تلويحة مانديلا والطاقة المدمرة
تاريخ النشر: 24th, January 2024 GMT
كثيرة هي الإيحاءات والرموز التي تجسد نضال وكفاح الزعيم نيلسون مانديلا، لكن تبقى قبضة يده التي لوح بها للجماهير هي أكثر ما عبرت عنه وعن كفاحه، فظلت رمزًا وإشارة للكفاح والنصر وعلامة على التحدي والنضال ضد الظلم والفصل العنصري، تلك القبضة سوف تصبح أيقونة تلهم أحرار العالم المتطلعين نحو التحرر والعدالة.
ما زالت صورة نيلسون مانديلا راسخة في ذاكرتي في21 أغسطس 1990م عندما رأيته أول مرة على شاشة التلفزيون يخطو خطوته الأولى نحو الحرية.
عندما استذكر تلك الصورة والإنجازات التي حققها لشعبه أتعجب كيف استطاع هذا الشخص الذي قضى في سجنه 27 عاما أن ينتصر على سجانيه، وأن يلهم الناس، ويصبح رمزا للتحرر والكفاح؟
رحل نيلسون مانديلا في الخامس من ديسمبر عام 2013م إلا أن حضوره لا يزال طاغيًا في نفوس الجنوب إفريقيين يتذكرونه كما لو أنه يعيش بينهم يلهمهم بسيرته النضالية التحررية، لذلك لم يتركوه يرحل. أو لعل وقته لم يحن بعد، ربما لا تزال الحاجة لوجوده بينهم، أو ربما لأنهم يشعرون بأنه لم يرحل أساسًا. كل شيء هناك يدل على مانديلا، وجهه يرسم على أماكن عدة، على الجدران، وعلى الأوراق النقدية، وتقام له التماثيل. فأدرك أحد المسؤولين الجنوب إفريقيين إلى وجود حنين عميق لمانديلا في البلاد، حيث لا يزال حبه ينتشر بشكل سريع واعتبر أن التثبت بهذا الرمز يمكن أن يتحول إلى طاقة مدمرة، لذلك ربما «حان الوقت لتركه يرحل».
كيف يتحول حب شخص إلى طاقة مدمرة؟ أدركت أن الطاقة المدمرة التي تحدث عنها ذلك المسؤول ما هي إلا الثورة المشتعلة في نفوس الجنوب إفريقيين والإصرار على مواصلة مسيرة التحرر والكفاح ضد كل ما هو ظلم وعدوان، ليس فقط في جنوب إفريقيا بل فهمها يتعدى ذلك الحيز الجغرافي إلى العالم بأسره ونصرة المظلومين، إصرارا منهم أن كفاح مانديلا لا تزال جذوته مشتعلة.
وبعد رحيله بعامين بعثت عائلته رسالة إلى الشعب الفلسطيني وكانت فحواها «روح نيلسون مانديلا تقف مع نضالكم العادل، والتضامن مع فلسطين لن يكون عبر الكلمات والخطابات المكتوبة على الورق فقط، إنما سيكون من خلال ترجمة فعلية لقناعتنا بالتضامن مع الشعب الفلسطيني على الأرض، من خلال المشاركة الفاعلة في حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات»، وتابعت: «نضال شعب جنوب إفريقيا ضد نظام الفصل العنصري، الذي قاده الأجداد، له تكملة هذا اليوم عنوانها الوقوف في وجه نظام الابرتهايد الإسرائيلي».
فعلها أحفاد مانديلا وفضحوا إسرائيل والدول المتعاطفة معها واستطاعوا تعرية أنظمتها ومعاييرها المزدوجة وتلك السردية المخادعة التي قامت عليها في الأساس. مستلهمين إرث زعيمهم الخالد في نصرة الفلسطينيين، واضعين نصب أعينهم أفكاره وآراءه ومسيرته في النضال ضد الفصل العنصري والاستعمار والظلم والعدوان الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، مستلهمين مقولته في ذلك «إن حرية جنوب إفريقيا لن تكتمل بدون حرية الفلسطينيين».
تجلى ذلك في الدعوى التي رفعوها أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية في غزة، معززة بفريق قانوني تمكن من تقديم مرافعة قانونية اكتسبت أهمية قانونية وإنسانية. وتكمن أهميتها في صياغتها ومهنيتها الفائقة، ابتعدت فيها عن أسلوب الخطابية المهرجانية والبلاغة والحماسة. موثقة دعواهم بالأدلة والبراهين حول الانتهاكات واستهدافه المدنيين بشكل واضح ومتعمد من خلال قصفها للمستشفيات والمدارس ومركز الإيواء بما فيها تلك التي حددتها دولة الاحتلال، وسيارات الإسعاف وحرمان الفلسطينيين من الغذاء والدواء والمياه. مقدمين أدلة مادية معتمدة فيها على تصريح العديد من المسؤولين بأدلة واضحة، ومن خلال التصريحات العنصرية التي أطلقها كبار قادة الصهاينة ووزراؤهم حرضوا فيها على قتل المدنيين ووصف الفلسطينيين بالحيوانات (تصريح وزير التراث الصهيوني بإلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة، تصريح يصف الفلسطينيين بأنهم حيوانات ولا يستحقون أن يعيشوا كالبشر) وتضمنت الأدلة العديد من الصور والفيديوهات واللقطات التي بثها الجنود الصهاينة ويفتخرون فيها بأفعالهم الإجرامية وما يقومون به من تفجير وقتل وتدمير لكل شيء. ركزت الدعوى على أن معاناة الفلسطينيين لم تبدأ في السابع من أكتوبر وإنما تعود تلك المعاناة إلى ما يقارب 76 عاما، والنكبة المستمرة للشعب الفلسطيني منذ 1948 وربطها بالاستعمار وليس وليدة السابع من أكتوبر، موضحين للعالم الحقيقة التي يتجاهلها الغرب ويقفز عليها ويحاول أن يروج أن القضية بدأت بعد السابع من أكتوبر.
فقد الكيان المغتصب عقله وأصابه الارتباك والحيرة فسارع نتانياهو إلى إطلاق تصريحات محاولاً التبريد لتلك المجازر ومنها حديثه بأن إسرائيل تقوم بالدفاع المشروع عن نفسها وأنها ليس لها علاقة بمحاصرة الفلسطينيين ومنع الدواء والغذاء من الوصول إليهم محملاً ذلك للحكومة المصرية لأن منفذ رفح لا تتحكم هي فيه.
لا غرابة أن يقف نيلسون مانديلا مع كفاح الشعب الفلسطيني، هكذا هو الشعور الأصيل لمن ذاق المعاناة وخبر تعذيب المعتقلات وسياسة الفصل العنصري والتمييز. لن يهدأ باله ولن يذوق طعم الحرية إلا إذا ذاق الفلسطينيون طعم الحرية والتحرر من الاستعمار الصهيوني البغيض، إنه لصادق ومحق في ذلك والأهم أنه متصالح مع تاريخه النضالي لم تغره المناصب ورفاهية الحياة.
كذلك لا غرابة ولا استغراب فيما فعله أحفاد مانديلا لنصرة الفلسطينيين وأهل غزة، كيف لا وقد غرس فيهم أبجديات النضال والتحرر والحرية، لن نتعجب من تصدي جنوب إفريقيا للسياسات الإسرائيلية وحرب الإبادة التي تنفذها في غزة. إذ ذلك يعد تناسقا واتصالا مع الذات الجنوب إفريقية التي غرسها مانديلا في جيل جنوب إفريقيا الوقوف مع المظلومين وهم الذين ذاقوا وخبروا عذابات الاستعمار والفصل العنصري، وكما رفضوه وقاوموا في حينه كذلك لا يرتضون للشعب الفلسطيني أن يظل يرزح تحت نير الاستعمار والفصل العنصري الإسرائيلي. أما تلك الجمهوريات والحضارة الغربية التي طالما تغنت بالديمقراطية وحقوق الإنسان فلا عزاء لها في نفاقها ومراوغتها وسقوطها في كل ما دعت إليه وروجت له على مدار عقود ليتبين ما هي إلا شعارات واهية وتستخدمها مطية لتحقيق أطماعها وسياساتها، وتعتبر فصلا عنصريا بمقاييس مزدوجة قبيحة.
كيف لا نحب نيلسون مانديلا وكيف لا نحب جنوب إفريقيا، كيف لا نحبها اليوم، وقد أصبحت جزءًا من حاضرنا وذاكرتنا وأحببناها أمس وكان مانديلا رمزًا وجزءًا من ضميرنا وضمير كل شرفاء وأحرار العالم. لن تذكر غزة إلا وتكون جنوب إفريقيا حاضرة. ولن تذكر فلسطين إلا ونيلسون مانديلا حاضرًا. مانديلا الذي كان يلهمنا وهو في حبسه، وألهمنا عندما خرج وعندما صار رئيس دولة وعندما اعتزل العمل والحياة السياسية، وقد اطمأن لما أنجزه وما سيتركه.
كثيرون هم من تمنوا لو رفعت تلك الدعوى من قبل دولة عربية. كثيرون من تساءلوا، ما الذي ينقص العرب والمسلمين في تبني ذلك النهج. نقول ذلك ونعرف الإجابة.
نستلهم حياة النضال والكفاح التي عاشها مانديلا وغيره من المناضلين وندرك كم نحن بحاجة إلى تلك الطاقة المدمرة من الحب والحنين إلى الكفاح والتحرر ونصرة المظلومين. كم نحن بحاجة إلى طاقة تدمر ذلك الخذلان والتراجع الذي يخالج كل مواطن عربي حر، شعور بالغصة والذل والهوان وهو يشاهد بأم عينه ما تفعله إسرائيل والأنظمة الداعمة لها بعضو في الجسد العربي المثخن أصلا بالجراح، جراح كثيرة، فهذا أمر في الحقيقة يفوق التفكير، ويتجاوز المعنى الحقيقي للهوان والذل والانبطاح.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشعب الفلسطینی نیلسون ماندیلا الفصل العنصری جنوب إفریقیا من خلال کیف لا
إقرأ أيضاً:
ميركل تدافع في مذكراتها عن سياساتها بشأن الهجرة والطاقة
برلين «أ.ف.ب»: دافعت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بحماسة عن السنوات الـ16 التي أمضتها على رأس أكبر اقتصاد في أوروبا، في مذكراتها التي تحمل عنوان «حرية»، نُشرت اليوم الثلاثاء في ثلاثين دولة.
وتُتَّهم المستشارة السابقة البالغة 70 عاما حاليا، بأنها جعلت ألمانيا تعتمد بشكل خطير على الغاز الروسي الرخيص، وساهمت في صعود اليمين المتطرف من خلال سياسة فتح أبواب الهجرة إلى بلدها.
وغابت ميركل عن الساحة السياسية منذ غادرت السلطة نهاية عام2021، لتطل حاليا في وقت تتصدر فيه عناوين الأخبار الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، وعودة دونالد ترامب المرتقبة إلى البيت الأبيض، وحملة الانتخابات التشريعية المبكرة في ألمانيا المقررة في فبراير.
وأكبر هجوم تعرضت له المستشارة كان بسبب إدارتها لأزمة الهجرة إذ أمرت بعدم إعادة اللاجئين الذين وصلوا إلى حدود بلادها في سبتمبر 2015.
وأعلنت ميركل في كتاب نشرته دار ألبين ميشال في فرنسا أن رغبتها بشرح دوافعها في ذلك الوقت و«رؤيتها لأوروبا والعولمة» دفعتها إلى كتابة مذكراتها.
وأوردت في الكتاب عبارتها التاريخية «سوف نصل» شارحة «موقفا» مفاده أنه «حيثما توجد عقبات، علينا العمل للتغلب عليها».
وقالت إنها «ما زالت لا تفهم» كيف أن صورة «سيلفي» مع لاجئ سوري أدت إلى «افتراض أن وجها لطيفا في صورة كاف لدفع جحافل بأكملها إلى الفرار من وطنها».
وأكدت أن «أوروبا يجب أن تحمي حدودها الخارجية دائما» لافتة إلى أن «الازدهار وسيادة القانون سيجعلان من ألمانيا وأوروبا دائما أماكن ترغب (الناس) بالمجيء إليها».
وفي ما يتعلق بصعود «حزب البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، حذرت ميركل الأحزاب الديمقراطية قائلة إذا كانت «تعتقد أنها قادرة على احتواء تقدم حزب البديل من أجل ألمانيا من خلال الاستمرار بلا كلل ... المزايدة الخطابية من دون اقتراح حلول ملموسة للمشكلات القائمة، ستفشل».
منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، تعرضت ميركل لانتقادات لجعلها ألمانيا تعتمد على إمدادات الغاز الروسي.
لكنها أشارت إلى أن إنشاء خط أنابيب الغاز «نورد ستريم1» وقّعه سلفها الديمقراطي الاشتراكي جيرهارد شرودر الذي أصبح في ما بعد رئيسا للجنة المساهمين والمجلس الإشرافي في هذه الشركة.
وبالنسبة إلى منح موافقتها على خط الأنابيب الثاني «نورد ستريم 2» بعد فترة طويلة من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 والذي لم يدخل الخدمة على الإطلاق، أوضحت المستشارة السابقة أنه في ذلك الوقت كان «من الصعب التقبل في ألمانيا كما في عدد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي» استيراد محروقات أخرى أكثر كلفة.
كذلك بررت هذا الاختيار بقرار التخلي التدريجي عن الطاقة النووية الذي اتخذته عام2011 عقب كارثة فوكوشيما وقالت «أدى الغاز الطبيعي أكثر من أي وقت مضى وظيفة تكنولوجيا أحفورية انتقالية» في انتظار الانتقال إلى الطاقات المتجددة.
وأوصت بعدم الرجوع إلى الوراء في ما يتعلق بالطاقة الذرية في ألمانيا كما يدعو البعض. وقالت «لسنا في حاجة إليها لتحقيق أهدافنا المناخية، ولنكون فعالين من الناحية التكنولوجية» مؤكدة أن تخلي بلادها عن الطاقة النووية «يشجع بلدانا أخرى» على حذو حذوها.
- روسيا - ولم تنتقد ميركل في مذكراتها زعيما بقدر ما انتقدت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وصفته بأنه «رجل بالمرصاد على الدوام، خائف من سوء المعاملة، ومستعد دائما لتوجيه اللكمات بما في ذلك من خلال اللعب مع كلب على ممارسة سلطته وعبر جعل الآخرين ينتظرون».