هل سيحلّ الذكاء الاصطناعي محلّنا؟! هذا السؤال لا يؤرق فقط الفنانين، بل الكتّاب أيضا وأصحاب المهن الإبداعية الذين ظنّوا لوهلة أنهم بمنجاةٍ من طوفان الحضارة والتطوّر التقني.

فقد كنا نعتقد أن الذكاء الاصطناعي سيطال المهن التي تحتاج لتفكير منطقي وخوارزميات دقيقة ومعلومات علمية حديثة ودقيقة كالهندسات والعلوم والطب بفروعه، خلافا للفن الذي يحتاج شعلةً روحية وقبسا من الوحي يلقى على الفنان ليبدع نصه، مقطوعته الموسيقية أو لوحته، لكن المفاجأة كانت أن الآلة أيضا لها وحيها الذي يصل إليها عن طريق إدخال عدد من البيانات الكافية لتتمكّن من رسم لوحة أو صنع منحوتة، كتابة قصة أو نظم قصيدة، الوحي هنا أسهل وأقرب فهو ليس قادما من وادي عبقر ولا من سماءٍ بعيدة ولا حتّى من مكانٍ سحيق من النفس البشرية، فأي شخص يستطيع أن يكون شيطان الشّعر أو الفن ويلقن البرنامج البيانات بعد أن يجمع الكثير من التفاصيل والنصوص والصور ليقوم البرنامج لاحقا بهضمها وتحلليها وإعادة إنتاجها بصورة عمل فني.

الفنان اليوم زادت أعباؤه فهو لم يعد يخاف من المزوّر الذي يبيع عملا مماثلا لعمله بسعرٍ منخفض، ولا باللوحات المطبوعة التي تباع كلوحات أصلية، ولا من لوحات «الكيتش» -التي تملأ الجاليريات التجارية- وتكون عادةً أقرب للشخص العادي وأحنّ على جيبه؛ اليوم هناك منتجٌ جديدٌ للفن لا يحتاج وقتا ولا وحيا ولا أدوات ولا تقنيات ولا مكان حتى، يخرج العمل بسلاسة ويعرض مئات الخيارات لتكون صاحب القرار بانتقاء العمل الأقرب لروحك وفكرك.

قال بيكاسو مرةً: إن «كلّ طفل فنان، المشكلة هي كيف تظلّ فنانا عندما تكبر؟»، كان هذا التساؤل يرنّ في ذهن الفنانين، وكانت معضلة (كيفية المحافظة على هذا الفنان؟) تُشعل جدلا واسعا بين الفنانين الأكاديميين -ممن دخل كليات الفنون ومعاهدها- نظراؤهم ممن يمارسون الفن -دون أن ينتسبوا لجامعات تحدد لهم أولوياتهم بالتعلم ليصعدوا السلم درجةً درجة- حيث يرى الفريق الأول أن الطفل الفنان يجب أن يهرول في فناءات جامعات الفنون ويشبّ في مراسمها لتنتظم خطواته على طريق الفن الصحيح، ويترجل بتعلم المدارس الفنية فلا يرسم لوحة تجريدية، إلا بعد أن يتقن رسم اللوحات الواقعية وينافس الكاميرا الفوتوغرافية بدقتها، كذلك يتعلم التقنيات ويجربها حتى يختار تقنيته الخاصة.

بينما الفريق المقابل يشدد على أن هذا الطفل يجب أن يبقى حرا، يرسم بخطواته طريقه الخاص، ينمو فنه كنباتٍ بريّ يرعاه وفق مهارته التي يكتسبها من خبرته في الحياة، فيرسم ما يريد كيفما يريد وقتما يريد، يبدأ من حيث انتهى الآخرون ويترك للصدفة أن تصنع له تقنياته ولا يعنيه السلم الذي يتحدث عنه الأكاديميون ويرغب بكسر درجاته، فيكفيه أن يملك موهبةً ليصير فنانا؛ اليوم هناك فريقٌ ثالث –يخيف الفريقين السابقين- وهو الذكاء الاصطناعي الذي يضمن أن كلّ إنسان يستطيع أن يكون فنانا إن امتلك إحساسا وذكاء وقدرةً على التعامل مع تطبيقات التكنولوجيا الكثيرة!

ولا يهم إن دخل أكاديميات الفنون أو ترك نفسه حرا، فهو يصنع الفن بطريقة جديدة ويمدّ لسانه في وجه كل النظريات والدّراسات الفلسفية والجمالية التي تتعلق بالفن وإنتاجه.

إذن من الآن فصاعدا سيحتدم سجالٌ جديد في كواليس عوالم الفن، وستزداد التهم التي تلقى يمنةً ويسرة، فبعد أن طالت الشبه فنون الحداثة وفي مقدمتها المدرسة التجريدية، والشّكوك التي تكتنف أعمال ما بعد الحداثة من أعمال تركيبية، مفاهيمية، فيديو أرت، فنون الأرض، فنون الجسد.... وغيرها الكثير من أنواع الفنون التي مازالت محاربة من الكثيرين من أصولي الفن وذلك رغم مرور السنين على بدايتها واستمراريتها لليوم وإثباتها أنها تقدّم فنّا صافيا بأساليب جديدة، فكيف إذن بالفن الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي، هل سيعتبر فنا ببساطة؟ وكيف سيكون فنا بلا فنانٍ منتج؟ لكن هل نحن بحاجة لهذا الاعتراف حقا خاصةً بعد أن أقيمت له معارض فنية في صالات عرض معروفة وكانت الأعمال المعروضة من إنتاجه وذلك حتى في دول عربية في الكويت ومصر والسعودية، وعلاوةً على ذلك قد تمّ بيع عملٍ له في مزاد كريستيز بـ423 ألف دولار وكان بإشراف الفنان إدموند دي بيلامي وتقديمه، وليس هذا فقط، فالمركز الأول في مسابقة بالولايات المتحدة للفن الرقمي التي شارك الفنان الأمريكي Jason Allen وكانت اللوحة التي شارك بها من إنتاج برنامج midjourney والذي يُعتبر من أهم برامج الذكاء الاصطناعي في مجال إنتاج الفن التشكيلي، وهو مخبر أبحاث مستقل يعمل بصورة أكثر احترافية على توسيع القدرة التخيلية للإنسان، يعتمد في عمله على البنية التحتية البشرية النصية، إذ أنه ينشئ صورا من الصفات التي يُلقنها، لذا هو الأنسب لاستخدامه من قبل الفنانين أو الأشخاص الذين يعرفون ما يريدونه تماما، أو أنهم يمتلكون الفكرة ويريدون تحويلها لعملٍ فنيّ دون أن يملكوا الموهبة اللازمة، أو ينقصهم الوقت فينشئون الكثير من الأعمال الفنية حتى يتوصلوا لصيغةٍ تنسجم مع ما دار في خيالهم. وهو ما كان في معرض الفنانة علية عبد الهادي المعنون بـ«الذكاء الاصطناعي وأنا-تجارب مستقبلية في الفنون» في غاليري بيكاسو في القاهرة والذي كانت أكثر مواضيع لوحاته مستوحاة من الحضارة المصرية القديمة لمنح المعرض هويةً واضحة، ولا يكون مشتتا مفكّكا، فقد تمّ اختيار لوحات المعرض من ضمن الكثير من اللوحات التي أُنتجت، وكان الهدف من هذا المعرض التجريب في هذا المجال الجديد من قبل فنان وعرض منتجات هذا التجريب ليكونوا مادةً للنقاش من قبل الأوساط الفنية والأكاديمية .

وبالطبع هذا ليس البرنامج الوحيد، فهناك العديد من البرامج الأخرى كبرنامج Deep Dream الذي يعتمد على استخدام «شبكة عصبونية التفافية» تقوم بمعالجة الصور ومنحها شبها من الصور التي تُرى في الأحلام، يحتاج صورة وعدد قليل من الكلمات ليبدأ عمله، فنحصل على لوحة كصور الخيال ليست واضحة تماما بل هي متماهية ومتماوجة كالسراب وسط الصحراء، وكخيال يبرق في فكرنا عند سماع كلمةٍ ما؛ أيضا هناك بعض التطبيقات الأبسط مثل التي يستخدمها الهواة بشكل أساسي Al Art, Breeder, Neural styler

أما الخلوج، فهي من أهم التجارب الفنية في مجال الذكاء الاصطناعي والتي لفتت نظري لسببين أولهما جدة الفكرة وثانيهما لروحانية هذا العمل وفتحه الباب أمام خيالنا، الخلوج منحوتةٌ جسدت «الحنين» وهو اسم صوت الناقة عندما تبكي وهنا كان سبب البكاء فقدها حوارها-اسم وليد الناقة- والناقة الخلوج تطيل الحزن على وليدها وتكثر البكاء عليه، الفنان السعودي «عبيد الصافي» نفّذ هذا العمل بالاستعانة ببرنامجٍ قام بتحليل ذبذبات صوت بكاء الناقة ومن ثم تصوّر شكلا لهذا الصوت وطباعته عبر طابعة ثلاثية الأبعاد، وقد عرض العمل في معرض (من الأرض) المنظم من قبل مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي إثراء مع جمعية الثقافة والفنون في الدمام. وهنا أمام المنحوتة الصغيرة المجسمة بـ 15*21*16 سم، وصورة للعمل أيضا تنفتح أبواب الخيال على مصاريعها أمامنا، ونبدأ البحث عن صورٍ للأصوات وليس صورا للكلمات فقط، فالثانية يتقنها العقل البشري، إذ أننا سرعان ما نتخيل الصور الشّعرية الشكلية الحسية وتحضر بوضوحٍ أمام عيننا الداخلية وهو ما تصنعه السينما والفنون البصرية التي تمنح اللغة شكلا، أما صورة الصوت فهي الأغرب والأصعب على الخيال، ربما حاول الرقص التعبيري محاكاة الصوت ورسم حركات له وكذا نجد صوت ضربات القلب يرتسم بخطوط بيانية على الشاشة في المشافي وربما من هنا تنشأ منطقية رؤية الصوت بصورة أمام العين.

كم سيكون شكل صوت فيروز رشيقا ممشوقا، والاتزان والحبور سيميز شكل صوت أم كلثوم مثلا، الضجيج كتلٌ مفككة، أما صوت الريح شكلٌ منسابٌ متماوج، صوت المطر نقاط تملأ المساحة ...والكثير من الأصوات سيكون من الممتع أن نشاهدها، حينها سنشاهد الموسيقى لا العازفين!.

إذن الذكاء الاصطناعي، شئنا أم أبينا يستطيع أن يفتح أمام إبداعنا الحدود ويمنحنا تأشيرة الدخول لعوالم جديدة، وسيشكل إضافةً مهمة لعالم الفن التشكيلي، لكن بالطبع يختلف نتاج الذكاء الاصطناعي الفني تبعا للمعرفة الفنية والثقافية والمهارة التقنية لدى الفنان المستخدم له، فإن استطعنا تطويع الذكاء الاصطناعي ليخدم إحساسنا وموهبتنا سننجو من مدّه ولن يحلّ مكان الفنان بل ستكون ذراعا إضافيةً له وسنستفيد من الخيارات الجديدة التي يقدمها لنا، بالإضافة للسرعة التي ينجز بها العمل الفني، فإن لم نعترف به سيأتي يوم ويبتلع الذكاء الاصطناعي الكثيرين من أنصاف الموهوبين وغير المتابعين للتقانة والعلوم الحاسبية.

لكن هناك نقطة أساسية لا يمكننا إغفالها أثناء الحديث عن الفن وهي «الرّوح» تلك الشعرة الرقيقة التي تفرّق بين الشعر والنظم، بين النثر وعادي الكلام، وبين اللوحة والألوان المرمية جزافا على قماش الرسم «canvas».

ما نسميه الروح هو تلك القيمة المضافة التي تمنح الفن البشري الخالص نكهته الخاصة المميّزة، فأن تبصر ضربة الفنان بالريشة على القماش أو الورق وتستطيع أن تتوقّع حالته النفسية أثناء تنفيذ العمل من خلال تأمل تواتر الخطوط هل هي مرسومة بقوة وعنف أم ممددة بلطفٍ وحنان؟ وكذلك الأمر حين ترى المنحوتة وهي من صنع يديه وكأنه يعدّ مخلوقاته بعناية ويهيئها لمرحلة ما قبل الحياة، تنتبه للمساته الأخيرة التي تظهر على سطح العمل وتجعله جاهزا.

تلك الرّوح تشبه تعلقنا الدائم بطعام أمهاتنا، والحنين للوجبات التي كانت تحضّر في بيوت العائلة بكثير من الحب، رغم كلّ الرفاهية والنكهات المتنوعة التي يحملها الطعام الجاهز، لذته ستبقى ناقصة فهناك نكهة غائبة ليست في مكونات الطعام وتوابله هي نكهة «الحب» التي يصنعها الإحساس الذي يكتنف الأعمال المنفّذة بطرقٍ يدويّة تقليدية، والذي ينتقل من خلال الحواس المرهفة التي تطلّ على العالم الخارجي من خلال العمل، فتمرّ عبر اللمسات أو النفَس أو ذبذبات الصوت... ويُصنع الحب، الحبّ الذي يسعى مبرمجو الذكاء الاصطناعي لأن يملكه ذات يوم، حتى يكسب المنافسة!

بسمة شيخو كاتبة وناقدة تشكيلية سورية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی الکثیر من بعد أن من قبل

إقرأ أيضاً:

هل يهدد الذكاء الاصطناعي التعليم والجامعات ؟

وقع نظري مؤخرًا على مقال نشره كاتب أمريكي يُدعى «رونالد بروسر»، وهو أستاذ إدارة الأعمال بجامعة «سان فرانسيسكو». 

نُشر المقال في مجلة «Current Affairs»، وهي مجلة سياسية ثقافية تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في 1 ديسمبر 2025. 

تحدّث الكاتبُ في هذا المقال عن أزمة التعليم في ظل وجود الذكاء الاصطناعي، ويرى أن الجامعات الأمريكية عقدت الكثير من الشراكات مع شركات الذكاء الاصطناعي مثل شركة OpenAI، وأن هذا التوجّه يمثّل تهديدًا للتعليم ومستقبله، ويسهم في تفريغه من مضمونه الرئيس؛ بحيث يتحوّل التعليم إلى ما يشبه مسرحية شكلية فارغة من التفكير وصناعة الفكر والمعرفة الحقيقية. 

يرى «بروسر» أن هناك تحوّلا يدفع الطلبة إلى استعمال الذكاء الاصطناعي بشكل مكثّف وغير منضبط في إنجاز الواجبات والأعمال المنوطة إليهم، وكذلك يدفع كثيرا من الأساتذة إلى الاعتماد المفرط عليه في إعداد المحاضرات وعمليات التقويم والتصحيح، وتدفع الجامعات ـ كما يذكر «بروسر» ـ ملايين الدولارات في إطار هذه الشراكات مع شركات الذكاء الاصطناعي مثل OpenAI؛ لتوفير النُّسخ التوليدية التعليمية وتسخيرها للطلبة والأكاديميين. 

بناء على ذلك، تذهب هذه الملايين إلى هذه النظم التوليدية الذكية وشركاتها التقنية، في حين استقطعت الأموال من موازنات الجامعات؛ فأدى إلى إغلاق برامج أكاديمية في تخصصات مثل الفلسفة والاقتصاد والفيزياء والعلوم السياسية، وكذلك إلى الاستغناء عن عدد من أعضاء هيئة التدريس. 

يكشف الكاتبُ في نهاية المطاف أن الجامعات بدأت تتحول من الاستثمار في التعليم ذاته إلى تسليم النظام التعليمي ومنهجيته وعملية التعلّم إلى منصات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يقلّص الاعتماد على الكوادر البشرية وعلى المنهجيات النقدية والتفكيرية. 

كذلك يُظهر الكاتبُ الوجهَ المظلم للذكاء الاصطناعي والاستغلال الذي قامت به شركات الذكاء الاصطناعي بالتعاون مع بعض الجامعات ومؤسسات البحث العلمي، ويرتبط هذا الوجه المظلم بعملية فلترة المحتوى الذي يُضخّ في نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية؛ حيث تُكلَّف فئات من البشر ـ في الغالب من الدول الأفريقية الفقيرة ـ بمراجعة هذا المحتوى وتصنيفه وحذف غير الملائم منه، مقابل أجور زهيدة جدا، وذلك بغية صناعة واجهة «آمنة» لهذه النماذج، وتقتضي هذه العملية في الوقت نفسه استهلاك كميات هائلة من الطاقة والمياه لتشغيل مراكز البيانات التي تقوم عليها هذه الأنظمة. 

كما يكشف وجها آخر للاستغلال الرقمي، ضحاياه الطلبة في بعض الجامعات الأمريكية ـ خصوصا المنتمين إلى الطبقات العاملة ـ عبر استغلالهم لصالح مختبرات شركات وادي السيليكون؛ إذ تُبرَم صفقات بملايين الدولارات بين هذه الشركات وبعض الجامعات، دون استشارة الطلبة أو أساتذتهم، في حين لا يحصل الطلبة إلا على الفتات، ويُعامَلون كأنهم فئران تجارب ضمن منظومة رأسمالية غير عادلة. 

أتفقُ مع كثير من النقاط التي جاء بها «رونالد بروسر» في مقاله الذي استعرضنا بعض حيثياته، وأرى أننا نعيش فعلا أزمة حقيقية تُهدِّد التعليم والجامعات، ونحتاج لفهم هذه الأزمة إلى معادلة بسيطة معنية بهذه التحديات مفادها أننا الآن في مرحلة المقاومة، والتي يمكن اعتبارها مرحلة شديدة الأهمية، لأنها ستُفضي في النهاية إما إلى انتصار التقنية أو انتصار الإنسان. 

مع ذلك، لا أعتقد أن هذه المعركة تحتاج إلى كل هذا القدر من التهويل أو الشحن العاطفي، ولا أن نُسبغ عليها طابعا دراميًا مبالغًا فيه. 

كل ما نحتاجه هو أن نفهم طبيعة العلاقة بيننا وبين التقنية، وألا نسمح لهذه العلاقة أن تتحول إلى معركة سنخسرها بكل تأكيد، نظرا إلى عدة عوامل، من بينها أننا نفقد قدرتنا على التكيّف الواعي مع المنتجات التقنية، ولا نحسن توظيفها لصالحنا العلمي والتعليمي؛ فنحوّلها ـ عن قصد أو بدون قصد ـ إلى خصم ضار غير نافع. 

نعود بالزمن قليلا إلى الوراء ـ تحديدا تسعينيات القرن العشرين ـ 

لنتذكّر المواجهة التي حدثت بين المنظومة التعليمية ـ من جامعات وأساتذة وباحثين ومهتمّين بالمعرفة ـ وبين موجة التهديدات الجديدة التي تزّعمها الإنترنت ومحركاته البحثية، وكان أحد أبرز هذه التهديدات ظهور ما يمكن تسميته بثقافة البحث السريع؛ حيث ابتعد الطالب والباحث عن الطرق التقليدية في البحث مثل استعمال الكتب والقراءة المطوّلة والعميقة، ولجأ إلى الإنترنت والبحث عن المعلومات في غضون ساعات قليلة، والاكتفاء بتلخيص الدراسات والكتب. 

ولّد هذا التحوّل مشكلات أخرى، من بينها تفشّي ظاهرة الانتحال العلمي والسرقات الفكرية، ولكن، لم تستمر هذه المشكلة لفترة طويلة؛ فحُلّت تدريجيا بعد سنوات، وتحديدا مع ظهور أدوات قادرة على كشف حالات الانتحال والسرقة العلمية، وظهور أنظمة تأقلمية ومعايير وقوانين تعليمية وأكاديمية عملت على إعادة تموضع الإنترنت داخل المنظومة التعليمية، وهكذا خرج النظام التعليمي والجامعات من تلك المواجهة رابحًا في بعض أجزائه وخاسرًا في أجزاء أخرى. 

لا أتصور أن مشكلتنا الحالية مع الذكاء الاصطناعي تشبه تماما المشكلة السابقة التي أحدثها ظهور الإنترنت ومحركات البحث؛ فكانت التحديات السابقة -نسبيا- أسهل، وكان من الممكن التعامل معها واحتواؤها في غضون سنوات قصيرة. أما المشكلة الراهنة مع الذكاء الاصطناعي، فتكمن في سرعته التطورية الهائلة التي لا نستطيع حتى أن نتحقق من مداها أو نتنبّأ بوتيرة قدراتها الإبداعية؛ فنجد، مثلا ، أنه في غضون سنتين أو ثلاث فقط انتقل الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل«ChatGPT» من مرحلته البدائية إلى مرحلته المتقدمة الحالية، تجاوز فيها في بعض الزوايا قدرات الإنسان العادي في المهارات اللغوية، وأصبح يشكّل تحديًا حقيقيًا كما أشرنا في مقالات سابقة. 

فيما يتعلّق بالتعليم والجامعات، وكما أشار الكاتب في المقال الذي استعرضناه؛ فنحن أمام مشكلة حقيقية تحتاج إلى فهم عميق وإعادة ترتيب لأولوياتنا التعليمية. 

نقترح أولا ألا نتجاوز الحد المسموح والمقبول في استعمال الذكاء الاصطناعي في التعليم؛ فيجب أن تكون هناك حالة توازن واعية في التعامل مع أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية في الجامعات، وكذلك المدارس. 

وبصفتي أكاديميًا، أرى من الضروري أن نقنن استعمال الذكاء الاصطناعي داخل الجامعات عبر وضع معايير وقوانين واضحة، والسعي في الوقت ذاته إلى تطوير أدوات قادرة على كشف حالات الانتحال والسرقات العلمية المرتبطة باستعمال هذه التقنيات والنماذج الذكية، رغم صعوبة ذلك في المرحلة الحالية، ولكن من المرجّح أن يصبح الأمر أكثر يسرا في المستقبل القريب. 

رغم ذلك، فلا يعني أنه ينبغي أن نمنع استعمال الذكاء الاصطناعي منعًا تامًا؛ فجلّ ما نحتاجه أن نُشرف عليه ونوجّهه ضمن حدود معيّنة؛ لتكون في حدود تعين على صناعة الإبداع البشري؛ فيمكننا أن نوجّه الذكاءَ الاصطناعي في تنمية مهارات الحوار والتفكير والتحليل لدى الطلبة إذا استُعملَ بطريقة تربوية صحيحة. 

ولكن في المقابل يجب أن تُشدَّد القوانين والعقوبات المتصلة بحالات الانتحال والاعتماد الكلّي على النماذج التوليدية سواء في مخرجات العملية التعليمية أو في البحوث العلمية. 

كذلك من الضروري أن نُعيد التوازن إلى دور أعضاء هيئة التدريس في الجامعات؛ فمن غير المعقول أن نترك صناعة المحتوى التعليمي مرهونة بالكامل للذكاء الاصطناعي، في حين يتراجع دور الأكاديمي وإبداعه الذي يمارس التفكير والنقد والإضافة المعرفية من عنده. 

على صعيد آخر، أظهرت دراسات حديثة التأثير السلبي للاستعمال المفرط للذكاء الاصطناعي والاعتماد عليه على الدماغ البشري بشكل فسيولوجي مباشر؛ فيمكن أن يدخله في حالة من الضمور الوظيفي مع الزمن، خصوصا حال تخلّى الإنسان عن ممارسة التفكير لصالح الخوارزمية. 

 د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني 

مقالات مشابهة

  • عبلة كامل.. النجمة التي ما زالت حاضرة في قلوب محبيها رغم الغياب
  • نشوز الزوجة يفتح أبواب النزاع.. احذري التحايل بادعاءات كيدية يعرضك للعقوبة
  • هل يهدد الذكاء الاصطناعي التعليم والجامعات ؟
  • وزير العمل في قمة المرأة 2025: «الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي يعيدان تشكيل خريطة الوظائف»
  • وزير العمل: الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي يعيدان تشكيل خريطة الوظائف بمصر
  • كيف تحمي نفسك من أدوات الذكاء الاصطناعي التي تجمع بياناتك الشخصية (فيديو)
  • بقيادة ترمب.. تشكيل تحالف دولي لمواجهة الهيمنة الصينية في الذكاء الاصطناعي
  • إنوفيرا تطلق برامج تدريبية متقدمة في الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني
  • مفاجأة جديدة من جوجل .. الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل طريقة قراءة الأخبار
  • تحذير من ضعف دقة الذكاء الاصطناعي لقياس النبض عند ارتفاعه