج والدلائل الداعمة 1- الركائز القانونية حدود حرية التعبير وجرائم التبرير: إنَّ الأصل في القانون الدولي لحقوق الإنسان أنَّ لكلِّ إنسان حقًّا في حرية الرأي والتعبير، وفق ما تنصّ عليه المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.بيد أنّ هذه المادة نفسها تقرُّ بإمكان فرض قيودٍ محدّدة على هذا الحق، شريطة أن تكون تلك القيود ضروريةً ومتناسبة وتحمي المصالح العامة، لا سيّما في حالات التحريض على العنف أو تبرير الجرائم الدولية.
إعلانوبالتالي، فإنّ تبرير الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب لا يمكن اعتباره يندرج ضمن الحريات المحميّة؛ بل هو انتهاكٌ يزيد من إيلام الضحايا ويهدّد السلم المجتمعي.
سوابق دولية في تجريم التمجيد أو الإنكار: شهدت بعض التجارب الأوروبية قوانين صارمة تجرّم إنكار الجرائم المرتبطة بالأنظمة الشمولية، وهذه الخطوات التشريعية تستند إلى قناعة مفادها أنّ عدم التصدي لإنكار أو تمجيد الجرائم الجسيمة يخلق بيئةً خصبة لإعادة إنتاج العنف والقمع. وعليه، قد تكون هذه النماذج القانونية مصدر إلهامٍ لحالةٍ سورية انتقالية، بهدف صوغ نصوصٍ تشريعية تُجرّم تمجيد أو تبرير الأعمال الوحشية التي ارتكبها نظام الأسد. 2- الركائز الأخلاقية والاجتماعية احترام كرامة الضحايا وحفظ السلم المجتمعي: تعدّ حماية كرامة الضحايا مبدأً أخلاقيًّا وإنسانيًّا لا يقبل التنازل، فضلًا عن كونها أداةً حاسمةً في استعادة الثقة داخل المجتمع. إذ يشعر الناجون أنَّ معاناتهم يتم الاعتراف بها وتقديرها، ما يساهم في تهدئة الغضب الداخلي لديهم ويمنع أي ميولٍ انتقامية. فعدم اتخاذ أي إجراءات قانونية أو أخلاقية ضدّ من يبرّرون الجرائم يعني، ضمنيًّا، إباحة الاعتداء على إنسانية الضحايا مجدّدًا. أهمية جبر الضرر المعنوي مبكّرًا: قد يستغرق تأسيس محاكم العدالة الانتقالية أو لجان الحقيقة والتحقيق وقتًا طويلًا، بيد أنّ الضحايا لا يستطيعون الانتظار لسنوات وهم يشاهدون مجرمي الأمس وداعميهم يتجوّلون في الفضاء العام دون أدنى شعورٍ بالمسؤولية.ولهذا، تصبح خطوات الاعتذار العلني والتعويض المادي والمعنوي، ورد الحقوق إلى أصحابها، إجراءاتٍ أساسيةً تُنفَّذ بشكلٍ مبكّر، بحيث تشكّل اعترافًا صريحًا بوقوع الجريمة وتحمّلًا للجزء الأكبر من أعبائها الأخلاقية.
إنّ هذه الخطوات هي ركيزة السلم الأهلي، وتُعبّد الطريق نحو مستقبلٍ أكثر استقرارًا، عبر بعث رسالةٍ واضحة بأنَّ زمن الإفلات من العقاب وتمجيد الانتهاكات قد ولّى.
إعلان الرد على الاعتراضات "عدم العلم"يدّعي بعض الموالين لنظام الأسد أنّهم لم يكونوا على درايةٍ كاملةٍ بحجم الممارسات القمعية، أو أنّهم صدّقوا الدعاية الرسمية التي تنكر وقوع انتهاكاتٍ ممنهجة. غير أنّ هذا الادعاء بالجهل لا يعفي من المسؤولية الأخلاقية أو القانونية، خصوصًا بعد توافُر وثائق وشهادات وأدلة واسعة توثّق تلك الجرائم.
في إطار العدالة الانتقالية، يترتّب على الأفراد الذين دعموا النظام أو برّروا جرائمه واجب مراجعة الذات وتثقيفها، بدل الاستمرار في إنكار الحقائق. فمن غير المقبول أنّ تبرُز حجّة "عدم المعرفة" بعد سقوط نظام الأسد، في وقتٍ باتت المعلومات الموثوقة متاحةً للجميع. إنّ الاعتراف بالتقصير والجهل في السابق، إن أُرفق بتحمُّل العواقب والمسؤوليات الآن، قد يُشكّل خطوةً إيجابية على طريق استعادة ثقة المجتمع.
خطاب الانتقاميمثّل الخوف من الانتقام أحد الهواجس المتكررة لدى الداعمين السابقين للنظام، كما قد يكون دافعًا للضحايا أنفسهم إذا ما استمر تجاهل مطالبهم. إلا أنّ التجربة التاريخية تُبيّن أنّ غياب المساءلة يؤدي في النهاية إلى تفاقم نزعة الثأر ويُغذّي دوراتٍ جديدةً من العنف.
على النقيض، فإنّ مساءلة المبرِّرين والجناة المباشرين، وما يصاحب ذلك من إجراءاتٍ تصالحية كالمصارحة والاعتذار والتعويض، يمكن أن تقطع الطريق على نزعة الانتقام، وتعزّز مناخ الثقة بين مختلف فئات المجتمع.
بهذا المعنى، يصبح التزام العدالة الانتقالية – بأبعادها القانونية والأخلاقية – الضامن الأهمّ لاستقرار مجتمعي يضع حدًّا لدوائر العنف، وينتقل بالشعب من مرحلة الصراع إلى طور التعافي وبناء الدولة على أسسٍ عادلةٍ وشاملة.
التوصيات والمقترحات العملية 1- للحكومة المستقبلية تشريعات واضحة وصارمة: من الضروري سنّ قوانين تُجرّم صراحةً إنكار أو تبرير جرائم نظام الأسد، بحيث توفّر تلك النصوص غطاءً قانونيًّا لمحاسبة كل من ينخرط في تبرير أعمالٍ ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب. قد يستفيد واضعو التشريعات من التجارب المقارنة، لتأطير النصوص بما يراعي الخصوصية السورية. إدراج جرائم النظام في المناهج والبرامج الإعلامية: لا يكفي سنُّ القوانين دون توفير الوعي المجتمعي. لذا، ينبغي تضمين الجرائم والفظائع التي ارتكبها النظام في مناهج التعليم المدرسية والجامعية، وذلك لضمان ألا تتكرّر مآسي الماضي. كما يجدر بالبرامج الإعلامية الرسمية التركيز على توثيق تلك الانتهاكات، مع تسليط الضوء على شهادات الضحايا وذويهم حتى يكون الرأي العام على درايةٍ حقيقية بما حصل. توفير آليات تنفيذية: لضمان ألا تبقى هذه التوصيات في حيّز النظريات، يجب إنشاء هيئة أو لجنة حكومية تُعنى بمراقبة تنفيذ القوانين المتعلقة بتجريم التبرير، وتتولّى تنسيق الجهود مع الجهاز القضائي لملاحقة المخالفين. فضلًا عن ذلك، يمكن لهذه الهيئة العمل على تطوير سياساتٍ تربوية وثقافية تساهم في نشر ثقافة حقوق الإنسان والمساءلة. إعلان 2- للإعلاموضع معايير أخلاقية ومهنية: تُعتبَر وسائل الإعلام مرآة المجتمع وصانعة الرأي العام؛ وعليه، لا يجوز لها منح منبرٍ لمروجين لخطابٍ يشرعن العنف أو يهوّن من خطورة الجرائم الموثّقة.
يجب وضع ميثاق شرف إعلامي يرفض استضافة أي شخصيةٍ تبرّر الجرائم الدولية مثل التي ارتكبها نظام الأسد، ويُلزم المؤسسات بالتحقق المسبق من محتوى الضيف وأرشيفه وتصريحاته السابقة.
إنتاج محتوى توعوي وتثقيفي: الإعلام قادرٌ على إحداث فرقٍ ملموس في عملية بناء الذاكرة الجماعية. فمن واجب المؤسّسات الإعلامية توظيف تقارير توثيقية وأفلامٍ وثائقية وبرامج حوارية تشرح جذور الانتهاكات بحق الشعب السوري، وتبيّن آثارها المدمّرة على النسيج الاجتماعي. مثل هذا المحتوى يُسهم في ترسيخ ثقافة المحاسبة والتعاطف مع الضحايا.
عدم تحوّل حرية التعبير إلى بابٍ للإفلات من المحاسبة: ينبغي للمؤسسات الإعلامية إدراك الخط الفاصل بين حرية الرأي، وبين الدعاية المضللة التي تبرر الجريمة. إنّ الالتزام بالموضوعية في المعالجة الصحفية يقتضي إظهار الحقائق من مصادر موثوقة والتصدي لنشر الأكاذيب، أو أي تضليلٍ يستبيح معاناة الضحايا.
3- للداعمين أو المبررين إعادة الممتلكات المنهوبة: إذا كانت هناك أملاكٌ أو مواردُ استولى عليها الداعمون أثناء حقبة نظام الأسد، فيجب أن تُعاد هذه الممتلكات إلى أصحابها الشرعيين فورًا، بما يشكّل بدايةً للاعتراف بأضرارٍ مادية واضحة. الاعتذار والتعويض: من الضروري توجيه اعتذارٍ علني ومكتوب ومصوّر، يقرّ صراحةً بالمسؤولية الأخلاقية عن دعم نظامٍ مارس الجرائم بحق مواطنيه، على أن يتضمّن خطةً لتعويض الضحايا ماليًّا ومعنويًّا. ويُعدّ هذا التعويض جزءًا من جبر الضرر المبكّر الذي يعزز الشعور بالإنصاف قبل انتظار المسارات القضائية المطوّلة. عدم تكرار الفعل والابتعاد عن المناصب العامة: إنّ تحمُّل المسؤولية لا يتوقف عند الاعتراف العلني، بل يستلزم الالتزام العملي بعدم شغل أي مناصب قيادية في المستقبل، فلا يمكن لشخصٍ برّر القتل أو التصفية أن يتولى شأنًا عامًا دون المرور بمحاسبةٍ حقيقية. الامتناع عن الظهور الإعلامي: قبل القيام بهذه الخطوات البنّاءة من الاعتذار وإعادة الممتلكات وتعويض الضحايا، يجب الامتناع تمامًا عن الظهور الإعلامي، إذ لا يعقل أن يُمنح المبرّرون منصةً جديدةً لتعزيز سردياتهم المؤذية من دون أي إشارةٍ إلى الندم أو تحمّل مسؤولياتهم الأدبية والقانونية. إعلان الخاتمةفي ضوء ما سبق، يتبيّن أنَّ إقصاء الخطاب الذي يبرِّر جرائم نظام الأسد ليس مجرّد مطلبٍ عاطفيٍّ يحاكي آلام الضحايا، بل هو عنصرٌ جوهري في أي عملية عدالة انتقالية تهدف إلى ضمان عدم تكرار المآسي الماضية وبناء مستقبلٍ أكثر استقرارًا.
فكلّما سُمح للأصوات المبرِّرة بالظهور وتوظيف المنصات الإعلامية لتبرئة الجلاد أو الاستخفاف بجرائمه، زاد خطر إحياء مناخ القمع، وتعميق مشاعر الانتقام لدى من عانوا وذاقوا ويلات النظام.
ولهذا، فإنّني أدعو القرّاء وشرائح الرأي العام إلى تكثيف الضغط على المؤسسات الحكومية والإعلامية المستقلة العربية والأجنبية كي تتبنّى هذه الإجراءات والتوصيات على نحوٍ جاد؛ فإصدار تشريعاتٍ رادعة واستحداث ضوابطٍ مهنيةٍ صارمة في المشهد الإعلامي، تدابير لا بدّ منها لإرساء ثقافة المساءلة، واسترداد ثقة الجمهور بدور وقدرة الإعلام في مناصرة حقوقهم والدفاع عنها.
إنّ تفعيل هذه الخطوات يضمن بناء أرضيةٍ حقوقية لدور الإعلام المحوري في تحقيق العدالة والمحاسبة، حيث تُمحى ثقافة إفلات المجرمين والداعمين من العقاب، وتُزرع بديلًا منها ثقافة الانفتاح على الحقيقة والمصالحة عبر خطواتٍ عملية، ويصبح مبدأ العدالة حجر الزاوية في إدارة الشأن العام، وينمو وعيٌ مجتمعي راسخٌ بقيم حقوق الإنسان.
وفي مثل هذه الأجواء فقط يمكن للسوريين أن يخطوا بثباتٍ نحو طيّ صفحة الاستبداد وتأمين مستقبلٍ أفضل للأجيال القادمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية