يسجل الذكاء الاصطناعي نقطة تحـول حاسمة في مجرى تطور العلم والمعرفة الإنسانيين، بل لعل الأخيريـن يجدان في هذا الفتح من فتوحاتهما (أعني الذكاء الاصطناعي) العتبة الأعلى في ذلك التطور. لكنها -وهنا المفارقة- العتبة التي يضع فيها صانع العلم والمعرفة (=الإنسان) حـدا لسلطانه المعرفي؛ هذا الذي بات يخلي مكانه للآلة وللذكاء الاصطناعي! كيف ينتهي المطاف بالمغامرة المبدعة للإنسان، إذن، إلى هذا النفق المـنسد؛ وكيف يستحيل العقـل والخـلق إلى معاول هـدم لمـا كان قد ابـتـناه في الماضي، من صـروح.
تلك قصـة مفارقة صارخة في ما تداعـى من تاريخ الإنسان؛ قصة علاقته بالمعرفة، من خلالها، بعالم شرع في الخروج -تدريجيـا- من الغموض والإبهام إلى الوضوح والبيان قبل انقلاب معايير العلاقة! فلفـترة طويلة من تاريخه، ظل الإنسان ضحيـة جهـلـه: جهـلـه قوانين العالم والمحيط الذي يحويه؛ جـهـله نفسـه. ولقد رتب عليه ذلك الجهل خضوعًا لضغط العالم الطبيعي عليه، وجـهدا موازيـا لتخفيف وطأة ذلك الضغط من طريق التـكـيف مع أحكامه القهـرية الموضوعية. وما استطاع أن يتحرر من حالة إملاق الإرادة إلا حين أمكنه أن يحتاز قـدرا من العلم بأشياء العالم وظواهره ودواعيها احتيازًا يوفـر له إمكان الفعل فيها والتأثـير.
يصعب -بل لعله قد يستحيل- أن يحدد المرء، على وجـه الدقـة، اللحظة التي وقع فيها ذلك الانتقال الهائل من الجهل إلى العلم، ومعه انتقال الإنسان من الانفعال إلى الفعل ومن التأثـر إلى التـأثير. ومـأتى الصعوبة من أن الأمر فيه يتعلق بانتقال تاريخي متدرج ومتجـل في حلـقات متسلسلة تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى لا بانتقال طـفروي فاجئ. لقد كان على الوعي الإنساني أن يتدرج في علمه الأشياء من البسيط إلى المركـب، ومن المحسوس إلى المجـرد. هكذا قطع شوطه الطويل من الإدراك الحسي المباشر، ومن تنمية حـس ملاحظة الظـواهر وتنمية قدرة الربـط بينها؛ ثم من محاولات التعليل السحري فالماورائي لها إلى محاولات الاستنتاج العـقـلي من طريق التـأمـل التجريدي وصولًا إلى اكتساب الروح التجريبي من طريق مراكمة خبرة طويلة في مجال التجربة والخطأ. وحين ولد العلم، في بواكيره الأولى، قبل قريب من ثلاثة آلاف عام - بوصفه منظومة لا كتجربة فقط - كان الإنسان قد تقـدم شوطا بعيدا على طريق التحرر من سطوة الجهل. وما كان العصر الحديث قد هل وانفجرت فيه ثورة العلوم (القرنان 17 و18) حتى شرع الإنسان في الانتقال من كائن متكيـف مع الطبيعة إلى كائن مكـيف لها ومخـضع! وما من شك في أن زمن مفارقاته ومفارقات علـمه ستبدأ من لحظة شعوره الظـفراوي الديكارتي بمركـزيـته في العالم وبسيادته على الطبيعة وأشيائها. إنه عينه الشعور بثـقته العمياء في علمه؛ الثـقة التي ستتعزز أكثر بسيادة النزعة العلمويـة في القرنين 19 و20.
اليوم، مع هذا «الشطط» في العلم - الذي زادت النزعتان الصناعية والتـقانـية في تغذيته ومفاقمته-؛ ومع هذا الانتقال من الذكاء الطبيعي إلى الذكاء الاصطناعي ودخول الأخير مجالات استخدام واسعة شملت وجـوها من الحياة مختلفة، نـلـج طورا جديدا من علاقة الإنسان بالعلم تكاد أن تنطبق على وصفها مقـولة «انقلاب السحر على الساحر»؛ إذ ها هـو العلم ينقلب على الإنسان: على الطبيعي في الإنسان وعلى الإنساني فيه معا. وهكذا بدلا من أن يكون الإنسان -مثلما هـو كان- ضحية لجهله، أمسى ضحية لعلمه! الفارق أن جهـل الإنسان، في ما مضى، كان يعـفيه من المسؤولية عما قد يحل به من كوارث، أما علمه - اليـوم - فبات يوقـعه في كوارث يسعى إليها بنفسه وتترتب مسؤوليته على الوقوع فيها. وقديما قيل: «ومن العلم ما قـتـل»...
هل من مفارقة في هذا الباب أكثر من أن ينقلب معنى المعرفة، انقلابا كاملا، إلى ضده؟ كانت المعرفة جـهدا فكريـا يبـذل قصد تحقيق حسن الإدراك من أجل الوصول إلى حسـن الفعل. كانت وسيلة يتوسلها الإنسان لإعمار داخـله وإعمار محيطه، ولبناء جوهره الإنساني وإطلاق الطاقة الخلاقـة فيه. وبهذا المعنى للمعرفة، ولاتـصالها بحاجات الاجتماع الإنساني، بنت الإنسانية حضاراتها وأنجزت فتوحاتها العلمية. لكن معنى المعرفة انـحط، انحطاطا لا سابق له، مع الصعود الهائـل للنزعة العلمويـة التكنو-إيديولوجية (= حيث تصير التـكنولوجيا إيديولوجيـا!)؛ أي حين صارت وسيلة لمصادرة الإنساني في الإنسان من طريق التعـطيل الكامل لطاقاته الطبيعية -التي طورها عبر التاريخ- على نحو ما يجري اليوم من خلال الاعتياض عن الذكاء الطبيعي بالذكاء الاصطناعي أو، بلغتنا، الاعتياض عن الإنسان بالآلة وبما يسمونه «الإنسان» الآلي! وليس ثمـة من علامة دامغة في الدلالة على انحطاط معنى المعرفة ووظيفـتها أكثر من أن تتحول إلى معرفة برسم تبعيـة الإنسان للآلة، وبرسم استبدال الاصطناعي بالطبيعي! وليس مـناط التبعيـة هذه فـقدان الإنسان سيطرته والسيادة على منتوجه (الآلة)، بل الاستلاب له والخضوع خضوع العـبد للسيـد! ما من نهايـة لنزعة تأليه العلم، وتأليه الآلة، أبـأس من هـذه النهايـة!
تردنـا هذه المفارقة إلى الجوهري من مسألة العلم. لا تـثريب على العلم وعلى العلماء في السعي بعيدًا في المعرفة والاكتشاف؛ فتلك وظيفة العلم والعلماء في حلباتهم ومختبراتهم. المشكلة تبدأ حين تخرج نتائج معارفهم العلمية من أحيازهم لتدخـل في أحياز غيرهم ممن ليسوا من أهل العلم، فتكون النتيجة أن العلم هذا ينقلب على أهدافه، موضوعيًا، حين تستولي عليه نـخب المرابين وتسخـره لمصالحها. هؤلاء المسخـرة للعلم (في أغراض لا دخل للعلماء فيها) هـم من ينبغي أن يحاسبهم المجتمع والقانون على أنماط تسخيرهم ذاك، وعلى مدى المنفعة والمضرة فيه، لا العلماء المنصرفون إلى أداء رسالتهم المعرفية التي تنتظرها منهم الإنسانية. تجـار العـلم لا العلماء هم من ينبغي، إذن، أن توجـه إليهم سهام النـقد؛ لأن تجارتهم فاسدة ومفسدة... وتأخذ البشريـة إلى حتفها!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی من طریق
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي يقود ثورة في الأسواق.. فرص استثمارية واعدة بمبلغ 200 دولار
يهيمن اتجاه واحد على السوق منذ أكثر من عامين الذكاء الاصطناعي (AI)، حيث أضافت الشركات مجتمعة تريليونات الدولارات إلى قيمتها السوقية بفضل الإنفاق الهائل على الذكاء الاصطناعي وحماس المستثمرين لإمكاناته.
وعلى الرغم من الارتفاع الكبير الذي تشهده السوق حاليًا، فقد يكون هناك المزيد من الإنفاق على الذكاء الاصطناعي في المستقبل.
تتوقع شركة الأبحاث IDC أن تنفق الشركات 307 مليارات دولار على حلول الذكاء الاصطناعي هذا العام، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم إلى أكثر من 632 مليار دولار بحلول عام 2028.
بالطبع، لن تكون كل شركة فائزة من كل هذا الإنفاق على الذكاء الاصطناعي. وحتى لو كانت الشركة لديها آفاق عظيمة، يجب أن يقدم سهمها قيمة جذابة، وهو أمر يزداد صعوبة وسط ارتفاع الأسهم.
لكن المستثمرين الذين لديهم 200 دولار فقط يمكنهم العثور على فرص رائعة بين أسهم الذكاء الاصطناعي في السوق اليوم. إليك ثلاثة خيارات استثمارية مضمونة في الوقت الحالي.
1. ألفابيت (Alphabet)
ألفابيت (GOOG -1.82%) (GOOGL -1.78%) هي الشركة الأم لجوجل، وتخطط لإنفاق مبلغ ضخم على بناء البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في عام 2025. تتوقع الإدارة إنفاق 75 مليار دولار على النفقات الرأسمالية هذا العام، بشكل أساسي للخوادم.
يشير ذلك إلى الفرصة التي تراها الإدارة في الذكاء الاصطناعي، وهي تظهر بالفعل علامات قوية على الاستفادة من هذه الفرصة. بدأت الشركة في دمج الردود التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي على استعلامات البحث في عام 2023.
بحلول نهاية عام 2024، كانت هذه "نظرات عامة على الذكاء الاصطناعي" متاحة في 100 دولة وتدفع إلى زيادة الرضا والمشاركة مقارنة بنتائج البحث التقليدية.
والأهم من ذلك، أن جوجل لا تستنزف أعمالها الإعلانية. قال نائب الرئيس الأول لجوجل فيليب شيندلر في مكالمة أرباح الربع الرابع لألفابيت: "نرى بالفعل تحقيق الدخل بنفس المعدل تقريبًا".
الذكاء الاصطناعي يقف أيضًا وراء التطورات في منتجات مثل Google Lens وميزة "دائرة البحث" على أجهزة أندرويد. يتمتع الذكاء الاصطناعي التوليدي بالقدرة على تحسين أعمال جوجل الإعلانية، مما يسهل على المسوقين تطوير إعلانات إبداعية جديدة واختبار الحملات الإعلانية.
كانت Google Cloud مستفيدًا كبيرًا من زيادة الإنفاق على الذكاء الاصطناعي من الشركات الأخرى.
نما إيراداتها بنسبة 30% العام الماضي بينما توسع هامش التشغيل إلى 14%. قد تشهد نموًا كبيرًا في السنوات القادمة حيث أشارت الإدارة إلى أنها لا تزال مقيدة بالقدرة التخزينية وأن منافسيها يتمتعون بهوامش تشغيل أعلى.
بينما تنفق ألفابيت بكثافة على الذكاء الاصطناعي، فإنها ترى عوائد قوية على استثماراتها. نما ربحية السهم بنسبة 39% العام الماضي ويتوقع المحللون نموًا إضافيًا بنسبة 12% هذا العام.
ومع ذلك، يتم تداول الأسهم مقابل 170 دولارًا فقط في وقت كتابة هذا التقرير، أي أقل من 19 ضعفًا لتوقعات أرباح المحللين لعام 2025. هذا صفقة رائعة للمستثمرين وتستحق مبلغ 200 دولار.
2. أبلايد ماتيريالز (Applied Materials)
يتطلب إنتاج رقائق الذكاء الاصطناعي المتطورة الكثير من المعدات المتخصصة، وإحدى أكبر الشركات المصنعة للمعدات في العالم هي أبلايد ماتيريالز (AMAT -3.18%).
على عكس معظم الشركات المصنعة لمعدات أشباه الموصلات الأخرى، تمتلك أبلايد مجموعة واسعة من المعدات التي يمكن أن تخدم مجموعة من العملاء.
مع توسع إنتاج الرقائق وزيادة تعقيده، سيستمر الطلب على منتجات أبلايد في النمو. وهناك عاملان يضمنان أن أبلايد ستفوز بمعظم العقود الجديدة مع مصانع الرقائق.
أولاً، تستفيد من دورة حميدة، حيث تنفق مصانع الرقائق أموالًا أكثر مع أبلايد مقارنة بأي شركة مصنعة للمعدات الأخرى، مما يمنح الشركة المزيد للاستثمار في البحث والتطوير.
أنفقت 3.2 مليار دولار على البحث والتطوير لإنشاء معدات أكثر تقدمًا في عام 2024 قادرة على إنتاج رقائق متطورة وخفض معدلات الخطأ في هذا الإنتاج. هذه الميزانية تفوق منافسيها تمامًا، مما يضمن قدرتها على الاستمرار في تقديم معدات أفضل من أي شخص آخر في السوق لسنوات قادمة.
ثانيًا، لا تستطيع مصانع الرقائق تحمل وقت التوقف المطلوب لتبديل مزودي المعدات. بالإضافة إلى ذلك، هناك خطر من أن المعدات الأخرى لن تكون قادرة على مواكبة التطورات في التكنولوجيا، وهو خطر غير ضروري لأي مدير. بمعنى آخر، تكاليف التبديل للابتعاد عن معدات أبلايد مرتفعة للغاية.
تدير أبلايد أيضًا أعمال خدمات ذات هامش ربح مرتفع لضمان تشغيل معداتها كما هو متوقع. من المتوقع أن ينمو هذا العمل بسرعة مع زيادة تعقيد تصنيع الرقائق وزيادة مصانع الرقائق لإنتاج رقائق الجيل التالي.
مع تداول السهم مقابل 158 دولارًا فقط في وقت كتابة هذا التقرير، يبدو وكأنه صفقة رائعة لأي شخص يتطلع إلى البدء في الاستثمار في أسهم الذكاء الاصطناعي بمبلغ 200 دولار فقط.
يترجم سعر السهم هذا إلى نسبة السعر إلى الأرباح الآجلة حوالي 17 ومضاعف قيمة المؤسسة إلى المبيعات أقل من 5. بأي طريقة تنظر إليها، فهي قيمة رائعة لشركة تتمتع بالموقع التنافسي لشركة أبلايد ماتيريالز.
3. أدفانسد مايكرو ديفايسز (Advanced Micro Devices)
غالبًا ما يُنظر إلى أدفانسد مايكرو ديفايسز (AMD -1.52%) على أنها تلعب الدور الثاني لشركة إنفيديا (NVDA -8.34%) عندما يتعلق الأمر بصنع وحدات معالجة الرسوميات (GPUs) بالغة الأهمية لخوادم الذكاء الاصطناعي.
في الواقع، خيبت AMD آمال المستثمرين عندما توقعت انخفاضًا متتاليًا بنسبة 7% في الإيرادات للربع الأول من عام 2025، وأكدت أن أعمال مركز البيانات الخاص بها ستشهد انخفاضًا مماثلاً.
بالمقارنة، تتوقع إنفيديا زيادة متتالية بنسبة 9% في الإيرادات في الربع المماثل.
ومع ذلك، قد يقلل المستثمرون من قيمة أعمال وحدات معالجة الرسوميات الخاصة بـ AMD جنبًا إلى جنب مع تقدمها في الحصول على حصة سوقية في سوق وحدات المعالجة المركزية x86 لكل من الخوادم وأجهزة الكمبيوتر الاستهلاكية.
بينما تتمتع إنفيديا بميزة كبيرة على AMD بفضل برنامج CUDA الخاص بها والأجهزة المتقدمة، توفر AMD مصدرًا مهمًا لمراكز البيانات الضخمة كمصدر ثانوي لقوة الحوسبة.
تتوقع الإدارة أن يصل إجمالي السوق القابل للتناول لرقائق مسرعات الذكاء الاصطناعي إلى أكثر من 500 مليار دولار في عام 2028. حتى حصة صغيرة من هذا السوق ستكون ضخمة بالنسبة لـ AMD، التي حققت 12.6 مليار دولار من الإيرادات من قطاع مركز البيانات الخاص بها العام الماضي.
والأهم من ذلك، أن AMD لديها الكثير من الإمكانات لزيادة هوامشها في الوقت الحالي. فقد رفعت هامشها الإجمالي من 45% إلى 53% في عام 2024.
وبينما قد لا تتمتع بقوة التسعير التي تتمتع بها إنفيديا، يجب أن تستفيد من توسيع نطاق عملياتها.
يجب أن يؤدي ذلك إلى توسع هامش التشغيل بشكل كبير على مدى السنوات القليلة المقبلة نحو هدف الإدارة طويل الأجل في منتصف الثلاثينيات من 24% العام الماضي.