موقع النيلين:
2024-09-18@23:01:43 GMT

عادل عسوم: (الخاطرة السابعة)

تاريخ النشر: 24th, January 2024 GMT


بعض خواطري
(الخاطرة السابعة)
سأكتب عن (حالة) يعلمها يقيناً -ويتلمسها في دواخله- كل من له/لها قدم صدق في سوح الابداع وفضاءاته: أدباً؛ شعراً كان أو نثراً، أو أيما ضربٍ من ضروب الفن والادهاش…
لعمري انها حالة تعتري صاحب الابداع كلما عنّت له خاطرة أو فكرة أو مفهوم أو لحن أو غير ذلك من بواعث الادهاش، يكتنفه ما يشبه السحابة تمطر في دواخله زخات زخات…
انها حالة سماوية السمتِ واللون والطعم والعطر…
مدخل:
لا أدري لِمَ أكون وقافا كلما قرأت سيرة الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وتنقلت بين سراباتها حينما كلما يقع بصري على الآتي:
سعت أخت ورقة بن نوفل إلى خطبة عبدالله لنفسها قبيل زواجه من آمنة بنت وهب أم نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه لكنه تأبّى عليها حينها…
ثم عاد عبدالله يمازحها بعيد زواجه من آمنة بنت وهب قائلا:
ألم تكوني يابنت نوفل تودّين زواجي يوما؟
فما لبثت أن قالت له:
لقد فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة!…
وان كان قد ضعف البعض ذلك إلا إن وروده في سيرة ابن اسحق وعدد من أصحاب سيرة نبينا الشريفة يجعلني أأنس له.


ووردت عن (أم قنال بنت نوفل) أبيات من الشعر تتأسف فيها على ما فاتها من الأمر الذي رامته، وذلك فيما رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق رحمه الله.
وكذلك تعتريني ذات الوقفة بين يدي الآيات الكريمات التاليات:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}31 {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}32 {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}33 البقرة
ثم الآية الكريمة:
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 124البقرة
لا أدري لِمَ أجدُ رابطاً وثيقاً مابين هذه الآيات الكريمات وتلك الحالة التي أبتدر نسيج هذا الخيط بالحديث عنها؟!…
ذاك النور وهذه الأسماء والكلمات شئ ما -يقينيّ- في وجداني يقول لي بأن هناك رابط ما مابين كل ذلك والحالة التي تعتري أصحاب الابداع فينا بين يدي كل حراك بشري انساني أو عمل فني…
انها حالة لاتنفكُّ عن موهبة يهبها الله لبني آدم …
وليس شرطاً أن يكون لها ارتباط وثيق بالتفوق العقلي أوالذكاء،
فالموهبة ليست سوى هبة الهية يهبها الله لِقِلَّة من الناس، وللايضاح أجد أنه ينبغي لي ايراد هذه التوصيفات التي وجدتها في الشبكة:
الموهبة:
سمات معقدة تؤهل الفرد للإنجاز المرتفع في بعض المهارات والوظائف والموهوب هو الفرد الذي يملك استعداداً فطرياً وتصقله البيئة الملائمة لذا تظهر الموهبة في الغالب في مجال محدد مثل الموسيقى أو الشعر أو الرسم وغيرها.
الإبداع:
إنتاج الجديد النادر المختلف المفيد فكراً أو عملاً وهو بذلك يعتمد على الإنجاز الملموس.
الذكاء:
هو القدرة الكلية العامة على القيام بفعل مقصود والتفكير بشكل عقلاني والتفاعل مع البيئة بكفاية فالذكاء قدرات الفرد في عدة مجالات كالقدرات العالية في المفردات والأرقام والمفاهيم وحل المشكلات والقدرة على الإفادة من الخبرات وتعلم المعلومات الجديدة…
وبذلك يمكنني أن أقول بأن صاحب ال(حالة) يمكننا أن نلحقه بالمبدعين لانه ينتج الجديد النادر فكراً وعملاً أو فنّاً، وليس كل صاحب موهبة بذكي، انما الذكي فيهم الذي لموهبته اتصال وثيق بالفكر والعقل، أما أصحاب الأصوات الجميلة من المؤدين -كمثال- ففيهم الأذكياء بطبعهم وفيهم من هم دون مقاييس الذكاء اتكاء على معايير العالم دنلوب وهي:
1- فئة الممتازين ونسبة الذكاء بينهم تتراوح بين:
(120 و125 ) إلى ( 135 و140 ).
2- فئة المتفوقين تتراوح نسبة الذكاء بينهم بين ( 135 و140 إلى 170).
3- فئة المتفوقين جدا أي العباقرة وهم الذين تبلغ نسبة ذكائهم 170 فما فوق.
أعود الى قصة والد نبينا محمدصلوات الله وسلامه عليه وآله مع أخت ورقة ابن نوفل التي عرضت عليه نفسها كزوجة قبيل زواجه من آمنة بنت وهب فأقول:
كم أجد نفسي وقافا بين يدي هذه القصة لأقايس عليها أمرا مافتئ يراودني كلما قرأتها…
وبرغم يقيني بكونها قياسا مع الفارق إلا انني ألمح في ثناياها سقفا للخلوص الي ذرا سامقة يضفيها الحق جل في علاه في حنايا هذه النفس البشرية!…
لقد أوتيت أخت ورقة ابن نوفل-كشقيقها- معارف كثيرة استقياها مما نزل على ابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام من هدى من قبل،
وهي لعمري بذلك سبقت شقيقها ورقة ابن نوفل الذي تبين -لاحقاً-مما قالته ابنة عمه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بأن الذي رآه زوجها محمد صلوات الله وسلامه عليه ماهو الاّ الناموس الأعظم الذي كان يأتي موسى عليه السلام…
فلان تبين ورقة ابن نوفل النور في سرابات حديث ابنة عمه خديجة بنت خويلد؛ فان شقيقته رأت عياناً ذات النور يكتنف ويتغشى اهاب ووجه عبدالله ابن عبد المطلب تأتلقُ به عيناه!!!…
وأي نور؟!
انه لعمري جَماع الادهاش لكل البشرية …
بل لكل الخلق انساً وجناً وملائكة وذات أوراح وجمادات أوجدها الله في هذا الكون!..
وأعود لاتحدث عن وقفتي بين يدي الأسماء التي علمها ربنا جل في علاه لأبينا آدم عليه السلام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}31 {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}32 {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} 33 البقرة
أيُّ أسماء هي ياتُرى؟!
انها لعمري لَهِبَةٌ من الخالق لآدم وذريته تمايزهم وتُعْلِي بهم قدراً فوق الملائكة الأطهار، لذلك فإن الذي يحسبها مجرد أسماء تُعَلَّم ثم تُقَال للغير فقد فات وخَفِيَ عليه الكثير المثير، انها حالة تجعل من الانسان حلقة أصيلة في سلسلة آلاء الله وعوالم (كن) التي في ثناياها اندغَمَت مفاتحُ الغيبِ ومعارفُ الخلقِ والفتقِ والرتق…
ولعلي أعود -يوماً- لأفَصِّل في ذلك وأُحَبِّر الكثير في طيات مفترع اخر بمشيئة الله …
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 124 البقرة…
ياتُرى ماهي هذه الكلمات التي أتمها ابراهيم عليه السلام ليجعله الله اماماً للناس؟!!!
التفاسير تقول جلها بأنها الابتلاءات التي قدرها الله لابراهيم عليه السلام ونجح فيها -ومنها الحرق بالنار من قومه وذبحه لابنه اسماعيل وتركه عليه السلام وامه هاجر بواد غير ذي زرع في مكة الخالية حينها من الناس- لكنني لا أجد هذا الرأي يوفي الامامة- التي يريد الله جل في علاه وهبها لابراهيم عليه السلام حقها، لأن فسرنا الامامة بالنبوة والابتعاث؛ فكم من انبياء ورسل تخيرهم الله ولم يشأ جل في علاه لهم وبهم ابتلاءات عظيمة مثل التي شاءها لابراهيم عليه السلام، وبرغم ذلك جعلهم رسلا وانبياء، لذلك فإني أري تلك الكلمات أشمل من ذلك، وان كانت الابتلاءات المذكورة ما اتخذها الله العليم الحكيم الاتمحيصا للنبي ابراهيم وارهاصا لامامة علي كل الناس تتعدد مقوماتها…
ولنا هنا ان نتبين ماذا قال موسي عليه السلام عندما اراد الله جل في علاه أن يجعله اماما لقومه ورسولا نبيا وداعية لفرعون إلي الايمان، يومها طلب موسي عليه السلام من الله جل في علاه أن يرسل معه أخوه هارون الذي يعلم أنه (أفصح منه لسانا وقولا)، أي لغة وخطابا، وليس قصورا خلقيا في قدرته علي الكلام وعيبا عضويا من تاتاة أو عاهة لسانية كما تقول بعض التفاسير، المعلوم بالضرورة ان شروط الإمامة تكون اسماها القدرة علي فصل الخطاب، وليس الأمر تعلم لألفاظ اللغة وفقهها وآدابها بقدر ماهي موهبة يؤتيها الله لقلة من عباده فيلجون بخطابهم المبدع إلى قلوب الناس دونما متاريس…
لقد تبينت خلال سبري لحال الموهوب من الله بذلك أنه يوهب معها- ايضا- نعمة التفكر في ملكوت الله، ويؤتي القدرة علي تمحيص ما حوله وهو يبصر إلى الاشياء من خلال زاوية تختلف عن الزاوية التي ينظر من خلالها الاخرون، فيكون المآل رؤي مستبصرة وخلوصا موجبا مرده هبة من الله الخالق المصور…
وأخلص إلى القول بأن هذه الحالة ماهي الاّ عطية ربانية للبعض، تضفي عليه تفرداً وتميزاً في ضرب من ضروب العطاء البشري شِعْراً كان أو نثراً أو أداء صوتياً أو ضرباً من ضروب الفنون على مختلف أشكالها وألوانها…
والله جل في علاه يتخير من عباده من يشاء لذلك، وذاك لعمري اصطفاء ما بعده، لكنه اصطفاء دون النبوة…
هؤلاء هم من نجدهم يؤثرون ايجابا في حراك حياة الناس، ولهم بصمة في مسارات الشعوب والحضارات، يضفون ايجابا كثيفا ويرفدون الناس بعطاء مميز يرقى بالثقافة والأدب والتنوير والذائقة والوجدان إلى ذُراً سامية ومراقٍ ماكان يتسنى للأمم والحضارات بلوغها لولاهم…
فكم من حضارات بادت ولكن بقيت منها أسماء لشخوص مافتئوا أحياء في ذاكرة التأريخ ولهم بصماتهم في ذائقة ووجدان الناس على مر العصور…
وكم من دُوَلٍ وأقطار ظلت في غياهب النسيان لولا فردٌ منها حباه الله تلك الهبة الالهية؛ فإذا به يحيل مواتها حياة، وسكونها زخماً لا يكاد يهدأ ضجيجه!…
هذه لعمري هي الأِمامة التي تنبغي وتحيق بكل أهل المواهب والابداع فينا يا أحباب…
لكن…
تلك العطية تحتاج إلى عناية وصقل وتعهد يرتقي بها أكثر، ويجعل الرفد منها أينع وأعظم أثراً…
فكل أمر لا يُتَعَهَّدُ يكون مصيره الموات والانكفاء والذبول، كما هو حال الحياة طُرَّا فكم من موهوبين طمرت وماتت موهبتهم ولم تر النور لاعتبارات عديدة لامجال للاحاطة بها في هذه المساحة…
ولعلي أختم بأمر قد تبينته في العديد من موهوبينا ومبدعينا ممن افاء الله عليهم بتلك العطية فأقول:
هذه الهِبَة تنمو وتترعرع وتصل الى ذروة وعنفوان ثم تشيخ وتذوي من تلقائها تماما كما يحدث لابن آدم خلال أطوار حياته طفولة وشباباً ثم كهولة وشيبة،
فكم من شعراء وأدباء ومبدعين نضب معينهم، أو ضعف وذبل وأضحت بضاعتهم مزجاة بعد أن كانوا ملء السمع والبصر من خلال أعمال مجيدة وبهية تأخذ بالألباب وتشبع الوجدان.
أنصح كل من وهبه الله تلك الهبة والعطية أن لايتقاعس عن العطاء، وأن لايتملكه الكسل والتسويف، لأنه لامحالة آتيه يوم لا يجد في نفسه ما كان يجده فيها من قدرة تحيل الأحرف إلى فصوص من لؤلؤ يزين استدارة مسبحة الزمان، ولا أزاهر ملونة من أحرف يشكِّلُ بها لوحة وبيان،
واذا بصوته قد شاخ، واذا بقدرته على التشكيل قد ذوت، واذا بالألوان تتوه بها الدروب مابين الفرشاة والأشكال، واذا به عاطل عن كل ابداع.

عادل عسوم

adilassoom@gmail.com

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الله وسلامه علیه علیه السلام انها حالة بین یدی الله ل

إقرأ أيضاً:

في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلّم.. لا قُدّسَت أمةٌ لا يأخذُ الضّعيف فيها حقّه غير مُتعْتَع

ذات مرة جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا كان عليه، فاشتد عليه، حتى قال له: أُحرِجُ عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه، وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟! قال: إنّي أطلب حقي، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "هلّا مع صاحب الحق كنتُم؟!".

ثم أرسل إلى خولة بنت قيس رضي الله عنها فقال لها: "إن كان عندك تمرٌ فأقرضِينا حتى يأتينا تمرُنا فنقضيك"، فقالت: "نعم، بأبي أنت يا رسول الله"، فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال الأعرابي: "أوفيت، أوفى الله لك"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك خيار الناس، إنه لا قُدست أمةٌ لا يأخذُ الضعيف فيها حقه غير مُتَعْتَع".

وقد عنون له ابن ماجه الذي أخرج الحديث بسند صحيح في السّنن حين رواه في كتاب الصّدقات بقوله: "باب لصاحب الحقّ سلطان".

لقد ربّى رسول الله صلى عليه وسلم جيلا كاملا على أن يكونوا أحرارا في مواقفهم، أحرارا في قناعاتهم، أحرارا لا يخضعون إلا لله تعالى، يعلنون مطالبتهم بحقّهم دون مواربة أو تردّد أو خوف أو وجل، وينصرون الحقّ دون اعتبارٍ للشخص ضعيفا كان أم قويا، غنيا أم فقيرا، صاحب جاه ومنصب أم من الطبقات المسحوقة؛ فحريتهم تقتضي خضوعهم للحق وحده يدورون معه حيث دار، فالعبرة بالحق حيث يكون ولا عبرة لمن يدعيه.

ما أعظم المجتمع حين يكون مجتمعا يقف إلى جانب الحقّ لا إلى جانب القوّة والسلطان، فالضّعيف فيه إن كان صاحب حقّ يأخذ حقّه في ذلك المجتمع ولو كان من رئيس الدولة غير متَعتَع، ومعناها كما يقول السّندي في حاشيته على سنن ابن ماجه: "غَيْرَ مُتَعْتَعٍ؛ بِفَتْحِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصِيبَهُ أَذى يُقْلِقُهُ وَيُزْعِجُهُ".

من أراد أن يعيش ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يتحسس الحرية في نفسه، حريته هو من قيود الطغاة والمجرمين، وعمله من أجل تحرير الإنسان من الخضوع لأغلال الرقّ كلّها، وعندما يكون الفرد حرا فإنّه يكون قادرا على صناعة أمة لها قداسة ومكانة، فلا قداسة لأمة يعلو فيها الظلم وتكمم الأفواه وتخرس الأصوات ويحسب صاحب الحق ألف حساب قبل أن يطالب بحقّه.

كلّ أمّةٍ أو مجتمع أو جماعة ولو وصفت نفسها أنّها إسلاميّة لا يستطيع الضعيف أن ينال فيها حقه غير متَعتَع ولا يكون لصاحب الحقّ فيها مقالا؛ هي أمة لا قداسة فيها أو لها، وهي جماعة تنكبت درب نبيها ونهج أسوتها وقدوتها
في المجتمع الذي يتربى على الحرية يغدو صوت صاحب الحقّ مرتفعا، وارتفاع صوت صاحب الحقّ ليس منّة من حاكم أو مكرمة ملكية أو رئاسيّة، بل هو فطرة إنسانيّة رسّخها التشريع الإسلاميّ وحرس حماها التّبيلغ النّبويّ.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه كما أخرج البخاريّ في صحيحه: "أنَّ رَجُلا تَقَاضَى رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأغْلَظَ له فَهَمَّ به أصْحَابُهُ، فَقالَ: دَعُوهُ، فإنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالا، واشْتَرُوا له بَعِيرا فأعْطُوهُ إيَّاهُ وقالوا: لا نَجِدُ إلَّا أفْضَلَ مِن سِنِّهِ، قالَ: اشْتَرُوهُ، فأعْطُوهُ إيَّاهُ، فإنَّ خَيْرَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاء".

ويقول ابن حجر العسقلاني في تعليقه على الحديث في "فتح الباري": "فإنّ لصاحب الحق مقالا؛ أي صولة الطّلب وقوّة الحجّة".

ولا يمكن أن يكون لصاحب الحقّ صولة في الطلب وقوة في القول وإقداما في العرض إلّا في المجتمع الذي أحاط حماه بسياج من حريّة حقيقيّة؛ لا مجرد شعارات زائفة يرددها التلاميذ في الطابور الصباحيّ.

هكذا صاغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم المجتمع من جديد بعد أن كان معجونا بالاستبداد وملفوفا بالقمع ومتسربلا بالظلم؛ فنسجه من جديد جاعلا العدل سُداه والحريّة لحُمتَه.

إنّ كلّ أمّةٍ أو مجتمع أو جماعة ولو وصفت نفسها أنّها إسلاميّة لا يستطيع الضعيف أن ينال فيها حقه غير متَعتَع ولا يكون لصاحب الحقّ فيها مقالا؛ هي أمة لا قداسة فيها أو لها، وهي جماعة تنكبت درب نبيها ونهج أسوتها وقدوتها، وإنّ ذكرى ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلّم ينبغي أن تكون مناسبة تتحسس فيها الأمة قدرة الضعفاء فيها على نيل حقوقهم، وتراجع فيها الجماعات الإسلاميّة مساحات الحريّة الممنوحة داخلها لرفع الأصوات من أصحاب الحقوق، فهذا أحد أهم المعايير لمدى تحقق الولادة الحقيقيّة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في قلوبنا ونفوسنا وأرواحنا وواقعنا المتشابك وأعمالنا اليوميّة.

x.com/muhammadkhm

مقالات مشابهة

  • ضربة فضائية موجعة تستهدف دجاجة الحوثي التي تبيض ذهباً - صراخ الاخيرة يرتفع في صنعاء وسيد مران يُغمى عليه
  • طحنون بن زايد: الذكاء الاصطناعي أصبح يشكل الأساس الذي يُبنى عليه مستقبلنا
  • وزير الخارجية المصري: حماس تؤكد لنا التزامها الكامل باقتراح وقف إطلاق النار الذي توصلنا إليه في 27 مايو والتعديلات التي أجريت عليه في 2 يوليو
  • وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم ييعث حيًا.. خطبة الجمعة القادمة
  • في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلّم.. لا قُدّسَت أمةٌ لا يأخذُ الضّعيف فيها حقّه غير مُتعْتَع
  • فضل الصلاة على النبي صل الله عليه وسلم
  • المفتي سوسان: ما أقدم عليه العدو هو قمة الإجرام وهو اعتداء على كل لبنان
  • “الرياض” تحتضن الورشة السابعة لمشروع توثيق كرة القدم السعودية
  • توكل كرمان من واشنطن تطالب إصلاحات في مجلس الأمن فيما يتعلق بحق الفيتو الذي يمنح 5 أعضاء التحكم المطلق بالشعوب
  • أبو الغيط: إسرائيل تزرع الكراهية وتقوض هيكل السلام الذي استقر لعقود