سعيدة خاطر: أعُمان يا قارورةَ العطرِ النَّفيسِ
تاريخ النشر: 24th, January 2024 GMT
ناصر أبوعون
روح تصعد إلى سماوات اليقين، وتقطف ثمار الإرادة من سدرة اليقين، وتتمترس خلف درع الوطن، وتعيد كتابة تاريخ القصيدة، وتعزف لحن الشموخ على قيثارة الوطن، وتستقطر عطر الحياة من وردة جبليّة تتفرّع شرايينها وتتشبث بوتين الحياة في قيعان الجبل الأخضر.
إنها الدكتورة سعيدة خاطر فصلٌ لا فاصلة في سِفْر الإبداع العُمانيّ؛ أثبت لها العاكفون على تأريخ المشهد الثقافيّ العربيّ الريادةَ والتفرّدَ وقصب السبق في "أدب الأطفال"؛ بل هي عمود خيمة الأنشطة النِّسْوِيّة الفاعلة على مدى رُبُع قرنِ ونيف، وصاحبة الصالون الأكثر تأثيرًا على الصعيد الخليجيّ والذي كسر أسيجة المكان، وحواجز الزمان، فاستقطب شخصيات عربيّة لها سِيرٌ إبداعيّة مشرّفة بدءًا من مرتفعات الأطلس غربا إلى جبال الحجر الشرقيّ في عُمان واليمن السعيد بأصالته، وطافت "بهم وبهن" ولايات سلطنة عُمان، واستنهضت في هذا التطواف المكوكيّ سيرة الآباء العُمانيين الأولين، الذين ولّى زمانهم، ولم تندثر آثارهم، وبقيت روائح زمنهم الجميل تضوع فكرًا وتهطل ثقافةً وتتخلّق من مكانز المناديس نورًا يبدِّد عتمة الجهالة التي ضرب السكوت عليها خيمته حينا من الدهر، ونفضت عن مسيرتهم الإبداعية غبار السنين، وبعثت الروح في سيرتهم الذاتية من تحت الركام الذي أهاله عليهم رافعو قميص التجديد على أسِنّة حرابٍ حاقدةٍ توشك أن تنغرس في صدر تراثنا العربي التليد، ثَقّفَ الغرب شفرتها ليذبحَ الشرقيُّ تاريخ أجداده، ويقوّض أركان دُوله وأوطانه بأيدٍ سمتها عربيٌّ، وقناعها تجديديّ سقوا ماء الحداثة تمرّدًا في كؤوس ظاهرها شفاءٌ للناس، وباطنها سُمٌّ زُعاف؛ ليتصدر الغربيّ وراعي البقر الأمريكيّ مشهد "نهاية التاريخ" الذي يحلم به المدعو "فوكوياما" ذو الرأس اليابانيّ والقلب الصهيونيّ والفكر الإقصائيّ.
صالون الدكتورة سعيدة خاطر لا يعيش في جلباب الباحثين عن بقعة ضوء، وإنما خرج عن المسارات المرسومة سلفًا للفعاليات الثقافية العربيّة التي تتزنّر بالبهرجة الترويجية، وتتأطر بأجندات دعائية خاوٍ وِفَاضُها تضع المسؤول عن الصالون في واجهة المشهد وهو في الحقيقة جالس على كرسيٍّ أكلت الأرضةُ قوائمه، ويوشك أن تذروه رياح اليقين فتمحو سِناجَ حروفه، وتبيّض أبجدية سطوره الزائفة.
ويبقى الشعر الوطنيّ علامة سيميائية لها حضورها ونورها الجوانيّ الصادق مع الدكتورة سعيدة خاطر شمسا في أبهى طلعتها، حتى إذا ما ألقت من أسورتها على صوره زادتها نصاعة، وفكّت عُجمة ألفاظه فأكسبتها رصانة، وعزفت على قيثارة روحه فاستنطقت جمال موسيقاه بداعةً.[(الشعرُ في عينيكِ روضٌ يعبقُ/ صدحتْ بلابلهُ وفاحَ الزنبقُ)،(يا حلوةَ الحلوات هل تتقبلي/ بوحَ الحروف ِعلى شفاهِك يورقُ) (وحدتكِ في العشق ِلا شركٌ فقد/ وحدتُ نبضة َخافقي إِذ يخفقُ) (شلالُ عشقك كلما طوقته/ يجري قصيداً هادراً يتدفقُ)].فإذا ما تأملنا البيت الثالث استقبلتنا (لا) النافية للجنس والوحدة (لا شِرْكٌ)؛ فقد وقفت على رأس التفعيلة قاطعةً وقطعية، لأنّ الخبر في هذا المحل فُضْلة ويُسْتدَلُّ عليه من السياق؛ لذا لم تأبه الشاعرة بذكره ومن ثَمّ فهو عَمَهٌ مقصودٌ من جانبها، تتقصّد به التحوّل عن رؤية أي وطنٍ آخر أو الانتباه إلى كائن آخر يشاركها العشقَ الخالص لِعُمان المتحد في نبض خافقها. ومن روائع التصوير الفني الذي جمع بين التجسيد والتشخيص في صورة واحدة (شلالُ عشقك كلما طوقته/ يجري قصيداً هادراً يتدفقُ)، وهو تصوير يَحَارُ فيه القاريء فلا يدري كيف يقبض على أحدهما لتداخلهما في نسيجِ صُورةٍ شعريّة جِدُّ مذهلة جمعت بين الاستعارة والمجاز والكناية في إهاب واحد ومتوسلة بالإزاحة اللغوية لتوليد معانٍ ثرَّةٍ ومباغتة.
وعودٌ على بدء.. تطل شمس الشعر مع الدكتورة سعيدة خاطر مضمخة بروحها البهية، ومتمصّرة بهيبة امرأة عُمانية كل صباح؛ فتنشر ضوءها خيوطا من ذهب يستضيء بها كورال من جِنّيات الشعر المصطفّة على طول الساحل العُمانيّ بامتداد 3165 كيلومترًا يعزفن "الكونشرتو الكبير" "Concerto Grosso"، الذي يتردّد صداه في متتاليات موسيقية من "الصولو"، تتقاطع مع دفقات من "السبرانو" المسكوب من حناجر وطنية خالصة في أرواح عُشّاق عُمان من أقصى الجنوب الشرقيّ على بحر العرب إلى عتبات المحيط الهنديّ، وصولا إلى بحر عُمان وانتهاءً عند رأس مسندم شمالًا، تصدحُ بسيمفونية حب لتستحث أصوات موسيقاه الصادحة على أحبال "التينور" هدير الطبول المنبعث من "رزحة تقليدية" توقظ أصداؤُها الجمالَ النائم على مضيق هرمز فتتسامر مع "تغرود" في مدخل الخليج تتراقص على نغماته عرائس بحر العرب.
فيالجمال نداء عُمان الوطن والحبيبة بالهمزة الخالية من الصّوت الممدود الدالة على الملاصقة والذوبان في الأنسجة فهي بِضعة من الشاعرة، حيث تتبدّى في الجزء صورة الكل، وكأنّ عُمان في كبريائها وشموخها طبعت صورتها في صفحة وجه الشاعرة فتداخل المنادَى والمنادِي واتحدا، وحلّت روح الوطن في المواطِنة سعيدة خاطر الوفيّة الحالمة عندما تنشدنا: [("أعُمان" من أغرى الشموسَ بمقلةٍ/ منكِ تشعُ وفيكِ تخبو وتغرقُ)/ ("أعُمان"يا قارورة َالعطر ِالنفيسِ/ ترفقي بقلوبِ من يتعشقوا)]. إنها (قارورة العطر) التي دلقتها الدكتورة سعيدة خاطر بعد أن جمعت قطراتها من سويداء قلبها ونثرتها على خارطة عُمان فهبّت رياح الصبا وتضوَّعَ العبير من بين أكمام وردها الجبليّ، واحتشدت ولايات السلطنة في "كورس" كبير على مسرح الوطن بامتداد خارطته، فسجّل التاريخ على جغرافيتها النابضة بالحياة ملاحم البطولة والفداء، ورسم على وجهها الصبوح رايات السلام والمحبة بأحرفٍ من شموخ، تعزف لحن الوفاء الخالد من أقصاها إلى أقصاها.[(يالاسمك غنتْ مروجُ حقولهِ/ طوراً تميسُ وتارةً تتأنقُ) (هل تدري "مسقطُ" كيف عُتقَ حسنُها/ ما كان عهدي بالجمال يعتقُ/ يتنفسُ التاريخُ في ردهاتِها) (وفمُ المفاخر ِبالبطولةِ يشرقُ بردٌ سلام ٌ للصديقِ وأهلِها)،(نارٌ لأطماع ِ الغزاة ِ تُحَرِّقُ)].
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
جذوة من نار
قابلها في أحد مساءات شباط في رفحاء الباردة. شاب رفحاوي في السابعة عشر من عمره يذهب في رحلة برية نحو الصحراء ويتورّط في طريقه بها. كما هي عادة هواة الرحلات الصحراوية إذا كنت منهم، لابدّ من نسيان شيء ما، أو غرض تحتاجه في الصحراء، عندما تشرع في تجهيز رحلتك. لم يجد صاحبنا أعواد الكبريت التي تساعده على إشعال النار التي تقيه برد رفحاء القاتل في مثل هذا الوقت. فشلت كل الطرق التقليدية في علاج هذا الأمر. كان لا بد من اللجوء إلى أحد بالجوار، وطلب المساعدة في هذا الأمر البسيط. قد تبدو بعض الأحداث الحقيقية أكبر من الخيال، عندما تحاول سردها، لكن هذا ما حدث بالضبط.
في الثمانينات الميلادية، كانت رفحاء تعجّ بعشرات الأسر العراقية التي هربت من جحيم الظروف الصعبة في العراق، وكانت تتخذ من رفحاء القريبة منها على الحدود ملاذاً مؤقتاً لها، وخاصة عند أولئك البدو الرحّل، الذين يتحمّلون الظروف الصعبة في الصحراء، ويتكيّفون معها، ويتنقّلون فيها بحثاً عن المراعي. ويبدو أن بيت الشعر القابع هناك، يعود لإحدى هذه الأسر. كان الهواء بارداً يخترق العظم، وكان لابدّ من اللجوء لهذا البيت الذي يقع على طرف من هذه المكان. ذهب صاحبنا إلى الجزء المخصص للرجال من بيت الشعر، ورأى امرأة عجوز تجلس حول نار مشتعلة، وبجانبها فتاة شابة. كانتا تراقبانه وهو يقترب منهما. ” السلام عليكم،” قال لهما. ردت المرأة العجوز السلام بينما اكتفت الفتاة الشابة بالنظر إليه، وهي ترتدي نصف حجاب يبدي عينين حادتين لامعتين تخترقان قلب كل من تقع عليهما. “جزاكم الله كل خير. أحتاج كبريت لإشعال النار،” قال لهما وهو يجمع قواه. نهضت الفتاة الشابة بخفة شديدة واختفت داخل بيت الشعر ثم عادت وهي تحمل صندوقا صغيراً. سلّمته له بيديها العاريتين من أي أساور أو ذهب. لا يبدو أن هاتين اليدين تحتاجان إلى شيء يزيّنهما. هما كافيتان هكذا. خلق الله الذي أتقن كل شيء. لمست يده يدها بشكل عفوي وهو يأخذ الصندوق منها. لم يكن بحاجة للصندوق فقد كانت هذه اللمسة كافية للشعور بالدفء بقية ذلك اليوم، أو هكذا شعر. عيناها الواسعتان لا تزالان تحدّقان به. ” سوف أعيد الصندوق لكم بإذن الله،” قال مرتبكاً. “خوذه عيني ما نريده. ما نريده،” قالت له بلهجتها العراقية وعيناها تتابعانه. كانت اللغة سيمفونية جميلة زادت من شقاء صاحبنا الذي لم يكن بحاجة إلى رؤية النصف الآخر المخفي من وجهها المحجّب. تكفّل الخيال برؤية وجهها الجميل كاملاً. قال لها “شكراً” وهو يغادر بيت الشعر.
كان يبحث عن شيء يقوله لكنه لا يستطيع. هل كانت الفتاة أيضاً تريد أن تقول شيئا؟ عيناها تقولان حديثا مطولاً لا نهاية له. لم يستطع النظر خلفه حيث بيت الشعر. كان لا بد من أن يكمل طريقه إلى غير رجعة. النار التي تركها خلفه تخبو شيئا فشيئا. لا يبدو أن طريقهما سيلتقيان مرة أخرى.
الآن، عمر صاحبنا يقترب من الستين، لكنه لم ينس تلك السيمفونية التي سمعها، واليد التي لمسها، والعينين الجميلتين اللتين تحدّث معهما. بقيت معه مثل جذوة تحت رماد تلمع بشكل خافت دون أن تنطفئ.
khaledalawadh @