كتاب: سنان أنطون: دنيا الكوابيس الأليفة
تاريخ النشر: 24th, January 2024 GMT
لعبة مرايا متقابلة ومتتالية في آن؛ ليس هذا الأسلوب جديدًا في الأدب، إذ لعله ابتدأ بهوميروس ووصل أقصى تجلّياته لدى تولستوي عالميًا، وعبد الرحمن منيف عربيًا. وليس أسلوبًا جديدًا لدى سنان أنطون أيضًا، إذ استخدمه في رواية «يا مريم» وإن ضمن دائرة أضيق من دائرة روايته الأحدث «خزامى» التي صدرت أخيرًا عن منشورات الجمل.
ثمة إغراء كبير في تتبّع جذور «خزامى» في روايات أنطون السابقة، ربما باستثناء «وحدها شجرة الرمان»، الرواية الأشهر لأسباب عديدة، التي عمد أنطون بجرأة إلى التخلّي عنها بقوة في «خزامى». ولكنّ التشابهات محض قناع، حتى ولو ركن القراء والنقاد إلى القراءة الكسولة التي تختزل أعماله في «تهمة» الكتابة عن العراق. ثمة تخليات كثيرة في هذه الرواية التي طال انتظارها، وكان صاحبها على قدر الرهانات، إذ باتت أفضل رواية له، أفضل حتى من «فهرس» التي نكاد لا نجد روايات منافسة كثيرة لها في العقدين الأخيرين. تخلى أنطون جزئيًا عن النزعة التجريبية التي كان يمكن لـ «خزامى» أن تمثّل متاهة أعقد، وتخلّى جزئيًا عن مكانه الأثير ليغادر منطقة أمانه السابقة، غير أنه تردّد في مغادرة منطقة أمان أخرى هي حجم الرواية، إذ ألزم نفسه بحجم متوسط كان يمكن لهذه الرواية أن تطول أكثر بلا إملال.
«خزامى» هي جدلية المنفى والوطن، أو المنفى والمنفى الآخر، أو ربما (ولو لبعض شخوصها) الوطن والوطن الآخر. جدلية أشبه بمغناطيس يجذب القراء على اختلافاتهم، أو أشبه بكابوس جاثم على صدور الجميع، حتى أولئك الذين يتوهمون أحلامًا هنا أو هناك. جدلية غفلة ويقظة، وكأن الذاكرة موشور «مبلل بالحروب» (لو استعرنا عنوان ديوان سنان)، يضيء تارة ويخفت تارة. جدلية التذكر والنسيان، أو التذكر والتناسي، إذ تنوس الذاكرة بين حضور وغياب واقعي ومجازي في آن. الذاكرة هروب لدى عمر الذي يعوض نقصانه الجسدي بالتناسي، وكأن فقدان الذاكرة لديه وطن اختياري في رحلة القفز بين أوطان/منافٍ عدة. وفي المقابل، تكون الذاكرة وطنًا لدى سامي حيث الزهايمر آخر درجة من درجات الخيانات المتلاحقة التي نكبته.
«خزامى» رواية زمنين، ومكانين، وذاكرتين، ووطنين، ومنفيين، والأهم أنها رواية كابوسين مقيمين لا يرحلان، وحيث لا مكان للحلم حتى لدى الشخصيات الأخرى التي تدور في فلك الشخصيتين الرئيسيتين. حتى أصحاب الوطن الواحد، والذاكرة الواحدة، واللغة الواحدة أسرى كوابيس أخرى لا مفر منها. رحلة تيه في أمكنة وأزمنة لدى عمر وسامي، وهي في الوقت ذاته رحلة تيه في المكان الواحد والزمان الواحد لدى باقي الشخصيات. وكأن لعنة العراق أصابت الجميع: من هربوا منه، ومن يحنّون إليه، ومن سمعوا عنه، ومن لا يعرفون مكانه على الخريطة. لعنة وجودية حتى لدى الشخصيات البسيطة التي لا تدرك معنى الوجود، وتحاول التملص من متاهة المنفى بالعيش يومًا بيوم، حيث تمسي الرتابة جحيمًا آخر، كابوسًا آخر يخلق منفاه.
كان لا بد لـ «خزامى» أن تُكتَب كما كُتبت؛ مقاطع بلا ترتيب منطقي. مقاطع متداخلة تارة، متوازية تارة، متنافرة تارة. مقاطع مثل فعل التذكّر أو فعل التناسي، ذاكرة متخبّطة كأصحابها العالقين بين الماضي والحاضر، وحلم مستقبل مجهول ينذر دومًا بكابوس غامض. ليس تداعيًا حرًا تمامًا، بل تداعٍ مضبوط الإيقاع،
تبدو الشخصيات كلّها وكأنها تخلق كوابيسها المريحة ضمن متاهة الكوابيس المفروضة عليها قسرًا. ثمة من يختلق وطنًا، وثمة من يختلق ذاكرة، وثمة من يختلق هواية جديدة، وثمة من يبتكر مشروعًا جديدًا، وثمة من يعيد تشكيل حياته لينفض غبار الماضي كله. ولكن الكوابيس هي الكوابيس، أكانت في العراق، أو في بورتريكو، أو في فيتنام، أو في أميركا. فالأرقام هي الأرقام، حيث الأرقام هي الوطن، هي الهوية، هي من تمنح حياتهم معنى وقيمة، أكانت أرقام ملفات الهجرة، أو أرقام بيوت المنفى، أو أرقام رحلات الطيران، أو أرقام الضمان الاجتماعي وجوازات السفر.
متاهة جميلة ومرعبة في آن، يقدّمها أنطون ببراعة في تلك المقاطع التي تشكّل جسد الرواية المثخنة بالمنافي والكوابيس. يكاد يكون كل مقطع قصة مستقلة في ذاتها، وجزءًا من قصة كبرى في آن. لا نجد براعة المقاطع كثيرًا في الروايات العربية، إذ تبدو عمومًا منتزعة من سياقاتها كأنها أعضاء مبتورة، إلا أن أنطون أحد أفضل من يقدّرون قيمة المقاطع ومعانيها، وأحد أفضل من يكتبونها في الرواية العربية. لك أن تشكّل متاهة هذه المقاطع على هواك؛ لك أن ترتّبها كما تشاء، أن تعيد ترتيبها، أن تبعثرها، وقد قُدّر لي أن أقرأ الرواية بترتيبين مختلفين، فضّل أنطون الترتيب «الأسهل» في نهاية المطاف، بخاصة في الربع الأخير من الرواية.
ما يجعل «خزامى» أفضل روايات أنطون هو التحدّي الذي فرضه الكاتب على نفسه في مغادرة ما يرتاح إليه. ثمة تقاطعات مع رواياته السابقة حتمًا، إذ فيها بساطة «إعجام»، ولوعة «يا مريم»، وبراعة «فهرس»، إلا أنها لا تشبه أيًا منها. ثمة قطع شبه تام مع المشاعر الفيّاضة التي وصلت ذروتها في «وحدها شجرة الرمان»، ودرجات متفاوتة في الروايات الأخرى، بيد أن «خزامى» رواية الهدوء الخادع. ما من مشاعر جيّاشة واضحة، بل سطح نهر ساكن رائق. «خزامى» رواية الشخصيات التي تقلّم مشاعرها على نحو واعٍ أو لا واعٍ، بحيث تتخلّص من جميع ترهّلات الصراخ والعويل. هي رواية الابتسامات لا الضحكات، رواية الدموع لا النشيج، رواية الهمس لا الصراخ، رواية التمتمة، رواية مثل لمسة على النصل من دون أن تدمي اليد، غير أنها تدرك ما يفعله النصل، وما يفعله الدم. رواية قارب يتهادى بنعومة في ذلك النهر الممتد من اللامكان إلى اللامكان؛ ثمة مويجات خفيفة تربك هدوءه أحيانًا، إلا أن النهر، هذا النهر، نهر الخزامى، نهر بلا شطآن، فالشطآن ثبات، و«خزامى» بشخصياتها لا تنتمي إلى دنيا الثبات، بل تتغير بتغيّر كوابيسها التي قد لا تكون سيئة بالضرورة.
يزن الحاج كاتب ومترجم سوري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ثمة من
إقرأ أيضاً:
ثلاث فتيات وامرأة غامضة.. ننشر الفصل الأول من رواية «البوشّيه»
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق تنشر «البوابة نيوز» الفصل الأول من رواية «البوشّيه»، للكاتبة السعودية نوف أنور، والتي تصدر قريبا عن مؤسسة «الباشكاتب للسيناريو والنشر والسينما». وتتناول الرواية الواقعة في 140 صفحة تقريبا، بغلاف للفنان التشكيلي المصري محمد الشيمي، حكاية عن شبح امرأة غامضة يحيط بامرأة رقيقة -لكنها بائسة- تعافر من أجل إيجاد سلامها النفسي، في وقت تتعرض فيه لابتعاد الحبيب والغربة وخيانة أقرب صديقاتها. فيما تتشكل حولها حكاية صديقتي عمرها، واللتين لا تبدو حياتهما أفضل حالا.
يقول الناشر: في روايتها الأولى، تقدم نوف أنور قصة ثلاث فتيات تبدأ في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، سحر وحصة وميسون، تربطهن صداقة قديمة بدأت منذ حرب الكويت واستمرت لسنوات مليئة بالتفاصيل والأسرار. سحر، التي تملك حدسًا قويًا، تعيش في فوضى بسبب امرأة غامضة تلاحقها، وتقلب حياتها إلى جحيم مليء بالألغاز. حصة تخفي سرًا كبيرًا يجعلها تبني عالماً من الأكاذيب، بينما ميسون، رغم حياتها الفوضوية وسعيها وراء الرفاهية، تمثل الأمان لصديقاتها.
ومع مرور الوقت، تتشابك أحداثهن، حيث تتداخل خيوط الخوف والحب والصراعات. مما يدفعهن لمواجهة تحديات قاسية، تكشف أسرارًا، وتغير مسار حياتهن إلى الأبد.
1
ارتفعت أصوات النساء بالأغاني والزغاريد، وهن يملأن المكان بالضجيج، تفرقن في ساحة منزل «بو علي» في مجموعات صغيرة يربطها الذهاب والمجيء والضحكات المرحة. يُزيدهن تألق تلك الأنوار التي تفترش النخيل، وأشجار اللوز. وتتلألأ على البيت أفواج من النساء، يلتحفن أجسادهن بـ«العباءة السوداء»، وهن في كامل زينتهن وأثوابهن المزرية بالخيوط الذهبية، والفتيات بأثواب النشل الملونة. بينما تفوح من المنزل رائحة الطيب من الدخون، والعود المخلوط برائحة المشموم، والياسمين والحناء.
امتلأ المكان بالأغطية المزخرفة بالزهور الملونة، وجلست صفوف من النساء بمواضع مختلفة بشكل منتظم، وخصص الوسط للرقص. وعلى الواجهة، كانت الجدران مغطاة بقماش أخضر من الزري، والأرائك الخضراء، وصينية دائرية تقليدية، مزينة بالمشموم والياسمين والنثور، ومعاصير الحنة الملفوفة بإحكام وتفوح منها الرائحة الخنينة.
كانت الفتيات قد صنعن دائرة حول المرأة العجوز التي ترسم الحناء ليُشاهدن الرسوم التي تُزيّن يد العروس، وتختلط أصواتهن ما بين الإعجاب والمطالبة بأن تكون كلٌ منهن هي التالية. وأخريات من النساء الكبار، الجالسات في وجود أم العروس وهي تتباهى بعطايا من سيصير في الليلة التالية زوج ابنتها. وطائفة ثالثة انهمكت في الغناء والرقص، صانعة أكبر قدر من الضجيج.
بكامل زينتها، كانت حصة تتوسط الجميع بجمالها الدافئ، ورغم رغبة والدتها الملحة بتغطية وجهها هذه الليلة -حتى لا يذهب نورها يوم زفافها- إلا إنها رفعت الغطاء عن وجهها، وسلّمت يديها الممتدتان للمرأة، لتقوم بنقشها بالأغصان المتفرعة بالأوراق والزهور.
كانت الفتيات يتراقصن بأثوابهن «النشل»، وشعور بعضهن مسدول على الأكتاف، وأخريات مجدلة ومزينة بالمشموم والريحان. وبالطبع لا تخلو أعناقهن وأياديهن من عقود الياسمين. إلا أن حرارة الجو زادت وجوههن احمرارًا ولمعانًا، وبالرغم من ذلك لم يمنعهن من التوقف عن الرقص، خاصة مع وجود فرقة «زبيدة» ودفوفها التي كانت تُلبي رغبة الفتيات بغناء أغاني سوق الكاسيت التي يرغبن بها، وفي الوقت نفسه، تُلبي رغبه الأمهات بالأغاني والأهازيج الشعبية.
وسط كل هذا كانت سحر جالسة في سكون، بدت كزهرة حائط وحيدة بجمالها اللافت رغم شحوب وجهها ونظراتها الشاردة، ترفض بلباقة كل محاولات الأخريات في جذبها نحو الدائرة الراقصة أو رسّمة الحناء، تدير عينيها في الحاضرات وتكتفي بهزة رأس بسيطة كلما قابلتها عين إحداهن، تتجنب النظر إلى النسوة الكبار ممن يرمقنها بنظرات هي مزيج بين الفضول والإشفاق، لأنها لم تتزوج بعد رغم حُسنها الواضح.
تعلم ما يُفكرن فيه، البعض يراها «منحوسة»، والأخرى «ممسوسة»؛ وغيرهن لقّبنها بـ «الحسناء التعيسة». تعرف هذا وتتجاهله، ولولا أن الليلة هي حناء «حصة»- أعز صديقاتها منذ الطفولة- لما غادرت منزلها لتصطدم بتلك الوجوه المُشفقة، فقط حصة هي الوحيدة القادرة على إخراجها من العُزلة مهما عبست أيامها أو انشغل ذهنها.
"ألا زلتِ تحلمين بتلك المرأة؟
قطع السؤال أفكارها، فرفعت رأسها لتجد حصة واقفة أمامها. تأملتها فوجدتها بارعة الحسن كما اعتدن أن يظهرن، أمسكت بيدها وتأملت الرسم في إعجاب، وجذبتها لتجلس بجوارها وأشارت حولهن..
-الجميع سعداء من أجلك، وأنا أولهّن.
=لا تتجاهلي ما أقول.. سألتك عن تلك المرأة. أهي سبب شرودك وقت زفافي؟
-لا شيء يؤخرني عنك.
=إذن.. احك لي.
-اليوم؟! يا لك من مجنونة يا فتاة!!
=هو اليوم نفسه الذين تكتفين فيه بالجلوس كنبات الزينة. دون أن تُشاركيني الرقص، أو تمتد يد العجوز على يدك المرمرية لتصنع لوحة تُزيد من فتنتك. احك لي، فربما يُذهب الحديث ثِقَل ذهنك، وتشاركيني فرحتي.
شعرت سحر بالخجل من قولها، لكنها أقرت في نفسها بأن ما تقوله صحيح. حصة هي الوحيدة التي لا تصف هواجسها وأحلامها بالجنون. منذ حكت لها عن تلك المرأة الغامضة التي تشاهدها منذ شهور وتستحوذ على أحلامها وخيالات اليقظة.
- تطاردني دومًا.. هي نفسها، بعباءتها السوداء الطويلة، وغطاء وجهها الذي لا يبدو منه سوى عينين فاتنتين. تثير الرعب فيَّ بنظرتها الثاقبة. ثم سُرعان ما تختفي. أراها في كل موضع، وتذوب مع فزعي.
= وتكتفي بالصمت؟
- ليس اليوم، ربما هذا ما جعلني أبدو في هذا الارتباك.
= لِمَ؟ ماذا حدث؟
- فيما بعد، لا أريد أن أبدو كطائر شؤم في يوم عرسك، دعينا نعود إلى النساء ثم أستكمل الحكي في يوم آخر.
= سأنشغل كثيرًا في الأيام المُقبلة.
- يا حبيبتي، أسعد الله وقتك وحفظ سرك، لا يوجد لديَّ أكثر من الوقت، ولا توجد حكاية أخرى تؤرق مضجعي. لا تهتمي، فسوف أنتظر.
تبادلتا الابتسام، وقامت أم العروس وأمسكت بيدها، تصاعدت الزغاريد، وارتفعت أصوات النساء بالغناء وكأن طاقتهن تضاعفت مع مشاركة سحر التي طافت ترقص حول حصة، ورسمت على وجهها ابتسامة لتُخفي توترها الزائد من تلك المرأة التي لا تنفك عن مطاردة ذهنها.
"قلت أوقفي لي وارفعي البوشيه... خليني أروي ضامر العطشاني
شفت الجدايل وأحسبك رومية.. ثاري الزلوق مقرضة ياخواني
الخد ياضي لي برق وسميه.. والعين تشبه ساعة الربان"..
لم تقاوم النساء الرقص على هذه الأغنية رقصة «الخماري»، فالفتيات وضعن الأكمام الواسعة لثوب النشل على الرأس، والنساء استعّن بالبوشيه لتغطية جزء من وجوههن؛ وبدأن يتمايلن بأجسادهن جانبًا بهدوء وبعدت خطوات إلى الوراء.
صنعت مع الفتيات دائرة كبيرة، توسطها العروس والمرأة العجوز، التي ما انفكت تصيح مُباركة العروس بكلمات لم تتبين أكثرها. أصرت العروس على والدتها أن ترقص لأنها تعرف أن والدتها تتقن «الخماري»، لكنها كانت تخشى من أحاديث النساء، فعادة أم العروس لا ترقص وتكون أقرب إلى الرصانة والثقل؛ إلا أن حصة أصرت قائلة «الزمن تغير يما»، بينما قامت سحر لتمسك بيدها وترقصان سويًا.
بعد قليل، اندمجت سحر مع الفتيات، وبدأت صورة المرأة تنزاح عن ذهنها فشعرت أنها أكثر حيوية، خرجت من الدائرة وأمسكت بيد والدة حصة واندمجتا في الرقص، حركت جسدها أكثر فزاد انطلاقها، بدأت تدور حول نفسها في مرح.
فجأة شعرت وكأن كل ما حولها اختفى، بدأت الدنيا في الإظلام لكنها لم تستطع أن توقف جسدها عن الدوران، بدت الأصوات من حلوها كأنها تأتي من بئر سحيقة، فارتجف جسدها بقوة لكنها لم تتوقف.
ثم ظهرت المرأة..
بدت تمامًا كما تراها من بعيد، عباءتها السوداء الطويلة والغطاء الشفاف الذي لا تُدرك ماهيته بينما عيناها لمعان من خلف الغطاء اقتربت منها المرأة فارتعبت وحاولت الصراخ لكنها لم تستطع، بدت في عيناها اللامعتين جذبة غريبة، أطبقت فمها وهي تتساءل كيف تراها في كل الاتجاهات رغم دوران جسدها.
شعرت بيد ثقيلة توضع على كتفها والأضواء تعود إلى بصرها شيئًا فشيء، انتفض جسدها وهي تسمع همسات تتعالى باسمها لتجد حصة أمامها ترمقها بنظرة قلقة، انتفضت مرة أخرى ثم أطلقت صرخة عالية وسقطت فاقدة الوعي.
«لم أشعر بنفسي إلا والنساء يُحطن بي وهن فزعات، كانت حصة أكثرهن فزعًا، لمحت في عينيها الخوف واللهفة لا الضيق والغضب رغم أني- بشكل ما- أفسدت ليلتها الجميلة. تلفت حولي لأجدنني مُستلقية على الأريكة وقد ابتل وجهي وغرق أنفي في مزيج من العطور استُخدمت لإفاقتي، نهضت مُرتبكة بعد تلك الفوضى التي أثرتها وشكرت حصة وكررت أسفي عشرات المرات قبل أن أستقل سيارتي وأغادر. أعلم أنها ليست غاضبة، فنحن أصدقاء منذ كنا في الثانية عشرة من عمرنا، لكني لا أستطيع منع نفسي من الضيق والخجل؛ ولا أستطيع كذلك أن أمحو من ذهني تلك المرأة الغامضة».