بين التاريخ والتخييل وتوظيف تقنيات السرد الحديث، قدمت لنا الشاعرة الروائية بدرية البدري روايتها «فومبي» التي تمكنت من أن تستدعي التاريخ وتؤرخ الرواية حتى نعيش أحداثها التي وقعت في «الكونغو» الإفريقية والحواضر الأوروبية إبّان حكم ليوبولد الثاني في بلجيكا.

الرواية تفتح أبواب رحلتها لتطأ الفواعل السردية أقدامها على المسارح الزمكانية حتى تنسج الأحداث عبر سرود منفصلة ومتمازجة في آنٍ واحدٍ تكمل بعضها البعض في سيرورة تأخذ صعودًا ونزولًا لما تختلج في نفوس الشخصيات من نوازع وآمال وتقابلات مع الآخر.

الرواية تكوّنت من ستة فصول في مبناها السردي يتغيير فيها «التبئير» ومن ثمّ تتشكل معه بُؤر أحاسيس القارئ وأحكامه فكل شخصية تأخذ موقعها في السرد لتسدل الستار عن دواخلها تجاه الرؤى والأحداث فتصدح بصوتها تارة وتُخفته في حين آخر بحديث نفس. وبالرغم من أن النص يؤرخ الرواية إلا أننا نعيش أحداثها التي استدعتها الروائية من برهة زمنية عاشت فيها الشخصية الإفريقية أقسی وأعتی موجات الاستعمار (ومازال الإنسان المعاصر يذوق مرارة أفعاله التي تلونت) کما أن الروائية وبريشتها الفنية ترسم لنا تلك الحقائق التاريخية وجنون النزعة الاستعمارية وتكالبها على بقعة من بقاع إفريقيا وذلك دون أن تسرد لنا التاريخ بل إنها تنفخ فيها من خيالها الخصب وتوظف الأدوات السردية ببراعة لتشدك إلى عالمها المتخيل بمحاذاة الواقع بما تخلقه من عوالم نفسية وشخوص تبوح ذواتها عن لحظات اليأس والحرمان والحب والغضب وما تكّنه من أحاسيس تجاه «الأنثى» وما تقاسيه الأخيرة من نظرات دونيّة تلاحقها فحولة الجنون على حلبات الشَبَق وتلفظها بعد جولاتها الرجولية العمياء في زوايا اليأس، تتجرع مرارة وحدتها في جباب الكآبة. فترى نفسك مـأسورًا بسُدى ولُحمة السرد وعلى هودج الرحلة حيث الادغال والوديان والطقوس والحروب والرقص والقصف والسحق والبتر والقبائل المتناحرة والثورات التي أخمدتها همجية المحتل المستعمر. فها هي الرواية تستهل الأحداث بما يلجنا إلى عوالم النص وإرهاصات تكوّن نواة الرحلة الاستعمارية وذلك عبر سبر أغوار الشخصيات لتطفو إلى السطح نواياها الخبيثة ومبرراتها للاستعباد ولزهق الأرواح البريئة بغية اكتناز جلودها بنزع الجلود السوداء ونهب خيرات المستعمَر بغطاء التنوير وزرع بذور الحضارة في رحمها البدائي حسب تصورها وتصور ملك بلجيكا:

«وقررت أن أحصل على مستعمرتي الخاصة بطريقتي الخاصة بعد أن تأكدت أن المستعمرات لا تشترى بل تؤخذ بالقوة فإن عُدمت القوة عليك بالحيلة.. والاستمتاع برؤية الأراضي المنبسطة بامتدادها اللانهائي وتأمل صناديق الذهب والألماس المتهادية فوق رؤوس العبيد كنجوم تحرس عتمة الليل بينما أكون أنا القمر الوحيد الشارق في تلك البقعة» (فومبي ص 32).

وما تتميز به الرواية هو منح فضاءات للذوات الساردة على عرصات السرد فها هي «ستانلي» الشخصية الطموحة التي تسعى لتخلق مجدا لها من خلال الخداع والكذب والتزلف إلى مراكز السلطة -ولو أنها تشطبها عند الحصاد- وقبل أن تطأ أقدامها مجاهيل إفريقيا تلوك ببعض أسئلة في حديثها مع النفس:

«هل هي البلاد التي يعيش فيها ذوو القدم الواحدة والرؤوس الثلاثة؟ أو تلك التي يأكل سكانها لحوم بعضهم البعض؟ لماذا لايرجع أغلب من يسافرون إليها.....» ( فومبي ص35). تبدو الأسئلة تعبيرا لما تجهله الذات حيال الآخر ولكنها في الواقع تحمل في عمقها تصورا لا إنسانيا تجاه الإفريقي/ الآخر وتمهد لبشاعة الفعل الأسطوري بحق سكان إفريقيا (حسب تصور الذوات الساردة الكولونيالية). ولكن لقاء ستانلي مع ليفنجستون؛ الشخصية الأوروبية السمحة التي عشقت حمل نبراس الهداية بصدق واحتكت بالشخصيات الإفريقية وجالستها على موائد النور والمودة، تحطم التفوق والقداسة عن الآخر في محاولة لفك الخطاب الاستعماري وذاك حين تسرد موقف ليفنجستون مع الأسد في الأدغال:

«أخبرني أيضا عن حادثة أخرى كاد أن يفقد فيها حياته عندما هاجمه أسد ضخم ورفعه في الهواء من يده العاض عليها ولولا أن مبالو -رفيقه الإفريقي الذي كان يصحبه –أطلق الرصاص على الأسد لكان التهمه......» (فومبي ص 42).

وفي عرض صورة عن الأنا أمام الآخر تأتي شخصية «بينغا» التي تمثل كأخواتها سكان القرى تلك الثنائية كما أنها تعد من الشخصيات المحورية بفعلها اللفظي والدلالي، حيث جمعت هذه الشخصية بين ألوان الثقافة المحلية وأثواب حضارة الآخر ليكون حصاد هذا الاحتكاك «شخصية هجينة» تعيش حالة من الضياع بين الهوية المستلبة والحاضر الممزَّق بين فَكي الاستعمار وانشطار ثورات أرضها التحررية بهمجية العدوان الغاشم فتركن إلى وحدتها ترنو إلى أسنة النيران ودخانها علّ نجمة تسطع فتهتدي بها إلى خفة روحها وتحليقها في سماء الحرية:

«اليد التي كانت تطلق السهام لتصطاد الظباء أصبحت تطلق الحبر لتكتب الحروف بعد أن تعلمت الكتابة باللغة التي يتحدثون بها هنا كما تعلمت التحدث باللغة ذاتها رغم أني كنت أظلّ صامتًا غير معني بالأحاديث الدائرة حولي...تمسكت بالسارية والموج يضربني لعلي أتمكن من مقابلة الشيطان وجها لوجه أو أذهب إليه في عمق المحيط وأنتقم لكل أحبتي الذين رحلوا على أيد أعوانه الذين بعثهم إلى غابتنا المسالمة.....» (فومبي ص 238). فنلمس فيها عداوة دفينة تجاه الآخر وتفاعلا لا يرتقى إلى الحوار البناء والتلاقح. قد دأبت النزعة الكولونيالية أن تجرد الآخر من ثقافته وموروثه وتأتي بتصورات مسبقة عنه -الخَمُول ومقطِّع أوصال البشر- ولكن رواية «فومبي» خالفت هذه النزعة ومنحت للشخصيات الإفريقية دورها في العملية السردية والخطاب وبالأحرى شخّصت الآخر لتأخذ موقعها في المربع السيميائي كاشفة عن أهوائها وتفاصيل ملامحها وأزماتها. وهكذا استطاعت رواية «فومبي» أن تعرض لقرائها جدلية «المستَعمِر والمستعمَر» والثنائيات الضدية: القوي /الضعيف، الأسود/الأبيض، فحولة الذكر/انكسارات الأنثی و.... وأصواتا تختلف رؤيتها حيال الاستعمار بين من يكشف عن عوراته ومثالبه وتلفظه جملة وتفصيلا ومن يعده فعلا شرعيا ليُخرج العباد من الظلمات إلى النور ولكن قد يتعثّر المنقذ المحرِّر في رحلته الإنسانية المزعومة ويقع في شراك الأطماع فيعكر صفوةَ الفعل الاستعماري !!

«فومبي» سـتنال مكانتها المرموقة بين سرديات ما بعد الكولونيالية عربيًا وعالميًا بنكهتها الأنثوية العربية العمانية حيث تكشف عن إحاطة وإلمام الشاعرة الروائية بدرية البدرية بالتاريخ وحذافيره وبتقنيات السرد الحديث وتوظيفها ببراعة في المبنى والمتن السرديين وعن لغة مرهفة متوهجة تُشوّق ولا تُملّ.

الدكتور سيد علي مفتخر زاده باحث ومترجم إيراني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الوجه الآخر لقرار الجنائية الدولية فخ جديد لنا!

نوفمبر 26, 2024آخر تحديث: نوفمبر 26, 2024

د. علي عزيزأمين

يبدو أن كل ما شاهدناه وسمعناه من امتعاض أمريكي وسخط إسرائيلي حول قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق شخصَي المجرمان نتنياهو وغالانت بعد طول تسويف وانتظار، ما هو إلّا مجرّد ضوضاء وفعاليات هوجاء مدروسة ومحبوكة بمنتهى الدقة والعناية، جرى هندستها والاتفاق عليها مسبقاً بين الإدارتين الصهيونيتين في واشنطن وتل أبيب، حيث أن كلتاهما لا تباليان أصلاً بتلك المحكمة، ولا تعتبرانها سوى أداة من أدوات الغرب الاستعماري المتنوّعة، يستخدمها هذا الغرب كما ومتى يشاء وفقاً لمصالحه الخاصة، والتي تقتضي الآن إظهار معاداته لها، وهذا شيء بديهي كون القرار الصادر ضدهم ويمس ساميّتهم المسمومة. لكن ما خفي ليس أعظم، بل أقذر وأحقر!

جميعنا شهدنا قرار تلك المحكمة في شهر آذار من العام الماضي 2023 بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكيف تلقّى الخبر حينها عالمنا العربي، وبالتحديد فئتنا وبيئتنا القومية المقاوِمة، فنحن وهو ما كانت الإدارة الأمريكية متيقّنة منه، مؤمنين بأنه لا خلاص ولا مناص للعيش بسلام وأمان سوى بانتقال العالم إلى عالم التعددية القطبية، وهذا الأمر لم يعد خافياً على أحد بأن من يقود زمامه ويسير به هو الرئيس فلاديمير بوتين وإدارته التي تتحلى وتمارس أقصى درجات ضبط النفس، وهو ما جعله وإدارته عُرضة للانتقاد في العديد من المرات حتى مني شخصياً أحياناً ومن الأصدقاء الأكثر إخلاصاً وتفانياً أيضاً، ليس للانتقاد السلبي المراد منه الطعن والتشكيك والتشويه بل لأننا فعلاً وحقيقةً يجب أن يدركها الجميع بقارب واحد، ولكن هذا نابع من ما يحدث كل يوم من أهوال  مُشاهدة مناظر القتل والإجرام التي تمارسها بحقنا جيوش الغرب الاستعماري وعلى رأسهم أمريكا بشكل مباشر تارة، وعبر ذراعها الإسرائيلي تارات أخرى. خصوصاً وأن هؤلاء هم أنفسهم الذين يحاصرون الشعب الروسي، ويرسلون أسلحتهم الفتاكة لقتلهم عبر ذراعهم الأوكراني المتمثل بالمجرم المنحرف زيلينسكي وزمرته الصهيونية النازية.

ولعل هذا القرار الذي اتخذته تلك المحكمة والتي أصفها من وجهة نظري بأنها سيئة الصيت، يحاول الغرب من خلاله أن يساوي بين الرئيس بوتين ودراكولا العصر نتنياهو وعصابته، وبين روسيا الاتحادية و”الكيان” النازي صنيعة الغرب الاستعماري كما نظام كييف العميل له. مُوجهاً تلك الصورة البليدة ـ أي المقارنة المشوّهة ـ إلى شعوبنا، ليُحفزّها للإشادة بالقرار محاولاً إقناع السُذّج منهم: بأنكم يجب أن تعلموا أن بوتين الذي تحبونه وتعتبرونه الداعم الدولي القوي لما تعتبرونها قضيتكم المركزية فلسطين، وتأملون به خيراً، لا يختلف عن نتنياهو، فكلاهما مجرميْ حرب.

وفي الختام، فإن على عقلاء العرب والمسلمين وأحرار وشرفاء العالم أن يمتنعوا عن التطبيل والتهليل بما يصدر عن هياكل الغرب الاستعماري، وأن ينظروا لكل ما يصدر عنها بعين الشك والريبة، خاصة وأن هذه الهياكل جميعها لم تنصف الشعوب المظلومة في العالم، ولم تتمكّن من تنفيذ ما أقرته وكررته مراراً وتكراراً من قرارات تمس “الكيان” المجرم أو قيادات ودول الغرب الاستعماري التي فتكت بعشرات الملايين من الأبرياء، ولا تزال تسير على ذات المنوال. وليكن قرارنا الوحيد الأوحد أن نقاتلهم حتى آخر رمق، سواء في فلسطين أو لبنان وكلٌّ حسب موقعه حتى تحرير كل أراضي لبنان والجولان وقيام دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، أما دراكولا العصر، فوعداً سنسفك دمه الفاسد، ونرشه على قبره ونكتب: قبر دراكولا العصر، وفي ذلك حقّ وعدل.

مقالات مشابهة

  • الجيش: للتريّث بالعودة إلى القرى التي توغّلت فيها قوات العدو الإسرائيلي بانتظار انسحابها
  • رئيس لجنة شؤون الأسرى لـ “الثورة نت”:مستعدون لتنفيذ كل الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها برعاية الأمم المتحدة دون قيد أو شرط
  • الوجه الآخر لقرار الجنائية الدولية فخ جديد لنا!
  • أبو الغيط: الجامعة العربية تحرص على الالتزام الثابت بالسلام والمبادئ الحقوقية والإنسانية التي تغذيها جروح التاريخ
  • رئيس لجنة شؤون الأسرى لـ “الثورة نت”: مستعدون لتنفيذ كل الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها برعاية الامم المتحدة دون قيد أو شرط
  • الرواية.. بين الانتصار للحقوق وإملاءات الجوائز
  • كيف تستخدم الصمت كعلاج؟
  • “كمين عيترون”: الرواية الكاملة للكمين القاتل على لسان جندي صهيوني مشارك
  • سر المرة الوحيدة التي بكى فيها سمير غانم على الشاشة.. ما القصة؟
  • كمين عيترون: الرواية الكاملة للكمين القاتل على لسان جندي صهيوني مشارك