ليس من المفروض أن تكون هناك مناسبة حتى أكتب عن الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ، نعم هذا ليس عيد ميلاده ولا ذكرى رحيله، وليس هناك كتاب جديد له طبع بعد موته من قبل محبين؛ لأحتفي به، وليس هناك مركز ثقافي بُني باسمه، ليذكرني به، أكتب عن توفيق احتراما وتكريما لصاحب تجربة شعرية مهمة، وأول من كتب قصيدة النثر في العالم العربي، لم يكترث لها سوى القلة، ممن يحترمون حق الشاعر في أن يكون نفسه، وروحه وسياقه، وكان توفيق نفسه وخياره الشعري والفكري، آمن بالمسيح واستخدم أساطيره الغريبة، أدخل مفردات حوشية في نصوصه الشعرية، واحتفى بالشامتين والشاتمين من النقاد والقراء ونشر الشتائم على أغلفة كتبه، استهتارا وسخرية، وصف جمهور الشعر بالكلب، ذاهبا إلى قصيدة مختلفة وبعيدة ومركبة مكتفية بثقتها بنفسها.
لا آباء لتوفيق شعريا وحياتيا سوى المسيح بتعاليمه وسيرته وفدائيته، ولا أتباع أو مريدين له، أو متأثرين واضحين، أحب سيرة توفيق، أعشق عزلته وثقته بقدرته وقدرة قصيدته على التخلي عن العالم، حياته تشبه قصائده، سلسلة دامية من العزلة والنبذ واختيار الغريب، واللاتكيف والغربة، رفض أن يكون من ضمن مجانين مجلة شعر، وأخذ الشعر إلى أعلى نثريته وافتراقه عن المألوف، وظل ملعونا من قبل النقاد ومطرودا من ذائقة الشعر العامة، وحين استلم رئاسة مجلة (حوار) الثقافية في ستينيات القرن الماضي، لمعت بشكل غير معقول غربة توفيق، إذ اتهمت المجلة بأنها ممولة من الاستخبارات الأمريكية، مما اضطر الشاعر إلى الاستقالة منها، في غربته في المنفى البريطاني البارد وهو يدرس في جامعة هارفرد، انفجرت انفعالاته العاطفية وتشكلت على صورة أزمات ودمار نفسي حاد، إذ عشق الشاعر فتاة بريطانية عشقا لا يشبهه عشق آخر، كانت (كاي) وهذا رمز لاسمها امرأة قوية وعجيبة، استغلت قلب الشاعر المرهف، وتحكمت به، بل ولعبت في حياته، ممزقة استقراره. في مقال طويل منشور في كتاب (النار والجوهر)، يقول الروائي الشهير جبرا إبراهيم جبرا رفيق توفيق ومجايله وزميله في مقاعد الدراسة بالكلية العربية بالقدس: (كانت كاي تعذبه وتغويه وتتقن كلا الفنين وتتمتع بهما، ما رأيته في لندن في أواخر الخمسينيات إلا وهو في تباريح غريبة من هذه الفتاة وهي فنانة تقيم في لندن، تتشبث به وتغار عليه).
لكن هذه الفترة المجنونة، جاءت بديوان شعري هائل (القصيدة ك عام 1960)، كتب فيها توفيق هواجسه وألمه وشكوكه، وظلت الذائقة العربية بعيدة عن مجرد الاقتراب ومحاولة فهم لغة فضاءات هذا الممسوس بالشعر وقيم المسيح وخلاصه، وكان قبل ذلك أصدر ديوان (ثلاثون قصيدة عام 1954) ثم أصدر (معلقة توفيق صايغ عام 1963)، لم يبق أحد لم يختلف معه توفيق: الأهل، الأشقاء تحديدا، وعميد الكلية العربية في القدس وأصدقاؤه وقراؤه ونقاده، وحبيبته القاسية، لم يرض هو عن أحد ولم يرض عنه أحد، عاش غريبا، ومات وحيدا، حرث له أرضا خاصة في كل شيء، حياته طيلة دراسته في القدس غامضة والمعلومات عنها قليلة، لكن جبرا إبراهيم جبرا يقول عن هذه الفترة: إن توفيق أمضاها وحيدا، بلا أصدقاء وبلا نشاطات ثقافية، ودون حضور إبداعي في صحف فلسطين وبعداء وصدام مع إدارة الكلية، وبعد كامل عن النساء، وأضاف جبرا: الوحيد الذي كان يثق به توفيق ويعجب به هو أستاذ اللغة اللاتينية في الكلية عبد الرحمن بشناق.
احتفى توفيق شعريا بأسطورة حيوان الكركدن مع العذراء، وهي أسطورة مسيحية لم تقتنع فيها ذائقة الشعر العربي آنذاك، (يقول الباحث محمود شريح بأن قصيدة «الكركدن» قد أثارت زوبعة من النقاش والجدل، وأحيانا الهجوم عند نشرها، فقد كتب عاصم الجندي مقالة ضدها عنوانها «أبعدوا هذا الطنين عن أذني»، وقال عنها علي الجندي إنها «نشاز غريب وصفاقة هجينة، وتجنٍّ مريب على الشعر»، بينما انبرى للدفاع عنها الناشر والصحفي رياض نجيب الريس وأعجب بها الروائي السوداني الطيب صالح من خلال رسالة إلى الصايغ. ويعتبر الشاعر العراقي سامي مهدي في كتابه «تجربة توفيق صايغ دار رياض الريس»، أن بعض دوافع الحملة على قصيدة صايغ كان سياسيا محضا، يتصل بطبيعة مجلة «حوار» وجهة تمويلها، في حين كان الاعتراض المبدئي على الشعر الحر وتقنياته وغموضه الدافع الآخر لها).
ومن ضمن غرابات حياته ومماته وشعره كانت ميتته غريبة، إذ أصيب عام 1971 بنوبة قلبية أثناء وجوده في مصعد البناية التي كان يسكنها.
من الذي بقي من توفيق بعد هذه السنوات من غيابه عن المشهد الشعري الذي لم يكن أصلا فيه؟. يقول الباحث الفلسطيني محمود شريتح أحد أهم الباحثين في شعرية وحياة توفيق في حوار مع جريدة الاتحاد الظبيانية ردا على سؤال عن سبب إيمانه بشعرية توفيق ودافعية بحثه المخلص والكبير في عالمه:
(صباح يوم أحد في بيروت وقَعْتُ في ملحق صحيفة «النهار» اللبنانية (9/1/1972) على قصيدة «غزل مُرّ» للشاعر توفيق صايغ، فَسَرَتْ فيّ رعشة وانفتحت أمامي آفاق. كنت واقعا آنذاك تحت تأثير الشاعر خليل حاوي بتشجيع من أستاذيّ رائف لبكي ونبيل رحّال، ومولعا بالرومنطيقية بتأثير أستاذ ثالث في «الإنترناسيونال كوليدج» في بيروت، هو ألفريد خوري. احتفظت بملحق «النهار» وكنت كلّما قرأت غزلا مرا، سَرَتْ فيّ الرعشة نفسها. ثم بدأ البحث عن توفيق صايغ.
وجدت نفسي أتعامل مع شخصية فريدة وطريفة. عالم مغلق يصعب دخوله. شاعر مرهف ومنفي ويعاني وحدة صراعية داخلية عنيفة. صداقات عديدة وعلاقات نسائية متشعبة. متشرّب ثقافة شرقية وغربية. مغرق في تجديد شكل القصيدة ومضمونها. صديقه الكتاب ومهنته الشعر. أستاذ متفانٍ. مولع بالتقاط الصور غير التقليدية. يكره الرسميات. لا يدخّن. لا يقصّ شعره إلا مرة أو مرتين في السنة. أحبّ المقاهي. ابتعد عن الأضواء وانتمى إلى بساطة بوهيمية. يقضي الليل بطوله يقرأ. يفتّش في المكتبات عن جديدٍ يقرأه، وإذا لم يجده خرج حزينا. صادَقَ شعراء الحداثة وشجّعهم. روّج للشعر العربي المعاصر ودرّسه في بيروت وكامبريدج وكاليفورنيا. مترجم بارع وناقد متمكّن. عاشقّ، قصائدُه عاطفة ولوعة. أضناه ضياع الوطن فرثاه بأسى وحزن. هجره القدر، فأدرك اغترابه الأبدي. قصيدته مُرّة، وعتابه غصّة وسيرته سِفر أيُوب).
توفيق صايغ في سطور
ولد الأكاديمي والشاعر الفلسطيني توفيق صايغ عام 1923 في قرية «خربا» جنوب سوريا، وانتقل والده، القس عبد الله صايغ مع عائلته إلى قرية البصة شمالي فلسطين، ثم إلى طبريا سنة 1930، وبقي والده قسيسا لمدينة طبريا حتى نكبة 48، فالتجأت عائلته إلى بيروت.
عمل أستاذا في مدرسة الروضة في القدس، ثم موظفا في دائرة الترجمة التابعة لحكومة فلسطين، فمدرسا للأدب العربي في الجامعة الأمريكية في بيروت، فأمينا لمكتبة المركز الثقافي الأمريكي في بيروت 1948-1950، وكان في الفترة نفسها محررا لمجلة «صوت المرأة».
عمل محاضرا في الدائرة العربية بجامعة كامبردج من عام 1954 حتى عام 1959، ثم محاضرا في جامعة لندن من 1959حتى عام 1964، ثم عاد إلى بيروت ليصدر مجلة «حوار» حتى عام 1967.
عمل أستاذا زائرا في دائرتي الأدب المقارن ولغات الشرق الأدنى بجامعة بيركلي في كاليفورنيا من 1969-1971.
كان توفيق صايغ شغوفا باللغة العربية وآدابها، فعكف على دراستها والاهتمام بها بتعمق.
توفي توفيق صايغ في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1971 ودفن فيها.
تلقى توفيق دروسه الابتدائية في طبريا، والثانوية في الكلية العربية في القدس، ثم في الجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج منها سنة 1945.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی القدس فی بیروت
إقرأ أيضاً:
كاف بلا نون!
د. جمال فودة **
قراءة في شعر همام صادق عثمان
الإبداع الشعري لدى أي شاعر يأتي نتيجة مجموعة من الأفكار الثابتة التي يظل يدور حولها طيلة حياته، ينيرها بالكشف أو يتلمسها بالرمز، وهذه الهواجس والوساوس هي التي تهب المبدع تميزه، وتجعله نسيج وحده بين رفاق دربه.
وقد لاحظت خلال قراءة عجلى أن شعر همّام صادق عثمان يدور بشكل كبير حول ظاهرة الاغتراب، تلك الفكرة التي راح ينسج حولها تجاربه؛ في محاولة مستمرة منه لفهم أعمق لذاته التي لا تكف عن الجدل والحوار والسؤال مع هذا العالم.
شعر همام يرسم صورة واضحة المعالم للإنسان المعاصر الغارق وسط الحشد، التائه في دروب الحياة، مسلوبة ذاته وضائعة روحه.
وتظل بصمته الخاصة هي التي تمنحنا أبعاد الدلالة وآفاق التجربة، من خلال التعبير عما يعانيه الإنسان من غربة كونية، وما يستشعره من زيف الحياة، وما ترصده قصائده من صور الفساد الاجتماعي التي تستشري في واقعنا المعاصر، ولعل الغربة الروحية التي يعيشها همام جاءت نتيجة لتلك التغيرات الكبيرة التي طرأت على المجتمع ؛ مما أدى إلى عجزه عن ملاحقة تلك التغيرات، ومن ثمّ صادفت شخصية المغترب هوى في نفسه ؛ ربما لأنه هو نفسه أصبح غريبًا مغتربًا حين فطن رغم حداثة سنه إلى عمق الهوة بين ما يراه وما يتمناه، واستشعر ضآلته حين أحس بانه ليس سوى ذرة تتحرك في إطار محدود لزمن لا محدود!!
فلا الغبراءُ أثقلهَا وجودي
ولا الخضراءُ أنقصَها غِيابي
وحين ينظر في المرآة يجد شخصًا سواه!! فقد بُدلت الملامح غير الملامح والسمات، ومن ثمَّ يخاطب مرآته / ذاته قائلًا :
لا تكوني كذَّابةً يا مرايا
ذلك الوجهُ كان شخصًا سوايا
لم أكنْ مُطفأ الملامحِ رهوًا
كنتُ دومًا مع النسائمِ نايا
كيف يا "قاهرَ" استلبتِ لساني
لم يقلْ مرحبًا ولا قالَ "هايا"
انفردْنا بقمِّة الجرحِ دهرًا
كان أوْلى إفرادُنا بالحَكايا
لا غريبًا في شيْبِ طفلٍ صغيرٍ
إذْ يرى في الوجوهِ وحشَ البلايا
شارعٌ مفترٍ يعرِّي فقيرًا
وغنيٌّ يعدُّهُ في السَّبايا
يا بلادي وما عليَّ يمينٌ
إنَّني فيكِ غُربتي في أنايا
أإذا قلتُ إنَّ فتحًا قريبٌ
جاءني الفتحُ بانتشارِ الرزايا؟!
ذكرياتي جعلتهنّ جميعًاَ
تحت رجْلي فبلَّغتْني سمايا
إن الشاعر يتحدث عن حالة التيه والضياع والإحساس بالاغتراب عن نفسه ومجتمعه، ويصف مشاعره في أغنية حزينة يسكب آهاته على أوتارها، لكن الجراح إذا ما شكونا تزيد!
إن الشاعر لا يستخدم ضمير المتكلم (الياء أو التاء أو نا) بمعناه الخاص المفرد، بل يستخدمه بالمعنى العام للدلالة، فهو عندما يقول (أنا) فإنه ينطق بلسان الجماعة، وهذا ما يدفعنا للتجاوب معه؛ إذ نراه قد استبطن أفكارنا، وجسد همومنا، وأجاد في تصويرها، ومن ثمّ فإن اغتراب الشاعر عن ذاته لا يعكس الذاتية المجردة أو الأنية الضيقة، وإنما يعبر من خلالها عن مشاعر الذات الإنسانية المغتربة، تلك الذات التي تحمل على كاهلها هموم المجتمع، بل هموم العصر!
يا بلادي وما عليَّ يمينٌ
إنَّني فيكِ غُربتي في أنايا
إن اغتراب الشاعر يتنامى نتيجة فقدان ذاته وسط زحام الحياة، فالناس تلاصقت أجسادًا وتباعدت أرواحًا، وهيهات أن تعود إليه ذاته!
وأرغبُ أن تعودَ إليَّ ذاتي
وهل عادت إلى المفقودِ ذاتُ؟
لقد وصل إحساس الشاعر بالغربة عن ذاته إلى إنكار كل شيء حوله، حتى ملامحه لا يراها في نفسه، لقد طفت مرارة الغربة على وجهه، فانتقلت من روحه إلى جسده!
لا تكوني كذَّابةً يا مرايا
ذلك الوجهُ كان شخصًا سوايا
لقد بات الشاعر في خلاف جذري وأكيد مع هذا العالم، واحتدم الصراع بينهما، فلا خلاص له من هذا العالم الذي يخوض في الوحول والآثام، وحسبه أن تكون المنايا أمانيا تخلصه من رق غربته، وتفضُّ اشتباك ذاته مع ذاته!!
سيذكرُني التوجُّعُ والأنينُ
إذا جفَّتْ منَ الثَّمرِ الْغُصونُ
مِثالي في الحياةِ مثالُ كافٍ
كمِ انتظرَتْ وما في الأمرِ نونُ
كأنِّي -رغمَ جمعِ النَّاسِ حولي-
غريبٌ لمْ تصاحبْهُ السُّنونُ
صراعٌ داخلي، شَطريْ رهانٍ
أكونُ أنا أنا، أمْ لا أكونُ؟!
تَمادى الحزنُ حتَّى صرتُ حزنًا
يسمَّى باسمِهِ الشَّخصُ الحزينُ
حياتُكَ كبَّلتْكَ بِها سَجينًا
فهلْ لكَ مُنقذٌ إلا المنونُ؟
زَماني كمْ قسوْتَ على طُموحي
فما لكَ ليسَ يعرفُكَ الحنينُ؟!
يكشف لنا تصدير الشاعر للفعل المضارع بحرف (السين) عن رغبته المكبوتة في البوح، والتنفيس هنا بمعنى التوسيع وذلك لأن (السين) توسّع زمن الفعل، وذلك عن طريق الامتداد إلى المستقبل، فالمضارع بحكم مواضعته يعطي معنى التجدد الحضوري، وكأن هناك طاقات روحية إيحائية هي القادرة على جمع المتناقضات في ثنايا الصورة التي تعكس حالة من الإحساس بالضياع بين ماض أليم وحاضر أشد إيلامًا.
ولعل الشاعر يعمل على خلق نوع من التوازي بين البنية اللغوية والتجربة النفسية ، إذ يتم إنتاج الدلالة في وسط زمني ينتمي إلى المستقبل من خلال مجموعة (المضارعات) التي تفجر بعدًا زمنيًا خاصًا؛ إذ تتحرك الصياغة حركة مزدوجة، حيث تتعلق بالماضي وتشده إلى الحاضر، كما تتعلق بالحاضر وترده إلى الماضي، فتخلق بهذه الازدواجية معادلًا يوازى تجربتها خارج إطار الزمن، وهى تجربة تجمع بين الذات وموضوعها في لحظة مطلقة تختل فيها العلائق التي تربط بينهما، أما المعادل فهو الارتداد إلى واقع زمني لاستعادة علاقة مفرغة من الهموم، علاقة تشكل عالمًا من النقاء والصفاء والطهر.
تَجرَّعِ المُرَّ كيْ تُسْقى حَلاوَتَهُ
كما سَقى البُرْءُ داءً بعدَ مُرَّیْنِ
.......
مهما اسودادُ الدُّجى في الأمنياتِ سجى
يحاصرُ الله عسرًا بين يسرينِ
كما وظف الشاعر بنية الاستفهام للتعبير عن الإحساس بالضياع والاغتراب وعبثية الحياة، والسعي للخلاص من أسرها، وكم كان همام صادق واعيًا لفاعلية الاستفهام في تجسيم هذا الحوار النفسي الذي يحول دون التقاط الأنفاس.
صراعٌ داخلي، شَطريْ رهانٍ
أكونُ أنا أنا، أمْ لا أكونُ؟!
...
حياتُكَ كبَّلتْكَ بِها سَجينًا
فهلْ لكَ مُنقذٌ إلا المنونُ؟
في ضجة الذكريات يلملم الشاعر هواجسه، يحاور نفسه بعد أن أسدل الستار على حبه، وختم بالحزن على قلبه، وهذا " المونولوج الداخلي " الذي يستدعيه بالاستفهام يتيح له استدعاء المواقف التي استأثرت به، دون أن تجره الذكرى إلى الخوض في التفاصيل التي تستقطب طاقته التصويرية، فالاستفهام هنا أداته إلى التركيز، إضافة إلى كونه عنصر تنبيه في المونولوج الداخلي يجسد تلك المواقف التي تضطرم في أغوار الذات.
لقد نجح همام في أسر ذهن المتلقي وشد انتباهه إلى أقصى درجة؛ لما يحمله الاستفهام من ترقب يعمل على إحياء الدلالة من ناحية، ويقوى قنوات الإبلاغ من ناحية أخرى.
في ضباب هذه الأسئلة تنبت عروق الشعر الأصيل؛ فالشعر لا يستوطن اليقين الصامت ولا الإجابات المتوقعة، بل يعيش دائمًا في هذه المنطقة المتراوحة بين الصمت والنطق، بين السؤال والإجابة.
في الحقيقة لقد أبهرني شعر همام صادق عثمان بطابعه الفني والإنساني، وحسبي في ختام هذه القراءة العجلى القول إن همام شاعر لا يُعرّف، وإنما يُتعرف عليه من خلال شعره، فهو لسان حاله وترجمان ذاته، لقد وجدت فيه صوتًا من أصوات الحركة الشعرية الراهنة في ثقافتنا العربية، ولا تفي هذه السطور بما يستحقه شعره من نظرات أخرى للوقوف على أسراره وسبر أغواره، وهذا ما نرجوه في المستقبل القريب.
** كاتب وناقد وأكاديمي مصري
** عضو الاتحاد الدولي للغة العربية