بات من الوضوح بمكان، لكل مراقب، اليوم، أن مسار عملية طوفان الأقصى وتعقيداتها التي خلطت أوراقًا عديدة في الإقليم والعالم، وقلبت الطاولة على أوضاع سياسية لطالما حسبها الجميع ثابتةً في عالم السياسة في الشرق الأوسط -الذي يندر فيه تعريف جامع مانع للسياسة- فكانت هذه العملية وهويتها النوعية كالقشة التي قصمت ظهر البعير.
فجأة أصبح العالم مرتبكًا ويعاني من اهتزاز أثر الفراشة الذي يؤثر على الجميع مهما كان خفيفًا. وهذا بالضبط ما تنحو إليه متغيرات سياسية ستسفر عنها بالضرورة أوضاع جديدة في المنطقة.
احتمالان اثنان لا ثالث لهما ستفسر عنهما نتائج عملية طوفان الأقصى وتداعيات الحرب في غزة، واهتزازاتها التي تضرب العالم والإقليم، وهذان الاحتمالان أصبحا اليوم من أهم الحقائق التي سيكشف عنها المستقبل السياسي القريب لقضية الشرق الأوسط (القضية الفلسطينية).
وتكمن العبرة في أن أحد هذين الاحتمالين اللذين ستسفر عنهما نتائج حرب غزة هو احتمال ظل التعبير عن بلاغة نسقية يثرثر بها الدبلوماسيون الأوروبيون والأمريكيون وهم يدركون أنها فذلكة لفظية لا معنى لها، لكنه هذه المرة سيتجلى بوضوح كاحتمال ينبغي التعامل معه بكل ما تطلبه المسؤولية عن الأمن في الشرق الأوسط والعالم.
هكذا سنجد أن هذين الاحتمالين اللذين ستتكشف عنهما نتائج عملية طوفان الأقصى وحرب إسرائيل في غزة، هما؛ احتمال حرب إقليمية - دولية واسعة، أو الشروع في تنفيذ جاد ومسؤول لما يسمى بحل الدولتين.
الانطباق الحصري لنتائج طوفان الأقصى على هذين الاحتمالين هو المأزق الذي لن تنجو إسرائيل منه إلا بأحدهما، وللمفارقة فإن نجاة إسرائيل بتحقيق هذا الخيار (حل الدولتين) هو عين ما كانت تراه مستحيلاً وهي منتشية بفائض قوتها الذي ظلت تماطل به طوال عقود من السنوات والاتفاقات شهدتها محطات الحرب والسلام بين العرب وإسرائيل ودونتها قرارات الأمم المتحدة عن القضية الفلسطينية.
وفيما يبدو رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو لاهثًا وراء خلاصه الخاص حتى ولو أسقط المعبد على الجميع، فإن المجتمع الدولي، ولاسيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أكثر حرصًا على تجنب الاحتمال الأشد مرارةً (حرب إقليمية موسعة وربما عالمية) لكنه في سبيل تجنب هذا الاحتمال سيعالج الأمريكيون والأوربيون إسرائيل علاج آخر الدواء (الكي) وهو دواء ستتجرعه الأخيرة لا محالة - رغم مرارته -؛ لأن التناقضات التي أدت إليه بلغت حدًّا من مراكمة الأعباء بحيث لا يمكن أن يتحمله أحد إلا بدفع الثمن!
ربما لاحظ كثيرون تركيز الساسة الأمريكيين على حل الدولتين؛ لأنهم أدركوا اليوم إدراكًا واعيًا بأن حل الدولتين هو الحل الذي سيصبح واقعًا لا محالة، وسيحمي إسرائيل من أن تنتحر حين لا تنتبه للمتغيرات الخطيرة التي فتحت الباب واسعًا أمام خيار ظلت تتجنبه باستمرار (حل الدولتين).
الأمريكيون والأوربيون هم الذين سيتبنون خيار حل الدولتين، فهم الذين يمتلكون أدوات تنفيذه، لكنهم هذه المرة سيُكْرِهون إسرائيل على تقبل هذا الحل، لاسيما وأن عقدة طوفان الأقصى تفعل اليوم فعلها في المجتمع الإسرائيلي كما لم تفعله أي من حروب العرب الثلاث مع إسرائيل في القرن العشرين.
وإذا ما تم التوصل إلى توافق دولي لحل الدولتين عبر ضمان دولة قابلة للحياة للفلسطينيين وعاصمتها القدس الشريف فإن العرب وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، جاهزون لما يساعد في التسريع بحل الدولتين؛ لأن المبادرة العربية التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز -رحمه الله- في قمة بيروت 2002 لا تزال هي أيضًا قابلة للحياة وللتفعيل، وذلك هو شرط المملكة العربية السعودية الذي لن يتغير في الصلح مع إسرائيل.
وفقط بمشروع حل الدولتين، الذي سيساهم العرب في تحقيق جزء ضروري منه عبر المملكة العربية السعودية، يمكن أن تنتعش منطقة الشرق الأوسط بسلام طويل ودائم، لكن ذلك الحل لن يكون فقط خلاصًا للفلسطينيين من الاحتلال الإسرائيلي البغيض في غزة والضفة والقطاع فحسب، بل كذلك إنقاذًا لإسرائيل من الانهيار.
الكرة اليوم في ملعب الثلاثي : واشنطن - بروكسل - تل أبيب، حيث بات واضحًا للعواصم الثلاث؛ ماذا يعني الطريق الإجباري الذي يمكن أن يمر باتجاهين لا ثالث لهما؛ إما باتجاه حرب إقليمية موسعة وربما عالمية، أو باتجاه جاد لحل الدولتين.
هكذا ستبدو نتائج عملية طوفان الأقصى حدثًا مفصليًا في المنطقة سيتمخض عنه ذانك الخيارين لامحالة!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عملیة طوفان الأقصى الشرق الأوسط حل الدولتین
إقرأ أيضاً:
"طوفان الأقصى" تعصف باستقرار المستوطنين وتدفعهم للهجرة
الضفة الغربية - خاص صفا
عقب عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023، دخلت "إسرائيل" منعطفاً لم تسلكه منذ عام 1948، وباتت الدولة التي كان يروج ساستها أنها المكان الأكثر أماناً، تحت نار صواريخ المقاومة وضغط الحرب.
وأفادت تقارير بمغادرة نحو نصف مليون "إسرائيلي" بعد بدء الحرب على قطاع غزة، وتجاوز عدد "الإسرائيليين" الذين قرروا العيش خارج حدود دولة الاحتلال أعداد العائدين بنسبة 44%.
وأظهرت البيانات انخفاضاً بنسبة 7% في عدد العائدين إلى "إسرائيل" بعد العيش في الخارج، حيث عاد 11 ألفاً و300 إسرائيلي فقط خلال عام 2023، مقارنة بمتوسط 12 ألفاً و214 في العقد الماضي.
وتتصاعد الهجرة العكسية في "إسرائيل" لأسباب أمنية واقتصادية، ما يضع الاحتلال أمام انعطافة ديموغرافية تهدد مستقل الدولة اليهودية.
وأفاد المختص في الشأن الإسرائيلي نهاد أبو غوش، بأن اتجاهات الهجرة بدأت ترتفع مع وجود حكومة اليمين ومحاولات تغيير النظام السياسي "الإسرائيلي" من خلال مشروع الانقلاب القضائي.
وقال في حديثه لوكالة "صفا"، إن ارتفاع مؤشرات الهجرة بشكل ملحوظ بعد طوفان الأقصى، يأتي بسبب زعزعت فكرة الوطن القومي الآمن لليهود، التي كان يروج لها الاحتلال على مدار عقود لاستقطاب يهود العالم.
أن صواريخ ومسيرات المقاومة وصلت كافة الأراضي المحتلة، وخلقت واقعاً يتنافى مع العقيدة الأمنية للاحتلال، التي ترتكز على تحقيق الأمن والاستقرار للمستوطنين.
وأشار أبو غوش إلى أن الأزمة الاقتصادية والخسائر التي يتكبدها الاحتلال في انفاقه على الحرب، والضغط على جنود الاحتياط واستمرار خدمتهم لفترات طويلة، فضلاً عن تغلغل اليمين المتطرف في مفاصل الحكومة، عوامل ساهمت مجتمعة في تشجيع الهجرة العكسية لليهود.
وبيّن أن الهجرة الداخلية من القدس إلى تل أبيب، كانت دائماً موجودة من قبل الفئات الليبرالية بسبب القيود التي يفرضها اليهود المتدينين "الحريديم" على الحياة اليومية.
وتتركز الهجرة في أوساط الليبراليين العلمانيين، والمهنيين الذين يديرون عجلة اقتصاد الاحتلال، بحسب أبو غوش، مرجحاً الأسباب إلى اتساع سيطرة اليمين المتطرف على الحكومة، وكلفة الحرب وتبيعاتها الاقتصادية التي يدفع فاتورتها المستوطنين.
وأكد على أن الهجرة العكسية هي الكابوس الأكبر الذي من شأنه أن ينهي حلم الدولة للكيان الصهيوني، إذ تتحول "إسرائيل" تدريجياً إلى دولة متطرفة لا ديموقراطية فيها، بعدما كان نظامها الليبرالي الديموقراطي أبرز عناصر قوتها وجذبها ليهود العالم.
وأضاف "إن هيمنة اليهود المتدينين وتغلغلهم في الحكم، وهم فئة غير منتجة ومساهمتها صفرية في الاقتصاد، إلى جانب رفضها الانضمام إلى الجيش، ستحول إسرائيل إلى دولة عالم ثالث تعتمد على المساعدات".
وهدمت الحرب أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأظهرت ضعف "إسرائيل" واعتمادها التام على الدعم الأمريكي، وكشفت حقيقة الاحتلال المجرم للعالم، وفق أبو غوش، مبيّناً أن كل هذه العوامل أسقطت ثقة المستوطنين في حكومتهم ودفعتهم إلى الهجرة إلى أماكن أكثر أماناً واستقراراً.
ويتكتم الاحتلال على حقيقة الأرقام المتعلقة بالهجرة العكسية أو عودة اليهود إلى أوطانهم الحقيقية، إلا أن الأرقام التي تتضح في مفاصل أخرى للدولة مثل مؤسسات التأمين الصحي تظهر عزوفاً وتراجعاً في الرغبة بالعيش داخل "إسرائيل".
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 10 آلاف "إسرائيلي" هاجروا إلى كندا هذا العام، في حين حصل حوالي 8 آلاف إسرائيلي على تأشيرات عمل، وهي زيادة كبيرة عن أعداد العام الماضي، كما تقدم أكثر من 18000 "إسرائيلي" بطلب جنسية ألمانية في الأشهر التسعة الأولى من عام 2024.
وأفاد تقرير لـ "هآرتس" بأن من يغادرون هم رأس مال بشري نوعي، ومغادرتهم تعرض استمرار النمو الاقتصادي في "إسرائيل" للخطر، إذ بلغت الزيادة في نسبة الأثرياء الباحثين عن الهجرة نحو 250%، ليتراجع أعداد أصحاب الملايين في "إسرائيل" من 11 ألف إلى 200 مليونير فقط.