كيف استعاد جبرا إبراهيم جبرا خرائط أمكنته المنهوبة؟
تاريخ النشر: 24th, January 2024 GMT
لا مسافة ملتبسة تفصل بين السيرة والمتخيّل لدى جبرا إبراهيم جبرا (1920 – 1994)، فما دوّنه في سيرتيه “البئر الأولى” و”شارع الأميرات” سنجده مبثوثاً في قصصه ورواياته على هيئة شذرات تنطوي على أوجاع المكان الأول الذي غادره قسراً والمنفى الذي انتهى إليه، وإذا بكل ما كتبه هو تلخيص لثنائية القدس- بغداد، محاولاً استعادة ذاته الممزّقة بين المنافي.
ولكن مهلاً، من هو جبرا إبراهيم جبرا؟ هل هو “وليد مسعود”، أم “جميل فرّان”، أم “وديع عساف”؟
لعل هذا الروائي المتفرّد هو نسيج كل هذه الشخصيات المتخيّلة، إذ تكاد تنعدم المسافة بين الذات ومصائر الجموع في رحلة مكابدات طويلة رافقته منذ طفولته في بيت لحم ثم في القدس، قبل أن تصفعه نكبة فلسطين 1948 بجرحٍ عميق ظلّ مفتوحاً إلى آخر أيام حياته، ما اضطره إلى مغادرة البلاد متسلّحاً بثقافة رفيعة هي حصيلة دراسته في “جامعة كامبريدج” البريطانية، ثم “جامعة هارفارد” الأميركية، لينتهي به المطاف في بغداد في الخمسينيات.
هناك التقى رائد الحداثة التشكيلية العراقية جواد سليم ليؤسّسا “جماعة الفن الحديث”، مساهماً في صناعة الحداثة العراقية في أزهى حقبها، كما سيشهد على سنوات احتضارها بصمت.
كتب جبرا روايته الأولى “صراخ في ليل طويل” بالإنجليزية (1955) أولاً، قبل أن تصدر في نسختها العربية، وهي مزيج من السرد الذاتي وأوجاع المنفى وتشظّي الهوية. أسئلة وإشارات وهموم سترافقه في جميع أعماله الروائية اللاحقة مثل “السفينة”، و”البحث عن وليد مسعود”، و”يوميات سراب عفّان”، و”عالم بلا خرائط” التي كتبها بالاشتراك مع عبد الرحمن منيف.
تضيء سيرته الذاتية “البئر الأولى” على جوانب من طفولته وصباه في فلسطين، فيما خصّص “شارع الأميرات” لجوانب من سيرته الصاخبة في العراق كزمن مُشتهى أطاحته سنوات القمع والاستبداد العسكري والحصار.
كيمياء من خلائط إبداعية ستتسرب على دفعات في نسيج نصوصه السردية التي تحتشد برغائب الفلسطيني المنفي من جهة، وخيبات المثقف العربي المهزوم من جهةٍ ثانية، على خلفية شعرية مُثقلة بالأوجاع والتيه والحيرة.
على الضفة الأخرى، سيحضر الرسّام والشاعر والمترجم. أهدانا جبرا ترجمة مرهفة لرواية وليم فوكنر “الصخب والعنف” التي تركت دمغة واضحة على تجارب الروائيين العرب في ستينيات القرن المنصرم وما تلاها، إضافة إلى مسرحية صموئيل بيكيت “في انتظار غودو”، وبالطبع ترجمة المآسي الكبرى لشكسبير.
سنستعيد اليوم روايته “السفينة” ليس بوصفها سيرةً للتيه الفلسطيني فحسب، إنما للتيه العربي، فيما ستفترش “البحث عن وليد مسعود” مساحةً أكبر في تأثيث معنى الهزيمة والخسارات والضياع في صحراء موحشة بين بغداد ودمشق، قبل أن يختفي وليد مسعود مودعاً سيارته شريط تسجيل يختزل انكساراته وتوقه في العودة إلى مسقط الرأس في فلسطين، لكن مصيره سيبقى ملغّزاً من دون إجابة حاسمة. يقول في حوارٍ معه: “يخيّل إليّ أن الكاتب اليوم في رصده شخصيات رواياته، إنما يؤكّد خطاياهم أكثر مما يؤكد فضائلهم”.
لطالما كانت الكتابة بالنسبة إلى صاحب “تأملات في بنيان مرمري” حالة نشوة وألم ومنطقة اكتشاف، نظراً إلى اتّساع رقعة تجوالها في الأمكنة والشخصيات، ونبش عوالم مجهولة في الأرواح والمصائر، مستخدماً ضمير المتكلّم في اعترافاته الروائية؛ أمر أوقع النقّاد في خطأ إحالة أفعال بعض الشخصيات إلى صاحب النص، لا إلى الراوي، وتجاهل ما هو تخييلي لمصلحة السيرة الذاتية.
تعالوا نبحث عن “وليد مسعود” مرّة أخرى، ونرقب تيه “وديع عساف” في سفينته المبحرة إلى شواطئ الاغتراب، ونرصد واقعياً سقوط قذيفة فوق بيت جبرا في بغداد، أطاحت مكتبته وأحالتها إلى حطام كتب ولوحات ومسودات كتب وأسطوانات ورسائل، وإذا بالمشهد يُغلق على كارثة محققة، وكأن قدر الفلسطيني أن ينتهي إلى اللاأرشيف، إلى المحو لا التدوين!
ربما لهذا السبب اشتغل جبرا على تأصيل صورة “الفلسطيني الكوني”، إذ تنطوي أعماله على شخصيات تتطلع إلى الكمال على عكس شخصيات غسان كنفاني التي ترصد النقصان، من دون أن يهمل ثنائية “حلم الوطن، وحقيقة المنفى”، وإذا بالزمن الروائي يتأرجح بين التذكّر الداخلي حيناً، والتذكّر الخارجي طوراً، كتعويض عن خسائر الأمس وتوثيقها في آنٍ واحد، ما يفتح العدسة إلى أقصاها على سرديات متجاورة، كما في “يوميات سراب عفّان”، فيما تحضر مدينة القدس بكل تجلياتها المكانية كأيقونة مقدّسة، وهو يستعيد شخصية المشّاء في شوارعها وأزقتها ومكتباتها، فإذا بالقدس “تتشظى في كتاباته وتتجذر، لأنها بالنسبة إليه ليست مكاناً يسكنه الآخرون ويعبثون بهويته. إنه مكان آتٍ من الذاكرة والأحلام والرؤى. لذا لن تصادره مشيئة محتل أو تحبس فضاءه”.
في المقلب الآخر، يلجم المنفى أحلام الفلسطيني ويشدّه إلى واقع مختلف، فكيف للمنفي أن يجد قبراً في أرضٍ لم تعد متاحة؟ وكيف ينظر إلى البحر كعدو، وهو يبتعد عن اليابسة في هجرة قسرية إلى اللامكان؟ وإذا بالمكان الأول بعد احتلاله يتحوّل إلى منفى آخر.
هذا القلق الوجودي أنتج نصّاً مكانياً متخيلاً، ففي “البحث عن وليد مسعود”، يصف جبرا إبراهيم جبرا بلدته القديمة بأنها “تتلألأ كجوهرة”، وهو ما سيتواتر في روايات أخرى بتشكيل فضاء مكاني متوهّم يعوّض الخسارة المحقّقة، بطبقات متعددة، تبدأ بالبيت، مروراً بأماكن اللجوء الأولى، وصولاً إلى منافٍ قصيّة، في رحلة سيزيفية، ومتاهة حقيقية بلا ضفاف. “لعلني دون أن أدري منذ انطلقت في الكتابة، كنت مَهما كتبت إنما أشرح وأعلّق على تلك القصة الرمزية التي هي حياتي”، يقول.
إنه كائن تراجيدي يعيش قلقه الخاص فوق خشبة مهتزّة، محاولاً تظهير صورة بلاده المنهوبة على نحوٍ آخر، فيستعيد ذاكرة “البئر الأولى” لمقاومة الظمأ والغياب القسري والجفاف، وذلك بالحفر المتواصل وصولاً إلى صقل مغامرته الطليعية منجذباً إلى مختلف حقول الإبداع، فعدا كتابة الرواية، كان صاحب “الغرف الأخرى” شاعراً، ورساماً، وقصّاصاً، وناقداً، ومترجماً، أثرى المكتبة العربية بعناوين نفيسة وتجربة مفارقة تتطلع إلى الخصب لا الجفاف، والجدّة لا التكرار، وتعدّد الرؤى لا النظر إلى جهةٍ مستقرة، مشتبكاً -من موقع أوتوبيوغرافي- مع أكثر الأسئلة الطليعية جدلاً، إذ لا مسافة تفصل مغامرته الذاتية عمّا يحيط بها من أحلام وهزائم وخذلان.
وفي هذا المقام، يشير الناقد حاتم الصكر إلى أن “الخروج من البئر الأولى إلى التيه هما القوسان اللذان يؤطران رحلة جبرا في حياة متنوعة، وإذا بمفردة التيه تتكرّر باعتبارها مرتكزاً رؤيوياً وسّع من مداه جبرا ليشمل ما هو أوسع من تيهه الشخصي بين الوطن والمنفى والانغمار في الحياة والحنين إلى البئر الأولى حيث تجمعت مياه حياته”.
في سيرته، سنقع على حياة مشدودة كقوس بين اللذة والموت، لذّة العيش، والموت التراجيدي للفلسطيني، وإذا بهذه الثنائية تدمغ معظم أعماله، ففي منعطف ما من سردياته لا بد من أن تشتبك شخصياته مع الفجيعة، ذلك أن المأساة هي جوهر انشغالاته التخييلية، حتى لو كانت القماشة الأولى تتعلّق بقصة حب عاصفة.
هكذا مزج بمهارة بين أمكنته الأولى في فلسطين وشغفه بثقافة بلاد ما بين الرافدين لجهة أسطرة شخصياته وإحساسه بالاغتراب الذاتي وسط الجموع، ففي العمق بقي (خارج المكان) مثله مثل إدوارد سعيد، من دون أن يستثمر ثيمة الحنين بالمعنى المتداول في السرديات الفلسطينية، إنما وجّه بوصلته إلى ما هو كوني وإنساني وشمولي تبعاً لمرجعياته الفكرية والفلسفية والجمالية، فحسب مفهومه للرواية ينبغي الاعتناء بالبعدين الأسطوري والواقعي في العمارة السردية بالمقدار نفسه، فنحن إزاء لعبة سحرية أولاً وأخيراً. على الأرجح، هذا ما فعله جبرا إبراهيم جبرا بأعلى درجات النشوة الحسيّة للكتابة مبحراً في سفينته بعيداً من المياه الضحلة، وهو يردّد “إذا لم يكن الفن متصلاً بجحيم النفس، فإنه لن يتصل بفراديسها”.
هناك سؤال أخير: هل استعار جبرا إبراهيم جبرا اسمه من جبران خليل جبران، وهو يتلمّس خطواته الأولى في الكتابة؟ على الأرجح، كان صاحب “النبي” و”الأجنحة المتكسّرة” و”العواصف” دريئته الأولى في الاشتباك مع عمل المخيّلة.
خليل صويلح – الميادين
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
وليد الركراكي يتغنى بأداء لاعبي المنتخب المغربي أمام الجابون
علق وليد الركراكي، مدرب المنتخب المغربي، علي ردة فعل وأداء لاعبيه أمام الجابون بالتصفيات المؤهلة لأمم إفريقيا 2025، مشيرًا إلى أنه يرى أنهم ظهروا بشكل مذهل خلال المباراة وكشفت قوة شخصية أسود الأطلس.
الركراكي يشيد بأدء لاعبي المغرب المغرب تكتسح الجابون بخماسية في تصفيات كأس أمم إفريقيا يلا شوت بث مباشر الآن.. مشاهدة مباراة المغرب ضد الجابون Morocco مجانا في تصفيات إفريقيا 2025حيث تقدم المنتخب الجابوني بهدف مبكر عند الدقيقة الرابعة، قبل أن ياتي الرد من المنتخب المغربي بخماسية سجلهم إبراهيم دياز "هدفين"، وجمال حركاس، ويوسف النصيري، وإسماعيل صيباري.
وتحدث الركراكي في المؤتمر الصحفي عقب المباراة: "أعتقد أن ردة فعل لاعبي المنتخب كانت مذهلة ورائعة بكل المقاييس. لقد أعجبتني بشدة وادهشتني في آن واحد. هذا يضاعف من حبي الشديد بهذه المجموعة ويجعلني متفائلا بها لحد لا يمكن تصوره".
وأردف "كنا متوقعين كل السيناريوهات ومنها أن يسجل المنافس أولًا، والمثير أن ما توقعناه واشتغلنا عليه نفذناه بالحرف. حركاس وأكرد (نايف) بحاجة لمزيد من الوقت ليتفاهما، وظهر إبراهيم بشكل مميزًا في لحظات حاسمة وأنا مسرور له كثيرًا".
وإنه ي حديثه "نتطلع للعام القادم بمشيئة الله بتفاؤل كبير والهدف واضح وهو الكان".