أمسكت مقبض الباب وفتحته ببطء شديد، وكلي توجس من المنزل الذي تركته منذ سنوات طويلة وسفري إلى الخارج للعمل. يساورني شعور مريب في مسألة العودة إلى مكان يحمل الكثير من الذكريات الطفولية البائسة. أعلم في قرارة نفسي أن العودة محملة بالكثير من المشاعر المكبوتة، وستنفجر في أي لحظة، ولكن عاجلا أم آجلا أرى نفسي مجبرة على العودة ومواجهة الحقائق دون أي محاولاتٍ للهرب هذه المرة.
الساعة الحادية عشرة ليلا. قد لا يكون أسوأ توقيت على الإطلاق ما دمت وصلت إلى هنا سالمة، خاصة بعد تأخر الطائرة بسبب العاصفة الشديدة التي ضربت المنطقة.
لمجرد دخولي إلى المنزل قابلتني لوحة الطفل الباكي المعلقة في ردهة المنزل، متوسطة الحائط الرمادي القديم. كنت قد أزلت جميع صورنا التي جمعتنا مع أمي وأبي وإخوتي مباشرة بعد الحادث الذي أودى بحياتهم جميعا منذ سبع سنوات. بقيت هذه الصورة فقط ذات الإطار الأسود قديم الطراز والمهترئ.
الطفل الباكي شاحب الوجه يسكن اللوحة وحيدا. يرتدي ثيابا رثة. يغطي جبهته شعر أشقر باهت اللون، ومبعثر فوق جفنيه. غارقة عيناه في نهر من الدموع توشك على السقوط فوق خديه، وشفتاه مزمومتان بأسى. نظرةُ عينيه تسقطان مباشرة في عيني أي شخص يحط نظره على الجدار المقابل لمدخل المنزل. ذلك الجدار المليء بالشقوق وآثار أقلام الرصاص المبعثرة في أرجائه شاهدة على أن لا سلطة لأمي المهووسة بالنظافة علينا ونحن نعبث بالجدران والسلالم والنوافذ وكل ما تطاله أيدينا. أتذكر كلماتها جيدا بصوتها الحاد وهي تتوعد رافعة السبابة أمام أنوفنا الصغيرة: يمكنكم فعل ما تشاؤون، ولكن لا أحد يقترب من لوحة الطفل الباكي المقابلة لمدخل المنزل.
لا أستوعب أبدا لمَ قد يرغب أحد في اقتناء شيءٍ بهذا الكم الهائل من السوداوية والتشاؤمية اللذين يغرق فيهما رمز يفترض أن يكون طفوليًا بريئًا في أحوال أخرى. لوهلة ظنًا أن ذلك الطفل هو أحد إخوتنا الذي فقدته أمي في مرحلة ما قبل ولادتنا أنا وأختاي الاثنتان. ولكننا سرعان ما نتوقف عن التساؤل مكملين اللعب والمرح. فلم يكن ذلك التساؤل يشغل بالنا بعد أن تعودنا على وجوده وأصبح جزءًا من منزلنا الصغير.
ظلت صورة الطفل الباكي معلقة بناء على طلب أمي، فهي المفضلة لديها، ولطالما رجوتها أن أتخلص منها ولكن دون جدوى. لم أفهم حتى الآن سبب تعلقها الشديد بها، ولا يبدو لي أنني سأفهم يوما. رحلت أمي ورحلت أيضا جميع أسباب بكائها الدائم في منتصف الليل، واستيقاظها وهي مبتسمة وتملؤها السعادة التي تشع من عينيها، وكأنهما لم تجر فيهما أي دمعة طيلة شهور متتالية.
توقفت عن التفكير الذي غرقت فيه دون إحساسٍ بالوقت. نظرت إلى الساعة في يدي سريعا. الساعة الحادية عشرة وخمس عشرة دقيقة. أيعقل أنني لبثت كل هذا الوقت عند مدخل الباب. تقدمت نحو الصورة، مسحت بيدي على إطارها المتسخ. علق الغبار على أصابعي. ابتعدت قليلا وأنا أمسح الغبار على معطفي الأحمر. تجاهلت رائحة المكان النتنة في بيتٍ لم تطأه قدمي منذ سنواتٍ، وربما بعد تفكيرٍ طويل لن تطأه مرة أخرى بعد هذه الليلة. تلك الرائحة كانت مألوفة لدي. رائحة فواحات الياسمين التي تفضلها أمي، ولكنها الآن ممزوجة بكم هائل من الغبار والأتربة.
أجول بناظري حول المكان. ما زال كل شيء مثلما تركته في تلك الليلة المشؤومة. الملاءات البيضاء ما زالت تغطي الكنبات وطاولة الطعام وكل ما قد تقع عليه الأعين. الستارة العاجية اللون تغطي النافذة الوحيدة في غرفة الجلوس. إحساس ثقيل جدا يجثم على قلبي وأنا أنظر إلى أرضية صالة الجلوس الخالية من السجادة التركية التي اشتراها أبي في طفولتنا.
تسمرت في مكاني في اللحظة التي عدت فيها للنظر في وجه الطفل الباكي الذي لا أعلم إن كنت أتوهم أنه ينظر إلى عيني مباشرة، ويرمقني بنظرةٍ يخيل إليَّ أنها ممزوجة بشيءٍ من الحنق الشديد والغضب. أمعنت النظر وأنا أغوص في أفكاري مرة أخرى مع إدراكي التام أن نظرة الطفل في السابق كانت مليئةً بشيءٍ من الحزن والألم، وهو ما لم ألمحه في هذه اللحظة. ابتعدت خطوتين إلى الخلف بحذرٍ شديد، وأنا ما زلت أدقق النظر في عينيه، ودقات قلبي تبدأ في التسارع لسببٍ لم أستطع تبريره. ضحكت بسخرية وأنا أقترب بوجهي أكثر من اللوحة: هل أنت حقًا تنظر إليَّ أيها الباكي؟ لم أنت غاضب؟ هل تريد قطعة حلوى؟!
أكاد أجزم أنني شعرت بملوحة دمعة فوق شفتي تجرعتها سريعا. أشحت بنظري عن وجه الطفل الباكي والهلع يملأني وأنا أهرول بقدمين مرتجفتين باتجاه الأريكة الصفراء التي تتوسط غرفة الجلوس. ألقيت بجسدي عليها وأنا أحاول عبثًا أن أبدد تلك الأوهام التي سيطرت عليَّ، وأخذت أتصفح الرسائل المتراكمة في هاتفي. يقع أمام عيني قائمة المكالمات التي لم أرد عليها منذ عودتي للبلدة التي عشت فيها طوال طفولتي، ولم أخرج منها إلا بعد أن غدوت وحيدة إلا من ذاتي التي ما زالت تنتظر الإجابة عن الكثير من التساؤلات حول موت أفراد عائلتي جميعا في آنٍ واحدٍ، حيث توقفت التحقيقات منذ بضع سنوات، وتم إغلاق الملف لعدم توفر أي أدلة واضحة حول جريمة القتل التي حدثت. لا أثر لأي سلوكٍ عدواني واضح، وما هو أسوأ، فقداني لذاكرتي بعد تلك الليلة التي كنت فيها مراهقة لا تعي شيئًا سوى أن والدتها وعدتها بأن تحضر لها فطيرة التفاح التي تحبها صباح اليوم التالي.
بدأت أشعر بحرارة تتسلل إلى جسدي عندما بدأ المكان يصبح أكثر دفئا مما كان عليه منذ دخولي إلى المنزل في اللحظة الأولى. خلعت معطفي ووشاحي الكبير الذي لففت به عنقي طوال اليوم. أخذت الحرارة في التزايد وهو ما جعلني أرتاب أكثر خاصة أننا ما زلنا في منتصف شهر ديسمبر فكيف لهذه الحرارة أن تستولي على جسدي فجأة، ولكنني أجبرت نفسي على تجاهل حالة الهذيان تلك التي قد لا يكون لها أي تفسير آخر سوى أنني أعود بذاكرتي إلى الذكريات التي اخترت تناسيها رغما عني، وقد تكون مجرد حمى عابرة.
الساعة الحادية عشرة وثلاثين دقيقة. الصورة.. أنا لا ألتفت إلى الخلف، ولكنني أشعر بها. إنها تنظر إليّ من الخلف. تحدق بي. تريدني أن أنظر إليها مرة أخرى.
لا.. لن أفعل ذلك. لا أريد أن أنظر إليها. تلك مجرد لوحة، وهذه مجرد أوهام عابرة يجدر بي أن أتجاهلها كي لا أفقد عقلي بسبب زيارة أجبرت نفسي على القيام بها.
الهواء الساخن يلفح بجانب عنقي الهزيل. أشعر به بشدة وهو يندفع نحوي بحرارةٍ جعلت جسدي يرتجف من الخوف، وأخذت دقات قلبي تتزايد أكثر فأكثر حتى كدت أشعر أنه سيخرج ويقع أمامي. أمسكت الهاتف بكلتا يدي وأنا أحاول أن أتجاهل عبثا رغبتي العارمة في أن أنظر للخلف. رفعت كلتا قدمي واحتضنتهما بقوة وتقوقعت على نفسي ورجفة كهربائية تسري في جسدي بأكمله. خلعت حذائي وألقيت به بعيدا وفتحت شعري في محاولةٍ لأن أتخفف من ذلك الشعور المبهم. تمتمت بصوتٍ خافت: الرحلة كانت طويلة ومتعبة. هذا كل ما في الأمر. سأسترخي قليلا. لا شيء يدعو للقلق. أنا بخير. لا أحد خلفي. الطفل الباكي جماد حقير لا قيمة له.
ثقل يتصاعد تدريجيا فوق كتفي الأيمن، وكأن أحدهم يتكئ بكلتا يديه على كتفي. ذلك الشعور المقيت الذي أخذ يقبض على صدري، وأنا أشعر بذلك الاختناق وكأن الهواء أصبح أقل من السابق. التقطت أنفاسي بصعوبةٍ تامة وأغمضت عيني محاولة تشتيت انتباهي والتفكير بشيءٍ آخر بيأسٍ تام.
الطفل. يخرج من إطار الصورة. إنه آت. إنني أشعر به. يحكم قبضته على كتفي بقوة. يكتم على أنفاسي. يقترب مني أكثر، أصابعي تضغط رقم الطوارئ. أرفع الهاتف بيدي التي تهتز بشدة. بصوتٍ مخنوق: ألو النج..... يهمس في أذني: أنتي التالية.
في المطار، تعلو أصوات المسافرين، مختلطة بشتى أنواع الضوضاء. بكاء الرضيع بين يدي المرأة التي تجلس بجانبي مزعج جدا، ولا يبدو أنها تبذل أي جهدٍ لتهدئته. أغفو على كرسي الانتظار. لا شيء لأسند رأسي عليه. تسقط نظارتي الشمسية من يدي المتعرقة. أفتح عيني مرتعبة وأنا أتلفت في كل الاتجاهات. النداء الأخير يصدح من مكبرات الصوت لرحلتي المتأخرة. أنحني لألتقط النظارة المكسورة على الأرض أو ما تبقى منها. ألمح طرف إطار اللوحة وهو يظهر بداخل الحقيبة. أقف سريعا وأمسك بمقبض حقيبتي. أحكم إغلاقها وأجري..
أفتح عيني ببطء شديد. أشيح بنظري كي أتجنب أشعة الشمس التي تخترق الستار الشفاف على يسار سريري. الجفاف الحاد يكاد يخنق حنجرتي، وجسدي عاجز عن الحركة. الجدران البيضاء تحيط بي في كل الاتجاهات. رائحة المعقم تملأ المكان. أحاول التحدث بصعوبة تامة: أريد ماء. تقترب مني ممرضة بلباس أبيض يختلط مع بياض الجدار خلفها، تنظر نحوي وهي تمسك بأنبوب التغذية: يبدو أنك استيقظت أخيرا.
وفاء المصلحية قاصة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
درة: أنا ضد الصورة النمطية عن دعم القضية الفلسطينية في الأعمال الفنية
لفتت الفنانة درة خلال مشاركتها بندوة السينما الفلسطينية واللبنانية - قصص الهوية والبقاء التي أقيمت اليوم على هامش فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الأنظار إليها من خلال تصريحاتها عن القضية الفلسطينية، حيث أعربت عن استيائها من الصورة النمطية عن دعم القضية الفلسطينية.
وقالت درة: «هناك صورة نمطية وأنا ضدها بشكل عام في أي شئ بالدنيا، لأن الشخص أو الفنان حين يوضع في صورة نمطية معينة، يحبس فيها، وأنا ضد الصورة النمطية عن القضية الفلسطينة ولا أحب التعاطف، أو الخطاب المباشر بشكل نمطي، والمشاهد لا يحتاج مشاهدة هذا النمط».
وأضافت: «ولكن أرى أن دور السينما هو إلقاء الضوء على تفاصيل أكثر في الحياة، وأنا شاهدت الكثير من الأفلام التي لمستني، قبل تقديم فيلم عن القضية، والفلسطينين متعايشين مع ما يحدث هناك، ولكن هذا لا يعني أن عليهم تحمل كل هذه الضغوط دائمًا».
وتابعت درة: «تربيت وتعلمت أن القضية الفلسطينية جزء أساسي في حياتنا ومن هويتنا يجب الإشارة إليه، فهناك تعتيم تام ومحاولة تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، لذا عرضت فيلم وين صرنا؟، كي أبين هذا الجانب الإنساني، وأنهم يستحقوا الحياة، لأن دي حياتهم وحاولت أعبر عنها».
تفاصيل فيلم وين صرنافيلم «وين صرنا»، من إخراج وإنتاج النجمة درة، ويعد أولى تجاربها الإخراجية والإنتاجية، ويحكي عن نادين، امرأة شابة من غزة، وصلت إلى مصر بعد ثلاثة أشهر من الحرب، برفقة ابنتيها الرضيعتين، اللتين أنجبتهما قبل الحرب ببضعة أشهر بعد معاناة خمس سنوات في مصر، وتنتظر زوجها الذي لم يتمكن من الانضمام إليها إلا بعد شهرين.
اقرأ أيضاًظهرت بملامح جديدة.. إلهام شاهين تتصدر التريند بعد إطلالتها الشبابية
بعد عرض وتر حساس.. كريم فهمي لـ صبا مبارك: «مهببة إيه للناس يا أحلام»