لجريدة عمان:
2025-02-24@01:08:34 GMT

كتاب: سنان أنطون: دنيا الكوابيس الأليفة

تاريخ النشر: 24th, January 2024 GMT

كتاب: سنان أنطون: دنيا الكوابيس الأليفة

لعبة مرايا متقابلة ومتتالية في آن؛ ليس هذا الأسلوب جديدًا في الأدب، إذ لعله ابتدأ بهوميروس ووصل أقصى تجلّياته لدى تولستوي عالميًا، وعبد الرحمن منيف عربيًا. وليس أسلوبًا جديدًا لدى سنان أنطون أيضًا، إذ استخدمه في رواية «يا مريم» وإن ضمن دائرة أضيق من دائرة روايته الأحدث «خزامى» التي صدرت أخيرًا عن منشورات الجمل.

ليست مرايا متقابلة تمامًا، إذ تتشظى أحيانًا، وإن بدرجة أقل من تشظي روايته «فهرس» التي ما تزال الرواية التجريبية الأكبر ضمن روايات أنطون الخمس.

ثمة إغراء كبير في تتبّع جذور «خزامى» في روايات أنطون السابقة، ربما باستثناء «وحدها شجرة الرمان»، الرواية الأشهر لأسباب عديدة، التي عمد أنطون بجرأة إلى التخلّي عنها بقوة في «خزامى». ولكنّ التشابهات محض قناع، حتى ولو ركن القراء والنقاد إلى القراءة الكسولة التي تختزل أعماله في «تهمة» الكتابة عن العراق. ثمة تخليات كثيرة في هذه الرواية التي طال انتظارها، وكان صاحبها على قدر الرهانات، إذ باتت أفضل رواية له، أفضل حتى من «فهرس» التي نكاد لا نجد روايات منافسة كثيرة لها في العقدين الأخيرين. تخلى أنطون جزئيًا عن النزعة التجريبية التي كان يمكن لـ «خزامى» أن تمثّل متاهة أعقد، وتخلّى جزئيًا عن مكانه الأثير ليغادر منطقة أمانه السابقة، غير أنه تردّد في مغادرة منطقة أمان أخرى هي حجم الرواية، إذ ألزم نفسه بحجم متوسط كان يمكن لهذه الرواية أن تطول أكثر بلا إملال.

«خزامى» هي جدلية المنفى والوطن، أو المنفى والمنفى الآخر، أو ربما (ولو لبعض شخوصها) الوطن والوطن الآخر. جدلية أشبه بمغناطيس يجذب القراء على اختلافاتهم، أو أشبه بكابوس جاثم على صدور الجميع، حتى أولئك الذين يتوهمون أحلامًا هنا أو هناك. جدلية غفلة ويقظة، وكأن الذاكرة موشور «مبلل بالحروب» (لو استعرنا عنوان ديوان سنان)، يضيء تارة ويخفت تارة. جدلية التذكر والنسيان، أو التذكر والتناسي، إذ تنوس الذاكرة بين حضور وغياب واقعي ومجازي في آن. الذاكرة هروب لدى عمر الذي يعوض نقصانه الجسدي بالتناسي، وكأن فقدان الذاكرة لديه وطن اختياري في رحلة القفز بين أوطان/منافٍ عدة. وفي المقابل، تكون الذاكرة وطنًا لدى سامي حيث الزهايمر آخر درجة من درجات الخيانات المتلاحقة التي نكبته.

«خزامى» رواية زمنين، ومكانين، وذاكرتين، ووطنين، ومنفيين، والأهم أنها رواية كابوسين مقيمين لا يرحلان، وحيث لا مكان للحلم حتى لدى الشخصيات الأخرى التي تدور في فلك الشخصيتين الرئيسيتين. حتى أصحاب الوطن الواحد، والذاكرة الواحدة، واللغة الواحدة أسرى كوابيس أخرى لا مفر منها. رحلة تيه في أمكنة وأزمنة لدى عمر وسامي، وهي في الوقت ذاته رحلة تيه في المكان الواحد والزمان الواحد لدى باقي الشخصيات. وكأن لعنة العراق أصابت الجميع: من هربوا منه، ومن يحنّون إليه، ومن سمعوا عنه، ومن لا يعرفون مكانه على الخريطة. لعنة وجودية حتى لدى الشخصيات البسيطة التي لا تدرك معنى الوجود، وتحاول التملص من متاهة المنفى بالعيش يومًا بيوم، حيث تمسي الرتابة جحيمًا آخر، كابوسًا آخر يخلق منفاه.

كان لا بد لـ «خزامى» أن تُكتَب كما كُتبت؛ مقاطع بلا ترتيب منطقي. مقاطع متداخلة تارة، متوازية تارة، متنافرة تارة. مقاطع مثل فعل التذكّر أو فعل التناسي، ذاكرة متخبّطة كأصحابها العالقين بين الماضي والحاضر، وحلم مستقبل مجهول ينذر دومًا بكابوس غامض. ليس تداعيًا حرًا تمامًا، بل تداعٍ مضبوط الإيقاع،

تبدو الشخصيات كلّها وكأنها تخلق كوابيسها المريحة ضمن متاهة الكوابيس المفروضة عليها قسرًا. ثمة من يختلق وطنًا، وثمة من يختلق ذاكرة، وثمة من يختلق هواية جديدة، وثمة من يبتكر مشروعًا جديدًا، وثمة من يعيد تشكيل حياته لينفض غبار الماضي كله. ولكن الكوابيس هي الكوابيس، أكانت في العراق، أو في بورتريكو، أو في فيتنام، أو في أميركا. فالأرقام هي الأرقام، حيث الأرقام هي الوطن، هي الهوية، هي من تمنح حياتهم معنى وقيمة، أكانت أرقام ملفات الهجرة، أو أرقام بيوت المنفى، أو أرقام رحلات الطيران، أو أرقام الضمان الاجتماعي وجوازات السفر.

متاهة جميلة ومرعبة في آن، يقدّمها أنطون ببراعة في تلك المقاطع التي تشكّل جسد الرواية المثخنة بالمنافي والكوابيس. يكاد يكون كل مقطع قصة مستقلة في ذاتها، وجزءًا من قصة كبرى في آن. لا نجد براعة المقاطع كثيرًا في الروايات العربية، إذ تبدو عمومًا منتزعة من سياقاتها كأنها أعضاء مبتورة، إلا أن أنطون أحد أفضل من يقدّرون قيمة المقاطع ومعانيها، وأحد أفضل من يكتبونها في الرواية العربية. لك أن تشكّل متاهة هذه المقاطع على هواك؛ لك أن ترتّبها كما تشاء، أن تعيد ترتيبها، أن تبعثرها، وقد قُدّر لي أن أقرأ الرواية بترتيبين مختلفين، فضّل أنطون الترتيب «الأسهل» في نهاية المطاف، بخاصة في الربع الأخير من الرواية.

ما يجعل «خزامى» أفضل روايات أنطون هو التحدّي الذي فرضه الكاتب على نفسه في مغادرة ما يرتاح إليه. ثمة تقاطعات مع رواياته السابقة حتمًا، إذ فيها بساطة «إعجام»، ولوعة «يا مريم»، وبراعة «فهرس»، إلا أنها لا تشبه أيًا منها. ثمة قطع شبه تام مع المشاعر الفيّاضة التي وصلت ذروتها في «وحدها شجرة الرمان»، ودرجات متفاوتة في الروايات الأخرى، بيد أن «خزامى» رواية الهدوء الخادع. ما من مشاعر جيّاشة واضحة، بل سطح نهر ساكن رائق. «خزامى» رواية الشخصيات التي تقلّم مشاعرها على نحو واعٍ أو لا واعٍ، بحيث تتخلّص من جميع ترهّلات الصراخ والعويل. هي رواية الابتسامات لا الضحكات، رواية الدموع لا النشيج، رواية الهمس لا الصراخ، رواية التمتمة، رواية مثل لمسة على النصل من دون أن تدمي اليد، غير أنها تدرك ما يفعله النصل، وما يفعله الدم. رواية قارب يتهادى بنعومة في ذلك النهر الممتد من اللامكان إلى اللامكان؛ ثمة مويجات خفيفة تربك هدوءه أحيانًا، إلا أن النهر، هذا النهر، نهر الخزامى، نهر بلا شطآن، فالشطآن ثبات، و«خزامى» بشخصياتها لا تنتمي إلى دنيا الثبات، بل تتغير بتغيّر كوابيسها التي قد لا تكون سيئة بالضرورة.

يزن الحاج كاتب ومترجم سوري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ثمة من

إقرأ أيضاً:

الذاكرة العراقية على حافة النسيان!

الذاكرة الإنسانيّة العالميّة زاخرة بمئات المواقف النبيلة والمشينة، والورديّة والدمويّة، ومنذ الجريمة الأولى على الأرض بقتل قابيل لأخيه هابيل سجّلت كتب التاريخ ملايين الجرائم الوحشيّة التي ارتكبها الإنسان ضدّ أخيه الإنسان!

والتاريخ الأسود لجرائم الحروب متواصل منذ مئات السنين، وتمثّل بمئات المجازر ومنها: الغزو المغوليّ للعراق في العام 1258م، والمجازر الفرنسيّة بحقّ الجزائريّين لأكثر من مئة عام وبقيت لغاية العام 1962م، ومجازر الحربين العالميتين الأولى والثانية، والمذابح الصهيونيّة في فلسطين بعد العام 1937م وصولا لمذابح غزّة الأخيرة، ومذبحة هيروشيما في العام 1945م، والابادة الجماعية في البوسة والهرسك بين عاميّ 1992 و1995م، والمجازر الأمريكيّة في العراق قبل وبعد العام 2003م، وغيرها!

ومرّت يوم 13 شباط/ فبراير الذكرى السنويّة لجريمة ملجأ العامرية ببغداد في العام 1991، والتي نُفّذت بطائرتين أمريكيّتين (أف 117) تحمل قنابل ذكيّة وأهلكت 400 مواطن!

بمراجعة سريعة للمجازر الأمريكيّة في العراق وأولها دعم الحصار الدوليّ في 6 آب/أغسطس 1990 بعد غزوّ الكويت، والذي تتابع حتّى الغزوّ الأمريكيّ في العام 2003، سنجد أنّ آثارها متواصلة حتّى الساعة
وبمراجعة سريعة للمجازر الأمريكيّة في العراق وأولها دعم الحصار الدوليّ في 6 آب/أغسطس 1990 بعد غزوّ الكويت، والذي تتابع حتّى الغزوّ الأمريكيّ في العام 2003، سنجد أنّ آثارها متواصلة حتّى الساعة!

وطحن "الحصار الدوليّ" الفقراء وعموم الناس، ولم يؤثّر على الطبقات العليا، وهذا دليل على الحقد الأمريكيّ على العراقيّين بعيدا عن سياسات "كسر إرادة الدولة" حينها!

وضرب الحصار الجوانب الصحّيّة بالصميم، وحَطَّم القطاعات الصناعيّة والخدميّة، وضرب جوهر الاقتصاد وبلغ التضخّم لمستويات جنونيّة، وتسبّب بهجرة آلاف العلماء والأطباء وغيرهم. ويمكن القول إنّ آثار الحصار القاسية مهّدت للاحتلال في العام 2003!

ولا ننسى الدور الغامض لفرق التفتيش الدوليّة التي ساهمت في تأجيج الموقف الدوليّ ضدّ العراق رغم تفتيشهم لكافّة المواقع المشكوك بها، بما فيها القصور الرئاسيّة، ومع ذلك كانت تقاريرهم سلبيّة ومسيّسة!

وبدأت لاحقا بوادر الغزو الأمريكيّ، الذي شنّ دون تفويض أمميّ، بقيادة الرئيس جورج بوش الابن! وحاول العراق، في الوقت الضائع، تجنّب العدوان بالطرق الدبلوماسيّة والعمليّة، ومنها تدمير صواريخ "صمود" بداية آذار/ مارس 2003، وبعد أسبوعين أمهل الرئيس بوش (سدى) الرئيس العراقيّ 48 ساعة لمغادرة البلاد، ويوم 19 آذار/ مارس أعلنت واشنطن بداية غزوها للعراق!

وبعد شهرين من المعارك الشرسة أعلنت واشنطن بداية أيّار/ مايو انتهاء العمليّات القتاليّة الكبرى، وعيّنت بول بريمر حاكما مدنيّا على العراق! ورتّبت واشنطن، لاحقا، عمليّة سياسيّة طائفيّة وتقسيميّة، تتواصل آثارها السلبيّة حتّى اللحظة، وهذا دليل على خططها الموضوعة مسبقا لتقزيم العراق!

وكانت فضيحة سجن "أبو غريب"، نهاية نيسان/ أبريل 2004، الدليل الأبرز على همجيّة القوّات المحتلّة، وأظهرت انتهاكات نقشت في الذاكرة الإنسانيّة لبشاعتها، واستخفافها بالإنسان والقيم النبيلة والقوانين الدوليّة!

وكشفت لجنة التحقيقات الأمريكيّة منتصف حزيران/ يونيو 2004 "عدم وجود أدلة دقيقة على ضلوع العراق في هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001"!

ومع ذلك استمرّ الاحتلال، وارتكب جريمته البشعة بمدينة الفلوجة في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، واستخدم في تدمير المدينة القنابل الفسفوريّة واليورانيوم المنضّب!

ووقعت الجريمة الأكبر بعد التفجير المدروس لمرقد الإمامين العسكريّين بمدينة سامرّاء يوم 22 شباط/ فبراير 2006، وتسبّبت بفتنة طائفية أبادت عشرات آلاف الأبرياء وهجّرت الملايين! وانطلقت بعد تفجير سامرّاء مرحلة جرائم السيّارات والدّرّاجات الملغمة التي أفنت عشرات آلاف الأبرياء بمختلف المدن!

ورغم إعلان واشنطن انسحابها الرسميّ يوم 18 كانون الأوّل/ ديسمبر 2011، إلا أنّ قوّاتها تتمركز اليوم في عدّة قواعد عسكريّة، أبرزها "عين الأسد" في محافظة الأنبار الغربيّة!

والاحتلال الأمريكيّ، المستمرّ بشكل متستّر، سحق العراق والعراقيّين بشتّى الطرق المعلنة والخفيّة، ومع ذلك لا توجد إحصائيات دقيقة حول أعداد القتلى نتيجة الاحتلال، وهنالك دراسات ذكرت أرقاما مخجلة لا تتجاوز السبعين ألف قتيل، بينما هنالك دراسات ومنها، دراسة البروفيسور الأمريكيّ جوزيف سيتجليز نهاية شباط/ فبراير من العام 2008، أكّدت بأنّ عدد القتلى حتّى نهاية العام 2006، وصل لأكثر من 700 ألف، وبلغ عدد اللاجئين أكثر من ثلاثة ملايين و800 ألف لاجئ!

مجزرة الاحتلال الأمريكيّ الأخطر تمثّلت بضياع هيبة الدولة، والإنسان وضياع طعم الحياة واستمرار التناحر الساسيّ والفساد الماليّ الذي سحق ألف مليار دولار، وأيضا انتشار المخدّرات والجريمة المنظّمة والاتّجار بالبشر، وآلاف الصور السلبيّة المؤلمة والقاتلة للوطن والناس وللماضي والحاضر والمستقبل!
ولاحقا كشف مركز صقر للدراسات في 2009 أنّ الاحتلال تسبب بمقتل مليوني عراقيّ، وخلف أكثر من مليون أرملة وأربعة ملايين يتيم حتى نهاية 2008!

وكان من أبرز آثار الاحتلال انهيار المؤسّسات الصحّيّة والخدميّة وعشرات آلاف الإصابات بالسرطانات المتنوّعة، وانتشار المخلّفات العسكريّة ومنها أكثر من 20 مليون لغم أرضيّ، وتسرّب عشرات آلاف الطلبة من المدارس، وغيرها!

وكذلك جرائم النهب لأكثر من 126 طنّا من الذهب ومليار الدولارات والعملات الصعبة، وأكثر من مليون ونصف قطعة أثريّة، فضلا عن الخسائر الفادحة في القطاعات التجاريّة العامّة والخاصّة!

والكارثة الأشدّ ظهرت بفوضى السلاح، وانتشار عشرات الجماعات المسلّحة الرسميّة وشبه الرسميّة، وهي اليوم من أكبر أسباب احتماليّة تعرّض العراق لعقوبات أمريكيّة عسكريّة واقتصاديّة ومصرفيّة!

مجزرة الاحتلال الأمريكيّ الأخطر تمثّلت بضياع هيبة الدولة، والإنسان وضياع طعم الحياة واستمرار التناحر الساسيّ والفساد الماليّ الذي سحق ألف مليار دولار، وأيضا انتشار المخدّرات والجريمة المنظّمة والاتّجار بالبشر، وآلاف الصور السلبيّة المؤلمة والقاتلة للوطن والناس وللماضي والحاضر والمستقبل!

فهل ستُمحى هذه الكوارث من الذاكرة العراقيّة؟

x.com/dr_jasemj67

مقالات مشابهة

  • قبل عرضه في رمضان.. قراءة في رواية «شباب امرأة» للكاتب أمين يوسف غراب
  • القومي لثقافة الطفل يعلن عن القائمة القصيرة لجائزة "رواية اليافعين" في دورتها الثانية
  • ما أسباب وأعراض ضعف الذاكرة لدى كبار السن؟
  • بعد تشريح جثث عائلة بيباس..إسرائيل تنفي رواية حماس عن قتلهم بعد قصف
  • بيان من وزارة الزراعة إلى مربي المواشي والدواجن وأصحاب الحيوانات الأليفة
  • الشهري : قلة النوم تؤثر سلبًا على الذاكرة وصحة الدماغ.. فيديو
  • الذاكرة العراقية على حافة النسيان!
  • العربية في إيران.. لغة أم حية بين الذاكرة والتحديات
  • أسباب ضعف الذاكرة لدى كبار السن
  • لأصحاب الحيوانات الأليفة.. 3 خطوات للتسجيل بنظام الملكية في أبوظبي