قاعدة أكروتيري في قبرص.. عين بريطانيا على الشرق الأوسط
تاريخ النشر: 24th, January 2024 GMT
قاعدة عسكرية تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، تقع جنوب جمهورية قبرص. منذ تأسيسها عام 1960، استخدمت هذه القاعدة لتنفيذ عدد من العمليات العسكرية البريطانية والأميركية في الشرق الأوسط، منها عمليات استهدفت ليبيا وسوريا والعراق، ومنها الغارات الجوية التي استهدفت اليمن على خلفية وقوف الحوثيين إلى جانب الفلسطينيين في معركة "طوفان الأقصى" بقطاع غزة.
وفي حين لا تزال المملكة المتحدة تملك قاعدتين عسكريتين في قبرص (أكروتيري وديكيليا) يرفض السكان المحليون وجود هذه القواعد، ويعتبرونها "بقايا استعمارية".
تاريخ القواعد البريطانية بقبرصتمتلك قبرص موقعا إستراتيجيا، إذ تقع على الطرف الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بالقرب من قناة السويس وتعتبر نافذة على الشرق الأوسط، لذلك عندما حصلت على استقلالها عن الإمبراطورية البريطانية، أرادت المملكة المتحدة أن تحتفظ بنفوذ في المنطقة، مما دفعها إلى إنشاء قاعدتين عسكريتين فيها عام 1960 بموجب اتفاقيات لندن وزيورخ، وهي مجموعة من الاتفاقيات التي تم عقدها بين تركيا واليونان والمملكة المتحدة والمجتمع القبرصي.
عرفت هذه القواعد باسم "القواعد السيادية"، إذ تتبع القاعدة الأولى لسلاح الجو الملكي البريطاني، وتسمى بـ" قاعدة أكروتيري"، أو قاعدة السيادة الغربية، وتقع في جنوب غرب قبرص، أما الثانية فتدعى "قاعدة ديكيليا"، أو قاعدة السيادة الشرقية، وتقع شرق قبرص.
وتعتبر هاتان المنطقتان من أقاليم ما وراء البحار البريطانية، وتمتدان على مساحة 98 ميلا مربعا، ما يساوي 3% من مساحة أراضي قبرص. وقد سجلت الأمم المتحدة هذه القواعد عام 1960 باسم المعاهدة رقم 5476، وتضمن استخدام القواعد العسكرية البريطانية في قبرص.
وإضافة إلى الأغراض العسكرية، شكلت هذه القواعد السيادية ملجأ سياسيا في بعض الحالات. ففي عام 1974، في أعقاب انقلاب عسكري قام به الحرس الوطني القبرصي، تدخلت تركيا في شمال قبرص، مما أدى إلى إنشاء جمهورية شمال قبرص التركية التي لم يتم الاعتراف بها دوليا. إلا أن ذلك لم يؤثر على وجود القواعد البريطانية.
وفي تلك الفترة، سُمح للقبارصة اليونانيين الفارين من القوات التركية بالسفر عبر قاعدة "ديكيليا" السيادية، وحصلوا على مساعدات إنسانية. وقد توقف التقدم التركي عندما وصل إلى حافة هذه القاعدة لتجنب الصراع العسكري مع المملكة المتحدة.
خلال زيارة رسمية لدوقة كامبريدج والأمير ويليام إلى قاعدة "أكروتيري" أواخر عام 2018 (غيتي)أما في منطقة قاعدة "أكروتيري" السيادية، فقد تم إنشاء مخيم للاجئين لإيواء القبارصة الأتراك الفارين من ليماسول والقرى المحيطة بالمنطقة، إلى أن تم نقلهم جوا عام 1975.
ولا يزال بعض اللاجئين القبارصة اليونانيين يقيمون على أراض في أجزاء من قريتي تراشوني وكولوسي التي تقع ضمن منطقة قاعدة "أكروتيري" السيادية.
الإدارة البريطانيةأما عن طريقة إدارة المملكة المتحدة لهذه المناطق، فقد نصت معاهدة التأسيس لعام 1960 على أن المملكة المتحدة تنوي:
عدم تطوير مناطق القواعد السيادية لغير الأغراض العسكرية. عدم إنشاء وإدارة "المستعمرات". عدم إنشاء مراكز جمركية أو حواجز حدودية أخرى بين مناطق القواعد السيادية وجمهورية قبرص. عدم إنشاء أو السماح بإنشاء مؤسسات تجارية أو صناعية مدنية إلا بقدر ما تكون مرتبطة بمتطلبات عسكرية، وعدم الإضرار بالوحدة الاقتصادية أو التجارية أو الصناعية والحياة في الجزيرة. عدم إنشاء موانئ أو مطارات تجارية أو مدنية. عدم السماح بتوطين أشخاص جدد في مناطق القواعد السيادية إلا لأغراض مؤقتة. عدم مصادرة الممتلكات الخاصة داخل مناطق السيادة إلا للأغراض العسكرية مقابل تعويض عادل.ونظرا لأن هذه المناطق السيادية أنشئت لأغراض عسكرية في المقام الأول، فإن إدارتها تتبع لوزارة الدفاع في لندن. وليس لديها أي علاقة رسمية مع وزارة الخارجية والكومنولث أو المفوضية العليا البريطانية في نيقوسيا.
وتتمتع هذه المناطق بنظامها القانوني الخاص الذي يختلف عن أنظمة المملكة المتحدة وجمهورية قبرص. مع ذلك تتوافق القوانين في "أكروتيري" و"ديكيليا" بشكل وثيق مع القوانين المعمول بها داخل جمهورية قبرص، بل تكون في بعض الحالات مطابقة لها.
القوات الجوية الملكية البريطانية خلال عملها على طائرة تورنادو بقاعدة سلاح الجو الملكي البريطاني في "أكروتيري" (رويترز) قاعدة "أكروتيري"وفقا لما ورد في الصفحة الرسمية لسلاح الجو الملكي البريطاني في "أكروتيري"، فإن هذه القاعدة بمثابة وحدة دعم للعمليات في المنطقة، بهدف "حماية المصالح الإستراتيجية للمملكة المتحدة".
ويتم استخدام "أكروتيري" قاعدة أمامية للعمليات الخارجية في الشرق الأوسط ولأغراض التدريب على الطائرات كذلك. وتقوم مروحيات "غريفين" التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني في "أكروتيري" أيضا بوظيفة البحث والإنقاذ بالتعاون مع شرطة جمهورية قبرص والقيادة الجوية للحرس الوطني.
تاريخيا، لم تستخدم قاعدة "أكروتيري" فقط لأغراض خاصة بالمملكة المتحدة، ففي أوائل السبعينيات، بنت الولايات المتحدة رادارا فوق الأفق يسمى "حذاء كوبرا"، لمراقبة عمليات الطائرات واختبارات الصواريخ في جنوب روسيا. وقد شغل سلاح الجو الملكي البريطاني الرادار نيابة عن القوات الجوية الأميركية. وتم إخفاء استخدام الولايات المتحدة للقاعدة عن الحكومة القبرصية بسبب حساسية الموضوع.
ومن الجدير بالذكر أن الضغط على ميزانية الدفاع لدى المملكة المتحدة ازداد عام 1974، فقررت الحكومة البريطانية آنذاك سحب القوات البريطانية بالكامل من قبرص، لكن الولايات المتحدة اعترضت بشدة على ذلك، لأن هذا من شأنه أن يفقد واشنطن الوصول إلى إشارات قواعد الاستخبارات الموجودة في قبرص، ومن وافقت على المساهمة في دفع التكاليف للحكومة البريطانية التي غضت النظر عن خطة الإغلاق.
ونظرا لقربها النسبي من الشرق الأوسط، استخدمت قاعدة "أكروتيري" لأغراض متعددة في الثمانينيات، منها استقبال الجرحى الأميركيين بعد تفجير ثكنات بيروت عام 1983، ودعم عمليات الأمم المتحدة في لبنان في فترة الحرب الأهلية.
طائرة تايفون بعد هبوطها في قاعدة سلاح الجو الملكي البريطاني في "أكروتيري" في 3 ديسمبر 2015 (رويترز)كما استخدمت الولايات المتحدة قاعدة "أكروتيري" في منتصف الثمانينيات لتنفيذ هجمات ضد ليبيا بعد اتهام زعيمها آنذاك معمر القذافي بالتورط في تفجير ملهى ليلي في برلين.
كما لعب سلاح الجو الملكي البريطاني في "أكروتيري" دورا رئيسيا كنقطة عبور لإجلاء الأفراد من لبنان خلال حرب يوليو/تموز 2006.
العمليات العسكرية التي انطلقت منهاوفي التاريخ المعاصر لعبت قاعدة "أكروتيري" دورا في عدد من العمليات العسكرية والسياسية في الشرق الأوسط، فقد استخدمتها القوات الجوية الأميركية عام 2010، منصة لإطلاق طائرات "يو-2" للقيام بعمليات استطلاع جوي فوق سماء لبنان، ونقل المعلومات حول مقاتلي حزب الله إلى السلطات اللبنانية كما استخدمت لعمليات الاستطلاع الجوي فوق تركيا وشمال العراق لنقل المعلومات إلى السلطات التركية.
وفي مارس/آذار 2011، استخدمت المحطة قاعدة لانطلاق طائرات الدعم المشاركة في التدخل العسكري بقيادة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في ليبيا.
وفي أغسطس/آب 2014، نُشرت في "أكروتيري" 6 قاذفات بريطانية لتنفيذ مهام استطلاعية في العراق، في أعقاب ظهور تنظيم الدولة الإسلامية. وفي 26 سبتمبر/أيلول 2014، صوّت أعضاء البرلمان لصالح تنفيذ سلاح الجو الملكي البريطاني ضربات جوية على التنظيم في العراق، وتكررت الضربات عام 2019.
وفي 30 سبتمبر/أيلول 2014، نجحت طائرتا تورنادو بريطانيتان انطلقتا من "أكروتيري" في اعتراض ومهاجمة أهداف لتنظيم الدولة الإسلامية.
كما استخدمت قاعدة "أكروتيري" لدعم الضربات الصاروخية التي وجهتها الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة ضد مواقع حكومية متعددة في سوريا عام 2018.
أما آخر العمليات العسكرية التي انطلقت من قاعدة "أكروتيري"، فكانت الغارات التي شنتها القوات الأميركية والبريطانية على الحوثيين في اليمن خلال الشهر الأول من عام 2024، وذلك باستخدام طائرات تايفون المقاتلة، على خلفية الهجمات التي شنها الحوثيون على السفن التجارية في البحر الأحمر.
وبسبب استخدام الأراضي القبرصية منصة انطلاق لهذه الهجمات، واجهت حكومة قبرص احتجاجات واسعة وانتقادات متزايدة تستهجن وجود قواعد عسكرية بريطانية في البلاد.
تاريخيا لعبت قاعدة "أكروتيري" دورا في عدد من العمليات العسكرية والسياسية في الشرق الأوسط (رويترز)واجتمع عدد من المحتجين خارج مدخل قاعدة سلاح الجو البريطاني الملكي في "أكروتيري"، بالقرب من مدينة ليماسول الساحلية، مطالبين بإغلاق القواعد العسكرية البريطانية، على اعتبار أنها تؤجج نزاعات إقليمية في غزة واليمن.
واتهم ناشطون الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس بالتغاضي عن المخاطر التي قد تواجهها الدولة إذا استمرت المنشآت الإستراتيجية في "أكروتيري" في نشر العمليات العسكرية، وأشاروا إلى احتمال استخدام الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للقواعد البريطانية في "أكروتيري" لإرسال مساعدات عسكرية إلى إسرائيل.
وقال رئيس مجلس السلام القبرصي، تاسوس كوستياس، إن "هناك أدلة على أن طائرات التجسس التي عملت في غزة كانت أيضا تنطلق من أكروتيري".
وهذا ما أكدته صحيفة "ديكلاسيفايد يو كيه" الاستقصائية، التي قالت إن طائرات بريطانية أقلعت من قاعدة "أكروتيري" ونفذت 50 طلعة استطلاعية فوق سماء غزة منذ بداية ديسمبر/كانون الأول 2023، وذلك بهدف توفير معلومات استخباراتية لإسرائيل.
وذكرت الصحيفة البريطانية أن الجيش البريطاني استخدم في طلعاته الجوية طائرات من طراز "1 شادو آر" المستخدمة في مجالي الاستطلاع والمراقبة.
بقايا استعماريةلم تكن الاحتجاجات التي أعقبت الغارات الجوية على اليمن هي الأولى من نوعها، فطالما احتج السكان المحليون على وجود القواعد السيادية البريطانية، واعتبروها "من بقايا الاستعمار".
وهذا ما دفع مجلس النواب القبرصي لاعتماد قرار بالإجماع بشأن الوضع القانوني لهذه القواعد، وذلك في 30 يونيو/حزيران 2005، إذ أشار القرار إلى "قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بإلغاء الاستعمار، فضلا عن المبادئ الأساسية للقانون الدولي، التي تحظر احتلال الأراضي الواقعة تحت سيطرة أي دولة أخرى".
السكان المحليون في قبرص لا يتقبلون وجود القاعدة البريطانية ويعدونها "بقايا استعمارية" (رويترز)وبناء عليه، فقد قرر مجلس النواب أن المملكة المتحدة لا تتمتع بسيادة كبيرة على مناطق القواعد البريطانية، وإنما تتمتع فقط بالقدر اللازم من "السيادة لأسباب عسكرية، وليس لأسباب إدارية و/أو مالية و/أو لأي أسباب أخرى".
وحث القرار حكومة المملكة المتحدة على "الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه جمهورية قبرص التي تنبع من معاهدة التأسيس"، كما جادل بأن المملكة المتحدة ليس لديها مياه إقليمية في هذه المناطق. ومع ذلك لا تعترف حكومة المملكة المتحدة بالادعاءات القبرصية بأن سيادة المملكة المتحدة في هذه المناطق محدودة.
وفي الواقع يعكس موقف مجلس النواب من هذه القواعد، موقف الشعب القبرصي كذلك، فقبل صدور قرار مجلس النواب نظم القبارصة احتجاجات في يوليو/تموز 2001، ليعبروا عن سخطهم من المخططات البريطانية لبناء أبراج راديو في القواعد كجزء من تحديث مراكز الاتصالات العسكرية البريطانية حول العالم.
وادعى السكان المحليون أن هذه الأبراج ستعرض حياة السكان المحليين للخطر وتسبب السرطان، فضلا عن تأثيرها السلبي على الحياة البرية في المنطقة. وهذا ما دفع الحكومتين البريطانية والقبرصية إلى تكليف جامعة بريستول ووزارة الصحة في جمهورية قبرص، بإجراء أبحاث صحية مشتركة، وقد أفاد هذا المشروع البحثي عام 2005 بأنه لا يوجد دليل على وجود مشاكل صحية ناجمة عن المجالات الكهرومغناطيسية من الأبراج.
كما أجرت إدارة مناطق القواعد السيادية تقييمات ومسوحات حول التأثيرات على الحياة البرية، والتي غذت "خطة الإدارة البيئية لشبه جزيرة أكروتيري"، التي نُشرت في سبتمبر /أيلول 2012.
وعلى الرغم من أن بريطانيا لا تزال تحتفظ بالسيادة على قاعدتي "أكروتيري" و"ديكيليا"، فإن هذه الهيمنة تقابل بسخط شعبي يظهر إلى السطح من فترة إلى أخرى.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: العسکریة البریطانیة العملیات العسکریة الولایات المتحدة المملکة المتحدة فی الشرق الأوسط جمهوریة قبرص هذه المناطق مجلس النواب هذه القواعد عدم إنشاء فی قبرص عدد من عام 1960
إقرأ أيضاً:
مصالح بكين.. ماذا يعنى سقوط الأسد بالنسبة للصين؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
لقد كان سقوط نظام الأسد في سوريا بعد خمسة عقود من حكمه مفاجئة لغالبية الحكومات في جميع أنحاء العالم، وبالتالي، فإن الانتقال المفاجئ للسلطة والتحول الكبير في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط له آثار على العديد من البلدان. وفي ضوء هذا الوضع الطبيعي الجديد، سيتم تقييم الآثار والآفاق المحتملة على الصين في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية.
أولًا- خسارة شريك استراتيجي في الشرق الأوسط
ربما كان سقوط الأسد بمثابة نهاية "شراكة استراتيجية" أسستها بكين في ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٣. فقد أقام الرئيس شي جين بينج والرئيس السابق بشار الأسد هذه الشراكة قبل أكثر من عام بقليل خلال اجتماع في هانغتشو. ومع ذلك، فإن "الشراكة الاستراتيجية" ليست سوى تطور حديث في التاريخ الطويل للعلاقات بين البلدين. فكانت سوريا، إلى جانب مصر واليمن والعراق والمغرب والسودان، من بين أوائل الدول العربية التي اعترفت بجمهورية الصين الشعبية وأقامت علاقات دبلوماسية معها.
وتعكس مشاركة الصين الحالية في الشرق الأوسط بعض الأهداف والدوافع والإجراءات نفسها كما كانت أثناء الحرب الباردة، ولكن موقفها في المنطقة تغير بشكل كبير. تتكون علاقة بكين الحالية بالمنطقة من أربعة جوانب: الأمن المحلي / الإقليمي، والثقافة، والاقتصاد، والسياسة/ الدبلوماسية. طورت الصين علاقاتها مع سوريا من خلال الاستثمار المالي الثنائي والأمم المتحدة، والمساعدات، والقنوات الدبلوماسية، لكنها لم تكن متورطة في سوريا مثل الولايات المتحدة وروسيا وإيران. وفي هذا الصدد، فإن الخسارة التي ستتكبدها الصين نتيجة لرحيل الأسد محدودة، ورمزية إلى حد كبير، ومشتتة بين المخاوف السياسية والاقتصادية (التمويل والأسواق والطاقة والموارد)، والمخاوف الأمنية المحلية البعيدة أو غير المباشرة.
وفي ظل التقلبات الحالية في سوريا، والديناميكيات على الأرض، وإحجام الصين التاريخي عن الانخراط في الصراعات، فمن المرجح أن تظل بكين حذرة وتراقب عن كثب الخطوات التالية التي تتخذها الجهات الفاعلة الإقليمية والخارجية الأخرى. ويتم النظر في جميع المخاوف الاقتصادية والأمنية، سواء الحالية أو المستقبلية، ضمن إطار سياسي أوسع. ويشكل توسيع اقتصاد الصين الهدف الأسمى للبلاد لأنه يعزز نفوذها السياسي والدبلوماسي وقوتها العسكرية، الأمر الذي يعزز بدوره سمعتها كقوة عظمى. وفي هذه الحالة، سوف تسعى الصين إلى وضع استراتيجيات لتعزيز علاقاتها بالأسواق الإقليمية الرئيسية. ولكي تتمكن الصين من تلبية احتياجاتها الأساسية وتحقيق طموحاتها العالمية، مثل أن تصبح قوة عظمى، فإن النفط هو السلعة الأكثر أهمية.
ثانيًا: الاعتبارات الاقتصادية
بلغ إنتاج سوريا من النفط الخام ذروته عند ٥٨٢.٣٠٠ برميل يوميًا في عام ١٩٩٦، وانخفض هذا الرقم بسرعة بعد انخفاض تدريجي ولاسيما بعد الربيع العربي في عام ٢٠١١. وبحلول أغسطس ٢٠٢٤، بلغ إنتاجها من النفط الخام ٩٥.٠٠٠ برميل يوميًا فقط. تستورد الصين ٤٧٪ من نفطها الخام من الشرق الأوسط؛ ومع ذلك، فإن المشهد الإقليمي للاستيراد يختلف. يأتي أكثر من ربع نفطها من المملكة العربية السعودية، تليها العراق وعمان والإمارات العربية المتحدة. حتى في عام ٢٠١٤، لم تعتمد الصين على سوريا كمصدر للنفط. بلغ إجمالي صادرات سوريا إلى الصين في عام ٢٠٢٢ ٢ مليون دولار أمريكي فقط، وكانت السلع الرئيسية هي السلع النباتية والصابون والمنتجات المرتبطة بالصابون (مثل المنظفات والشموع وما إلى ذلك) وزيت الزيتون.
وعلى الرغم من عدم اليقين المحيط بدور الولايات المتحدة في سوريا بعد سقوط الأسد والافتقار إلى الوضوح داخل الحكومة الأمريكية بشأن الفوائد المحتملة لهذه التغييرات، تحتفظ واشنطن بوجود ما يقرب من ٩٠٠ عسكري في البلاد. بينما تواصل القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) شن ضربات مستهدفة ضد مواقع وأفراد داعش، استهدفت فصائل أخرى، بما في ذلك داعش، منشآت عسكرية أمريكية منذ سقوط الأسد.
ويشير بعض المحللين إلى أن واشنطن لن تؤثر بشكل كبير على الأحداث في سوريا الآن بعد رحيل الأسد. ورغم أن هذا التقييم مشكوك فيه، إلا أنه قد يعني أن تركيا ستكون لها أكبر تأثير على البلاد. وبالنسبة لتركيا، فإن الأولوية الأكبر هي إعادة بناء سوريا مستقرة. وفي ضوء المصالح المتبادلة بين تركيا والصين في تعزيز التعاون الوثيق بعد سنوات من الركود، والتي تشمل توسيع التجارة والاستثمار، فإن مشاركة أنقرة في إعادة إعمار سوريا قد تكون مفيدة لبكين.
بالنسبة للصين، فإن الشرق الأوسط يحمل أهمية اقتصادية أكبر بكثير من روسيا، وعلى الرغم من الصراع المستمر، فإنه يمثل خيارًا أكثر موثوقية واستثمارًا في الأمد البعيد. وعلاوة على ذلك، ورغم أن دول الشرق الأوسط تحتضن تجارتها مع الصين، فإنها تحتل مكانة قوية لأنها تزود الصين بالموارد الحيوية اللازمة لعملياتها اليومية وتوسع الدولة إلى القوة العظمى التي يطمح شي إلى تحقيقها. ويتمثل الفارق الرئيسي بين سوريا ونظيراتها الغنية بالنفط في الشرق الأوسط في اقتصاد سوريا الممزق بسبب الحرب والبنية الأساسية المحطمة، الأمر الذي يضع أي حكومة جديدة في موقف أكثر خطورة مع انخفاض النفوذ الاقتصادي.
ثالثًا: المخاوف الأمنية
إن أحد أهم التحذيرات التي يجب أن تطرحها العلاقات التركية الصينية في سياق انتقال السلطة في سوريا هو قضية الأويغور. ففي وقت سابق من هذا العام، أعربت بكين عن قلقها إزاء سياسة أنقرة المتمثلة في "الدفاع عن حقوق الأويغور الأتراك في الساحة الدولية". وعلق وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو قائلًا: "لماذا يجب أن نصبح أداة للدعاية الصينية؟" بينما قال أيضًا إننا نريد التعاون، ولا نرى هذا كقضية سياسية. نحن لسنا معادين للصين بشكل قاطع، لقد أعلنا باستمرار عن تأييدنا لسياسة الصين الواحدة.
وتظهر هنا أيضًا قضية تركستان الشرقية؛ حيث قال أحد مقاتلو هيئة تحرير الشام أثناء القتال: "قاتلنا في حمص، وفي إدلب، وسنواصل القتال في تركستان الشرقية. لقد منحنا الله النصر هنا. نسأل الله أن يمنحنا النصر في أرضنا أيضًا". ووفقًا للتقارير، بثت هيئة تحرير الشام مقطع فيديو دعائيًا من سوريا حثت فيه المسلمين على الاستجابة لدعوة الجهاد، والثورة ضد الحكومة الصينية الاستبدادية، وتحرير أنفسهم من السيطرة الصينية. ويشكل هذا التطور مصدر قلق أمني مثير للقلق بالنسبة لبكين.
وبعد فرارها من الصين في تسعينيات القرن العشرين، تدربت الحركة الإسلامية التركستانية في سوريا مع جماعة هيئة تحرير الشام الإسلامية. وقد تسبب إعلان الحركة الإسلامية التركستانية مؤخرا عن نيتها "تحرير" تركستان الشرقية في إثارة القلق في بكين. فقد نشأت مخاوف جديدة بشأن أمن إقليمها الواقع في أقصى الغرب وسلامة حدودها الغربية بسبب هذا التطور الأخير، الذي قد يفرض ضغوطا على العلاقات بين تركيا والصين ويعقد المصالح الصينية في سوريا. وعلاوة على ذلك، قد يؤثر هذا التطور الأخير على العلاقة بين طالبان والصين، فضلا عن الجماعات المتطرفة الأخرى في محيط الصين الجغرافي.
ماذا بعد؟
لقد بدأت ديناميكيات القوة في الشرق الأوسط تتغير بوضوح. ففي حين تواجه تركيا والولايات المتحدة وإسرائيل فرصًا جديدة، تواجه روسيا وإيران تحديات ومخاوف متزايدة. والصين حريصة في شراكاتها مع جهات فاعلة ومناطق أخرى، ورغم أنها تحافظ على علاقة جيدة مع روسيا، فإنها لا تختلف عنهم. وهذا يعكس النهج الحذر الذي تتبناه الصين في التعامل مع الشرق الأوسط بعد سقوط الأسد.
في الوقت الحالي، لا توجد قضايا سياسية وأمنية في الشرق الأوسط في حالة توازن؛ وسوف يستغرق تطور هذه القضية وتداعياتها الأوسع وقتًا طويلًا. وعلاوة على ذلك، يختلف الخبراء حول الكيفية التي قد تؤثر بها الأحداث الأخيرة وغير المتوقعة في سوريا، وانتقالها بعد الأسد، والتداعيات الإقليمية الأوسع نطاقًا، على الصين الآن وفي المستقبل. إن رد الصين على الأحداث المتغيرة بسرعة لابد وأن يكون حذرًا ومنهجيًا، حيث أن العواقب الكاملة لانهيار نظام الأسد لا تزال غير محسومة. وفي الوقت الحالي، تواصل الصين، كما كانت الحال في السنوات الماضية، منح الأولوية للمتغيرات الاقتصادية على المثل الإيديولوجية، مع الاحتفاظ بنهجها البراغماتي القائم على رؤية التنمية طويلة الأجل وما هو الأفضل لبقاء بكين وازدهارها.