تهجير السودانيين.. آخر مآسي الحرب
تاريخ النشر: 24th, January 2024 GMT
إذا كنت مهتمًا بتطوّرات الأوضاع في السّودان، ربما يتبادر إلى ذهنك أنّها معركة بين جنرالَين: البرهان وحميدتي، كل واحد فيهما يبحث عن المجد، السُلطة، الهيمنة على الموارد، وهي صحيحة نسبيًا، لكن بقليل من المتابعة الحصيفة سوف تكتشف أن الأمر بخلاف ذلك، وأنّ ثمة أياديَ خارجية تُغذي هذا الصراع، وتريد السودان دولة خالية من السكان، منزوعة الإرادة، لتنقضّ عليه في مرحلة لاحقة.
ولذلك تمّ الزج بآلاف المرتزِقة للقتال تحت لواء الدعم السريع، وبشعارات خادعة على شاكلة البحث عن الديمقراطية والقضاء على الإسلاميين، بينما في الحقيقة تم استهداف المواطنين بالدرجة الأولى، وملاحقتهم حتى في الأماكن التي نزحوا إليها، وتجريدهم من كافة ممتلكاتهم، كما لو أن الدافع الخفي وراء هذه الحرب هو إجبار السودانيين على الهروب من بلدهم، زُرَافات ووُحدانًا، وتهيئته لمستوطن جديد.
خُطة التهجيربدأت خطة التهجير بقصف محطات المياه والكهرباء والمستشفيات، ونهب مخازن الغلال، وضرب حصار على الأحياء السكنية في الخرطوم، فأصبحت الدانات والصواريخ تتساقط داخل المنازل كالحُمم البركانية.
ولم يعد ثمة أحد آمن في سِربه إطلاقًا، وتم تهجير ما يفوق 6 ملايين شخص من منازلهم، واغتصاب مئات النساء، وحرمان 19 مليون طفل من التعليم، وتدمير ونهب الجامعات والمصانع، وإضرام النيران في مصفاة الجيلي، شمال الخرطوم، على أهميتها الإستراتيجية بالطبع، لتصل الخسائر المادية أرقامًا يصعُب حصرها.
فيما يواجه بنك الجينات للموارد الوراثية النباتية النادرة – بمدينة ود مدني، والذي يضم أكثر من 15000 مدخل من الموارد الوراثية النباتية المتنوعة للأغذية والزراعة – تهديدًا وجوديًا جراء هذه الحرب، التي لم يسلم منها إنسان أو حيوان أو نبات.
حصار الولاياتواليوم أيضًا تعاني مدن وقرى ولاية الجزيرة، التي تضم أهم مشروع زراعي، من حصار عنيف، جعل أعزّة أهلها أذلّة، كما حدث في الحصاحيصا والمعيلق والعزازة، وبعض قرى ولاية النيل الأبيض، فيما لا تزال دارفور تنزف، وقد حدثت فيها انتهاكات فظيعة ترقى إلى جرائم الحرب، استهدفت مكوّنات سكانية بعينها؛ بهدف إزالتها من الوجود.
من المعروف أنّ ولاية الجزيرة كانت أكبر منطقة إيواء للنازحين جراء الحرب، وقد استوعبت أعدادًا هائلة من الأسر التي فضلت التواجد داخل السودان عن الهجرة إلى الخارج، لحسابات تختلف من شخص لآخر.
لكن بعد ذلك شعر الناس بحالة من التواطؤ الغريب بين الجيش والدعم السريع؛ فجأةً يقوم الجيش بالانسحاب من منطقة ما فتدخلها قوات التمرد بسهولة، وتبدأ فيها عمليات النهب والقتل والترويع، فيندفع الناس مكرهين للرحيل، لسان حالهم: " اُنجُ سعدٌ فقد هلك سُعَيد"، وذلك بعد أن شاهدوا بأنفسهم هجمات وحشية تقوم بها قوات الدعم السريع، أقرب إلى هجمات الفايكنج، بينما الجيش عاجز عن حماية المواطنين، وفي كثير من الأحيان يتركهم فريسة سهلة لقوات حميدتي، الذي اعترف في آخر حوار له بأنها تجبر المواطنين على النزوح من أماكن سيطرتها.
وقال؛ إن فيها متفلّتين لا يستطيع السيطرة عليهم، وهي محاولة مفضوحة للتنصل من المسؤولية؛ لأن الهجوم على تلك القرى والاعتداء على سكانها ووصمهم بالفلول يتم تصويره عبر كاميرات الهواتف الذكية، وعرضه في منصات الدعم السريع، على سبيل المباهاة بغزو مواقع سيطرة الجيش، فتصبح تلك الهواتف هي نفسها أدوات الإدانة وواحدة من أهم الأدلة التي يوثق بها المجرم جريمته!
الخيارات الصفريةأما مناطق سيطرة الجيش السوداني، فهي بالرغم من أنها أقل سوءًا، إلا أنها تعاني ويلات الحرب، مهددة بالاجتياح أو القصف العشوائي، وأسعار الإيجارات فيها لا تطاق، وقد فشل حكامها في توفير الطعام والمأوى للمشردين، وأصبحت الأسر كلها في مواجهة حتمية مع الخيارات الصفرية، تقوم ببيع كل ما تبقى لها أو الاستعانة بالمغتربين من الأقارب لمغادرة السودان نهائيًا.
وقد شهدنا زحمة غير طبيعية في المطارات والموانئ، حتى رحلات التهريب إلى ليبيا ومصر ارتفعت تكلفتها إلى أرقام خيالية، في وقتٍ كذلك قام مصنع الجوازات في بورتسودان بطباعة آلاف الجوازات، وهو المصنع الوحيد الذي يعمل حاليًا في السودان، كما لو أنه يساعد الناس على الهجرة!
لست وحدي بالطبع مَن داخلَه الشك في طبيعة هذه الحرب، التي استخدمت فيها أسلحة شديدة الفتك، ورأينا القنابل المُدمرة والمسيّرات الحديثة ومضادات الطيران، لأول مرة، في يد مَن لا يحسنون استخدامها.
وبات واضحًا أن الدول الكبرى متورطة في هذا القتال، ولا تبدو حريصة على نزع فتيل الأزمة، بل في الحقيقة لا توجد أزمة، ولا أسباب منطقية لهذه الحرب، ولا نعرف من الذي أطلق الرصاصة الأولى، ولماذا تتسع رقعتها لتشمل كل ولايات السودان؟
لكن مؤكد أن المنظمات الدولية تستثمر في هذه الأزمة، وتريد السودان خاليًا من السكان، وألا يشعر فيه أحد بالأمان، وحتى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية على بعض الشخصيات والشركات التابعة للجيش والدعم السريع بلا جدوى، وتجاهلت الدول الممولة للحرب.
وهناك دول أفريقية تقوم هذه الأيام بإعادة تسويق شخصية حميدتي، وتقديمه في المحافل الأفريقية باعتباره الرئيس الشرعي للسودان، وأعني بها دول منظمة الإيغاد تحديدًا، مما اضطر السودان لتجميد التعاون معها.
وقد تم فتح عشرات الحسابات في بنوك أفريقية لحفظ وتأمين الأموال الهائلة للدعم السريع، وربما يكون الصراع المقبل حول تلك الأموال وودائع الذهب الموزعة بين عواصم مختلفة، أما ميزانية الحكومة السودانية بالمقابل فقد أصبحت ميزانية حرب، في وقتٍ يحتاج فيه أكثر من 24 مليون مواطن سوداني لمساعدات إنسانية عاجلة.
هذه هي الصورة السوداوية المؤلمة، دولة اندلعت فيها الحرب بصورة مفاجئة، والتهمت النيران كل شيء، ولا أحد يرغب في مساعدتها، وعما قريب، إن لم تكن تلك نظرة تشاؤمية، فسوف يصبح السودان خاليًا من السكان، وكل شخص مع انعدام فرص السلام، وضعف النخبة السياسية والعسكرية، وعدم مبالاتها، أصبح يبني حساباته على أسوأ الفروض، أقلها هجرة طويلة، مع وطأة الحنين والخوف، على بلاد، كما وصفها أحد الأدباء: "كل ما حاولت أن تنهض تتكئ على بندقية".
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: هذه الحرب
إقرأ أيضاً:
السودان يهاجم جنوب السودان .. اعتراف بمشاركة مرتزقة مع الدعم السريع
السودان :جوبا تعترف بمشاركة مرتزقة جنوبيين مع قوات الدعم السريع
متابعات ـــ تاق برس
قالت وزارة الخارجية السودانية، ان وزارة الخارجية بدولة جنوب السودان “أقرت ـــ لأول مرة” تورط المرتزقة الجنوب سودانيين في القتال إلى جانب قوات الدعم السريع للقتال ضد الجيش السوداني، واعترضت بان نسبتهم لا تصل إلى 65% وأن الحكومة لا سيطرة لها عليهم، فى وقت الذى كانت قد نفت على لسان الناطقة الرسمية لها ” علمها بذلك”.
واوضحت وزارة الخارجية السودانية فى بيان اليوم الاربعاء، ردا على بيان اصدرته رصيفتها حكومة جنوب السودان، ان خارجية جنوب السودان لم تدين جريمة هؤلاء المرتزقة أو تشير إلى أي جهد بذلته لمنع وصولهم للسودان، أو حتى تنبيه مواطنيها لعدم الاستجابة لإغراءات قوات الدعم، للقتال كمرتزقة في السودان، وهو امر تحرمه كل القوانين وواجبات علاقات حسن الجوار.
واضافت :”وفي ظل تقارير خبراء مجلس الأمن الدولي والمنظمات المختصة والإعلام الدولي الاستقصائي ، التي وثقت تفاصيل الدعم الذي يصل لقوات الدعم السريع عبر جنوب السودان، فلا جدوى لمحاولة بيان الخارجية الجنوب سودانية التقليل من أثر مشاركة المرتزقة الجنوب سودانيين مع قوات الدعم السريع “.
وقال بيان الخارجية، ان بيان الخارجية الجنوبية لجأ للتضخيم والتهويل عندما أشار لمجازر مروعة تعرض لها مواطنو جنوب السودان بود مدني، وهو ما لا يمكن فهمه إلا أنه تحريض على استمرار العنف ضد المواطنين السودانيين بجنوب السودان، بعد مقتل أكثر من 16 شخصا بريئا منهم في مختلف أنحاء جنوب السودان وتعرض ممتلكاتهم للنهب والإحراق، بسبب مثل هذه الدعاوى الزائفة.
وتابع البيان :” ويلاحظ أن البيان سكت عن هذه الجرائم البشعة التي ارتكبت ضد أبرياء احتموا بجنوب السودان بسبب الحرب التي تشنها عليهم قوات الدعم السريع بمساعدة المرتزقة الجنوب سودانيين” . كما تجاهل البيان أن أكثر من مليونين من مواطني جنوب السودان ظلوا في السودان حتى بعد انفصاله من السودان قبل أكثر من 14 عاما و لا يزالون يحظون بأفضل معاملة.
ولفتت في البيان الى أن الحوادث التي وصفها بالمعزولة ضد بعض الأفراد بعد تحرير ود مدني تخضع لتحقيق قضائي عالي المستوى، بينما لم يحدث أمر مماثل بالنسبة للجرائم ضد السودانيين في جنوب السودان.
واضاف :”من المؤسف أن يصدر البيان المتناقض في وقت يبذل فيه السودان جهوده للمساعدة في تحقيق السلام بجنوب السودان، رغم مايمر به من ظروف، كما تجسد هذا في اتفاق السلام الذي وقع اليوم ببورتسودان بين حكومة جنوب السودان والحركة الشعبية في المعارضة، جناح كيت قوانق، برعاية المدير العام لجهاز المخابرات العامة. وتظل قناعة حكومة السودان أن الأمن والسلام في البلدين لا ينفكان عن بعضهما وهو ما تعمل القيادتان على دعمه وتعزيزه”.
الخارجية السودانيةمرتزقة من جنوب السودان