الشارقة تحاور العالم بمشروع ثقافي
تاريخ النشر: 24th, January 2024 GMT
الشارقة: عثمان حسن
أكد مشروع الشارقة الثقافي أنه مشروع عابر للحدود، وينفتح على ثقافات العالم ويتواصل معها، ذلك لأن أركانه تنطلق من رؤى وتطلعات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ويحظى بدعمه ورعايته منذ نحو خمسين عاماً، إضافة إلى أنه بني على ثلاثة أبعاد هي: البعد المحلي والعربي ومن ثم العالمي.
يرتكز المشروع بصفة أساسية على القراءة والمعرفة، وليس مصادفة أن يكون معرض الشارقة الدولي للكتاب، الذي انطلقت دورته الأولى منذ 42 عاماً، من أهم المعارض في منطقة الشرق الأوسط.
بات المعرض الذي جاءت انطلاقته الأولى تحت إشراف دائرة الثقافة والإعلام، وتشرف عليه اليوم «هيئة الشارقة للكتاب»، اسماً راسخاً في دولة الإمارات، ومن خلاله حصدت الشارقة الكثير من الألقاب العربية والدولية، حيث اختيرت العاصمة العالمية للكتاب في عام 2019، هذا اللقب الأرفع من نوعه في تاريخ الثقافة العربية، بما يعكس حجم الجهد المعرفي والإبداعي المبذول خلال أربعة عقود من الزمن.
تجربة رائدة
من المهم هنا، التنوية بهيئة الشارقة للكتاب التي تأسست في عام 2014، واستطاعت رغم سنوات التأسيس التي لا تتجاوز العشر سنوات، أن تقدم تجربة ثقافية رائدة إلى كافة بقاع العالم، حيث شهد عام 2022 وما قبله، نشاطاً استثنائياً لحمل ملامح هذه التجربة في معارض الكتاب العالمية، على رأسها معرض فرانكفورت الدولي، لتسلط الضوء على جهود الشارقة في النشر والترجمة، لتستعرض مع مؤسسات النشر الكبرى ومديري معارض الكتب برامج الهيئة وما تتيحه من فرص للناشرين والمهتمين بتبادل شراء حقوق النشر والترجمة، وخاصة من خلال وكالة الشارقة الدولية للحقوق الأدبية.
وتواصلت نشاطات الهيئة عبر مشاركاتها في معرض بولونيا الدولي للكتاب، حيث أعلنت إدارة المعرض في 2021 اختيارها معرض الشارقة للكتاب بين أربعة معارض عالمية كبرى، ليكون مركزاً لحوار الثقافة الإيطالية مع العالم في قارة آسيا وشمال إفريقيا، وذلك في خطوة تؤكد مكانة الشارقة بين عواصم المعرفة العالمية، كما توجت الإمارة في 2022 ضيف شرف الدورة ال 49 من معرض لندن الدولي للكتاب، وكانت مناسبة مهمة للاحتفاء بالمشروع الثقافي لصاحب السمو حاكم الشارقة، لتسجل الهيئة تاريخ أول ممثل لدولة عربية تنال هذا التكريم.
وتتواصل فعاليات الاحتفاء بالشارقة الثقافية، عبر مدينة غوادالاهارا المكسيكية، التي اختارت إمارة الشارقة ضيف شرف الدورة ال36 من معرض المكسيك الدولي للكتاب، مقدمة تجربة الإمارة الرائدة في تعزيز التواصل الحضاري بين الشعوب، ثم اختيار الشارقة ضيف شرف معرض سيؤول الدولي للكتاب في 2023، في منجز جديد يضاف لتاريخ الثقافة العربية.
صناعة النشر
اليوم، تعمل هيئة الشارقة للكتاب على نقل المشروع الثقافي عبر دول العالم، لتبحث آفاق التعاون والعمل المشترك مع مجموعة من كبرى مؤسسات صناعة النشر في أوروبا والعالم، كما تناقش مجالات وفرص مشاركة الناشرين وتوسيع حضورهم في الدورات المقبلة من معرض الشارقة، بالاستناد إلى الفرص والتسهيلات التي تتيحها الشارقة للنهوض بالقطاع.
ومن المهم هنا، أن نشير إلى مفاعيل مشاركة الهيئة في عدد من الدول العربية، من خلال مشاركتها في معارض بالقاهرة والرياض والعاصمة الأردنية عمان، وفي سلطنة عمان والدوحة، حيث نجحت في نقل رؤية الشارقة الثقافية تجاه صناعة الكتاب وإنتاج المعرفة وصناعة النشر في تلك البلدان، فاتحة أمام الناشرين المشاركين الفرص للاستفادة من ميزات «المنطقة الحرة لمدينة الشارقة للنشر»، كما استقطبت الكتّاب والناشرين للاطلاع على رسالة «معرض الشارقة الدولي للكتاب» و«مهرجان الشارقة القرائي للطفل» وغيرها من الفعاليات الدولية التي تنظمها الهيئة سنوياً.
وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة، إلى معرض «بيغ باد وولف» المعرض الذي تأسس قبل 10 سنوات في ماليزيا، وهو معرض الكتب المتنقل الأشهر في آسيا وإفريقيا، حيث شهد عام 2019 تاريخاً فاصلاً في تبني هيئة الشارقة للكتاب لنشاطات هذا المعرض بالمنطقة، ففي أكتوبر من ذلك العام افتتح المعرض مكتباً بمدينة الشارقة للنشر، وهنا قامت الهيئة بالاستثمار في الشركة، ما ساعد على توسيع نشاطاتها في الشرق الأوسط وإفريقيا ونحو 37 مدينة في 15 دولة في إندونيسيا وماليزيا وميانمار وباكستان والفلبين وكوريا الجنوبية وسيريلانكا وتايوان وتايلاند وأيضا الإمارات.
المهرجان الأهم
شكّل المسرح جزءاً رئيسياً من مشروع الشارقة الثقافي، ولعل من المهم هنا، الإشارة إلى الإنجاز الأبرز في مسيرة الشارقة المسرحية، من خلال مهرجانها الأهم «أيام الشارقة المسرحية» الذي انطلقت دورته الأولى في 1984، وهو المهرجان الذي تشرف عليه اليوم إدارة المسرح التابعة لدائرة الثقافة بالشارقة، واستطاع النهوض بالحركة المسرحية المحلية التي شهدت نقلة نوعية لصنّاع اللعبة الفنية في الإمارات.
كما بات المهرجان بلجانه الفنية المتخصصة التي تضم في عضويتها كفاءات مسرحية عربية ومحلية، يستضيف في كل دورة مفكرين ومؤلفين ورواداً مسرحيين من مختلف البلدان العربية والأجنبية، وهو من أبرز المهرجانات التي رفعت من أسهم الحركة المسرحية في العالم العربي.
والحديث عن المسرح الإماراتي، يتواصل بتأسيس مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، في عام 2015 وتقام دورته كل سنتين، خلال شهر فبراير، على مدى سبعة أيام لإبراز التجارب المسرحية الخليجية المبتكرة والمتميزة.
وتتواصل المسيرة بتدشين ملتقى الشارقة للمسرح العربي، وهو لقاء فكري سنوي يقرأ مستجدات الساحة المسرحية العربية عبر جملة من المحاور الفنية، ومن خلال استضافة نخبة من الفاعلين في المشهد المسرحي العربي.
وتوالت المهرجانات المسرحية في الشارقة، بتأسيس «مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة» هذا الفضاء المفتوح أمام المواهب لخوض غمار تجربة الإخراج المسرحي، وهو يعد بحق مختبراً سنوياً لمتدربي الورش والدورات المسرحية التي تنظمها إدارة المسرح بالدائرة بمشاركة مجموعة من المختصين من خارج الدولة وداخلها، ويشكل فرصة ثمينة لإظهار قدرات هؤلاء المتدربين المبدعة وأسئلتهم وأحلامهم وتطلعاتهم.
تنمية حضارية
شكل تأسيس الهيئة العربية للمسرح في 28 أكتوبر 2007، بمبادرة من صاحب السمو حاكم الشارقة، مناسبة مهمة في تاريخ المسرح الإماراتي، الذي حمل «أبو الفنون» خارج حدود الإمارات في كافة أرجاء الوطن العربي، ليقوم بدوره التنويري من أجل تنمية حضارية للمجتمعات العربية، ويصوغ ذائقة فنية متجذرة بالمعارف الثقافية المتعلقة بالمسرح، بوصفه عاملاً مهماً من عوامل التقدم والتنمية.
وشكّل تأسيس الهيئة فرصة كبيرة للمساهمة في النهوض ب «أبو الفنون»، حيث عملت على إبراز المنجزات المسرحية العربية المتميزة، وشجعت الإبداع المسرحي الحر، وأسهمت في التعريف بالتجارب المسرحية الشبابية الجديدة وشجعتها ودعمتها وأتاحت فرصاً أكبر للتعاون بين المبدعين المسرحيين العرب، كما لعبت دوراً استثنائياً في تنمية وتطوير المسرح المدرسي وإدماجه في مناهج التربية، كما أسهمت في نشر وتوثيق الثقافة المسرحية على المستوى العربي.
وكانت المحطة الأولى لمهرجان المسرح العربي في القاهرة في يناير / كانون الثاني عام 2009، وتوالت محطات المهرجان لتحط دورته الرابعة في العاصمة الأردنية عمان في 2012، ويستمر في عقد دوراته في شهر يناير من كل عام، حيث عقدت دورته الخامسة في الدوحة 2013، وفي 2014 يعقد دورته السادسة في الشارقة، وتنعقد السابعة في العاصمة المغربية الرباط 2015، ودورته الثامنة في الكويت 2016 تحت شعار (نحو مسرح عربي جديد ومتجدد)، ثم يسافر المهرجان إلى الجزائر ليعقد دورته التاسعة 2017، ودورته العاشرة في تونس 2018، ثم يحط مجدداً في القاهرة بدورته الحادية عشرة 2019، ثم يعود مرة ثانية إلى الأردن في دورته الثانية عشرة 2020، ومجدداً في الدار البيضاء من خلال الدورة ال 13 في 2023.
بينالي الشارقة.. أطروحات جريئة تثري المخيلة البصرية
يعد بينالي الشارقة الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، إحدى أبرز فعاليات الفن المعاصر في الإمارات والمنطقة، منذ انطلاقته في عام 1993، ويعد بحق منصة دولية للعرض والتجريب لفنانين من المنطقة وخارجها، من خلال تكليفه بإنتاج وتقديم أعمال تركيبية عامة ضخمة، وعروض أداء، وأفلام لفنانين من جميع أنحاء العالم، ما جلب مجموعة واسعة من الفنون المعاصرة والبرامج الثقافية والمنتجين في الشارقة والإمارات العربية المتحدة والمنطقة.
ويمتاز بينالي الشارقة في كل دورة من دوراته بوجود مجموعة من القيمين الفنانين المعروفين على مستوى العالم، ومن أهم ضيوف هذا البينالي: زوي بت، عمر خليف، كلير تانكونس، كريستين طعمة، أنجي جو، يوكو هاسيكاوا، سوزان كوتر، رشا سلطي، هايك إيفزيان، إيزابيل كارلوس، طارق أبو الفتوح، محمد كاظم، جوناثان واتكينز، إيفا شارر، جاك برسكيان، كين لوم، تيرداد زولغادر، بيتر لويس.
وقد تميز بأطروحاته الجريئة التي أثرت المخيلة البصرية بانفتاحه على تجارب عالمية تمزج بين الحداثي والمعاصر، ورؤى تتجاوز فكرتي الزمان والمكان، بمديات عابرة للحدود وتؤسس لمفاهيم جديدة تطرح مشكلات الإنسان المعاصر على وجه الأرض.
وعلى سبيل المثال، في الدورة الثالثة عشرة من دورات البينالي والتي عقدت في 2017، وكانت بعنوان «تماوج»، شارك نحو 70 فناناً عالمياً في تجربة ثرية بأبحاثها الفكرية والنظرية من خلال خبراء في تاريخ الفن، الذين استطاعوا تقديم منصة فنية اقترحت آليات جديدة لتمكين الفنون، وتقريبها من حساسية البشر انطلاقاً إلى أفقها الإنساني الأوسع، هنا، انخرطت الفنون إلى جانب الثقافة في تلمس مشكلات العالم ومقاربتها فكرياً وفنياً.
وكما هو واضح، فإن مؤسسة الشارقة للفنون من خلال بينالي الشارقة استطاعت أن تفتح أفقاً فنياً وثقافياً مختلفاً ينفتح على الحاضر ويخطط للمستقبل ويستشرف أفق هذا المستقبل.
المصدر: صحيفة الخليج
كلمات دلالية: فيديوهات الشارقة للکتاب الدولی للکتاب معرض الشارقة من خلال
إقرأ أيضاً:
معرض مسقط للكتاب .. ومستقبل القراءة الورقية
يفتتح اليوم ـ الخميس ـ معرض مسقط الدولي للكتاب، في دورته التاسعة والعشرين، هذا العرس الثقافي والفكري الذي ينتظره الآلاف، من داخل عُمان وخارجها، باعتباره من المعارض التي يهتم لها الكثيرون، من عشاق الكتاب والقراءة والمعرفة العلمية، ومتابعة الجديد الذي تخرجه المطابع كل عام، كونه من المعارض العربية التي يُشار إليها بالبنان، بسبب الإقبال المتزايد الذي يرتاده الزوار كل عام. ونلاحظ أن دور النشر تزداد في حضور معرض مسقط الدولي للكتاب.. ونلاحظ أن مع كل دورة لهذا المعرض، يجري من البعض الحديث عن أزمة القراءة، أو تراجع قيمة وأهمية الكتاب المطبوع، مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، والمتابعة لكل جديد مع هذه التقنيات،
مما أدى إلى ـ حسب قول البعض ـ إلى تراجع الكتب عن التأثير، خاصة على جيل الشباب لاستقراء هذه الظاهرة، بشكل منهجي وعلمي، ويتم مناقشة هذا الموضوع، الذي يختلف معها البعض.. فهل تراجعت القراءة بسبب الوسائط الحديثة؟ الحقيقة هذا القول تردد كثيرًا، خاصة مع الحديث عن القراءة، أو حضور معارض الكتاب، وقد كتبت في هذا الموضوع قبل نحو عقدين، وناقشت تطور وانتشار الوسائط الإعلامية الحديثة بتقنياتها المتصاعدة، منذ أواخر القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين،
ومع تزايد الحديث يتزايد عمّا يسميه البعض بالجذب الذي أحدثته التقنيات الحديثة، بعد انتشار هذه الوسائط بين الأجيال الشبابية خاصة، وسائل التواصل الاجتماعي متعددة النماذج التي ترسل في هذا الفضاء المفتوح، وهي لا شك ليست خالية من الأهداف والأغراض الفكرية، بما تشكله هذه الوسائط، على النشء من خلال ما تبثه من أفكار ومؤثرات عديدة، منها الانجذاب اللامحدود لهذه التقنيات والوسائط، ويعتبرها البعض أنها تسهم في البعد عن القراءة الجادة، خاصة القراءة في الكتاب المطبوع، بل والابتعاد عن قراءة الصحافة حتى الورقية، وتراجع القراء بها بشكل لافت وملحوظ خلال العقود القليلة الماضية عند الأجيال الشابة الجديدة، عما كان عليه قبل ظهور هذه الوسائط الحديثة، خاصة الجيل الجديد من الشباب، وكنت عندما أقابل بعض الشباب، ومنهم أيضا أكبر من ذلك السن أيضا!.
ويسألني البعض: هل ما زلت تكتب في الصحافة؟ وهذا يؤكد أن القراءة بالصحافة، تأثرت من هذه الوسائط الجديدة، وشكلت انجذابًا للبعض، أو تعلقه بهذه الوسائط وتأثيرها عليهم، وقد يعزو البعض من المهتمين بهذه الظاهرة، إلى أن التقنيات الجديدة أسهمت في الجذب الشديد لها، وجعلتهم أكثر اقترابًا من هذه الوسائط، وأكثر ابتعادًا عن القراءة التي تحتاج إلى وعي خاص بأهمية القراءة، وخاصة الكتاب المطبوع، والبعض يعتقد أن جانب مما اعتبر سببًا في ذلك، ظهور الإعلام الإلكتروني، لكني أرى أن الكثير من المؤسسات الإعلامية ـ ومنها إعلامنا العماني ـ سرعان ما تفاعل مع هذه الوسائط، وتعامل معها باحترافية، باعتبارها أنها تسهم في رفد القدرة على التوصيل والتيسير،
لكل جديد والبث من خلاله بيسر، والتي أصبحت مجالًا مفتوحًا بإيجابياته وسلبياته، وتنوعت مجالات وسهولة التعاطي معه، وفق المرئيات التي يمكن التعاطي مع هذه التكنولوجيا وإمكانياتها المهمة في جوانب كثيرة، حيث إنها تشكّل دافعًا للرقي في طرائق المتلقين للجديد التقني، لكن لها آثارها السلبية تجاه القراءة الحرة، على الأجيال الجديدة ـ كما يرى البعض ـ لكن تحتاج إلى إدراك سلبياتها والعمل على التقليل من أثرها، وهو عزوف بعض الشباب عن القراءة في الكتاب الورقي، نظرًا لأهميته الكبيرة، خاصة مع بدايات الانفتاح على هذه التقنيات الحديثة، على وجه الخصوص، ولكني أرى أن هذه النظرة تجاه الكتاب في السنوات القليلة الماضية، تراجعت قليلا، عما كانت عليه قبل أكثر من عقد ونصف العقد، عندما برزت هذه التقنيات،
وكانت متاحة للعموم بتدرج سريع ومتدفق.. صحيح أن الثقافة الذاتية عند البعض تأثرت بما عُرف بـ(الاختراق الثقافي)، من هذا القادم الغربي، وهي بلا شك أسهمت في جاذبيتها عند بعض الشباب، بما تظهره هذه الوسائط الجديدة من جاذبية ومؤثرات، حول ما يطرح من أفكار ونظم للمعلومات قادرة على التوصيل بسرعة فائقة، ورؤية الآخر لها لا يطاق في بعض ما يبث، والتي قد لا نتوافق مع بعضها في مسارات هذه الأفكار ومنطلقاتها، خاصة من الدول المتقدمة، بإمكانيات التأثير الضخمة التي أحدثتها في العالم كله، وهذه لها حديث آخر في قضية الثقافة ومؤثراتها.
والإشكال الذي يثار من بعض المهتمين، أن القراءة عند بعض الأجيال الجديدة، ابتعدت في أغلبها عن القراءة في الكتاب الورقي، والاقتصار على بعض القراءات البسيطة والهامشية عبر الوسائط، ومنها الروايات والتعليقات والنقاشات العامة السريعة، كل حسب اهتمامه، لكن لا تقاس كمقارنة بأهمية ومكانة وتأثير الكتاب المطبوع على القارئ الجاد، لكن هذا القول في عمومه كما يراه البعض لا يمكن أن نعتبره مسألة محسومة، تجاه هذه الوسائط عند الغالبية من الشباب لا انفكاك عنها ـ كما أشرت آنفًا ـ لكني أرى من خلال ما تابعته منذ عامين تقريبا، أن بعضًا من جيل الشباب، بدأ يغير نظرته تجاه الكتاب وأهميته ودوره الفكري والثقافي،
وهناك مؤشرات جديدة تجاه هذه النظرة للكتاب عند النخب الواعية المدركة لقيمة الكتب والمعرفة المكتوبة عمومًا، وأن بعضهم بدأ بالانجذاب للقراءة في الروايات، وبدأت ظاهرة الإقبال على الكتاب الورقي من جديد في البروز عند الكثير من النخب الشبابية، وقد كتبت منذ فترة عن هذا الأمر الملاحظ، والاهتمام بالفكر والثقافة في معرض مسقط، وحتى الفلسفة عند بعضهم، ومنها الكتاب المسموع، وبدأ هذا القبول يتطور ويتزايد في فئة لا بأس بها من الجيل الجديد ، وهذه ظاهرة تستحق الاهتمام، حتى في الكثير من المجتمعات العربية، ومنها مجتمعنا العماني، وكذلك نراه موجودًا في المشاركة بمعارض الكتاب الدولية، وهذه ظاهرة أراها إيجابية خاصة،
مع حضور الشباب في المعارض، والذي بدأ يهتم بالكتاب المطبوع ويتابع الجديد مما تصدره المطابع في المعارض المختلفة، ويسافر إلى بعض الدول العربية سنويا، ومنها دول مجلس التعاون لشراء الجديد من الكتب، ومحاولة البعض شراء الكتب وبيعها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يسهم في دعم القراءة، وتشجيعها عبر هذه الوسائط الجديدة بين الأجيال الجديدة التي تتابع في هذه الوسائط ومنها مواقع لبيعها.
ولا شك أن القراءة أصبحت من أهم وسائل تكوين الوعي الاجتماعي والفكري والثقافي، بين الناس، خصوصا فيما يتعلق بالجديد في عالم التكنولوجيا والتفاعل، مع العصر ومستجداته وتحولاته، حيث أصبحت تستخدم كأداة مكملة للجهود الرامية إلى التعليم المستمر، ورفع المستويات الفكرية والحضارية، وفي زيادة المعرفة والمهارات المنهجية المختلفة المرتبطة بالقراءة الجادة، والتي تدفع الناس دفعا نحو حياة أكثر نشاطًا وابتكارًا ووعيًا بالواقع وتحدياته، في كافة مناحي الفكر ومتطلبات الرؤى الثاقبة التي تفتح آفاق المعرفة بكل جوانبها، ومنها ترشيد وتنظيم القراءة على مستوى الأمة، والتي تهدف أساسا إلى الاستخدام الأمثل والأكمل للقراءة في الكتب، باعتبارها من أقوى وسائل التأثير في من يقرأ ويهتم بالقراءة. ومن الباحثين البارزين، الذين اهتموا بالقراءة وتأثيرها على الكتابة، كما عاشوها د. محمد حامد الأحمري في كتابه «مذكرات قارئ» إذ يقول: «قضيت معظم ما مرّ من سنوات وعيي قارئًا، لأكتب عما أشغلني طوال هذه السنين،
بدأتُ فوجدت النصوص التي أذكر مواقعها، والأفكار التي مررت بها، والنتائج التي توصلت لها ماثلة للعيان، تنادي كل منها من زاوية قريبة أو بعيدة، كلها تطلب الحضور إلى عالم الوجود، وهنا يحس أن صحة الجسد والروح، ومتعة العقل والفهم تحتاج إلى توازن ورعاية، وأن هذا الوجود ـ ناسا وكونا ـ يستحق أن تترك لهم بعدك خيرا هو خير ما عرفت، أو تترك لهم خبرا عما كان منك، فتدعه هناك لهم». فالقراءة تشعل العقل والفكر والدعوة للكتابة عند الكثيرين ممن تمسك بالقراءة، وهي بلا شك إحدى ثمار هذه النهضة والحضارة الإنسانية، وأهم وأقوى وسيلة للمعرفة الصحيحة، إلى جانب الارتقاء بالإنسان في عقله ووعيه ورؤيته ومنهجه في الحياة، وأعتقد أن الكتاب سيظل حيا، وسيبقى الهاجس الفكري والمعين القوي في التثقيف الذاتي للإنسان، مهما تسارعت وتطورت الوسائل الحديثة ووسائطها.
ومع انتشار الكتاب في الوطن العربي، وزيادة دور النشر بشكل ملحوظ، وتطور وسائل الطباعة الورقية، إلا أن البعض ممن له بعض الاهتمامات ـ بحسب رأيه ـ ويتحدثون عما أسموه بضيق الوقت، ومن عدم الوقت للقراءة، ولو لساعات،
وقد التقيت في إحدى المرات ببعض الأصدقاء في جلسة خاصة، وهم من المهتمين بالكتاب، ومن القراء الدائمين، لكل جديد في عالم الكتب، فكان حديثنا حول القراءة والوقت، ومدى تخصيص ولو جانب ضئيل من الوقت للقراءة، والواقع أن عالم الكتب والقراءة عالم جذاب، ومليء بالإثارة والحيوية والنقاشات المتباينة، لكن هل مشكلة الوقت هي التي تحيل دون القراءة في الكتاب الورقي؟ أو التي تقف حائلا دون إشباع تلك الرغبة عند البعض؟ وما من شك أن عالم الكتب والمكتبات، عالم قريب إلى كل قلب عاشق للقراءة، بغض النظر عن مبررات الوقت، وعدم توفره كما يرى البعض، لكني أعتقد أن هذا التبرير غير مقنع، في مسألة القراءة وحجج الوقت، لذلك ما يقال مجرد هروب من إيجاد الوقت، إذا كان الشخص راغبًا في القراءة، فإذا أراد سيجد الفرصة المناسبة للقراءة، فالمهم استعداده هو عند الإرادة، إن كان محبًا وراغبًا وجادًا في أن يقرأ، فلماذا مع وسائل التواصل الاجتماعي، يتيسر الوقت لساعات وساعات طويلة عند البعض! مع أن القراءة في الكتاب الورقي،
أضحى في عصرنا الراهن أسهل وأبسط وأريح للعين، ويعتبر خير مصدر للمعلومات؛ لأنك تجده دائمًا وأبدًا بالقرب منك في أي وقت، إذا ما احتجت إليه، فهو الصديق الحميم والمفيد، دون متاعب أخرى، كونه بعيدًا عن الآلة ومتاعبها، فالزمن الراهن الذي نعيش فيه، ونحن نبحث عن الوسيلة المناسبة للتغلب، على هذه المعضلة العامة، لدى البعض من الناس.. وانتهينا، في حوارنا في تلك الجلسة الخاصة، مع هؤلاء الأصدقاء، وهم من عشاق القراءة، ومن المتابعين والمهتمين، لكل جديد في عالم الكتب والمكتبات، إلى أن ثمة سبلا عديدة ـ إن صحة هذه الشكوى ـ فيمكن للمرء أن ينمي بها عادة القراءة اليومية، ويتدرج في القراءة ويصبر على هذه العادة، حتى تترسخ لديه الرغبة في القراءة، وتتحول إلى عشق دائم، أو تتحول كما يسميه البعض إلى الإدمان عليها،
كما أنه لظروف كثيرة متعددة ـ أحيانًا ـ قد يصعب عند البعض، ربما الذي لم يبدأ بداية من المراحل الأولى لعمره، أن يحدد بالطبع وقتا معينا كل وقت بعينه للقراءة عند البعض من الناس، لاختلاف طريقة حياتهم وأعمالهم ومشاغلهم المختلفة، فيتوجب على كل فرد منا، أن يبحث لنفسه عن ساعة فقط للقراءة كبداية، ومن الأفضل أن يكون ذلك بصفة منتظمة ومستمرة، إن تيسر له الوقت الذي يراه أنسب من الناحية النفسية،
لزيادة المعرفة والاستيعاب أثناء القراءة، وسوف يجد ويكتشف الإيجابيات من تخصيص هذا الوقت الملائم له، لذلك سوف يجد مع الوقت أن الساعة قد زادت عنده ساعات يومًا بعد يوم، وبدون أن يضع جدولًا مسبقًا للقراءة، فأهم ما في الأمر الرغبة الأكيدة والمستمرة، في القراءة والاعتياد عليها، وبهذا نستطيع التغلب على مشكلة القراءة -إن صحت عند البعض- أنها معضلة بسبب الوقت.