ما زال حديثي عن الخطوات الأولى لتجربتي المهنية في وزارة الإعلام، في النصف الأول من الثمانينيات، بدءًا من دائرة الأخبار بالإذاعة، وقد تناولت قسم التحرير، وأواصل اليوم عن الروافد التي تغذّي نشرة الأخبار، وأبدأ بأول الروافد وهو قسم الوكالات. وليس المقصود هنا الوكالة كمؤسسة، وإنما هي غرفة كبيرة نسبيا تحوي الوكالات التي تشترك فيها إذاعة سلطنة عُمان.
.. غرفة الوكالات هذه شديدة البرودة حفاظا على الأجهزة.. تصدر منها أصوات الطابعات التي تعمل كلما جدّ خبر. فأحيانا قد تسكت كلها، وقد تعمل واحدة أو أكثر وربما عملت معظمها دفعة واحدة بوجود خبر عاجل، وكأنها تنادينا بأن خطبًا ما يحدث الآن في مكان ما من العالم.. وللغرفة رائحة خاصة تنبعث من تلك الأجهزة، يبدو أنها رائحة زيت ملين للطابعات أو الأحبار.
هنا بدأتُ التعرف على مفهوم وكالات الأنباء، وما تبثه، والديباجة التي تبدأ بها إرسالها سواء على مستوى اليوم أو لكل خبر، وأن لكل وكالة اسما مختصرا من حروف أو كلمات، فمثلا «أ.ش.أ» تعني وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية و(واس)= السعودية.. كونا= الكويتية.. إيتار تاس= الروسية، أما «رويترز»، التي تأسست نهايات القرن 19 والتي أخذت اسمها من مؤسسها، فقد تكون الأشهر عالميا لدرجة أن تدخل في الأمثال الشعبية كناية عمن يتكلم أو يثرثر أو يحمل أخبارًا كثيرة، وتحمل «رويترز» تاريخا كبيرا ومثيرا، بدءا من تغيير ديانة مؤسسها من اليهودية للنصرانية، واستخدامها أسراب الحمام الزاجل، وقوة انتشار مراسليها ومذيعيها حول العالم.. ولاحقا ظهرت العمانية= وكالة الأنباء العمانية.
موظف الوكالات هنا، لا يتوقف عن مراقبة كل جهاز وكأنه كائن حي، أشبه بمن يعتني بنباتات الزينة في منزله. فيطمئن على كفاءة عملها، وتوفر أوراقها، التي يقطعها ويصنفها حسب نوع الأخبار من تلك الأجهزة التي تسكب أخبارها على ورق من عدة نسخ بالألوان، على هيئة لفافة تشبه ورق محارم المطبخ (role) فحبرها وأوراقها يجب أن تكون متوفرة بكميات تكفي أياما طويلة قادمة، حتى لا يتوقف هذا الرافد. النسخة الأولى باللون الأبيض لتحرير النشرة، فيما تتوزع النسخ الأخرى بين بعض البرامج وفي مقدمتها برنامج (العالم اليوم) الذي يقدم تحليلا يوميا موجزا لأهم قضايا الساعة، وما يعرف بالنشرة الخاصة التي ترسل للوزير متضمنة ما لا يذاع في النشرة مهما كانت حساسيته، ويمكن أن يَعزل بعضها وديّا ليخص به بعض الزملاء من معدين ومذيعين، كما يستطيع -لو شاء-، أن يخبئ في جيبه نسخة من أي خبر أو تقرير محظور، ليستمتع بقراءته في البيت، فيما يذهب الكم الكبير المتبقي إلى أكبر سلة مهملات في الإذاعة.
في زيارة لإحدى الإذاعات وجدنا في قسم بعيد عن الأخبار، كمًّا هائلا من هذه الأجهزة، ولكن معظمها من دون اشتراك (هكذا قال لنا موظف منهم) أي أنها نوع من القرصنة، فالوكالات تُلتقط بموجات لاسلكية كما تلتقط محطات الإذاعات تقريبا. لم يكن في ذلك الوقت قد شاع مصطلح الملكية الفكرية، فكل يعمل بشطارته أو تحايله أو ضميره، وينسحب ذلك على أشرطة الكاسيت المقلدة أو الأسطوانات أو الفيديوهات التي أتت لاحقًا، والإصدارات الورقية.
ونظرا لإمكانية الطباعة على نفس الجهاز، فلم يخلُ جو العمل من بعض المقالب، كأن يقوم موظف بطباعة خبر يعطيه العناصر الثابتة نفسها ويفبرك حدثا مثيرا أو مضحكا على أحد الزملاء، لدرجة أن انطلت على أحدهم وشعر بالفخر ورأيناه يأخذ الخبر ليحتفظ به تذكارا.
الرافد الآخر لنشرة الأخبار، هو (قسم الرصد) الذي يلعب دورًا مهما في تغذية طاولة التحرير ببعض الأخبار، خاصة التي يراد أن تؤخذ من مصادرها، سواء كإذاعات موثوقة أو تعد بلدانها بؤر أحداث، فكانت تتكرر في النشرات عبارة (ذكرت إذاعة كذا أو أعلنت إذاعة كذا).. قسم الرصد هذا عبارة عن عدة «كابينات» مفتوحة، في كل منها جهاز راديو وجهاز تسجيل ماركة «ريفوكس» بشريط من بكرتيْن كما هو حال باقي أجهزة التسجيل والتشغيل آنذاك، فبعد أن يقوم الموظف المناوب بتسجيل نشرة أو أكثر بطلب من التحرير أو بمبادرة منه، يبدأ بتفريغ موجز النشرة كتابيا بطريقة يدوية بوضع سماعة الأذن في رأسه، فإن كان يكتب باليمين فإصبعان من يده اليسرى على لوحة المفاتيح بين زرّيْ التشغيل والإيقاف، أو بأن يضع يدا على الشريط وأخرى يمسك بها القلم ويتحكم بدوران الشريط بيده وكأنها فرامل يرخي بمقدار أن يسمع كلمة أو جملة ويقوم بكتابتها ثم يستأنف، وهكذا، وأعتقد أن هذه الطريقة فيها بعض العنف على الجهاز، ولكنها الطريقة الأضبط والأسرع، كما أن من ميزات هذه الأجهزة إمكانية التحكم في سرعة الصوت بشكل مفتوح، وليس على السرعات الثلاث الأشهر، التي تشبه الخدمة التي ظهرت مؤخرا في تطبيق الواتساب بتسريع الرسالة الصوتية. ويجب على ملتقط الأخبار، أن يكون دقيقا في النقل خاصة مع ضعف صوت بعض الإذاعات أو تشويش الإذاعات الأخرى؛ لأن الالتقاط يتم على الموجتين المتوسطة والقصيرة، وقد يضطر للاستعانة بزميل لتفنيد كلمة أو مصطلح.. يتوجه هذا الملتقط برؤوس أقلام الموجز إلى رئيس التحرير ليختار أي خبر من النشرة، وكلما أخذ شيئا من أخباره كان الملتقط أكثر سعادة، وإذا لم يؤخذ شيء منها قد يشعر ببعض الإحباط، أو يعتب عليه تفويت مثل هذا الخبر أو ذاك.. وعلى أحد الجدران علقت لوحة كبيرة بها أوراق تحوي قائمة بخط يد جميل بأسماء الإذاعات وأوقات النشرات فيها وذبذبة كل إذاعة.. تم إلغاء هذا القسم بطريقة مفاجئة وتحويل موظفيه إلى قسم رصد آخر استحدث في التلفزيون. آلمني أن تفقد أخبار الإذاعة قسما كهذا!
كل النشرات والمواد السياسية يفترض أن ينتهي بها المطاف في ملفات الأرشيف الذي يعد ذاكرة الأخبار المكتوبة، مثلما تشكل المكتبة الفنية الذاكرة المسموعة.. كنت ألجأ إلى هذا الأرشيف وأستفيد منه في استرجاع بعض الأخبار، لربط الأحداث الجديدة بخلفياتها، وأشعر بمدى سعادة بعض الزملاء والزميلات في هذا القسم عندما نطلب منهم خدمة كهذه لشعورهم أن هذا المكان ليس مجرد مخزن منسي لأوراق بالية.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
السفارة الروسية في لندن: بريطانيا كثفت حملتها المناهضة لروسيا بسبب قرب انهيار نظام كييف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أعلنت السفارة الروسية في لندن في بيان لها أن بريطانيا كثفت حملتها المناهضة لروسيا بسبب قرب انهيار نظام كييف.
وجاء في البيان: "إن استعداد القيادة الروسية للدفاع بحزم عن المصالح الأمنية المشروعة لبلادنا، مدعوما بإظهار واضح للفعالية العالية لترسانة الردع الاستراتيجي الروسية، كان له تأثير ملحوظ على السياسة البريطانية".
وأضاف: "لقد بزغ وعي الفشل الوشيك للمشروع الأوكراني بشكل أكثر وضوحا من ذي قبل، والذي راهنوا عليه في لندن كثيرًا، على أمل الاستفادة بطريقة ما من الخطط التي يدبرها الغرب لبلادنا".
وتابع: "لاحظ الدبلوماسيون الروس أن رد الفعل الغريزي لآلة الدعاية البريطانية على الأخبار غير السارة التي وصلت إلى لندن من المنطقة العسكرية الشمالية كان هو رد الفعل الطبيعي على تفنيد القصص السخيفة المناهضة لروسيا في وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الحكومة البريطانية".
وفي وقت سابق، رأى الخبير والمفكر السياسي والصحافي البريطاني أناتول ليفين في مقاله بمجلة "Responsible Statecraft"، أن مستقبل أوروبا وكييف قاتم للغاية بسبب جهل السياسيين.
وأوضح أن مستقبل كييف وأوروبا يبدو قاتما للغاية بعد فوز الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب وتصعيد الصراع في أوكرانيا بفضل السماح لها بضرب العمق الروسي.
يذكر أن واشنطن ولندن وباريس سمحوا لكييف بضرب العمق الروسي باستخدام صواريخهم البعيدة المدى، الأمر الذي اعتبر تصعيدا خطيرا في الصراع الأوكراني، إذ حذرت موسكو مرارا من أن استخدام الصواريخ الغربية في العمق الروسي سيكون دليلا على انخراط حلف "الناتو" مباشرة في العمليات العسكرية ضد روسيا في أوكرانيا.
وردا على التصعيد الغربي وضرب الأراضي الروسية بصواريخ "أتاكمس" الأمريكية و"ستورم شادو" البريطانية، وجهت روسيا "رسالة تحذيرية" للغرب على هيئة هجوم صاروخي على مجمع للصناعة العسكرية الأوكرانية في دنبروبتروفسك، بصاروخ "أوريشنيك" الأسرع من الصوت المتعدد الرؤوس غير النووية، والذي شكل مفاجأة عسكرية نوعية للغرب، خاصة بعد إعلان القوات الصاروخية الروسية أن مداه يبلغ 5000 كيلومتر ويمكنه الوصول إلى أي نقطة في أوروبا.